قتلة عثمان وتدبير معركة الجمل



(1)


جماعة ابن سبأ وتدبير الفتنة لنقض الصلح



عرفنا فيما سبق فرحة المسلمين بقرب وقوع الصلح وبدأ الفريقان يمهدان الطريق لذلك الصلح فأرسل الإمام علي عبد الله بن عباس إلي طلحة والزبير كما أرسل الأخيران محمد بن طلحة المعروف بالسجاد ([1]) ، وتقارب الفريقان وشعر الجميع بالفرحة الغامرة .


أما قتلة عثمان فقد صمموا علي إنشاب القتال وإثارة الحرب بغلس قبل أن يبدو النهار ، ونهض كل فريق منهم إلي جماعتهم ، فهجموا علي المعسكرين في آن واحد بالسيوف وهم نائمون يحلمون بالأمن والعافية وبددوا أحلامهم ، وعكروا صفوهم ، واستيقظوا مذعورين تلاحقهم ضربات قاتلة من أولئك الفجرة وهم لا يعرفون ، فهرعوا إلي سيوفهم ، ودافعوا عن أنفسهم ، وردوا الغادرين علي أعقابهم .


لقد ظن أهل البصرة أن أتباع علي – رضي الله عنه – قد بيتوهم علي غرة ، وخدعوهم بكلمة الصلح الذي أعلنوه ، وشعر علي بضجة وجلبه فسأل ، ما هذا ؟ فأجابه أحد المتآمرين بأن أهل البصرة بيتوهم وخدعوهم فتألم علي لما حدث ، واتهم كل فريق الآخر ، وسرت في المعسكرين لوثة الغدر والخيانة وقامت الحرب علي قدم وساق وتبارز الفرسان وتواقف الفريقان وقد اجتمع مع الإمام علي نحو عشرون ألاف ، والتف علي معسكر عائشة ومن معها نحو من ثلاثين ألفا والسبئية أصحاب بن السوداء ماضون في القتل وبعث الإمام علي مناديه أن ينادي آلا كفوا آلا كفوا فلا يسمع له وجاء كعب بن سوار قاضي البصرة إلي أم المؤمنين وقال لها يا أم المؤمنين أدركي الناس لعل الله أن يصلح بك بين الناس فجلست في هودجها فوق بعيرها وستروا الهودج بالدروع وجاءت ورأت الناس وهم يتبارزون وكان من جملة المتبارزين الزبير وعمار فجعل عمار ينخره بالرمح والزبير كاف عنه ويقول له أتقتلني يا أبا اليقظان فيقول : لا يا أبا عبد الله وتركه الزبير وهو قادرا عليه لقول رسول الله r لعمار تقتلك الفئة الباغية ولهذا كف عنه وقد كان من سنة المسلمين في هذا اليوم ألا يجهز علي جريح ولا يتبع مدبر وقد قتل في هذه الجولة خلق كثير ([2]) .


ولا غرو في ذلك وقد كان ظهور أم المؤمنين في ساحة الحرب أشبه بالنار تحت الرماد حيث أشتد كل فريق في طلب الأخر فكل من الفريقين أتخذ منها دعامة تقوي موقفها وتشجعه علي الاستمرار في المعركة لقد كان إنشاب القتال في غفلة من الفريقين سببا في ارتفاع عدد القتلى وبذلك ضاعت صيحات أمير المؤمنين في إيقاف القتال سدي ، لقد نجح قتلة عثمان في إنفاذ أمرهم حيث كان الفريقان متفقين علي ألا يقتتلوا حتى يجدوا الحجة المسوغة للقتال وقد غضب الإمام عليّ لتعرض الخصوم لقتلاه وقولهم أتحلوا لنا دماؤهم ولا يحل لنا سلمهم فقال علي القوم أمثالكم من صفح عنا فهو منا ومن لج حتى يصاب فقتاله مني علي الصبر والنحر . ([3])


ويروي بن كثير أن عائشة أم المؤمنين لما رأت كثرة القتلي وسفك الدماء أعطت كعب بن سور مصحفا ، وقالت : أدعهم إليه ([4]). والزبير بن العوام فقد رجع وترك القتال كما قلنا حين ذكره علي بقول رسول الله r : (( لتقاتلنه وأنت له ظالم )) أما طلحة فقد قتل في الجولة الأولي من المعركة جاءه سهم غرب – طائش – لا يدري من راميه فشك رجله مع فرسه ، وظل ينزف حتى مات ، وتساقطت الرؤوس ، وملأت الأرض بجثث القتلي ، ولم يكن حينئذ بد من الدعوة إلي وقف القتال .


من هنا أعطيت ام المؤمنين كعبا المصحف وقالت : أدعهم إليه ولكن هل استجاب قتله عثمان لتلك الدعوة الكريمة ؟ لا ، إنهم لم يكن لديهم الاستعداد لقبولها إذ لو كان عندهم نية لقبول الصلح ما أنشبوا القتال حينما كان الناس من الصلح قاب قوسين أو ادني .


وتقدم السبئيون وكانوا في مقدمة جيش أمير المؤمنين ليفسدوا عليه كل فكرة للصلح ، وهم الذين قتلوا كعب بن سور ومسلم العجلي ، وتقدموا وهم لا يقصدون إلا أم المؤمنين ، وقد رموا هودجها ، وهي تذكرهم الله واليوم الآخر ، وهم يأبون إلا الهجوم عليها والإضرار بها ، حينئذ رفعت صوتها وقالت : أيها الناس العنوا قتلة عثمان وأشياعهم .


وأخذت تدعو – وكانت جهورية الصوت – فضج الناس بالدعاء حتى سمع دعاؤهم في أنحاء المعسكر رغم شدة القتال وصياح المتقاتلين ، وسمع علي الضجة فسأل : ما هذا فقالوا : عائشة تدعو علي قتلة عثمان وأشياعهم . فقال علي : اللهم العن قتلة عثمان . واشتد هجوم السبئيين علي الجمل ، وتأكدت أم المؤمنين أنهم يريدونها هي .




(2)


عنف القتال في معركة الجمل



لقد أدركت ام المؤمنين عائشة أنها المقصودة للنيل منها فأرسلت إلي عبد الرحمن بن عتاب وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام أن اثبتا مكانكما ، وأخذت تحرض الناس علي القتال والثبات ، وكان لتحريضها تأثير شديد في النفوس فهاجت المشاعر ، وثارت النفوس والتف الناس حول الجمل ، ودافعوا بحمية لم تعهد من قبل ، وحمت مضر البصرة حتى عصفت بمضر الكوفة ، وزعزعت صفوفها ، وتراجع الناس حتى زحموا عليا رضي الله عنه فقال لابنه محمد – وكان معه الراية – احمل ، فتقدم بها حتى لم يجد متقدما إلا علي سنان الرمح ، فأخذ الإمام علي الراية من ابنه ، وتقدم ([5]). ودارت رحي الحرب عنيفة ضاربه ، وكانت سجالا يوما لأهل البصرة ويوما عليهم ، وتزاحم الناس حول الجمل ، ولا يأخذ بخطامه إلا شجاع معروف ويعرف بنفسه قبل أن يأخذ الخطام فيقول فلان بن فلان ، وكلما قتل رجل حل محله آخر حتى قتل من بني ضبة أربعون رجلا قتلوا جميعهم علي خطام الجمل ، وأخذ الخطام بعد بضعة رجال من قريش قتل منهم سبعون رجلا كلهم كل واحد منهم يقتل وهو آخذ بخطام الجمل ([6]).


وأخذ الأبطال من الجانبين يتحدي بعضهم بعضا ، ويقتل بعضهم بعضا حتي أكلتهم الحرب ، وفرغ من المتقاتلين الصبر ، فتنادوا يوصي بعضهم بقطع الأطراف لعل الناس عندما تقطع أطرافهم يمسكون عن القتال ، وتطايرت الأكف والأذرع والأرجل حتى يقول ابن كثير – رحمه الله – ولم تر وقعة أكثر من قطع الأيدي والأرجل فيها من هذه الوقعة . ([7])


واخذ السبئيون يرمون الهودج بالنبال حتى صار مثل القنفذ لكثرة ما رشق فيه منها . وهنا أترك الحديث لابن الأثير يروي لنا ما دار في هذا اليوم بين الفريقين يقول : وأحدق أهل النجدات والشجاعة بعائشة ، فكان لا يأخذ الخطام أحد إلا قتل ، وما رامه أحد من أصحاب علي إلا قتل أو أفلت ثم لم يعد ، وحمل عدي بن حاتم الطائي عليهم ففقئت عينه .


وأخذ الخطام عبد الله بن الزبير ولم يتكلم ، فقالت : من أنت ؟ فقال : ابنك ابن أختك قالت : واثكل أسماء ، وانتهي إليه الأشتر فاقتتلا فضربه الأشتر علي رأسه فجرح جرحا شديدا ، وضربه عبد الله ضربه خفيفة ، واعتنق كل رجل صاحبه ، وسقطا إلي الأرض يعتركان ، فقال ابن الزبير : اقتلوني ومالكا واقتلوا مالكا معي فلو يعلمون من مالكا لقتلوه ، إنما كان يعرف بالأشتر ، فحمل أصحاب علي وعائشة فخلصوهما ، وأما الأشتر النخعي فيصف ما لقيه أثناء المعركة فيقول : لقيت عبد الرحمن بن عتاب فلقيت أشد الناس وأروغه ما لبث أن قتلته ولقيت الأسود بن عوف فلقيت أشد الناس وأشجعه فما كدت أنجو منه فتمنيت أني لم أكن لقيته ، ولحقني جندب بن زهير الغامدي فضربته فقتلته .


قال : ورأيت عبد الله بن حكيم بن حزام وعنده راية قريش ، وهو يقاتل عدي بن حاتم وهما – يتصاولان تصاول الفحلين فتعاورناه ، وأخذ الخطام الأسود بن أبي البختري فقتل وهو قرشي أيضا ، وأخذه عمرو بن الأشرف فقتل وقتل معه ثلاثة عشر رجلا من أهل بيته ، وهو أزدي ، وجرح مروان ابن الحكم ، وجرح عبد الله بن الزبير سبعا وثلاثين جراحة من طعنة ورمية . ([8])


قال عبد الله بن الزبير : مشيت يوم الجمل وبي سبع وثلاثون جراحة من ضربة وطعنه وما رأيت مثل يوم الجمل قط ، ما ينهزم منا أحد ، وما نحن إلا كالجبل الأسود ، وما يأخذ بخطام الجمل أحد إلا قتل . ([9])


ورأي علي أن الناس يسقطون في الميدان كورق الشجر ، وكلما أبيدت فرقة لاذ بالجمل فرقة أخرى ، وتأكد أمير المؤمنين بأن السر في احتدام الأمر وتشبث الناس بالقتال هو بقاء الجمل في المعركة ، فنادي في الناس : اعقروا الجمل فأنه إن عقر تفرقوا ([10]) .


ثم تحين بجير بن دلجة الضبي – وهو من أهل الكوفة – فرصة ، وضرب عرقوب الجمل فخر وسقط يقول ابن الزبير : فما سمعت صوتا قط أشد من عجيج الجمل .


وقيل لبجير : لم عقرته ؟ فقال : رأيت قومي يقتلون ، فخفت أن يفنوا ورجوت إن عقرته أن يبقي لهم بقية ([11]).


وكانت فكرة عقر الجمل فكرة عبقري الهمه الله ذلك حتى تحقن هذه الدماء التي تهدر هدر وكانت عند أصحابها أرخص من الهواء الذي يستنشقونه ، فما كان لأهل الكوفة أن يفروا من المعركة وهم ما حضروا إلا لنصرة أمير المؤمنين ، وكيف يفرون وهم يرون الحق معهم ؟ والفرار في نظرهم استسلام للباطل الذي مع خصمهم .


وما كان لأهل البصرة أن يتركوا أم المؤمنين وحيدة في الميدان ، وهي قد لجأت إليهم ولاذت ببلدهم ، وإنهم ليرون نصرتها لرسول الله r فكيف يفرون ويتركون أمهم أمام خصم عنيد ؟ وقد كان حبهم لأم المؤمنين – رضي الله عنها – يدفعهم إلي الدفاع عنها حتى الموت ([12]) .


لقد كان الجمل في هذه المعركة رمزا للتضحية ، صرخة بالمتقين حوله تحثهم علي الثبات والصبر ومجالدة الخصم ، ولهذا فقد اتفق رأي علي والقعقاع وبجير علي أن الوسيلة الوحيدة لأنهاء هذه المعركة هي عقر هذا الجمل .


ولم يكد بجير بن دلجة ينفذ الخطة ، ويضرب عرقوب الجمل فيهوي صريعا ، ولم يكد الهودج يسقط من فوق الجمل حتى تفرق الناس ، وكان الهودج هو الذي كان يشدهم جميعا إلي القتال بغير تفكير ولا تدبير .


وليس المقصود من عقر الجمل هو إنهاء القتال فقط ، ولكنه كان تعبيرا صادقا عن المحافظة علي حياة أم المؤمنين ، حيث كان هودجها غرضا اتخذه السبئيون لرميهم ، ولم يكن له من وراء ذلك غاية إلا قتل أم المؤمنين ، والتخلص منها ، وبخاصة وأنهم قد تخلصوا من طلحة والزبير ، فلم يكن هناك من يخيفهم ويقلق بالهم إلا وجودها ، فلو أنهم تخلصوا منها لخلا لهم الجو ، ولم يعد هناك من يطلب بثأر عثمان منهم .


صحيح أن وجود معاوية بالشام قد يعكر عليهم ذلك الحلم الجميل الذي يؤملون العيش فيه ولو إلي حين ، ولكنهم كانوا يعتقدون أن معاوية لن يطلبهم إلا إذا طلبوه ، وما داموا لم يحركوا إليه قوة ، ولم يطلبوا منه بيعة ، فإنه سيرضي بذلك ، وسيقنع بحكم الشام حتى تحين فرصة التوسع .


ولكن عقر الجمل وسقوطه إلي الأرض قد أنهي المعركة من جهة وفوت علي السبئيين غرضهم وأحبط كيدهم الخبيث من جهة أخرى .


وبسقوط الجمل تفرق الناس ، وانتهت المعركة ، وأمر الإمام علي محمد ابن أبي بكر أن يحمل الهودج هو وعمار بن ياسر ، ويخرجاه من وسط القتلى والجرحى ، ويضربا علي أم المؤمنين قبة ([13]) .


وقد قال الإمام علي لمحمد بن أبي بكر انظر ، هل وصل إليها شيء من الجراح ، فنظر محمد إلي داخل الهودج وهي لم تعرفه ، فقالت : من أنت ؟ ويلك . قال : أنا أبغض أهلك إليك .


قالت : ابن الخثعمية ؟ قال : نعم . قالت : بأبي أنت وأمي ، الحمد لله الذي عافاك ([14]) .


وقال لها عمار : كيف رأيت ضرب بنيك اليوم يا أماه ؟ قالت : لست لك بأم . قال عمار : بلي وإن كرهت . قالت عائشة : فخرتم إن ظفرتم ، وأتيتم مثل الذي نقمتم ، هيهات والله لن يظفر من كان هذا دأبه .


وأقبل وجوه الناس علي عائشة – رضي الله عنها – وفيهم القعقاع ابن عمرو ، فسلم عليها . فقالت : إني رأيت بالأمس رجلين اجتلدا وارتجزا بكذا فهل تعلم كوفيك ؟ قال القعقاع : نعم ، ذلك الذي قال : ( أعق أم نعلم ، وكذب، إنك لأبر أم نعلم ولكن لم تطاعي ) . قالت : والله لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة ([15]) .


وجاء علي بن أبي طالب إليهما مسلما : كيف أنت يأماه ؟ قالت : بخير ، فقال يغفر الله لك ، قالت : ولك ([16]) .


ورأي علي القتلى يعدون بالآلاف فحزن وتألم لذلك ألما شديدا ، وقال لابنه الحسن يا حسن ، ليت أباك مات منذ عشرين سنة فقال له الحسن : يا أبت : كنت أنهاك عن هذا ، قال علي : يا بني إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا ، وضم الحسن إليه ثم قال : إنا لله يا حسن ، أي خير يرجي بعد هذا ([17]).


لقد كان الإمام علي – رضي الله عنه – حقيقا بان يندم علي ما كان ، وكيف وهو يري خيرة الناس قتلي في الميدان ؟ فها هو ذا يقف علي كعب بن سور ويقول : أزعمتم أنه خرج معهم السفهاء ، وهذا الخبر قد ترون ؟ ولما رأي عبد الرحمن بن عتاب قال : هذا يعسوب القوم لأنهم قد رضوه يجتمعون عليه لصلاتهم – ورأي طلحة بن عبيد الله صريعا فقال : لهفي عليك يا أبا محمد إنا لله وإنا إليه راجعون ، والله لقد كنت اكره أن أري قريشا صرعي ، أنت والله كما قال الشاعر : ([18]) .


فتي كان يدينه الغني من صديقه إذ ما هو استغني ويبعده الفقر


وجعل كلما مر برجل قتيل فيه خير قال : زعم من زعم أنه لم يخرج إلينا إلا الغوغاء وهذا العابد المجتهد فيهم . وقد بلغ عدد القتلى عشرة آلاف ([19])، وقيل ثلاثة عشر ألفا ([20])نصفهم من أصحاب علي ونصفهم من أصحاب عائشة . قتل من ضبة ألف رجل ، ومن بني عدي سبعون رجلا حول الجمل كلهم قد قرأ القرآن ([21]) .


والحق أن المعركة كانت رهيبة مفزعة ، وقد وصفها من حضرها عن قرب فقالوا :


- قال القعقاع : ما رأيت شيئا أشبه بشيء من قتال القلب يوم الجمل بقتال صفين ، لقد رأيتنا ندافعهم بأسنتنا ، ونتكئ علي أزجتنا ، وهم مثل ذلك ، حتى لو أن الرجال مشت عليها لاستقلت بهم .


وقال عبد الله بن سنان الكاهلي: لما كان يوم الجمل ترامينا بالنبل حتى فنيت ، وتطاعنا بالرماح حتى تكسرت، وتشبكت في صدورنا وصدورهم حتى لو سيرت عليها الخيل لسارت ، ثم قال علي : السيوف يا بني المهاجرين ، فما شبهت أصواتها إلا بضرب القصارين.([22])


وطارت أنباء المعركة إلي أهل المدينة عن طريق النسور ، فقد مر بالمدينة قبل أن تغرب الشمس نسر يطوف بماء هناك ، ورأي الناس معه شيئا معلقا ، فلما دنوا منه فإذا هو كف فيه خاتم منقوش عليه : عبد الرحمن ابن عتاب .


وعلم من بين مكه والمدينة والبصرة بالوقعة بما ينقل إليهم النسور من الأيدي والأقدام وصلي عليُّ – رضي الله عنه – علي القتلي من الفريقين ، وأمر فدفنت الأطراف في قبر عظيم .


وجمع ما كان في المعسكر مما ترك القتلي ، وبعث به إلي مسجد البصرة ، وقال : من عرف شيئا فليأخذه إلا سلاحا كان في الخزائن عليه سمة السلطان.


وسألت عائشة – رضي الله عنها – عمن قتل من الفريقين ، فكلما نعي واحد من الجميع قالت : يرحمه الله ، فقيل لها : كيف ذلك ؟. قالت : كذلك قال رسول الله r فلان في الجنة ، وفلان في الجنة . وقال علي – رضي الله عنه : إني لأرجو ألا يكون أحد نقي قلبه لله من هؤلاء إلا أدخله الله الجنة ([23]).


وشيع علي – رضي الله عنه – عائشة ، بعد أن جهزها بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات ، وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر ، وأذن علي لمن نجا من الجيش ممن كان قدم معها أن يرجع معها إلا أن يحب المقام .


فلما كان يوم الرحيل جاء علي فوقف بالباب ، وحضر الناس ، وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس ، ودعت لهم ، وقالت : يا بني ، لا يعتب بعضنا علي بعض أنه والله ما كان بيني وبين علي في القدم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها ، وإنه علي معتبتي لمن الأخيار .


فقال علي : صدقت والله ، ما كان بيني وبينها إلا ذاك ، وإنها لزوجة نبيكم r في الدنيا والآخرة .


وسار علي معها مشيعا ومودعا أميالا ، ثم سرح بنيه معها بقية اليوم ، وكان ذلك يوم السبت قرة رجب سنة ست وثلاثين ، واتجهت في مسيرها إلي مكة فأقامت بها إلي أن حجت في ذلك العام ، ثم رجعت إلي المدينة – رضي الله عنها وأرضاها ([24]). ولإظهار الحق أود أن أبرز بعض الملاحظات المهمة :-


الأولي : علي الرغم من تلك المعركة وما نالته السيدة عائشة من جرائها فإن الإمام علي أمنها وحفظ عليها كرامتها ولم يسمح لأحد بالتطاول عليها فقد أخبر علي بأن رجلين علي الباب ينالان من عائشة قال أحدهما جزيت عنا أمنا عقوقا وقال الآخر يا أمي توبي وقد أخطئتي فبعث الإمام علي القعقاع بن عمرو وأمسك بالرجلين وهما عجلان وسعد ابنا عبد الله فضربهما مائة سوط وأخرجهما من ثيابهما . ([25])


الثانية : ومن مظاهر عدل الإمام وحيدته التامة هو تعامله مع أهل البصرة الذين خرجوا عليه فبعد انتصاره عليهم فقد تحرى من يوليه عليها ليحسن إدارتها ويصلح أهلها فولي عليها ابن عباس كما أشار أبو بكرة وأختار معه زياد بن أبيه وهو مما أعتزل القتال ولم يشترك فيه وعينه علي الخراج وبيت المال ليعيد بذلك الطمأنينة لأهل البصرة . وقد وفق أمير المؤمنين في اختياره ذلك الرجل حيث كان محايدا لم يشترك في حرب ويناصر أحد الطرفين وهكذا نري حنكة أمير المؤمنين علي في إدارة الأمور واحترامه لحق الغير ومحافظة علي حرمات المسلمين وكذلك نراه في هذه المعركة يختصم لله تعالي يغضب للحق وليس لطرف علي طرف ولا حزبا دون حزب فهو يجلد الرجلين اللذين أساءا لزوجات النبي حرصا علي حرمات المسلمين وتأدبا مع أمهات المؤمنين وزوجات النبي r .


الثالثة : هي موقف أمير المؤمنين من الخصومة التي دارت بينه وبين وطلحة والزبير وأم المؤمنين جهة أخرى وقد كان الهدف الأسمى هو الإصلاح ما استطاع إليه سبيلا فهو يرغب بتصحيح وضع ظهر من قتلة عثمان ومع ذلك فهو لم يستبح أن ينال أحدا من الطرف الآخر أو أن يحقر من شأنه بل نراه يحافظ علي مكانة أم المؤمنين وطلحة والزبير باعتبارهما من السباقين في الإسلام .


رابعا : ومن المواقف المثيرة موقف عمار بن ياسر ذلك الصحابي الجليل وهو من المؤيدين لأمير المؤمنين علي وقد وقف موقفا مع الزبير بن العوام الذي كان من خصوم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، وقد بارز كلا منهما الآخر وأخذ يتبارزان وجعل عمار ينخره بالرمح والزبير كاف عنه ويقول له أتقتلني يا أبا اليقظان فيقول له عمار لا يا أبا عبد الله . لا أدري مدي صحة تلك الرواية ولكن مما يلفت النظر أن هؤلاء المقاتلين سرعان ما يثوبون إلي رشدهم إذا ذكروا بقول من أقوال الرسول e ، فمن الثابت أن الزبير رضي الله عنه يعلم من الرسول e أن عمارا ستقتله الفئة الباغية ولما رآه أنضم إلي الإمام علي فوجد نفسه هو الفئة الباغية فسرعان ما أنسحب من المعركة . ([26])

* * * *




(3)


تخرصات وأباطيل حول موقعة الجمل



ورد حول موقعة الجمل روايات كثيرة متضاربة قد يضيع فيها وجه الحق وقد يصعب علي الباحثين الوصول إلي الحقيقة المنشودة فالمدينة تضطرم بالمتمردين والسبئيين ومنهم من خرج يطالب بالثأر بقتلة عثمان ومنهم من وقف بجانب علي بن أبي طالب لتثبيت أركان الخلافة أولا ثم القصاص بعد ذلك من قتلة عثمان ومنهم من لزم الحياد واعتزل الحياة ومن خلال هذا الخضم وذلك المستنقع سوف نتحدث عن بعض الروايات المتضاربة ليتضح للقارئ المسلم بعض الروايات الصحيحة وأن يستنبط وجه الحق منها أو يقترب من ذلك الوجه إن عجز إلي ذلك سبيلا :


أولا : من صاحبة الجمل ، وماذا قيل عنها ؟


صاحبة الجمل : هي السيدة عائشة بنت أبي بكر وزوج رسول الله w وقد خرجت من مكة بعد أداء عمرة تريد المدينة فلما كانت عند مكان يعرف بسرف لقيها عبيد الله بن أبي سلمة فقال ما وراءك ؟ قال : اجتمعوا علي بيعة علي . وأريدك أيها القارئ أن تنتبه إلي رد السيدة عائشة كما صورته بعض المراجع :


يقول ابن الأثير أنها قالت : ليت هذه انطبقت علي هذه وتعني انطباق الأرض علي السماء إن تم الأمر لصاحبه . ردوني : فانصرفت إلي مكة وهي تقول : قتل مظلوما والله لأطالبن بدمه فقال لها : ولم ؟ ثم قال لها ما معناه والله إن أول من أظهر العيب علي عثمان لأنت تقولين : أقتلوا نعثلا ([27]) ، لقد كفر ! . " فيبدوا هنا تناقضها حول مقتل عثمان " . ولكنها قالت : إنهم استتابوه ثم قتلوه فقد قلت وقول الأخير خير من قول الأول فقال لها عبيد الله ابن أبي سلمة : ([28]) .

فمنك البداء ومنك الغيـر ومنك الرياح ومنك المطر


وأنت أمرت بقتل الإمام وقلت لـنـا إنه قـد كفر



ويروي صاحب كتاب الإمامة والسياسة أن عائشة خرجت باكية تقول قتل عثمان رحمه الله مظلوما وقال لها عمار : بالأمس تحرضين عليه واليوم تبكينه ([29]).


ويقول ابن الأثير : فانصرفت إلي مكة فقصدت الحجر فتسترت به فاجتمع الناس حولها فقالت : أيها الناس ، إن الغوغاء من أهل الأمصار ، وعبيد أهل المدينة ، اجتمعوا علي هذا الرجل ظلما ، ونقموا منه استعماله من حدثت سنة . وقد استعمل أمثالهم من كان قبله : فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا سفكوا الدم الحرام ، واستحوا البلد الحرام ، والشهر الحرام ، وأخذوا المال الحرام ([30]) .


فاجتمع الناس ، ثم ذهبوا إلي البصرة ، ليحرضوا أهلها ضد علي بن أبي طالب . وقالوا : إن عائشة كانت تحمل في نفسها كراهية لعلي بن أبي طالب ، من يوم أن قال لرسول الله في حادث الإفك (( النساء كثيرات )) ([31]).


ثانيا : هل لمثل السيدة عائشة وهي في مكانتها المرموقة أن تأتي بهذه الأخطاء ؟


اعتقد أن ما روي عن السيدة عائشة في هذا الصدد انما هو مجرد كذب واحتال فهذا لا يليق بأم المؤمنين عائشة رحمها الله فما كانت لتتهور في مواقف متناقضة كتلك التي رويت وهي التي رشحها الرسول w ليغرف من علمها المؤمنون وليهتدوا بهدي ما أثرته عن النبي w فهل يعقل أن تتناقض في قولها وتأمر بقتله فإذا ما تم ذلك تكون علي رأس من يطالب بدمه وهل هذه أخلاق أمهات المؤمنين ؟ وليس ما روي عنها هذا يثير الضحك والدهشة حينما قالوا عنها لقد قلت وقالوا وقولي الأخير خير من قولي الأول وهي التي تعرف عن عثمان الكثير وتحفظ له مقامه أليست هي القائلة عنه حينما سألوها ان الناس يشتمون عثمانا فقالت ( لعن الله من يلعنه والله لقد كان قاعدا عند نبي الله وأن رسول الله مسند ظهره إلي وأن جبريل ليوحي إليه القرآن وإني لأمسح العرق عن جبين رسول الله وإنه ليقول لعثمان أكتب يا عثيم فما كان الله لينزل تلك له الا كريما علي رسول الله) . ([32])


أما قول هؤلاء الرواة أن عائشة كانت تحقد علي الإمام على ولا تذكره إلا باسمه فإن هذا أيضا مجرد كذب وبهتان فما كانت السيدة عائشة ينطوي قلبها علي الحقد علي أيا من أصحاب النبي w وهي الصديقة بنت الصديق الذي تمثلت بأخلاق أبيها وزوجها النبي الهادي فكيف تحقد وقد نزل فيهم آيات من القرآن الكريم تشير بفضلهم وتأمرهم بأن يعفوا ويتسامحوا يقول الله تعالي ( ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ، وليعفوا وليصفحوا ، ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ) ([33]) . وسمعها أبو بكر رضي الله عنه ، فقال : (( إني لأحب أن يغفر الله لي )) وأعطي مسطحا أكثر مما كان يعطيه من قبل ...


ثالثا : لماذا خرجت السيدة عائشة إلي البصرة ؟


بعد الذي ذكرناه مما يعرف لأم المؤمنين من السداد في الرأي والحكمة في التصرف – بعد هذا – يخطر في بال المتتبع للحوادث هذا السؤال ؟ فلماذا إذن . خرجت أم المؤمنين ومعها طلحة والزبير إلي البصرة إذا لم يكن هدفهم المطالبة بدم عثمان ، بدافع البغض لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ؟


والجواب علي هذا السؤال ، لا نعتمد فيه علي العاطفة والاستنتاج ولا نستغل حبنا لأم المؤمنين رضي الله عنها ، نستعمل تقديرنا للصحابيين الجليلين : طلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، اللذين بشرهما رسول الله بالجنة ... – لا نعتمد علي شيء من ذلك ... وإنما نضع بين عيني القارئ نصوصا وأخبارا ، رواها المؤرخون في غمار هذه الفتنة ، ولكنها تضاءلت وغطاها ركام الأغراض الخبيثة ، وما غمر كتب التاريخ من شائعات ، كانت مرتعا خصبا لخيال القصاص والشعراء . إقرأوا معي – إن شئتم – هذه الروايات :


1- وروي ابن الأثير في كتاب ( الكامل ج3 ص108 ) أن عثمان ابن حنيف أمير البصرة أرسل إلي أم المؤمنين ، رجلين يسألانها عن سبب مسيرها ؟ فقالت : والله ، ما مثلي يغطي لبنيه الخبر .. وإن الغوغاء ونزاع القبائل ، غزوا حرم رسول الله e ، وأحدثوا فيه ، وآوو المحدثين ، فاستوجبوا لعنة رسول الله e ، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين ، بلا ترة ولا عذر ، فاستحلوا الدم الحرام فسكفوا ، وانتهبوا المال الحرام ، وأحلوا البلد الحرام ، والشهر الحرام ... فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتي هؤلاء وما الناس فيه وراءنا ، وما ينبغي لهم من إصلاح هذه القضية ... وقرأت : } لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف تؤتيه أجرا عظيما { ([34]) .


2- ومن أوضح الأدلة علي أن أم المؤمنين ، لم تكن تقصد – بخروجها – تفريق الجماعة ولا شفاء حقد بينها وبين علي : ان الذين طلبوا منها الخروج – وهم طلحة والزبير ومن معهما – كانوا يعلقون آمالا علي خروجها ، في حسم النزاع وجمع الشمل .


وفي ذلك يقول ابن العربي في العواصم من القواصم ص152 : (( فخرج طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، رجاء أن يرجع الناس إلي أمهم ، فيراعوا حرمة نبيهم ، واحتجوا عليها عندما حاولت الامتناع – بقول الله تعالي : } لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس { ([35]). ثم قالوا لها : إن النبي قد خرج في الصلح وأرسل فيه .


قال ابن العربي : (( فرجت المثوبة ، واغتنمت الفرصة ، وخرجت حتى بلغت الأقضية مقاديرها )) .


3- يروي الطبري ( الأمم والملوك ج5 ص169 والكامل ج3 ص119 -120 ) أن عليا ، عندما وصل إلي البصرة ، أرسل القعقاع بن عمرو ، ليقوم بالوساطة بينه وبين أصحاب الجمل ، فلما رجع القعقاع ، أخبر أنه قد استجاب له أصحاب الجمل ، وبعث إلي طلحة والزبير يقول : (( إن كنتم علي ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو ، فكفوا ، حتى نزل فنظر في الأمر ... )) فأرسلا إليه : (( إنا علي ما فارقنا عليه القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس )) .


قال الحافظ ابن كثير ( الكامل لابن الأثير ج3 ص123) : (( واطمأنت النفوس وسكنت ، فرجع كل فريق بأصحابه من الجيشين ، فلما أمسكوا بعث علي (( عبد الله بن عباس )) إليهم ، وبعثوا (( محمد بن علي السجاد )) إلي علي ، وعولوا – جميعا – علي الصلح ... وباتوا بخير ليلة ، ولم يبيتوا بمثلها للعافية ، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة باتوها قط ، قد أشرفوا علي الهلكة ، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها ، حتى اجتمعوا – في السر – علي إنشاب الحرب .


ويقول ابن الأثير ( الكامل ج3 ص 120) إن الأشتر النخعي ([36]) ، قال : (( قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا . وأما علي فلم نعرف رأيه اليوم ، ورأي الناس فينا واحد فإن يصطلحوا مع علي ، فعلي دمائنا . فهلموا بنا نثب على علي رضي الله عنه وطلحة فنلحقهما بعثمان ، فتعود فتنة يرضي فيها منا بالسكون . يعني أنهم يفلتون بها من الحد في دم عثمان رضي الله عنه .


هكذا كانت فكرة الصلح ، هي المسيطرة علي عقول القوم من الطرفين ، كما كانت هدفهم الذي يهدفون إليه ، حتى في وقت استعدادهم للقتال .





وفي أثناء تنظيم الجيوش ، قال ابن الأثير ( الكامل ج5 ص122) :


ولما خرج طلحة ، نزلت مضر جميعا وهم لا يشكون في الصلح ، ونزلت ربيعة فوقهم وهم لا يشكون في الصلح ، ونزلت اليمن أسفل منهم وهم لا يشكون في الصلح ثم يقول : فكان بعضهم يخرج إلي بعض ، لا يذكرون إلا الصلح .


وكان أصحاب علي عشرين ألفا ، وخرج علي وطلحة والزبير ، فتوافقوا فلم يروا أمرا أمثل من الصلح ، ووضع الحرب فافترقوا علي ذلك ... الخ .


واقرأوا أيضا ، رد السيدة عائشة علي السيدة أم سلمة ، حيث قالت لها (( ما أقبلني لوعظك وأعلمني بنصيحتك ، ولنعم المطلع مطلع فزعت فيه إلي فئتان متناحرتان ([37]) .


4- يروي القاضي ابن العربي في كتابه ( العواصم من القواصم ) ص 151 أنه يحتمل أنهم خرجوا ليتمكنوا من قتلة عثمان .


5- ويروي هذا المرجع أنه يمكن أن يكونوا قد خرجوا في جمع طوائف المسلمين وضم نثرهم وردهم إلي قانون واحد ، حتى لا يضطربوا فيقتتلوا .


وهذا هو الصحيح . لا شيء سواه .. وبذلك وردت صحاح الأخبار .


6- يروي ابن حجر في ( فتح الباري ) ج13 ص41 ، فيقول : (( إن أحدا لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا عليا في الخلافة ، ولا دعوا لأحد منهم ، ليولوه الخلافة )) .


7- ويروي الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه (( مختصر سيرة الرسول )) ص141 فيقول : وبلغ الخبر عائشة – وهي حاجة – ومعها طلحة والزبير ، فخرجوا إلي البصرة يريدون الإصلاح بين الناس واجتماع الكلمة .


8- ويقول القاضي ابن العربي ، في معرض الرد علي من قال : إن أهل البصرة لما عرفوا بمجيء عائشة وطلحة والزبير ، خرجوا ليقاتلوهم وعلي رأسهم (( حكيم بن جبلة )) ... قال ابن العربي – في شأن حكيم بن جبلة – (( عن أي شيء كان يدافع ؟ وهم ما جاءوا مقاتلين ولا ولاة ... وإنما جاؤوا ساعين في الصلح ، راغبين في تأليف الكلمة ؟ فمن خرج إليهم ودافعهم وقاتلهم دافعوا عن مقاصدهم كما يفعل في سائر الأسفار والمقاصد . ([38])


9- لقد أدرك المفسدون ، أن الصلح سيسلم رقابهم لسيف أمير المؤمنين .


وانتهزها – كذلك – دعاة السوء من منافقي اليهود ، الذين ما تزال صدورهم تغلي حقدا علي الإسلام والمسلمين – انتهزوها فرصة العمر – فوقف عبد الله بن سبأ ، المعروف (( بابن السوداء )) يقول . ( يا قوم ، إن عزكم في خلطة الناس . فصانعوهم . فإذا التقي الناس غدا ، فأنشبوا القتال ، ولا تفرغوهم للنظر . فمن أنتم معه ، لا يجد بدا من أن يمتنع – أي عن الصلح – ويشغل الله عليا ، وطلحة . والزبير ، ومن رأي رأيهم .. عما تكرهون ... فأبصروا الرأي ، وتفرقوا عليه ، والناس لا يشعرون )) ! .


الحلقة المفقودة


هي التي يمكننا ان نقرأها ، من بين السطور المضطربة في هذه الحقبة المظلمة في كتب التاريخ ، إذا انتزعنا أنفسنا من عصرنا هذا ، وعشنا مع هؤلاء القوم في حقبتهم وبيئتهم ، التي لا يزال يتلألأ في جوانبها نور النبوة وضياء الإيمان .


كان المحور الذي يدور حوله الخلاف بين علي رضي الله عنه وكل المخالفين عليه ، هو أمر قتلة عثمان . فكل المسلمين – في هذه اللحظة – مجمعون علي وجوب إقامة الحد وتنفيذ القصاص في قتلة عثمان . وإن الذي تولي الحديث عن المقتول هو معاوية بن أبي سفيان ، ولما طلب إليه أن يبايع عليا ، لم يمانع في البيعة ، ولكنه اشترط أولا : تسليم قتلة عثمان أو إقامة الحد عليهم .


ويؤيدنا في ذلك ما رواه إمام الحرمين في كتابه : ( لمع الأدلة ) حيث يقول : ومعاوية – وإن قاتل عليا – فإنه لا ينكر إمامته ، ولا يدعيها لنفسه .... وإنما كان يطلب قتلة عثمان رضي الله عنه ، ظانا أنه مصيب وكان مخطئا ([39]) .


ولم يسبق إلي ذهن أحد من المسلمين في المدينة ، أن هذا الطلب اتخذ ستارا للوصول بمعاوية إلي الخلافة ، ولم تكن فكرة (( قميص عثمان )) قد اتخذت مثلا لمن يريد أمرا ثم يتعلل بغيره للوصول إليه . وإنما كان مفهوم هذا الطلب صريحا : انه إقامة حد من حدود الله ، لا ينبغي التفريط فيه ... لا من الرعية ولا من الراعي .


وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، يري هذا الرأي ولا ينكره وإنما شرح أسباب تأجيل النظر فيه حتى يتم له الأمر ، وتبايعه الأمصار الإسلامية كلها . وحينئذ ، يستطيع أن ينفذ حكم الله في المجرمين . فقال في أول يوم من بيعته ، عندما سأله طلحة والزبير – ومعهما جمع من الصحابة – في أمر قتلة عثمان : (( يا أخوتاه لست أجهل ما تعملون ، ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم ؟ ها هم هؤلاء قد صارت معهم عبدانكم ، وثابت إليهم أعرابكم . وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا فهل ترون موضعا لقدرة علي شيء مما تجدون ؟ قالوا : لا قال : فوالله ، لا أري إلا رأيا ترونه – إن شاء الله – إن هذا الأمر أمر جاهلية – يعني الثأر – وإن لهؤلاء مادة فأهدأوا عني حتي يهدأ الناس ، وتقع القلوب مواقعها ، وتؤخذ الحقوق ([40]) .


كان هذا رأي علي بن أبي طالب ، بسبب الظروف التي أحاطت بأهل المدينة وقتئذ ، وبسبب تمكن الثوار من الدفاع عن أنفسهم بينما كانت وجهة نظر معاوية والمطالبين بدم عثمان : أنه لا بد من القصاص أولا . ثم البيعة بعد ذلك .. فأصبح الرأيان لا يلتقيان أبدا . وفي الأمة حرص شديد علي الوحدة وجمع الصفوف .


فإذا يكون الحل إذن ، وكلا الطرفين مصر علي رأيه لا يتزحزح عنه قيد أنملة ؟ .


ومع هذا التعقيب والإصرار ، يبدو للناس الوجهان وجيهان . فالذين يلتقون بعلي يقتنعون بسلامة رأيه . والذين يلتقون بمعاوية ، يعتقدون أن الحق معه .. فما هو المخرج من هذه القضية التي سلم الناس بسلامة طرفيها ؟.. إذن ، لابد من التماس الحل الذي يمكن أن يلتقي الطرفان في دائرته .


ولقد بحث هذا الأمر قطبان من أقطاب الإسلام ، بشرهما رسول الله بالجنة وهما : طلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، فوجدا الحل عند أم المؤمنين ، حبيبة رسول الله وأقرب نسائه إلي قلبه ، والمصدر الصادق الذي يثق المسلمون به رسول الله w .


واصبح الأمر – في نظر طلحة والزبير – وقد ذللت كل العقبات في الطريق إذا تولته أم المؤمنين بنفسها . فمتي علم المسلمون أن أمهم يهما وحدة المسلمين ، ويغضبها تفرقهم وأن الوحدة لا يمكن أن تتم إلا إذا تم القبض علي المجرمين الذين قتلوا عثمان – سواء كانوا في البصرة أو في الكوفة ، أو في مصر – وأن أم المؤمنين إذا نادت بهذا فستجد من المسلمين جوابا واحدا ، هو القبض علي كل المتهمين بقتل عثمان – عند ذلك تكون المشكلة قد انحلت من أساسها ، وتكون قد أعفت عليا من حرب داخلية ، كان يخشاها ، فيعود المسلمون في سيرهم الطبيعي ، الذي كانوا يسيرونه في عهد عمر وعهد عثمان .


الله يشهد أن هذا الهدف – أو قريبا منه – هو الذي ينبغي أن تشد إليه أم المؤمنين رحالها إلي البصرة من مكة . وكانت تعتقد أنها – هي تمثل رسول الله في تحقيق المعني المقصود من الآية الكريمة } لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس { ([41]) – كانت تعتقد أنها إنما تقوم بواجبها كاملا ، في القضاء علي خلاف عجز المسلمون عن التغلب عليه ، كما كان طلحة والزبير كذلك ، يعتقدان أنهما تقربا إلي الله بإقناع ام المؤمنين ليجتمع الشمل تحت رايتها ، ويستجيب المسلمون لها : تقديسا لحرمة رسوله الله في شخص أم المؤمنين .


ويؤيدنا في هذا الاتجاه ، ما رواه ابن الأثير ، من ان القعقاع بن عمرو ، بعثه علي رضي الله عنه إلي البصرة ، فوجد هناك ام المؤمنين ، فسألها وقال : أي أمة ، ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة ؟ فقالت : أي بني ، الإصلاح بين الناس . قال : فابعثي إلي طلحة والزبير ، حتى تسمعي كلامي وكلامهما . فبعث إليهما ، فجاءا فقال لهما إني سألت أم المؤمنين ما اقدمها . فقالت : الإصلاح بين الناس . فما تقولان أنتما ؟ أمتابعان أم مخالفان ؟ قالا : بل متابعان . قال : فاخبراني ما وجه هذا الصلاح ؟ فوالله لئن عرفناه لنصلحن ولئن أنكرناه لا نصلح . قالا قتلة عثمان ، فإن هذا – إن ترك – كان تركا للقرآن ... الخ . ([42])


رابعا : هل بايع معاوية عليا أم تزرع بقميص عثمان ؟


إن أسباب الخلاف التي دارت بين علي ومعاوية تكاد تتركز جميعها حول موضوع ( قتلة عثمان وضرورة القود وهذا أمر لا يحتاج إلي تدليل أو تأكيد فكل المسلمين آنذاك كانوا يطالبون بإقامة الحد وتنفيذ القصاص من قتلة عثمان وأن ولي عثمان والذي طالب بالثأر كان متمثلا في معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه .


وتختلف الروايات حول أمر بيعة معاوية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ومها أختلفت تلك الروايات فأغلبها ضعيف وأسانيدها ضعيفة لكن الذي نميل إليه أن معاوية لم يرفض بيعة علي وإنما أشترط أن يسلم إليه قتلة عثمان أو يقيم الخليفة الحد عليهم ، وإن كان معاوية قد قاتل عليا وأعتقد أنه قاتله لا لأنه ينكر إمامته او خلافته أو يدعهيا لنفسه وإنما قاتله بسبب عدم تسليم قتلة عثمان ولم يكن القتال اعتراضا علي إمامة علي حتي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كان يري ذلك الرأي ولا ينكره وإنما شرح للمسلمين أسباب تأجيل القصاص حتى تستقر له أمور الخلافة وتبايعه الأمصار كلها حين أذن يكون لديه من القوة والهيبة ما يمكنه من القصاص من قتلة عثمان ولاسيما أنهم كثيرون وتغص بهم شوارع المدينة وهم متحكمون في شئون الخلافة ومهيمنون علي كثير من السذج والرعاع ، وقد طمأنهم أمير المؤمنين علي انه سوف يأخذ بثأر عثمان وترد الحقوق إلي أهلها وقد عبرنا قبل ذلك في أكثر من موضع بكلام أمير المؤمنين علي في هذا الشأن . ([43])


أما ما قيل عن قميص عثمان والذي سار مثلا لمن يريد أمرا ثم يتعلل بغيره للوصول إليه إنما هذا فيه ظلم إلي معاوية بن أبي سفيان فقد كان الرجل واضحا في طلب الثأر وليس في حاجة إلي أن يعلق قميص عثمان في الشام ليثير المسلمين ضد علي .


ويري الدكتور إبراهيم شعوط أن المخرج من هذه القضية والحل الناجع هو ما قامت به أم المؤمنين عائشة وقد رأيا اثنان من صحابة النبي ومن المبشرين بالجنة وهم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام إذ وجدا الحل هو ما قامت به أم المؤمنين أقرب نساء النبي إلي قلبه إذ قامت بالأمر بنفسها تلم شعث المسلمين وتجمع فرقتهم وتدعوا إلي القبض علي قتلة عثمان .


خامسا : ما موقف الصحابة من تلك الحيرة وهل كانوا ايجابيين في مواجهة تلك الشدة ؟


لقد اشتدت الفتنة وعمق المخاض فيها واشتبهت الأمور علي الصحابة فصار كل فريق منهم يعمل باجتهاده ووفق ما يراه . فالذين تساوي لديهم الطرفان ولا يرجح أحدهم علي الآخر وقد وقفوا موقف الحياد مثل أبي موسي الأشعري الذي قال حينما جاءه من يطلب منه الانضمام إلي علي بن أبي طالب قال : ( هذه فتنة صماء النائم فيها خيرا من اليقظان ، واليقظان فيها خير من القاعد ، والقاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، فلا تكونوا جرثومة من جراثيم العرب ، فاغمدوا السيوف ، وانصلوا الأسنة واقطعوا الأوتار ، وأووا المظلوم المضطهد ، حتى يلتئم الأمر وتنجلي هذه الفتنة ([44]) .


كما كان هناك من الصحابة من ظهر لهم أن الحق في جانب علي بن أبي طالب فوقفوا معه إحقاق للحق وإيمانا منهم بأنهم مسئولون أمام الله إذ تخلفوا عن نصرة الإمام علي مثل أبن عباس وعمار بن ياسر وغيرهما . أما الصنف الأخير من الصحابة الذين اعتقدوا أن الحق في جانب المطالبين بدم عثمان وبضرورة إقامة الحد والقصاص أولا . فإنهم حاربوا ضد علي بن أبي طالب بدافع الإيمان والصدق لا بدافع الضغائن الشخصية والمنافع الدنيوية الزائلة .


ويؤيد ما قلناه أن الصحابة كل صاحبي كان يعمل من منظور إيماني يراه هو الأولي ، وما قاله الإمام علي عند وصوله إلي البصرة إذ سأله الأعور بن بيان المنقري عن سبب إقدامه فقال له علي : ( الإصلاح وإطفاء الثائرة ، لعل الله يجمع الشمل في هذه الأمة بنا ...... ثم سأله أبو سلامة الدلاني فقال : ( أتري هؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم إن كانوا أراد الله بذلك ؟ قال نعم ، قال : أتري لك حجة بتأخيرك ذلك ؟ قال : نعم ، إن الشيء إذا كان لا يدرك ، فإن الحكم فيه أحوطه وأعمه نفعا – قال : فما حالنا وحالهم ، إذا ابتلينا غدا ؟ قال : إني لأرجو أن لا يقتل منا ومنهم أحد نقي قلبه لله ، إلا أدخله الله الجنة ([45]).


وكان الإمام علي رحمه الله يتوجع كثيرا علي القتلى ويشتد حزنه ويترحم عليهم فكان يقول إن من قاتل فقتل وهو لا يريد بقتاله إلا الحق ولا يبغي إلا رضا الله فهو شهيد ويقال أنه حينما جيء إليه بسيف الزبير دعا علي من قتله ، وأخذ يشيد بمواقفه يوم أحد ، وحينما تفقد القتلى ووجد طلحة بن عبيد الله صريع ملقى علي الأرض فقال : ( لهفي عليك يا أبا محمد إن لله وإن إليه راجعون والله لقد كنت أكره أن أري قريشا صرعى : أنت والله كما قال الشاعر :




فتي كان يدينه الغني من صديقة إذا ما هو استغني ويبعده الفقر ([46]) .


(4)


تعليق عام علي معركة الجمل :



1) إن حصاد المعركة مر مرارة لا يستسيغها أحد من المنتصرين أو المنهزمين فمسلم يقاتل مسلما فما قيمة النصر هنا او الخسارة هناك إن القتل الكثير التي فاقت العشرة آلاف من زهرة شباب المسلمين لتجعلنا دائما في حسرة لا تنقطع ولك أن تتخيل الصراخ والمآتم التي أقيمت هنا وهناك دون فائدة تعود علي المسلمين وقد عبر طلحة عن تلك المأساة الكبرى حين سأله علقمة بن وقاص حينما رآه مطرق الرأس يحب الانزواء والابتعاد عن الناس فقال له علقمة يا أبا محمد أرى أحب المجالس إليك أخلاها وأنت ضارب بلحيتك علي صدرك أن كرهت شيء يطلب فجلس فأجاب طلحة يا علقمة بينما نحن يد واحدة علي من سوانا إذ صرنا جبلين من حديد يطلب بعضنا بعضا . ([47])


لقد قالها طلحة ووعاها جيدا من نبيه الكريم إن وحدة المسلمين كانت دائما أشد علي عدوهم من السلاح لقد توزعت العشرة آلاف قتيل علي القبائل أغلبهم قد حفظ القرآن وعلمه لغيره إنها لفجيعة كبري إذ نري من هؤلاء القتلى طلحة بن عبيد الله الذي أثني عليه رسولنا الكريم وسماه طلحة الخير والزبير بن العوام حواري رسول الله r ومحمد بن طلحة المعروف بالسجاد لكثرة سجوده وعلامتها علي وجهه وكعب بن سور قاضي البصرة ومن أجل هذا نري الأمام علي يبادر ليوقف شلال الدم وأن يقضي علي تلك الفتنة وأن يعيد الوحدة للمسلمين تلك الوحدة التي فرضها الإسلام . ولإتمام هذا الأمر يسارع الإمام علي بأخذ البيعة ممن لم يبايع من قبل فقد دخل البصرة كما يقول بن الأثير وجاء الناس علي غايتهم فبايعوه ولم يتخلف عن البيعة احد ولم يستكره أحد في بيعته . ([48])


2) لقد كانت تلك المعركة سببا في إن اجترأ المسلم علي أخيه المسلم وقد عرف المسلمون من قبل أن حمل المسلم للسلاح علي أخيه المسلم يؤدي به إلي النار فالرسول الكريم يقول ( إذا التقي المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار ) ([49]). فقد تغير هذا الفهم الصحيح الذي أفضي بالمسلمين إلي تلك النكبات وقد قام المدلسون والكذابون فنسجوا أحاديث كاذبة نسبوها إلي رسول الله r وألف بعضهم خطبا نسبوها إلي الإمام علي وجد فيها المستشرقون والحانقون علي الإسلام مادة خصبه للطعن في الإسلام وفي صحابة النبي r .


3) وكما ينبغي أن ندرك تماما ونحن في صدد تحليل تلك الأحداث أو التعليق عليها أن ندرك تماما أن الصحابة والتابعين بشر ، فهم ليسوا معصومين من الخطأ ويجب ألا نضعهم موضع التقديس ، ولكنهم رجال لهم زمانهم ولهم بيئتهم الجغرافية المختلفة عن غيرها والإنسان دائما ابن زمانه ومكانه فهؤلاء الصحاب خاضوا تجارب عديدة حتى استقامت لهم أنظمتهم الاجتماعية وهم يخططون وقد يوفقون وقد يخطئون وهذه هي طبيعة البشر ولكنهم تعلموا من نبيهم الكريم أن يكونوا دائما مجتهدين أعمالهم كلها لله فإن أصابوا فلهم أجران وإن أخطئوا فلهم أجر الاجتهاد .


4) وما علينا نحن المسلمين أبناء اليوم إلا أن نتأمل تجاربهم التي نجحوا أو أخطئوا فيها حتى نأخذ العظة والعبرة التي تصحح طريق الحياة وأعود فأكرر أن الصحابة بشر ينبغي علينا أن نتصورهم هكذا ، والرسول r هو مثلنا الأعلي حينما أشار القرآن بقوله ( قل إنما أنا بشرا مثلكم يوحى إلي أنما إلهاكم إله واحد ) ([50]) ، فهذه الحقيقة التي تسري علي الرسول ينبغي أن تنسحب علي أصحابه الكرام الذين آووا ونصروا كما أننا حينما ندرك أنهم بشر فينبغي علينا أن نحترمهم وأن نجل أقدارهم لأنهم أصحاب النبي r وحواريه وهم المثل العليا والشموع التي انصهرت لتهدي الناس وهم الذين أظهروا الصواب والخطأ لذا حذرنا الرسول r من الوقوع فيهم ، يقول النبي r : ( لا تسبوا أصحابي ، لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده ، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ) ([51]) .


ومن هذا المنطلق ومن خلال نظرتنا للصحابة علي أنهم بشر يصيبون ويخطئون ومن خلال تربيتهم في مدرسة النبوة علي صاحبها الصلاة والسلام يمكننا أن نحلل موقف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وخروجها إلي البصرة . فما الأسباب التي دفعتها إلي ذلك الخروج وهل هي أسباب كافية لخروجها بصفتها رمز من الرموز الكبرى لعصر النبوة .

* * * *


(5)





خروج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها


أسبابه ودوافعه ومراميه





لقد خرجت أم المؤمنين عائشة للإصلاح ولم الشمل ولم تكن من دعاة الفتنة ، فبعد ذهابها إلي مكة لأداء العمرة استمعت إلي رأي لطليحة والزبير وعبد الله بن عامر حيث قال لها يا أم المؤمنين ، دعي المدينة فإن من معنا لا يقرنون لتلك الغوغاء التي بها ، ،واشخصي معنا إلي البصرة ، فإنا نأتي بلدا مضيعا ، وسيحتجون علينا فيه ببيعة عليّ بن أبي طالب فتنهضينهم كما أنهضت أهل مكة ثم تقعدين ، فإن أصلح الله الأمر كان الذي تريدين وإلا احتسبنا ودفعنا عن هذا الأمر بجهدنا حتى يقضي الله ما أراد . ([52])


والحقيقة أن خروج أم المؤمنين التي تعد أسوة حسنة للمؤمنين جميعا ، وانسياقها وراء الصاحبين الجليلين يعد خطأ في حقها ؛ ولم يكن لخروجها وجه شرعي كما يري كثير من الكتاب والمؤرخين . وكانت أم المؤمنين – أم سلمة – رضي الله عنها – أصرح الناس في عتابها لعائشة حين خرجت مع طلحة والزبير إلي البصرة ، فلم تهادنها ، ولم تسكت علي خروجها في غير وجه شرعي بل كتبت إليها وذكرتها بواجبها في مثل هذا الموقف المشتبه فقالت : ( أما بعد فإنك سدة بين رسول الله وبين أمته ، وحجابك مضروب علي حرمته ، قد جمع القرآن الكريم ذيلك فلا تندحيه ، وسكن عقيرتك فلا تصحريها ، الله من وراء هذه الأمة ، قد علم رسول الله r مكانك لو أراد أن يعهد إليك ، وقد علمت ان عمود الدين لا يثبت بالنساء إن مال ، ولا يرأب بهن إن انصدع ) .


حماديات النساء غض الأبصار وضم الذيول ، ما كنت قائلة لرسول الله r لو عارضها بأطراف الجبال والفلوات علي قعود من الإبل من منهل إلي منهل ؟ . إن بعين إله مهواك ، وعلي رسول الله r تردين وقد هتكت حجاله الذي ضرب الله عليك ، وتركت عهيداه ، ولو أتيت الذي تريدين ثم قيل لي ادخلي الجنة لاستحيت أن ألقي الله هاتكة حجابا قد ضرب علىّ ، فاجعلي حجابك الذي ضرب عليك حصانك ، فابغيه منزلا لك حتى تلقيه فإن أطوع ما تكونين إذا ما لزمته ، وأنصح ما تكونين إذا قعدت فيه ولو ذكرتك كلاما قاله رسول الله r لنهشتني نهش الحية ، والسلام ([53]) .


وقد تلقت أم المؤمنين تلك الرسالة بأدب جم ثم بينت سبب مسيرها إلي البصرة وقالت ما أقبلني لوعظك ، وأعلمنني بنصحك ، وليس مسيري علي ما تظنين ، ولنعم مطلع فزعت فيه إلي فئتين – متناجزتين ، فإن أقدر ففي غير حرج ، وإن أحرج فلا غني بي عن الازدياد منه والسلام ([54]) .


وهكذا نفهم من رد أم المؤمنين عائشة علي رسالة أم سلمة أنها خرجت تبغي الإصلاح بين المسلمين وأن تقرب بين الفئتين المتنازعتين ويمكننا أن نعفيها من اللوم ونوجهه إلي طلحة والزبير اللذين أدخلا أم المؤمنين في هذا المستنقع الذي لا يليق بها أبدا كزوجة لرسول الله من ناحية ولكونها أم المؤمنين من ناحية أخري .


كما أننا ينبغي أن نأخذ تصرف هؤلاء الثلاثة علي المحمل الحسن والنية الطيبة في خروجهم للاقتصاص من قتلة عثمان ، وهذا هو التصرف اللائق في هذا الموقف فقد قتل عثمان مظلوما دون أن يدفع عنه أحد أو يقف إلي جواره فشعروا بالتقصير والندم ودفعهم هذا الشعور إلي النهوض ليكفروا عن أنفسهم هذا الصمت وذلك الركون المشيب في حق خليفة المسلمين فقد كانوا يرون أنه لم يكفر هذا الذنب إلا أن يسيل دم قتلة عثمان أو يموتوا دون ذلك الهدف فاستمع إلي طلحة بن عبيد الله وهو يعبر عن ذلك فيقول : إنه كان مني في عثمان شيء ليس توبتي إلا أن يسفك دمي في طلب دمه . والزبير بن العوام يقول ( إنها فتنة وإنه لا يعرف موضع قدمه منها ولا يدري أمقبل هو أم مدبر فيها ([55]) .


وإذا كان لطليحة والزبير بعض المطالب عند أمير المؤمنين علي وقد كان طليحة يطمع في ولاية البصرة والزبير يطمع في ولاة الكوفة وقد رفض الإمام علي ذلك فإنني أري أن هذا الرفض لن يؤثر في نفسية هذين الصحابيين الجليلين بل كان علي العكس من ذلك فلو ولاهما لضبط بهما أمور البصرة والكوفة واستقرت أحوال الخلافة وقد كان بلا شك هذان الصحابيان جديرين لطلب الولاية لكلا منهما وما العيب في ذلك إذا أدرك الإنسان أنه متميز يتقن ويجيد بعض نواحي الحياة أو بعض شئونها فلا بأس أن يقدم نفسه ويعرضها علي أولي الأمر فقد فعل ذلك النبي يوسف عليه السلام حينما قال لعزيز مصر أجعلني علي خزائن الأرض إني حفيظ عليم ([56]) .


ومما يؤيد ما تنطوي عليه سريرة كلا منهما من خير فإنهما كانا لا يريدان إلا قتلة عثمان فهم راضون عن خلافة الإمام علي وكان المؤيدون له يريدون إخضاعهم للبيعة التي تمت حتى يلتئم شمل المسلمين .





الأدلة التي تثبت حسن نية أم المؤمنين ومن معها :


لا شك أن أم المؤمنين – رضي الله عنها – قد ركبت في خروجها مركبا صعبا لا يزلله لها من خرج معها مهما كانت شخصياتهم ، ومهما كان عددهم ، ولقد كان الأليق بها ، والأوفق لمكانتها أن يلوم ما ألتزم به غيرها وأن تقر في بيتها كما أمرها الله – عز وجل – في قوله – تعالي : ( وقرن في بيوتكن ) ([57]) ، ولكن يبدو أن شعورها بالتقصير في حق عثمان – رضي الله عنه – دفعها إلي الخروج لعلها تصيب بذلك تكفيرا عما بدر منها ، وبخاصة وأنها قد رأيت طلحة والزبير – رضي الله عنهما – قد خرجا لهذا الأمر بل إن خروجهما هو الذي شجعها علي أن تسير معهما هذا المسير ولعل كلامها الذي ردت به علي بعض من اعترض علي خروجها يبرر لنا موقفها هذا ، فقد قالت : غضبا لكم من سوط عثمان ، أفلا نغضب لعثمان من سيوفكم .


ومع ما ترتب علي هذا الخروج من أمور خطيرة أهمها إراقة دماء المسلمين وتفريق كلمتهم فإن الذين ارتكبوا ذلك لم يكن قصدهم الحقيقي إلا إهدار دماء قتلة عثمان حتى لا يجترئ الناس علي ذلك ويستمر الأمر عليه كلما غضب الناس علي أمير خرجوا عليه وقتلوه واستحلوا دمه .


ولم يكن مرادهم الإطاحة بعلي ، أو التمرد علي إمارته وإن فهم هو ذلك ، كما فهم كثير من المؤمنين ، لأن طلحة والزبير وأم المؤمنين قد أشاروا جميعهم بمبايعة علي – رضي الله عنه – حينما سئلوا عن ذلك وعثمان محصور في بيته .


يروي ابن جرير – رحمه الله – عن الأحنف ابن قيس قال : فلقيت طلحة والزبير فقلت : من تأمراني به ، وترضيانه لي . فإني لا أري هذا الرجل – يعني عثمان – إلا مقتولا . قال علي ؛ قلت أتأمراني به وترضيانه له . قالا : نعم .


فانطلقت حتى قدمت مكة ، فبينا نحن بها إذ أتانا قتل عثمان – رضي الله عنه – وبها عائشة – أم المؤمنين – رضي الله عنها – فلقيتها فقلت : من تأمرينني أن أبايع ؟ قالت : علي .


قال : فمررت على الإمام علي بالمدينة فبايعته ([58]) .


إن إجماع أم المؤمنين وطلحة والزبير علي أحقية علي بالبيعة بعد قتل عثمان ، وإن نصيحتهم الأحنف ابن قيس بذلك بدون تردد ؛ لدليل واضح علي اعترافهم الصريح بتقديم علي في هذا الأمر دون منازع ، وهما وإن أجبرا علي بيعة علي بعد موت عثمان فذلك لأن الناس عجلوا بهما ولعلهما كانا ينتظرون ليريا ماذا سيفعل الناس فيفعلان كما يفعل الناس وهما ليسا بدعا في ذلك فقد وقف هذا الموقف بعض الصحابة كسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم .


ولعل الذي دعا إلي الإتيان بهما ليبايعها في أول الناس هو أن أهل المدينة كانوا يعتقدون أن البيعة بدونهما لا تتم حتى قالوا : إذا دخل طلحة والزبير في هذا الأمر فقد استقام ([59]) ، ولو أنهم أمهلوهما حتى يتبين لهما الأمر ، وتستقر الأوضاع كما فعل علي نفسه مع سعد وابن عمر لبايعا برضاهما كما بايع غيرهما .


والذي يؤيد ذلك أن الأشتر النخعي لما ذهب إلي طلحة ليحضره للبيعة قال طلحة : دعني أنظر ما يصنع الناس . ([60])


إن طلحة والزبير قد بايعا قبل أن يطمئنا إلي إجماع الناس على عليّ وشعرا وهما يبايعان بأنهما مكرهان علي البيعة وذلك ولا شك يدعو إلي الغضب ، ويثير في النفس الشعور بالإهانة ولهذا قالا : إننا بايعنا مكرهين ، وكان علي – رضي الله عنه – يري أن الإكراه في مثل تلك الحالة لا بأس به ، حيث يكون الإكراه علي فعل الخير وليس علي فعل شيء من الشر ، وقد وضح ذلك في كتابه لعامله علي البصرة عثمان بن حنيف حين قال : والله ما أكرها إلا كرها علي فرقة وقد أكرها علي جماعة وفضل ، فإن كانا يريدان الخلع فلا عذر لهما ، وإن كان يريدان غير ذلك نظرنا ونظرا . ([61])


لم يكن عتب طلحة والزبير علي بيعة علي وتوليته الأمر ، وإنما كان لأنهما لم يتركا ليبايعا بعد أن يتبين لهما الأمر ويجتمع المسلمون علي بيعة علي .


إن الثلاثة المطالبين بدم عثمان لم يريدوا قتل الأبرياء ولا تفريق كلمة المسلمين ، ولكنهم قصدوا المارقين المعتدين دون غيرهم من المسلمين ولقد برهنوا علي صدق اتجاههم هذا حين تصدى لهم حكيم بن جبلة وهم واقفون – بالمربد ، وأنشب القتال ، وشرع أصحاب عائشة رماحهم ، وأمسكوا ليمسك حكيم وأصحابه ، فلم ينته بل قاتلهم وأصحاب عائشة كافون يدفعون عن أنفسهم ([62]) .


إن إمساك أصحاب أم المؤمنين عن القتال وهم قادرون عليه دليل علي أنهم لا يريدون الحرب ولم يخرجوا للقتال ، وإنما خرجوا يطلبون تسليم قتلة عثمان ليقيموا عليهم حد الله وحكيم بن جبلة وإن كان من قتلة عثمان إلا أنه كان معه من الأبرياء من لا يستحل هؤلاء دماءهم فأمسكوا عنهم .


بل هناك ما هو أكثر من ذلك وضوحا في التدليل علي ذلك فإن أم المؤمنين والمعركة علي أشدها حول الجمل والناس يسقطون قتلي وصرعي يعدون بالآلاف ، ويستفتيها محمد بن طلحة السجاد فيقول . وقد أخذ بزمام الجمل : يا أماه ، مريني بأمرك ، فتقول : آمرك أن تكون خير ابني آدم إن تركت ، فجعل لا يحمل علي أحد إلا إذا حمل عليه ([63]) .


هذه الوصية لا تصدر إلا عن إرادة خيرة تبغي الخير ولا تحيد عنه ، إذ الموقف يقتضي أن يضرب محمد كل من يراه يقترب من الجمل سواء حمل عليه أم لم يحمل ، بل يقتضي ما هو أكثر من ذلك وهو ضرب كل من كان في متناول سيفه ، ولكن أم المؤمنين تأمر محمد بن طلحة أن يكف عمن كف إلا الإصلاح ، وتتورع عن التدمير والإفساد .


وهذا المعني هو الذي دعا أم المؤمنين أن تأمر أتباعها بأن لا يقتلوا إلا من قاتلهم ، وذلك حين أصر حكيم بن جبلة علي القتال ، وحينئذ نادي الناس : من لم يكن من قتلة عثمان فليكف عنا ، فإنا لا نريد إلا قتلة عثمان ، ولا نبدأ أحدا ([64]) .


ولكن حكيما لم يبال بالنداء ، وأنشب القتال ، وكان الناس قد رجعوا عنه ، ولم يبق معه إلا قتلة عثمان ، فقال طلحة والزبير : الحمد لله الذي جمع لنا ثأرنا من أهل البصرة ، اللهم لا تبق منهم أحدا وأقدر عليهم اليوم فاقتلهم .


واشتد القتال بين الطرفين حتى صرع حكيم ومات ، وقتل من كان معه إلا حرقوص بن زهير في نفر من أصحابه فروا إلي قومهم ، وعندئذ نادي منادي طلحة والزبير : ألا من كان فيهم من قبائلكم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا بهم ، فجيء بهم كما يجاء بالكلاب ، فقتلوا فما أفلت منهم من أهل البصرة جميعا إلا حرقوص بن زهير فإن بني سعد منعوه ([65]) .


إن أصحاب طلحة والزبير قد أمسكوا أولا عن القتال لأن الناس كانوا مختلطين فيهم البريء وفيهم الأثيم ، ونادت عائشة لا تقتلوا إلا من قاتلكم حتى لا تبدأ بقتال ، فلما تميز الناس ورجعوا وتركوا قتلة عثمان وحدهم في الميدان أتيحت الفرصة للقصاص وطاب للقوم القتال فقتلوهم وأخذوا بثأر عثمان ، وشفي الله صدور المؤمنين ، ولم يعد لهم في البصرة مأرب ولا طلبة .


وكتبوا لأهل الكوفة يخبرونهم بما تم ، ويطلبون منهم أن يقيدوا من قتلة عثمان كما فعلوا هم بالبصرة ولكن قتلة عثمان من أهل الكوفة كانوا مع جيش علي – رضي الله عنه – ولم يتركوه لحظة خشية أن يدبر أمره ويقتص منهم لعثمان – رضي الله عنه .


وكانت أم المؤمنين تخشي ان ينضم أهل الكوفة إلي جيش الخليفة ، ويؤازروا إخوانهم من قتلة عثمان ، فيشتد القتال ، ويستحر القتل في المسلمين ، وتقوي شوكة القتلة حين يجدون من يحميهم ، ويدفع عنهم ، لهذا كتبت إلي أهل الكوفة تخبرهم بأنباء البصرة ، وتطلب منهم ألا ينضموا إلي القتلة ، وأن يثبطوا الناس عن الخروج معهم ، وأن يلزموا بيوتهم ([66]) .


وهذه الرسالة تعطي مدلولا واضحا حيث لم تطلب أم المؤمنين من أهل الكوفة الانضمام إلي جيشها للتقوي بهم وتكثير أنصارها ، ولو كانت المسألة شهوة قتال ، ودعوة إلي التدمير لما أمرت الناس بالكف إلا عن قتلة عثمان ، ولطلبت منهم الانضمام إلي أنصارها لتقاتل بهم عدوها .


وهناك من المؤرخين من يزعم أن قتال أم المؤمنين ، وقيادتها جيش طلحة والزبير إنما كان لشيء في نفسها من علي – رضي الله عنه – ويعزون ذلك إلي موقف علي من عائشة – رضي الله عنها – يوم حادثة الإفك ، وذلك حين سأل رسول الله r عليا ليأخذ رأيه في عائشة ، واستشاره في فراقها فقال علي : لم يضيق الله عليك ، والنساء كثير ، وقد أحل الله لك وأطاب ، فطلقها وأنكح غيرها ([67]) .


والحق أنه رأي خطير ، وموقف يوغر النفوس ، ويقطع القلوب ، ويضيق به صدر الحليم ، ولكن إذا عرف سبب ذلك لا يستغرب أن يقول عليّ تلك الكلمة مع خطورتها ، لقد رأي ما حل برسول الله r من الغم والهم بسبب ذلك ، وعز عليه أن يظل رسول الله في هذا الكرب ، وقد أبطأ الوحي ، ولم يكن هناك حسم لمثل هذا الموقف إلا عن طريقه ، فأراد أن يسري عن رسول الله ، ويذكر بأن الله قد وسع عليه ، فلم يضيق علي نفسه ؟


ونحن نلاحظ في كلام علي – رضي الله عنه – أنه لم يجرح السيدة عائشة الطاهرة المطهرة ، ولم يذكرها بكلمة تنال من شرفها لا تصريحا ولا تلميحا ، ولو كان كذلك لأقام عليه رسول الله r حد القذف كما أقامه علي حسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ومسطح بن أثاثة ، فعليّ – رضي الله عنه – لم يتهم عائشة ، ولم يشك في براءتها وطهارتها – رضي الله عنها . ([68])


قال النووي – رحمه الله : رأي علي أن ذلك هو المصلحة في حق النبي r واعتقد ذلك لما رآه من انزعاجه ، فبذل جهده في النصيحة لإرادة راحة خاطره ([69]) .


إذن فعليّ لم يرد ذلك الكلام تجريح عائشة أو النيل منها ومن مكانتها عند الرسول r ولكنه علم أن في ذلك الكلام تخفيفا من قلقه وإراحة لنفسه ، علي أنه لم يقطع بفراقها حيث قال : وسل الجارية تصدقك ، فكان إدخال الراحة علي نفس رسول الله أحب إليه من أن يقول كلاما مكررا قاله أسامة بن زيد ، وزينب بنت جحش ، وبريرة جارية عائشة ، ومع ذلك لم يخفف ذلك من انزعاجه r .


وأود في هذه العجالة أن أثير انتباه المسلمين إلي أن قصة الإفك هذه علي ما جاءت به تعطي معني عقديا لا ينبغي ان يغيب عن عقل المؤمن ، وهو أن الله – عز وجل – قد احتفظ بعلم الغيب وحده ، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه ، ولو كان رسول الله يعلم الغيب لما وقف من حديث الإفك هذا الموقف الذي يستطيع فيه أن يجزم ببراءة عائشة أو إدانتها حتى نزل القرآن الكريم فبرأها بعشر آيات تتلي إلي يوم القيامة .


ولعل ما قلناه في حادث الإفك هذا يكون فيه ردا علي كلام هؤلاء الذين يزعمون أن عائشة خرجت لتقاتل عليا لأنه عرض علي الرسول أن يطلقها في حادث الإفك ولكن استمع إلي قول عائشة نفسها حين جهزها الإمام علي في البصرة لتذهب إلي المدينة ، وقد حضر الناس لوداعها فودعتهم ودعت لهم وقالت : يا بني ، لا يعتب بعضنا علي بعض ، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القدم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها ، وإنه علي معتبتي لمن الأخيار .


فقال علي: صدقت والله ،ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة ([70])


إن هذا الكلام الرقيق والبليغ الذي صدر من أم المؤمنين عائشة حين كان يودعها الإمام علي في لحظة الوداع ليدل بإخلاص علي أن عائشة لم تخرج غضبا لنفسها ولم تحرك فتنة ضد الإمام علي ولا ضد أحد من المسلمين ، ولكنها أرادت فقط قتلة عثمان ، ثم إن عائشة لم تكن ضعيفة رغم ما نزل بجيشها ، ولم تكن جبانة تخشي أن تقول ما في نفسها ولكنها قالت الحق الذي تؤمن به وتدين الله عليه .


ولم يختلف موقف طلحة والزبير – رضي الله عنهما – من تلك الحرب بل كانت كموقف أم المؤمنين منها ولقد كان حديثهما عنها ، وتشككهما فيما يفعلان من أمرهما دليلا واضحا علي أن الموضوع كان محل اجتهاد منهما فهما مثابان وإن أخطآ كما عرفوا من نبيهم الكريم فكان يترك قواده وقضاته يحكمون بكتاب الله وسنته الشريفة فإن لم يجدوا فيجتهدوا ولا يقصروا .


ويوضح موقف الزبير من الحرب أنه حينما ذكره الإمام علي بحديث رسول الله r(( أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم )) .


قال الزبير : والله لقد نسيته منذ سمعته من رسول الله r ثم ذكرته الآن ، والله لا أقاتلك ، ورجع الزبير وترك الحرب ولم يشترك فيها فهل هناك وفاء لرسول الله r مثل هذا الوفاء وهل هناك اقتداء بهديه مثل ذلك الأهتداء ؟ !


وقد كان موقف طلحة يختلف عن موقف الزبير ، حيث كان من طلحة تقصير عظيم في حق عثمان لم يكن من الزبير مثله ، ولهذا استمر طلحة في الحرب لعله يقتل فيكون في ذلك تكفير لهذا التقصير ، ولذلك لما بدأت المعركة ، وأوشك الناس علي القتال كان يصيح قائلا : اللهم إن كنا قد داهنا في أمر عثمان وظلمناه ، فخذ له اليوم منا حتى ترضي . ([71]) ، ويروي ابن جرير أن طلحة كان يقول في هذا اليوم : اللهم اعط عثمان مني حتى يرضي ([72]) .


لقد كان طلحة في حيرة من أمره ، ولا يدري ماذا يصنع ، أينصرف كما انصرف الزبير أم يباشر المعركة مقاتلا قتلة عثمان ؟ فإن نجا فهو قد بذل جهده للانتصار للخليفة المظلوم وإن قتل يكون قد بذل دمه في سبيل ذلك ، وفي كلا الحالين فهو يرجو أن يكفر الله عنه ما وقع منه في جانب عثمان – رضي الله عنه .


ومن هذا المنطلق كان طلحة والزبير لهما رغبة صادقة في واستتباب الأمن ، فقد جاءهما كعب بن سور ، وقد أقبل علي بجيشه فقال كعب : ما تنتظرون يا قوم بعد توردكم أوائلهم ؟ اقطعوا هذا العنق من هؤلاء . قالوا : يا كعب ، إن أمر بيننا وبين إخواننا ، وهو أمر ملتبس ، لا والله ما أخذ أصحاب محمد r مذ بعث الله نبيه طريقا إلا علموا أين مواقع أقدامهم ، حتى حدث هذا ، فإنهم لا يدرون أمقبلون هم أم مدبرون ؟


إن الشيء يحسن عندنا اليوم ، ويقبح عند إخواننا ، فإذا كان من الغد قبح عندنا وحسن عندهم ، وإنا لنحتج عليهم بالحجة فلا يرونها حجة ، ثم يحتجون بها علي أمثالها ، ونحن نرجو الصلح إن أجابوا إليه وتموا ، وإلا فإن آخر الدواء الكي . ([73])


ويذهب أبو الجرباء إلي الزبير بن العوام ، ويحرضه علي مفاجأة علي بجيشه يصبحه ويمسيه قبل أن ينضم إليه بقية جيشه . فيقول الزبير : يا أبا الجرباء ، إنا لنعرف أمور الحرب ، ولكنهم أهل دعوتنا ، وهذا أمر حدث في أشياء لم تكن قبل اليوم .


هذا أمر من لم يلق الله فيه بعذر انقطع عذره يوم القيامة ، ومع ذلك إنه قد فارقنا وفدهم علي أمر وأنا أرجو أن يتم لنا الصلح ([74]).


- عرفنا سابقا أن النصر كان في جانب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حيث أستسلم المقاتلون وقتل طلحة والزبير وقد قتل الزبير بعيدا عن المعركة كما سقط هودج أم المؤمنين وأمر الإمام علي بحملها إلي دار ابن خلف بالبصرة ثم أمر بتجهيزها وأخذ يمشي بجانب هودجها يشيعها إلي المدينة حتى وصلت إلي مكة أمنه ومطمأنة مستقرة ويقال أنها بقيت في مكة حتى حجت ثم اتجهت إلي المدينة واستقرت بها .


أما أمير المؤمنين علي فقد أستتب له الأمر بالبصرة وبدأ عهده بالعفو عن الأسري ومن ثم بدأ يهتم بتنظيم الدولة .


ثم أصدر الإمام علي أمراً إلي ابن عباس وكان واليا علي البصرة بان يطفئ الفتنة التي أحدثها حسك ابن عتاب مع جمع كبير من الخوارج وأرسل ابن عباس ربعي بن كاس العنبري ومعه الحصين بن أبي الحر وأمدهم بأربعة ألاف جندي واستطاع الرجلان أن يقتل حسك ويمزق شمل أصحابه وأصبح ربعي واليا علي سجستان واستقرت الأمور في ميدان فارس وخاصة الكوفة أو البصرة ولم يبق أمام الإمام علي أحدا ينازعه سوي معاوية في الشام .


وقبل أن نتحدث عما يستجد من أحداث ونخوض معركة صفين أن نبرز موقف عمرو بن العاص ذلك الصحابي الجليل والذي أساءت إليه بعض الرواية المغرضة وقد كان هذا الرجل يلزم الحق وكان ذا بصيرة نافذة وسياسيا ماهرا وقد روي الطبري أن عمرا بن العاص حينما حصر عثمان في بيته غضب غضبا شديدا وترك المدينة وتوجه إلي الشام وهو يقول والله يا أهل المدينة ما يقيم بها أحد فيدركه قتل هذا الرجل إلا ضربه الله عز وجل بالذل ، من لم يستطع نصره فليهرب .([75]) وأرتحل عمرو وهو يبكي قائلا واعثماناه أنعي الحياء والدين ! .


فينبغي علي قارئ التاريخ الإسلامي أن يفند الروايات ويأخذ أقواها سندا والمتفقه مع الفكرة الإسلامية والمتسقة مع الشخصية وأن عمرا بن العاص قبل أن يكون صحابيا جليلا أقبس من نور النبوة وكان من سادات قريش الذي عرف بالشهامة والرجولة ويبعد عن مواطن الشك والريب ولعل انضمامه إلي معاوية في الشام ووقوفه بجانبه في معركة صفين أقول : أن هذا لا يقدح في أمانة الرجل ونزاهته فقد عز عليه أن يجترأ علي منصب الخلافة من خلال حفنة من الرعاع ويستمدون بذي النورين عثمان بن عفان ويحاصرونه ثم يقتلونه دون أن يجد مناصرة أو تأييد من أحد لعل هذا هو الذي دفعه إلي أن يلجئ إلي معسكر معاوية ليثأر من قتلة عثمان ولم يقدح من بيعته لعلي . هذا أفضل ما يقال في عمرو بن العاص وموقفه من تلك القضية .

* * * *







1- البداية والنهاية ج7صـ250 .

1- البداية والنهاية ج7 صـ251 .

2- ابن الأثير ج3 صـ259 .

3- ابن كثير ج7صـ242 .

1- ابن الأثير ج3 صـ245 .

2- ابن الأثير ج3صـ249 .

1- البداية والنهاية ج7صـ243 .

2- ابن الأثير ج3صـ250 ،251 .

3- الطبري ج4 صـ519 .

1- ابن الأثير ج3 صـ251 .

2- الطبري ج4 صـ523 .

3- ويشهد لذلك ما رواه ابن جرير من أن رجلا من الأزد أخذوا بعر الجمل وفتوه وشموه ، وقالوا : بعر جمل أمنا ريحه ريح المسك وهذا في عرف العامة الجهلة من الناس لأنه ليس من الدين في شيء . ( الطبري ج4صـ523 ) .

1- ابن كثير ج7صـ245 .

2- الطبري ج4صـ519 .

1- ابن الأثيرج3صـ254 .

2- الطبري ج4صـ534 ، وابن الاثير ج3 ص554 .

3- ابن كثير ج7صـ241 .

4- ابن الأثير ج3 ص256 .

5- ابن الأثير ج3صـ256 .

6- ابن سعد ج3صـ32 .

7- ابن الأثير ج3 صـ256 .


1- المصدر السابق ص260 .

2- المصدر السابق صـ260 .


1- ابن كثير ج7 صـ246 .

2- ابن الأثير ج3 صـ257 .

1- جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين صـ507 .

1- نعثل بفتح النون وفتح الثاء رجل يهودي كان الثوار يشبهون عثمان به .

2- ابن الأثير ج3 صـ207 ط بيت الأفكار الدولية .

3- ابن قتيبة الإمامة والسياسة صـ41 .

4- الكامل ج3 صـ105 والإمامة والسياسة ص52 .

1- أنظر المراجع السابقة وأنظر أيضا تفسير سورة النور عند ابن كثير .

2- كتاب سمط النجوم العوالي ج2 صـ420-421 ) عبد الملك بن عسي العصامي المالكي نقلا عن أباطيل يجب أن تمحي من التاريخ صـ188 .

3- سورة النور الآية 22 .

1- سورة النساء الآية 114 .

1- سورة النساء الآية 114 .

2- وهو من قتلة عثمان الذين لا يريدون الصلح .

1- الأمامة والسياسة ص57 .

1- العواصم من القواصم صـ154 .

2- راجع كتاب لمع الأدلة لأمام الحرمين عبد الملك الجويني ص115 .

1- الكامل لابن الأثير ج3 ص100 .

1- سورة النساء الآية 114 .

2- الكامل ج3 ص119 .

1- أباطيل يجب أن تمحي من التاريخ إبراهيم شعوط صـ 196 ، ص239 ، 289 .

1- تاريخ الطبري ج5 صـ513 ، الكامل لابن الأثير ج3 صـ113 .

2- الكامل لابن الأثير ج3 ص121 .

3- ابن الأثير ج3 ص256 .

1- أنظر بن الأثير ج3 صـ220 .

2- الكامل ج3 صـ256 .

3- رواه أبو داوود والنسائي .

1- الكهف الآية (110) .

2- رواه مسلم .

1- الطبري ج4 صـ451 .

1- الطبري ج4 صـ451 ، والإمامة والسياسة لا قتيبة ج1 ص56 ، 57 نقلا عن جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين .

2- المصادر السابق .

3- ابن الأثير ج3 صـ220 .

1- سور يوسف الآية 55 .

2- الأحزاب الآية (33) .

1- الطبري ج4 صـ496 ،497 .

2- الطبري ج4 صـ434 .

3- المصدر السابق .

1- نفس المصدر صـ468 .

2- ابن الأثير ج3 صـ214 .

3- المصدر السابق صـ249 .

1- الطبري ج4 صـ470 .

2- المصدر السباق صـ472 .

3- المصدر السابق صـ473 .

1- المقريزي : إمتاع الأسماع ج1 صـ208 .

2- جولة في تاريخ الخلفاء الراشدين كمرجع سابق صـ531 .

3- فتح الباري ابن حجر ج7 صـ 468 نقلا عن المرجع السابق ونفس الصفحة .

1- ابن كثير ج7 صـ246 .

1- ابن قتبية الإمامة والسياسة نقلا عن جولة في عصر الخلفاء صـ533 .

2- الطبري ج4 صـ527 .

3- الطبري ج4 ص495 .

1- المصدر السابق ونفس الصفحة .

2- تاريخ الطبري ج4 صـ558 .




rjgm uelhk ,j]fdv luv;m hg[lg