الإمام علي و معركة صفين






عرفنا سابقا أنالإمام علي رضي الله عنه قد استقرت له الأمور في ميدان العراق والفرس ولم يبقأمامه من الولاة المنازعين له سوي معاوية بن أبي سفيان والي الشام وحينما اقبل عليعزل ولاة عثمان نصحه بعض المقربين إليه بأن يبقيهم إلي أن يستقر أمره وتنتظم أمورالخلافة حتى أن بعضهم قال له إذا كنت مصمما علي عزل الولاة فاعزل من شأت وابقمعاوية . والحقيقة أن هذه النصيحة كانت نصيحة غالية وواضحة فمعاوية بن أبي سفيانليس كباقي الولاة وقد استعمله من قبل عمر بن الخطاب وظل ما يقرب من العشرين عامايحكم جميع بلاد الشام وهذه المدة كافية بلا شك لأن يألف الناس ويألفوه ويقبلواعليه ويتعلقوا به فقد كان سياسيا ماهرا وحاكما بصيرا لأمور الناس وأمور الحكم. ومن ثم اتسع معسكر معاوية وأصبح أشدتلاحما وولاء له وأكثر عددا وعدة . وذلك لأمرين :


- لأن معاوية صاهر بعض شيوخ القبائل اليمنية الموجودين ببلاد الشام فتوثقتالعلاقات بينه وبين تلك القبائل فأصبحوا يقفون خلفه وينافحون عنه .


- حسن سياسة معاوية وحلمه وسخائه فقد كان له قدرة عجيبة علي استقطاب القوادورؤساء القبائل والزعماء إلي جانبه .


والحقيقة أنمعاوية رضي الله عنه ظل يثير الناس ويحرضهم علي القتال من أجل دم عثمان ويدخرالقوة اللازمة لمواجهة جيش أمير المؤمنين الإمام عليّ إن تطلب الأمر ذلك ، فكانحريصا علي ألا يهزم وقد كانت موقعة الجمل مؤشرا مرعبا لكل من يحاول الخروج عليالإمام علي أو نبز سلطانه


قد كان الإمامعليّ رحمه الله مثيراً للعجب والاحترام الشديدين إذ قام يجيش الجيوش ويؤمر الأمراء لوحدة المسلمين ومع ذلك فهو حريص كلالحرص علي ألا يراق دم طاهر بغير حق ؛ وفضل المراسلة علي إزهاق الأرواح فأرسل إليمعاوية جرير بن عبد الله البجلي لما بينه وبين معاوية من سابقة ود وقال له : إيتمعاوية بكتابي فإن دخل في ما دخل فيه المسلمون وإلا فأنبذ إليه وأعلمه أني لا أرضيبإمارته وإن العامة لا ترضي به خليفة . ([1]) فكيف كان رد معاوية علي الإمام عليّ ؟ يروي الطبري أنه ماطله وتركه ثم دعاعمرو بن العاص فاستشاره فيما كتب به إليه فأشار عليه أن يرسل إلي وجه الشام ويلزمعليا دم عثمان ويقاتله بهم ففعل ذلك معاوية . ([2])


وفي روايةأخري يقول الطبري أن أهل الشام حينما جاءرسول معاوية وجدهم يبكون علي عثمان ويقولون إن عليا قتله وآوى قتلته وإنهم لاينتهون عنه حتى يقتلهم أو يقتلوه ([3]). ووجد جرير أن معاوية مصمم علي الأخذ بالثأر من قتلةعثمان ورأي بأم عينية أهل الشام وهم يعاهدون معاوية ويبايعونه علي أن يبذلواأنفسهم وأموالهم وقوفا بجانب معاوية وتأكد الإمام علي أن معاوية وأهل الشام لنيدخلوا في الطاعة دون حربا أو قتال فخرج بجيشه حتى عسكر بمكان يسمي النخيله وقدلحق به عبد الله بن عباس ومعه جيش من أهل البصرة وعلم معاوية بخروج علي فنهض هوأيضا علي رأس جيش كبير وعقد اللواء لعمرو بن العاص وقد أظهرت تلك المعركة أبناءهؤلاء الصحابة حيث اشتركوا فيها .


وأخذ أميرالمؤمنين علي يبعث الطلائع ليستطلع أسرار القوم حتى وصل إلي الرقة ثم عبر النهروتقدمت جيوش الإمام علي نحو جيش الشام وقد عين عليها جميعا الأشتر .([4]) وطالبه الإمام علي أن يكون عادلا رحيما وقال له لا يحملك بغضك علي قتالهمإن تعليمات الإمام علي في الحروب لها قيمتها فهذه أخلاقيات الحرب عند المسلمين وقدتحلت بها جيوش الإمام عليّ هل كانت جيوش معاوية تتحلي بهذه الآداب ؟


والتقي الجيشانوتقاتلوا وطلب الأشتر مبارزة أبي الأعور قائد جيوش معاوية ولكنه رفض ووقف الجيشانبلا قتال وواصل جيش علي بعد ذاك المسيرة من الكوفة إلي صفين ([5]). وقد لاقي الجيش كثيرا من المتاعب أثناء رحلته إذ حطوا رحالهم في مكانيندر فيه الماء واستحوذ معاوية وجيشه علي أماكن مغمورة بالمياه وقد صمم معاوية عليمنع الماء عن جنود عليّ وسمع علي بما فعل وأمر جنده أن يقاتلوهم علي الماء وأقتربجيش أمير المؤمنين بقيادة الأشعث من جيش معاوية بقيادة الأعور وقد اقتتلوا وأشتدالقتال وتمكن جيش أمير المؤمنين من زحزحة جيش معاوية والسيطرة علي الماء . ولنقفوقفة أخرى مع أخلاقيات الحرب التي ظهرت مع قيادة الإمام علي فبعدما سيطر أتباعهعلي الماء أقسموا ألا يسقوا أهل الشام من الماء ولكن عليا لم يوافق علي ذلك فأرسلإليهم أن خذوا من الماء حاجتكم وخلوا عنه فإن الله نصركم ببغيهم وظلمهم . ([6])


وتأمل معي أيهاالقارئ الكريم عما ترتب عليه من آثار من جراء رأي أمير المؤمنين السديد الرحيمالودود فهو لا يحارب كفارا وإنما جاء ليجمع الأمة ولا يفرقها فقد كانت دعوته إليالماء ليشرب منه الجميع أنها وصلت رجال المعسكرين بعضهم ببعض وأزالت الكثير منأسباب الحنق والغضب والكراهية فقد كان يلقي المسلمون المحاربون من المعسكرين فيلقيكل منهما السلام علي الأخر وفشا بينهم السلام والأمن والطمأنينة وكان الناس هناوهناك يفزعون ويتدخل القراء والصالحون فيكفونهم عن القتال وظلت المناوشات بينالجيشين مقصورة علي بعض من الفرق هنا وهناك وقد توقف الفريقان عن القتال عندما أهلهلال شهر رجب وبدأت تظهر الوساطات والمراسلات بين الفريقين .


وقد ذكرتالروايات أن معاوية حاول أن يغري جريرا بن عبد الله البجلي فعرض عليه أن يستقلبالشام ومصر جباية في عهد علي حتى إذا مات لم يجعل أحد في عنق معاوية بيعة علي أنيسلم معاوية الأمر إلي عليّ ويكتب له بالخلافة ولكن عليا لم يجد في كلام معاوية ما يدل علي أنه سيبايع وأن هذه حيلة يريدأن يخرج منها من بيعة عليّ . ومع ذلك فقد لاحت فرصة من فرص السلام حيث كان الإمامعلي يفضل جانب المسالمة علي إراقة الدماء .


لقد ذهبت رسلعلي إلي معاوية وطلبوا منه أن يتقي الله وأن يعمل علي جمع الصف ويبايع لمن بايع لهالمهاجرون والأنصار وأن يلزم الجماعة ولا يفرق أمرهم وقال معاوية لرسل علي : هلأوصيت بذلك صاحبك ؟


قال أبو عمرة :إن صاحبي ليس مثلك ، صاحبي أحق البرية كلها بهذا الأمر في الفضل والدين والسابقةفي الإسلام والقرابة من رسول الله r . ورفض معاوية ما عرض عليهبحجة أنه بذلك يطل دم عثمان ، وأقسم ألا يفعل ذلك أبدا ، وقال للرسل : انصرفوا منعندي ، فإنه ليس بيني وبينكم إلا السيف ([7]).


وتشير بعضالروايات إلي سعي القراء بين علي ومعاويةلإيقاف تلك الحرب والإصلاح بين الفريقين وحقن دماء المسلين ويروي ابن كثير روايةلا أدري مدي صحتها أن معاوية خشي أن تبايع القراء كلهم عليا فلجأ إلي حيلة حيث كتبعلي سهم من عبد الله الناصح ( يا معشر أهل العراق إن معاوية يرد أن يفجر عليكمالفرات ليغرقكم فخذوا حذركم ورمي به في جيش أهل العراق فأخذه الناس فقرأوه وتحدثوابه وذكروه لعلي فقال إن هذا ما لا يكون ولا يقع ولكي تنطلي الحيلة علي جند علي بعثمعاوية مأتي فاعل يحفرون في جنب نهر الفرات فبلغ الناس ذلك وأحدثوا هرجا كثيرافقال لهم علي ويحكم إنه يريد خلعكم ليزيلكم عن مكانكم هذا وينزل فيه لأنه خير منمكانه ولكنهم صمموا علي الرحيل من هذا الموقع فرحلوا منه وجاء معاوية فنزل بجيشهفيه . ([8])


وظل الحال هكذاتتقاتل الفرق بين الصفوف ولم يقو أحد الجيشين علي خوض الحرب الشاملة إنما اقتصرواعلي المناوشات مرة أو مرتين في اليوم وكان هم أمير المؤمنين علي أن يتم الصلح وأنيحقن الدماء ولكن دون جدوى ولما طال به المقام أرسل رجلا فنادي في الناس عند غروبالشمس : ألا إن أمير المؤمنين يقول لكم : إني قد استأنيتكم لتراجعوا الحق ، وأقمتعليكم الحجة فلم تجيبوا وإني قد نبذت إليكم علي سواء ، إن الله لا يحب الخائنين ([9]). ففزع أهل الشام وأيقنوا أن الحرب قائمة وأخذ الجيشانيستعدان وينظم كل منهما كتائبه استعدادا لهذا اللقاء العنيف والقتال الشديد وأودأن أنوه إلي أننا أطلنا الحديث عن بدايات الحرب لنثبت للقارئ الكريم أن الإمامعليّ كان هدفه من إطالة تلك الحرب الإصلاح بين الناس وجمع شمل المسلمين واستقرارأمور الدولة دون اللجوء إلي الحرب ولم يكن حريصا علي القتال في حد أو كهدف أساسيذاته ، ومما يدلل علي ذلك أنه كان يوصي جنوده بألا يبدءوا القتال حتى يبدأ الخصموتأمل ما كان يقوله لجنوده : ( لا تقتلوا القوم حتى يبدأوكم ، فأنتم بحمد الله عليحجة ، وترككم إياهم حتى يبدأوكم حجة أخرى فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوامدبرا ، ولا تجهزوا علي جريح ولا تكشفوا عورة ، ولا تمثلوا بقتيل ، فإذا وصلتم إليرحال القوم فلا تهتكوا سترا ، ولا تدخلوا دارا إلا بإذن ، ولا تأخذوا شيئا منأموالهم إلا ما وجدتم في معسكر ، ولا تهيجوا امرأة بأذى ، وإن شتمن أعراضكم ،وسببن أمراءكم وصلحاءكم فإنهن ضعاف القوي والنفس . ([10])هذه هي أخلاقيات حرب المسلمين وأدائها يحرص عليها أمير المؤمنينعلي بن أبي طالب لأن المتقاتلين مسلمون ولا داعي للإيغال في العقوبة أو التخريب فيأرض المسلمين .


وظل الجيشانيقتتلان فرقة فرقة ستة أيام لم يبد فيها منتصرا أو منهزما وكان أغلب المبارزين منرؤساء هذه الفرقة إما آباء أو أبناء قد غطاهم الحديد ولم يعرفوا إلا عندما تنكشفالدروع وأغطية الوجه عن الوجوه وفي اليوم الأخير خرج الإمام علي بعد صلاة الصبحمبكرا يقود أصحابه وزحف علي أهل الشام بجيش كثيف ووقف معاوية تحت القبة التي ضربهاله أهل الشام ويحف بها الحرس من كل جهة وهجمت الجيوش بعضها علي بعض وكانت الحربسجالا .


وقد هجمت ميمنةأمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه علي ميسرة معاوية وزحزحتها عن مواقعها ومازالوايضغطون عليها حتى لجئوا إلي خيمة معاوية ([11]) ، وانعكس الأمر علي ميمنة أهل العراق وصارت الضربات سجالاوشارك أمير المؤمنين علي في المعركة بنفسه وأخذ يشجع حاملي الرايات ويثبتهمويمنيهم بالنصر وزحف الأشتر علي ميمنة أهل الشام وظل يقاتل وقتل أربعة صفوف منالذين بايعوا معاوية علي الموت ولم يبقي حول معاوية إلا صف واحد وكاد معاوية أنينهزم بل فكر في الفرار ولكنه ثبت وأثبت عبد الله بن البديل شجاعة فائقة إذ تقدمبرجاله نحو أهل الشام وترك رجاله يقاتلون بينما أخذ هو يشق جمع صفوف الشام لا يلويعلي شيء حتى وصل إلي مكان معاوية فألتف أصحاب معاوية يدافعون عنه وأمرهم أن يقذفوابالحجارة لأن السيوف لا تنفع فأتوا بالصخر وأخذوا يضربون به عبد الله بن البديلحتى قتل . رأي معاوية جرأة أهل العراق الذين اجترأوا عليه أكثر من مرة يريدون قتله. وفكر معاوية في قتل أمير المؤمنين علي فحرض عليه عمرو بن العاص حريثا موليمعاوية وأخذ يزين له شرف قتل أمير المؤمنين وفي الصباح كان الإمام عليّ يتفقدالقتلى فجاءه حريث وطلب منه أن يبارزه فبارزه عليّ فقتله .


ولم يكن عليفرحا سعيدا بقتل المسلمين من أهل الشام بل كان يحزنه أشد الحزن أن تسقط زهرة شبابالمسلمين وحكمة شيوخهم صرعى بأيدي المسلمين أنفسهم إخوانهم في الدين والعروبةوالإسلام في حاجة لهؤلاء القتلى ليصد بهم المتربصين له والحانقين عليه ولكن الله سلم وقد كانت تبدوا من أميرالمؤمنين علي بعض التصرفات التي تدل علي عمق إيمانه وكراهيته للقتل وللحروب وحرصهعلي الود بين أصدقائه ، وإضافة كما سبق يروي بن كثير أن عمرو بن العاص صمم علي أنيخرج ليبارز عليا وفي الصباح وقف عمرو ينادي يا أبا الحسن أخرج إلى أنا عمرو بنالعاص وخرج إليه علي وتبارز الرجلان دون أن يتمكن أحدهم من الآخر ولكن الإمام عليحمل عليه ولما رأي عمرو أنه مقتول لا محالة والسيف علي رقبته ألقي بنفسه إلي الأرضورفع رجله فبدت عورته فصرف علي وجهه وتركه فلما سأل أصحاب علي مالك رجعت عنه ؟فقال هذا عمرو بن العاص تلاقني بسوءته فذكرني بالرحم فرجعت عنه وفهمها معاوية فقاللعمرو أحمد الله وأحمد إستك ([12]) .


ودارت المعاركرهيبة بين الطرفين تكسرت فيها الرماح والسيوف وقد تكسر لعلي أكثر من سيف وتسربلتالأجسام والوجوه بالدماء وتنادي الناس من كل ناحية يا معشر العرب من للنساء والأولاد؟ الله الله في الحرمات وظل الأمر هكذا حتى أقترب أهل العراق من مكان معاوية واضطرأن يخلي سرادقه واستمرت المعارك علي النحو أياما وليالي ([13]) .

* * * *





(1)


تقتله الفئة الباغية



يروي الطبري أنعمار بن ياسر رحمه الله حينما اشتدت المعركة واستحر القتل قال أين من يبتغي رضوانالله عليه ، ولا يثوب إلي مال ولا ولد ! فأتته عصابة من الناس ، فقال :أيها الناس، اقصدوا بنا نحو هؤلاء الذين يبغون دم ابن عفان ، ويزعمون أنه قتل مظلوما ، واللهما طلبتهم بدمه ، ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبوها واستمرؤوها وعلموا أن الحق إذالزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم ، ولم يكن للقوم سابقة في الإسلاميستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم ، فخدعوا أتباعهم أن قالوا : إمامنا قتلمظلوما ، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا ، وتلك مكيدة بلغوا بها ما ترون ، ولولا هي ماتبعهم من الناس رجلان . اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت ، وإن تجعل لهم الأمر فادخرلهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الأليم .


لقد كان عمارممتلئا حماسة وإنصافا للحق وأهله فأسمع إليه يقول لعمرو بعد أن دنا منه ( يا عمرو بعت دينك بمصر تبا لك تبا ! طالمابغيت في الإسلام عوجا وقال لعبيد الله بن عمر بن الخطاب صارعك الله بعت دينك منعدو الإسلام وابن عدوه قال : لا ولكن أطلب بدم عثمان بن عفان فقال له أشهد علي علمفيك أنك لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله عز وجل وإنك إن لم تقتل اليوم تمت غدافأنظر إذ أعطي الناس علي قدر نياتهم ما نيتك . ([14])


فقد أخبر رسولالله r في مقتل عمار بن ياسر فقد يرويمحمد بن فضيل عن مسلم الأعور عن حبة بن جوين العرني قال : انطلقت أنا وأبو مسعودإلي حذيفة بالمدائن ، فدخلنا عليه ، فقال : مرحبا بكما ، ما خلفتما من قبائل العربأحدا أحب منكما . فأسندته إلي أبي مسعود ، فقلنا : يا أبا عبد الله ، حدثنا فإنانخاف الفتن ؛ فقال : عليكما بالفئة التي فيها ابن سمية ، إني سمعت رسول الله r يقول : (( تقتله الفئة الباغية الناكبة عن الطريق ، وإن آخر رزقهضياح ( الضياح بالفتح : اللبن الرقيق الكثير الماء ) من لين )) . قال حبة : فشهدتهيوم صفين وهو يقول : ائتوني بآخر رزق لي من الدنيا ، فأتي بضياح من لبن في قدحأروح ( (روح ، أي فيه سعة ) له حلقة حمراء ، فما أخطأ حذيفة مقياس شعرة فقال :

اليوم ألقي الأحبة محمدا وحزبه



والله لو ضربناحتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا علي الحق وأنهم علي الباطل ، وجعل يقول :الموت تحت الأسل ، والجنة تحت البارقة ([15]) .


وقد كان لمقتلعمار أثر كبير ودوي هائل في المعسكرين العراقي والشامي حيث أن مقتل عمار كما أخبررسول الله r حينما قال له تقتلك الفئة الباغية فقد تبين لأصحاب عليّ أنهم عليحق وأن معاوية باغ وقد وقع الإثم وقد تحدث عمرو بن العاص عما أخبر به الرسول r لعمار ( تقتلك الفئة الباغية وأخر شربه تشربها صاع لبن ) وكانالرجال يؤتون إلي معاوية مفاخرين كلا يدعي أنه قتل عمارا وقد كان الناس يخلطون فيالحديث حتي جاء قاتله وسأله عمرو فقال سمعته يقول ( اليوم ألقي الأحبة محمدا وحزبهفقال عمرو أنت صاحبه ثم قال رويدا والله ما ظفرت يداك ولقد أسخبت ربك ) ([16])وقد كان لمصرعه دوي هائل عند أهل العراق وأهل الشام معاحيث أقبلت همدان والأنصار وربيعة وطئ واختلطت القبائل بعضها علي بعض وحمي وطيسالمعركة واشتد القتال وحطمت همدان أهل الشام حتى قذفته إلي معاوية وأمر عليّالأشتر أن يتقدم باللواء إلي أهل حمص وأهل قنسرين فأكثر القتلى في أهلهما وصرع عليأيديهم المرقال وقد حزن عليه عليّ رضي الله عنه ([17]) .


وإذا كانالإمام علي وأصحابه واثقين من أنهم بريئون من البغي علي عمار فإن معسكر معاوية قداضطرب لهذا الأمر حتى فكر معاوية كيف يخرج من الفئة الباغية ، يروي الطبري عن المسلمين ومعهم الرسول r وهم يبنون المسجد والناسينقلون حجرا حجرا ولبنة لينة وعمار ينقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين ، فخشي عليه ،فأتاه رسول الله r فجعل يمسح التراب عن وجههويقول : ( ويحك ابن سمية . الناس ينقلون حجرا حجرا ، ولبنة لبنة ، وأنت تنقل حجرينحجرين ولبنتين لبنتين رغبة منك في الأجر وأنت ويحك مع ذلك تقتلك الفئة الباغية ([18]) .


ولم يكد عمرويسمع هذا من ولده حتى دفع صدر فرسه ، ثم جذب معاوية إليه فقال : يا معاوية ، أماتسمع ما يقول عبد الله ؟ قال : وما يقول فأخبره الخبر .


فقال معاوية :إنك شيخ أخرق ، ولا تزال تحدث بالحديث وأنت تدحض في بولك أو نحن قتلنا عمارا ؟إنما قتل عمارا من جاء به .


فخرج الناسيرددون تلك الكلمة ويقولون : إنما قتل عمارا من جاء به . ([19]) وهذه خدعة أثارها معاوية ليخدع بها الناس .


وهذا القولبعيدا عن الحقيقة وعارِ منها تماما فيذكر بن كثير أن معاوية لم يكتف بذلك القولالظالم بل لجأ إلي وصف عمار وجماعته بالفئة الباغية فكان يقول إنما نحن الفئةالباغية التي تبغي دم عثمان ([20]).


لقد طالت أمدالحرب بين العراقيين والشام ولكن كفتها بدأت تميل نحو الإمام عليّ وقد بلغ الإعياءوالجهد مبلغه في رجال معاوية ولقد كان قتل عمار بن ياسر مثيرا لأصحاب عليّ فدفعالأشتر النخعي أن يقتل علي أمير المؤمنين ويقول له وهو جريح ( خيل كخيل ورجالكرجال ولنا الفضل إلي ساعتنا هذه فعد مكانك الذي كنت فيه فإن الناس إنما يطلبونكحيث تركوك ) فامتطر الإمام علي فرسه وتعصب بعمامة رسول الله السوداء وأثار حميةالرجال وقال إن هذا يوما له ما بعده وقاد أثني عشر ألاف من خيرت معسكره وحمل بهمعلي معسكر أهل الشام واستطاع أن يمزق صفوفهم وأن يقتل منهم خلقا كثيرا وظلوا طوالالليل يتقاتلون حتى نفذت الرماح وفنيت النبال وفلت السيوف واضطروا إلي الالتحاموالتقاتل بالأيدي والحجارة وحثوا التراب في الوجوه واستمر الحال علي ذلك حتى أصبحالناس وقد انكشف معسكر أهل الشام ومال النصر لأمير المؤمنين عليّ فلما رأي عمرو بنالعاص أن معسكرهم قد وهم وأهل الشام قد اشتدوا خاف الهلاك وقال لمعاوية هل لك منأمر أعرضه عليك لا يزيدنا اجتماعا ولا يزيدهم إلا فرقة قال:نعم . قال : نرفعالمصاحف ونطلب التحكيم إلي كتاب الله والحقيقة أن تلك الفكرة قد قبلها كلا منالمعسكرين. ([21]) .

* * * *


(2)


رفع المصاحف وطلب التحكيم :



لقد أدركالإمام عليّ مغزى هذه الفكرة التي ألقي بها عمرو بن العاص وحاول أن يثني أصحابه عنقبولها وألح في ذلك إلحاحا كثيرا وقال لأصحابه أنهم نادوا بهذه الفكرة لتثبيط هممالمقاتلين إذ أوشكنا أن نحرز النصر ولكن أتباع عليّ أجبروه علي قبول التحكيم وهددوه وقالوا له يا عليّ أجب إلي كتاب اللهإذا دعيت إليه وإلا دفعناك إلي القوم أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان أنه غلبنا أنيعمل بكتاب الله فقتلناه والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك ، والغريب في الأمر والباعث للدهشة إن الذين أجبرواعليا علي قبول التحكيم هم الذين يعرفون بالقراء وهم الذين كفروا عليا بعد ذلك لأنهقبل التحكيم وهؤلاء القوم هم الذين كانوا نواة خرج من رحمها الخوارج فماذا قال لهمالإمام علي بعد أن أجبروه علي وقف القتال وقبول التحكيم ولكن الإمام عليّ كررعليهم قوله حتى قال: ( فأحفظوا عني نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم لي أما أنا فإنتطيعوني فقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم؟ ([22]).


ويري المسعودي أن رفع المصاحف كان خدعة لعليّوأصحابه حتى يوقفوا القتال إذ كان الأشتر قائد ميمنة جيش عليّ قد أشرف علي الفتحونادت مشيخة أهل الشام يا معشر العرب : الله الله في الحرمات والنساء والبنات ونظرمعاوية إلي عمرو بن العاص وقال له قد هلكنا يا ابن العاص وتطلب من ولاية مصرومازلت تذكرها فقال عمرو : أيها الناس من كان معه مصحف فليرفعه علي رمحه فكثرت فيالجيش رفع المصاحف وارتفعت الضجة ونادوا كتاب الله بيننا وبينكم من لثغور الشام بعدأهل الشام ؟ ومن لثغور العراق بعد أهل العراق ؟ ومن لجهاد الروم ؟ ومن للترك ؟ ومنللكفار ؟ ورفع في عسكر معاوية نحو من خمسمائة مصحف ، وفي ذلك يقول النجاشي ابنالحارث :


فأصبح أهلالشام قد رفعوا القنا عليهاكتاب الله خير قرآن


ونادوا علينا :يا ابن عم محمد أما تتقي أن يهلك الثقلان ؟ ([23])


لقد تبين لناأن عليا وقومه في انتصار وغلبة وأوشكوا علي النهاية ولكن الخدعة التي لجأ إليهاعمرو بن العاص وأقنع بها معاوية كانت محكمة فكيف يعرض علي القوم التحكيم بالقرآنالكريم وهم يرفضون ومن هنا أصر القوم إصرار شديدا علي وقف القتال وقبول التحكيمورأي الإمام علي أن الأمر خرج من يده وإنه إذا لم يطع هؤلاء القوم فسوف تحدث فتنةلا تحمد عواقبها من هنا نزل أمير المؤمنين علي رغبتهم وطلبوا منه ان يرسل إليالأشتر ليوقف القتال فرفض الأشتر لأنه كان واثقا من النصر القريب فكيف يوقف القتالويضيع كل شيء ولكن الإمام علي نزولا علي رغبة هؤلاء القوم أمر بأنه يأتيه الأشترويشير بن كثير إلي معني الحوار الذي دار بين أمير المؤمنين والأشتر وهؤلاء القومفالأشتر قد جاء وهو يتململ ويتحرق غيظا فهو يريد أن يمهلوه قليلا حتى يتحقق النصرفبادر يزيد بن هانيء الأشتر قائلا أيهما أحب إليك أن تسمع وتطيع أم يقتل أميرالمؤمنين كما قتل عثمان فقبل ذلك وقلبه ينفطر من الغيظ فقال يا أهل العراق يا أهلالذل والوهن أحين علوتم القوم ظهرا وظنوا أنكوا لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكمإلي ما فيها وقد تركوا والله ما أمر الله به فيها وتركوا سنة نبيه r فلا تجيبوه ([24]).


وأخذ الأشتريحاورهم ويقول : فخبروني عنكم ، متى كنتم محقين ؟ أحين تقاتلون وخياركم يقتلون ؟فأنتم الآن إذا أمسكتم عن القتال مبطلون ، أم أنتم الآن محقون ؟ فقتلاكم الذين لاتنكرون فضلهم وهم خير منكم في النار .


قالوا : دعنامنك يا أشتر ، قاتلناهم لله ، وندع قتالهم لله .


قال : خدعكمفانخدعتم ، ودعيتم إلي وضع الحرب فأجبتم ، يا أصحاب الجباه السود ، كنا نظن صلاتكمزهاده في الدنيا وشوقا إلي لقاء الله ، فلا أري مرادكم إلا الدنيا ، ألا قبحا ياأشباه النيب الجلالة ، ما أنتم برائين بعدها عزا أبدا ، فابعدوا كما بعد القومالظالمون ([25]) .


وتساب الأشتروالقراء وضربوا وجه دابته وضرب وجوه دوابهم حتى صاح بهم علي فكفوا وقال الناس : قدقبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما فجاء الأشعث بن قيس إلي عليّ وأخبره أنالناس قد رضيت وسرهم دعوتهم إلي تحكيم القرآن فإن شأت أتيتُ معاوية فسألته ما يريدفقال له الإمام أئته إن شأت فسله . فجاءه وقال يا معاوية لأي شيء رفعتم هذهالمصاحف ؟ قال لنرجع نحن وأنتم إلي ما أمر الله عز وجل به في كتابه ؛ تبعثون منكمرجلا ترضون به ونبعث منا رجلا ثم نطلب منهما أن يعملا بما في كتاب الله ولا يحيداعنه ثم نتبع ما اتفقنا عليه . ثم رجع الأشعث وأخبر الإمام عليّ وقد أختار أهلالشام عمرو بن العاص ممثلا لهم .


بينما أختلفأهل العراق ومعهم الإمام عليّ في أختيار من يمثلهم من الحكام وقد وقع أختيار عليّعلي بن عباس وكان حجته أن عمرو بن العاص حكم معاوية رجلا له مكانته في قريش فلا بدللحكم الأخر أن يكون في مستواه من قريش ولهذا السبب أختار بن عباس . فرفض القوم وقال الأشعث بن قيس قد رضينا بأبيموسي فقال عليّ لست أثق برأي أبي موسي ولا بحزمه إنكم قد عصيتموني في أول الأمرفلا تعصوني الآن فقال الأشعث وزيد بن حصين الطائي ومسعر بن فدكي لا نرضي إلا بهفإنه ما كان يحذرنا منه وقعنا فيه . فقالالإمام عليّ إن أبا موسي قد فارقني وخذل الناس عني ثم هرب مني حتى آمنته بعد أشهر، فاجعلوا هذا الأمر لابن عباس قالوا لا بل نريد رجلا هو منك ومن معاوية سواء ،ليس إلي أحد منكم بأدنى منه إلي الأخر ، ثم أشار عليهم علي أن يختاروا الأشتر ،وقالوا وهل سعر هذه الحرب إلا الأشتر ([26]). فقال علي إذن فاصنعوا ما أحببتم وبعث الناس إلي أبي وموسي وأخبروه ودخل عليالإمام عليّ ورضوا به فقبله الإمام وهو مغلوب علي أمره . ([27])


والمعروف بداهةأن الحكميين لابد أن يكونا علي قدر متماثل في الحيطة والحكمة والذكاء والشرفوالعدل وهذا ما يفهمه العرب تماما . وعلي ما يبدوا أنه قد أنعدم التكافؤ بينالحكمين وقد يؤدي ذلك إلي وقوع الظلم علي أحدهما وهذا ما لاحظه الأحنف إذ جاءبالإمام عليّ وقال رأيه في أبي موسي الأشعري : يا أمير المؤمنين ، إنك قد رميتبحجر الأرض ، وبمن حارب الله ورسوله أنف الإسلام ، وإني قد عجمت هذا الرجل وحلبتأشطره فوجدته كليل الشفرة ، قريب القعر ، وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنومنهم حتى يصير في أكفهم ، ويبعد حتى يصير بمنزلة النجم منهم ، فإن أبيت أن تجعلنيحكما فاجعلني ثانيا أو ثالثا ، فإنه لن يعقد عقدة إلا حللتها ، ولن يحل عقدةأعقدها إلا عقدت لك أخرى أحكم منها . فأبي الناس إلا أبا موسي والرضا بالكتاب ؛فقال الأحنف : فإن أبيتم إلا أبا موسي فأدفئوا ظهره بالرجال . ([28])

* * * *


(3)


وثيقة التحكيم :



نص الوثيقة : } بسم الله الرحمن الرحيم {


هذا ما تقاضيعليه عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، قاضي عليّ علي أهل الكوفة ( صفين :العراق ) ومن معهم من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين ، وقاضي معاوية علي أهل الشامومن كان معهم من المؤمنين والمسلمين ، إنا ننزل عند حكم الله عز وجل وكتابه ، ولايجمع بيننا غيره ، وإن كتاب الله عز وجل بيننا من فاتحته إلي خاتمته ، نحي ما أحيا، ونميت ما أمات ، فما وجد الحكمان في كتاب الله عز وجل – وهما أبو موسي الأشعريعبد الله بن قيس وعمرو بن العاص القرشي – عملا به ، وما لم يجدا في كتاب الله عزوجل فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة . وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومنالجندين من العهود والميثاق ( ابن الأثير والنويري " المواثيق " )والثقة من الناس ، أنهما آمنان علي أنفسهما وأهلهما ، والأمة لهما أنصار علي الذييتقاضيان عليه ، وعلي المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما عهد الله وميثاقهأنا علي ما في هذه الصحيفة ، وأن قد وجبت قضيتهما علي المؤمنين ، فإن الأمنوالاستقامة ووضع السلاح بينهم أنما ساروا علي أنفسهم وأهليهم وأموالهم ، وشاهدهموغائبهم . ([29])





اجتماع الحكمين:


1- عمرو بنالعاص : هو الحكم الذي يمثل معاوية بن أبي سفيان .


2- أبو موسي الأشعري: وهو الحكم الذي وقع عليه الاختيار من قبل أهل العراق وأمير المؤمنين وقد وافق مكرها .


- اتفق علي أن يحكما بكتاب الله أولا فإذا لم يجدا فيه أتجها إلي سنة رسولالله r ولا يتبعان في ذلك الهوى أوالشبهات وأن يحيي الحكمان ما أحي القرآن ويميتا ما أمات القرآن ، ولا يداهنان فيشيء من ذلك فإن فعلا فلا حكم لهما ، والمسلمون من حكمهما براء ، قال عليّ للحكمينحين أكره علي أمرهما ورد الأشتر وكان قد أشرف في ذك اليوم علي الفتح فأخبره مخبربما قالوا في علي وأنه إن لم يرده سلم إلي معاوية يفعل به ما فعل بابن عفان ،فانصرف الأشتر خوفا على عليّ فقال لهما علي : علي أن تحكما بما في كتاب الله ،وكتاب الله كله لي ، فإن لم تحكما بما في كتاب الله فلا حكم لكما .


3- مكان الاجتماع: وهو دومة الجندل: وهو مكان ارتضاه الحكمان لأنه في موقع متوسط بين العراق والشام .


4- تاريخ الوثيقة: يوم الأربعاء السابع عشر من شهر صفر سنة سبع وثلاثين وأقام الناس في صفين سبعة وسبعين يوما . ([30])

* * * *





أتفق الجمعان علي أن يوافي عليّ ومعاوية دومة الجندل فيرمضان ليسمعا ما توصل إليه الحكمان وقد لجئ كل منهما إلي إطلاق سراح أسراهم .


وفي شهر رمضانمن عام ثمان وثلاثين كان التقاء الحكمين في دومة الجندل وحضر الاجتماع مجموعةكبيرة من الصحابة رضوان الله عليهم كشهود علي ما يتفق عليه فحضر علي سبيل المثالعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن عبد يغوث وعبد الرحمن بنالحارث والمغيرة بن شعبة وأبو جهم بن حذيفة . ([31])


وكان منالمفروض أن يحضر الطرفان الأساسيان الإمام عليّ ومعاوية فرفض الإمام عليّ الحضورلأنه غير راض عن الحكم وقد أجبره أتباعه علي القبول بينما حضر معاوية جلسة التحكيموقد تجنب بعض الصحابة الحضور وفضلوا الاعتزال كما فعل سعد بن أبي وقاص فقد حاولابنه أن يبلغه بحضور الصحابة في صفين وأن يشهد معهم علي التحكيم فقال لأبنه لاأفعل إني سمعت رسول الله r يقول : ( أنه تكون فتنة خير الناس فيها الخفي التقي )والله لا أشهد شيئا من هذا الأمر أبدا . ( المصدرالسابق ) ولنترك ما قيلمن مساجلات حول الشهود وما بدر من معاوية وأنصاره وعليّ وأنصاره أقول لنطرح ذلكجانبا ولنستمع إلي قول الحكمين وما اجتمع عليه فقد تردد حول التحكيم أراء كثيرة متباينة فيما بينها وفي أغلبها إجحاف وظلمللصحابة رضوان الله عليهم وقد بدأ الحكمان في المداولة واتفقا علي ألا يكتب إلا مااتفق عليه القاضيان معا .


( بسم الله الرحمن الرحيم ) هذا ما تقاضي عليه أبو موسي عبد الله بن قيس وعمرو بنالعاص تقاضيا علي أنهما يشهدان أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبدهورسوله أرسله بالهدي ودين الحق ليظهره علي الدين كله ولو كره المشركون ، ثم قال عمرو ونشهد أن أبا بكر خليفة رسول الله r بكتاب الله وسنة رسوله حتى قبضه الله إليه وقد أدي الحق الذي عليهقال أبو موسي اكتب ثم قال في عمر مثل ذلك ثم قال عمرو أكتب ( وأن عثمان ولي هذاالأمر بعد عمر علي اجماع من المسلمين وشورى من أصحاب رسول الله r ورضا منهم وأنه كان مؤمنا ) قال أبو موسي ليس هذا مما قعدنا لهقال عمرو لابد والله من أن يكون مؤمنا أو كافرا قال أبو موسي أكتب ، قال عمروفظالما قتل عثمان أو مظلوما ، قال أبو موسي: بل قتل مظلوما ، قال عمرو : أفليس قد جعل اللهلولي المظلوم سلطانا يطلب بدمه ، قال أبو موسي : نعم ، قال عمرو فهل تعلم لعثمانوليا أولي من معاوية ، قال أبو موسي : لا، قال عمرو أفليس لمعاوية أن يطلب قاتله حيثما كان أو يعجز ، قال أبو موسي : بلي ،قال عمرو : للكاتب اكتب وأمره أبو موسي فكتب ثم قال أبو موسي هذا أمر قد حدث فيالإسلام وإنما اجتمعنا لله فهلم إلي أمر يصلح الله به أمة محمد ، قال عمرو: ما هوقال أبو موسي قد علمت أن أهل العراق لا يحبون معاوية أبدا وأن أهل الشام لا يحبونعليا أبدا فهل نخلعها جميعا ونستخلف عبد الله بن عمر ، قال عمرو : أيفعل ذلك عبدالله بن عمر؟ قال : نعم نعم إذا حملهالناس علي ذلك فعل ؛ فقال له عمرو : هل لك في سعد قال لا فعدد له جماعة كلهم يأباهأبو موسي ولا يرضي إلا بعبد الله بن عمر ، فأخذ عمرو الصحيفة بعد أن ختما عليها جميعا ولم يتفق الحكمان علي من يولياهأمر هذه الأمة لأن أبا موسي رضي بخلع علي ومعاوية ولم يختر للخلافة إلا عبد اللهبن عمر وعمرو ابن العاص لم يرضه فافترقا علي ذلك ولم يحصل بينهما غير ما كتب فيالصحيفة كما حكاه المسعودي في رواية له ، فأما أبو موسي فأنه استحيا أن يقابل عليابعد أن أقر علي خلعه من الخلافة فلحق بمكة وأما عمرو ابن العاص فرأي أن الأمر صارشوري بين المسلمين حسبما سطر في الصحيفة ورضي به كلاهما فتوجه هو وأهل الشام إليمعاوية فبايعوه بالخلافة لأنهم رأوه أهلا لأن يقوم بأعبائها أما أمير المؤمنين عليفإنه رأي أن الحكمين لم يفيا بما تعهدا به من الحكم بالقرآن بل اتبع كل منهما هواهفصمم علي حرب معاوية مرة أخري ([32]) .


ويروي الطبريحنكة عمرو بن العاص وكيفية التعامل مع أبي موسي الأشعري وكان يقدم أبا موسي فيكلام ويدفعه إلي ما يريد من القول فكان يقول له أنت أسن منا وصاحب رسول الله ولكالفضل وبذلك عوده أن يتقدم في كل شيء وكان ذلك تمهيدا ليقدمه فيبدأ بخلع عليويبدوا من المفاوضات إصرار أبي موسي علي تشجيع عبد الله بن عمر ولو استجاب له عمروبن العاص لكان فيه اتفاق علي تعيين الخليفة وبذلك يتم الاستغناء عن علي ومعاويةوأخذ عمرو بن العاص يعرض عليه بعض الشخصيات فيرفضها عرض عليه معاوية فرفض ثم عرضعليه أبنه عبد الله فرفضه فألح عليه أن يختار ابنه عبد الله قال له عرضت أبنكللفتنة فخاض فيها وبذلك رفض ، وبعد مداولات قال أبو موسي أري أن نخل هاذين الرجلينونجعل الأمر شوري بين المسلمين فأستحب عمرو هذا الرأي وهو قريب من ميوله ورغباتهفقال الرأي ما رأيت وأقبل أبو موسي وعمرو علي الناس وهم مجتمعون يتلهفون لسماعنتيجة المداولات وإذ بعمرو يقول يا أبا موسي أعلمهم بأن رأينا قد اجتمعا واتفقافتقدم أبا موسي فحمد الله عز وجل واثني عليه ثم قال : ( أيها الناس ، إنا قد نظرنافي أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ، ولا ألم لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأيعمرو عليه ؛ وهو أن نخلع عليا ومعاوية ، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر فيولوا منهممن أحبوا عليهم ، وإني قد خلعت عليا ومعاوية ، فاستقبلوا أمركم ، وولوا عليكم من رأيتموهلهذا الأمر أهلا ؛ ثم تنحي . وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه ، فحمد الله وأثنيعليه وقال : إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه ، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه ،وأثبت صاحبي معاوية ، فإنه ولي عثمان بن عفان والطالب بدمه ، وأحق الناس بمقامه .فقال أبو موسي : ما لك لا وفقك الله ، غدرت وفجرت ! . ([33])


وهناك روايةأخرى ذكرها المسعودي قال أنه لم يكن بينهما غير ما كتب في الصحيفة وإقرار أبي موسيبأن عثمان قتل مظلوما وغير ذلك مما قدمنا ، وإنهما لم يخطبا ، وذلك أن عمرا قاللأبي موسي : سم من شئت حتى أنظر معك ، فسمي أبو موسي ابن عمر وغيره ثم قال لعمرو :قد سميت أنا فسم أنت ، قال : نعم ، أسمي لك أقوي هذه الأمة عليها ، وأسدها رأيا ،وأعلمها بالسياسة ، معاوية بن أبي سفيان ،قال : لا والله ما هو لذلك بأهل ، قال : فآتيك بآخر ليس هو بدونه ، قال : من هو ؟قال : أبو عبد الله عمرو بن العاص ، فلما قالها علم أبو موسي أنه يلعب به ، فقال :فعلتها لعنك الله ، فتسابا ، فلحق أبو موسي بمكة . ([34])


ويفضل في هذا الرأي أن نستطرد في ذكر بعض أراءمن الرواة والكتاب والمفكرين في شأن التحكيم فإن أغلب هذه الروايات كما قلت قدأساءت إلي الصحابة رضوان الله عليهم فهم النجوم التي نهتدي بها في الليلة الظلماءولا يحق لنا أن نسير وراء تلك الآراء وننخدع بها وأن نردد تلك الأقوال بدون أداركأو وعي وكما قلنا أن الصحابة بشر فهم يخطئون ويصيبون ولكن هؤلاء خلفاء راشدون ونحنمطالبون أن نقتدي بهم ولا نسيء إليهم .


وفي اختلافالحكمين والمحكمة يقول بعض من حضر ذلك في أبي موسي حيث يقول ابن أعين : ([35]) .


أبا موسي ، بليت وأنت شيـخ قريب العفـو محزون اللسان


وما عمرو صفاتك يا أبن قيس فيـا لله مـن شيـخ يمـاني


فـأمسيت العشيـة ذا اعتـذار ضعيف الركن منكوب الجنان


تعض الكف من نـدم ، وماذا يـرد عليك عضـك للبنان ؟


هناك عدةملاحظات ينبغي علينا الوقوف عندها وقفة تأمل :-


1- خرج أبوموسي من هذا التحكيم غاضبا مستاءا من عمرو بن العاص حيث علم أنه يلعب به فقالفعلتها لعنك الله أنظر هذا الرأي فيما سبق .


2- بعدما أنصرفأبو موسي دعا معاوية عمرا إليه فرفض أن يذهب وقال من له حاجة فيذهب إلي الأخر حيثأن الحاجة أصبحت إلينا وعلم معاوية مآرب عمرو بن العاص وأعمل الحيلة وبعد غداءطويل دعيا إليه أهل ابن العاص ومواليه وبعدما تناولوا الغداء وخرجوا جاء أصحابمعاوية وشيعته ليتناولوا الغداء وبعد ما تم الغداء أغلق الباب وأصبح معاوية وعمرواوجه لوجه فقال له عمرو : فعلتها ، فقال : إي والله بيني وبينك أمران فاختر أيهماشئت : البيعة لي ، أو أقتلك ، ليس والله غيرهما ، قال عمرو : فأذن لغلامي وردانحتي أشاوره وأنظر رأيه ، قال : لا تراه والله ولا يراك إلا قتيلا أو علي ما قلت لك، قال : فالوفاء إذن بطعمة مصر ، قال : هي لك ما عشت ، فاستوثق كل واحد منهما منصاحبه ، وأحضر معاوية الخواص من أهل الشام ، ومنع أن يدخل معهم أحد من حاشية عمرو، فقال لهم عمرو : قد رأيت أن أبايع معاوية ، فلم أر أحدا أقوى علي هذا الأمر منه، فبايعه أهل الشام ، وانصرف معاوية إلي منزله خليفة ([36]) .


3- ولما بلغعليا ما كان من أمر أبي موسي وعمرو إني كنت تقدمت إليكم في هذه الحكومة ونهيتكمعنها فأبيتم إلا عصياني ، فكيف رأيتم عاقبة أمركم إذ أبيتم علي ؟ . والله إنيلأعرف من حملكم علي خلافي والترك لأمري ، ولو أشاء أخذه لفعلت ، ولكن الله منورائه يريد بذلك الأشعث بن قيس والله أعلم ، وكنت فيما أمرت به كما قال أخو بنيخثعم :


أمرتهم أمرىبمنعرج اللوى فلميستبينوا الرشد إلا ضحي الغد


من دعا إلي هذهالحكومة فاقتلوه قتله الله ولو كان تحت عمامتي هذه ، ألا إن هذين الرجلين الخاطئيناللذين اخترتموهما حكمين قد تركا حكم الله ، وحكم بهوي أنفسهما بغير حجة ولا حقمعروف ، فأماتا ما أحيا القرآن ، وأحييا ما أماته ، واختلف في حكمهما كلامهما ،ولم يرشدهما الله ولم يوفقهما ، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين ، فتأهبواللجهاد واستعدوا للمسير ، وأصبحوا في عساكركم إن شاء الله تعالي ([37]) .


لقد أختلف كثيرمن الفرق في الحكمين وقالوا فيهما أقاويل كثيرة منها ما قالته المعتزلة والخوارجوالشيعة وغيرهم ومنها قول علي بن أبي طالب وخطبه في هذا الأمر فأنظر إلي كلام أبيموسي في تخليله الناس وتحريضهم علي الجلوس وتثبيطهم عن أمير المؤمنين عليّ فيحروبه ومسيره إلي الجمل وغير ذلك فقال :وقد زعمت قريش أن ابن أبي طالب شجاع ولكنه لا علم له بالحرب ، تربت أيديهم ! وهلفيهم أشد مراسا لها مني ؟ لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، وها أنا ذا قد أربيتعلي نيف وستين ، ولكن لا رأي لمن لا يطاع . ([38])


ومن أراءالكتاب والمؤرخين المحدثين في شأن التحكيم نذكر تلك الآراء :


- يري الدكتور:محمد السيد الوكيل أن هذا الموضوع إذا نظرنا إليه بنظرة سطحية ضيقة لوجدنا أناقتراح أبي موسي التخلص من الرجلين دون أن يتفق علي خليفة جديد سيؤدي ذلك إلي مزيدمن سفك الدماء وإلي حروب لا يعرف نهايتها إلا الله ، وسوف تكون البلاد مرتعا خصبالفتنة السبئين وقتلت عثمان والخوارج الذين خرجوا من الإسلام وقد يثار كل الخلافاتالقديمة والحديثة وتبدأ دورة المطالبة بدماء عثمان التي لم تجف بعد وقميصه الذي لميزل في ذاكرة الناس بل قد يتسلل أحد هؤلاء المتمردين الفجرة ويقبضون علي ذمامالأمر وتصير إليهم مقاليد الأمور .


- إذن الأمريحتاج إلي نظرة أعمق وموضوعية أقوي من النظرة السطحية السابقة فإن ترك الأمور عليهذا الشأن دون اختيار خليفة لأمر فادح وخطير فهل هناك رجل أفضل من الرجلين في هذاالوقت أي هناك شخص ثالث يمكن أن يختاره المسلمون خيرا من عليّ ومعاوية ؟


ولم يقف الأمرعند هذا الحد فقد يقول البعض ربما يتفق المسلمون ولكن ما الذي يجعلهم يتفقون وقدمروا بتجربة خطيرة بعد وفاة رسول الله r عرفوها في سقيفة بني ساعده وقدعصمهم الله حينما اختاروا أبا بكر فكانت رحمة من الله . وعرفوها يوم مات أبو بكروقد رشح عمر حتى تجتمع كلمة المسلمين ثم تمت البيعة العامة بعد ذلك وعرفوها أيضايوم قتل عمر حيث رشح ستة من المبشرين بالجنة وجعل أمر الخلافة فيهم وذلك حتى لاتتفرق كلمة الله وقد عصمهم الله باختيار عثمان وهنا اليوم اضطربت الأمور وقتلعثمان ولابد من خليفة يعصم أمر المسلمين ويوحد كلمتهم ولعل هذا المعني هو الذيأدركه عمرو بن العاص حين لم يخلع معاوية وثبته بعد أن خلع أبو موسي عليا ولا غروفي ذلك فإن أبا موسي كان غير راض عن الرجلين ولا يود أحدهما أن يكون خليفته حيثدخل كلا منهما في الفتنة وإراقة دماء المسلمين ، إذن لابد للمسلمين من إمام يجمعشملهم ويوحد صفهم ويحقن دمائهم في تلك الظروف الصعبة التي مازالت دماء الفريقينتنزف ولم تجف بعد . فكانت النظرة الصائبة والعميقة لعمرو بن العاص حين يبقي أحدالرجلين خليفة يجتمع حوله المسلمون ، وإذا كان أبو موسي قد خلع عليا فلابد أن يبقيمعاوية ولعل هذا هو السر في أن وقف عمرو بن العاص فثبت صاحبه حين قال : ( إن هذاقد قال ما سمعتم وخلع صاحبه وأنا أخلع صاحبه كما خلعه واثبت صاحبي معاوية ) . فلاعجب أن يكون هذا التصرف من عمرو بن العاص هو التصرف الوحيد الذي يمكن ان يحفظ جماعةالمسلمين ويبقي علي تماسكهم ([39]) .


ومن الجديربالذكر هنا أن نفرد مساحة لرأي الإمام أبي بكر بن العربي صاحب العواصم من القواصمفهو يري كل ما روي حول التحكيم وقد تحكم فيه الناس وقالوا مالا يرضي الله ولا يليقبالصحابة رضوان الله عليهم والذي يصح هو ما رواه الأئمة كخليفة بن خياط والدارقطني أنه لما خرجت الطائفة العراقية في مائة ألف والشامية في سبعين أو تسعين ألفاونزلوا علي الفرات بصفين ، اقتتلوا في أول يوم وهو الثلاثاء علي الماء فغلب أهلالعراق عليه .


ثم التقوا يومالأربعاء لسبع خلون من صفر سنة ( سبع وثلاثين ) ويوم حتى يكون الرجلان يحكمان بينالدعوتين بالحق ، فكان من جهة علي الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت ، ورفعت المصاحفمن أهل الشام ، ودعوا إلي الصلح ، وتفرقوا علي أن تجعل كل طائفة أمرها إلي رجلٍهما : أبو موسي من جهة عليّ ، ومن جهةمعاوية عمرو بن العاص . ([40])


ويتعجب القاضيبن العربي من تلك الرواية التي ذكرت دهاء عمرو بن العاص حتى ضرب به الأمثال وصنفوافي ذلك حكايات تدل علي فساد الرجل وقد بنوا ذلك علي أن عمرا لما غدر أبا موسي فيقصة التحكيم صار له المثل الأعلى والذكر في الدهاء والحقيقة أنهما حينما اجتمعالقاضيان في دومة الجندل وتفاوضا أتفقا علي أن يخلعا الرجلين فقال عمرو لأبي موسي: اسبق بالقول فتقدم فقال : إني نظرت فخلعت عليا عن الأمر ، ولينظر المسلمونلأنفسهم ، كما خلعت سيفي هذا من عاتقي – وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض . وقامعمرو فوضع سيفه في الأرض وقال : إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر ، كما أثبت سيفيهذا في عاتقي . وتقلده : فأنكره أبو موسي ، فقال عمرو : كذلك اتفقنا . وتفرق الجمععلي ذلك من الاختلاف . ([41])


ويمكننا القولمما سبق أنه حينما قال عمرو بن العاص إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر كما اثبتسيفي هذا في عاتقي فالأمر هنا المراد به الاستمرار في إدارة البلاد التي تحت يده فإن هذا الأمر ماض علي معاويةوعليّ معا فكلا منهما باق للحكم علي ما تحت يده . وإذ كان المراد بالأمر الإمامةالعامة وإمارة المؤمنين فإن معاوية لم يكن إماما أي لم يكن خليفة حتى يثبته عمروكما كان وهذه هي نقطة المغالطة التي أشاعها الأفاكين من المؤرخين حيث أوهموا الناسبان هناك خليفتين أو أميرين للمؤمنين وأن الاتفاق بين الحكمين كان علي خلعهما معاوأن أبا موسي خلع الخليفتين تنفيذا للاتفاق وأن عمرو خلع أحدهما وأبقي الآخر خليفةخلافا للاتفاق وهذا كله كذب وإفك وبهتان والذي فعله عمرو هو نفسه الذي فعله أبوموسي لا يفترق عنه قيد أنملة وبقي أمر الإمام والخلافة أو إمارة المؤمنين معلقاعلي نظر أعيان الصحابة ليروا فيه رأيهم متى شاءوا وكيف شاءوا .


وإذا كانت هذهالخطوة الثانية لم تتم فما في ذلك تقصير من الحكمين فهما قد قاما بمهمتهم وفقاجتهادهما واقتناعهما .


فعمرو بن العاصأشرف من أن يقال فيه أنه داهية وقد أشاد به النبي r وأثني عليه حينما قال : ( أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص ) ([42]) .


كما لا يفوتنافي هذا المقام ان نتحدث عن النتائج والآثار التي نجمت عن التحكيم الذي اختلف حولهالمؤرخون فما النتائج والآثار التي ترتبت علي التحكيم ؟ وللإجابة علي هذا التساؤليقودنا إلي بسط قضية مهمة في التاريخ الإسلامي وهي قضية شاذة ينبغي النظر إليهابحذر والمراد بهذه القضية قضية ( الخوارج ) فما سبب تسميتهم بهذا الاسم وماأفكارهم واعتقاداتهم الدينية وما خطورة تلك الاعتقادات .


اسم الخوارججاء من جماعة خرجوا علي عليّ بن أبي طالب وصحبه لأنه قبل الأخذ بالتحكيم وحجتهم فيذلك أن حكم الله واضح لا يحتاج إلي هذا التحكيم وكان شعارهم (( لا حكم إلا لله ))ويسمون أيضا بالحرورية نسبة إلي قرية في الكوفة تسمي ( حروراء ) خرجوا إليها . وقدحاربهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في الوقعة الشهيرة بوقعة ( النهروان )وهزمهم وقتل منهم كثيرا ، ولكنه لم يستطيع أبادتهم إبادة تامة ، حتى دبروا لهمكيدة قتلة علي يد عبد الرحمن ابن ملجم عليه من الله ما يستحق .


وقد حاربتالخوارج الدولة الإسلامية ابتداء من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كما حاربتالخوارج الدولة الأموية واقلقوا راحتها في حروب متواصلة بحجة انها مغتصبة للخلافةبزعمهم ولكنها استطاعت أن تنهك قواهم وتعثر وجودهم ، غير أنها لم تستطع استئصالهم.


والخوارجيقولون بتكفير عثمان لما غير وبدل بزعمهم ، وبتكفير عليّ لقبوله التحكيم وطعنوا فيأصحاب الجمل وكل ذلك من جهلهم وضلالهم .


أما من نظريتهمفي الخلافة أن الخلافة تكون باختيار حر من المسلمين ؛ وقد خالفوا بذلك الشيعةالقائلين بانحصار الخلافة في بيت النبي r . وهم بذلك يخالفون أهل السنةالقائلين بأن الخلافة من قريش إذا وجدوا وتحققت فيهم الجدارة . وهو الحق .


والخوارج عليالرغم من ضلالهم وانحرافهم إلا أنهم يتسمون بصفة واحدة وهى أنهم ، لم يعرفوابالكذب كالرافضة الذين ينكرون الأحاديث الصحيحة ويضعون الأحاديث المكذوبة علي لسانرسول الله r ويؤولون آيات القرآن الكريمحسب أهوائهم ! ...


وقد روي الإمامبن العربي أن النبي r قد ذكر في الفتن وأشار وبين .واخذ ينذر بظهور فرقة خارجة عن الدين وكانت هذه الفرقة هي الخوارج وقال تقتلهمأدنى الطائفتين إلي الحق وفي صحيح مسلم ك 12 ح150 ج3 صـ113 من حديث أبي سعيدالخدري ( تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولي الطائفتين بالحق) ([43])


وهكذا نجم عنالتحكيم فجوات وزلات وانحراف في العقيدة ولعل خروج هذه الطائفة كانت سببا في تدهورمعسكر العراقيين الذي يقوده الإمام عليّ بن أبي طالب فقد أفتروا افتراءا عظيما عليعليّ بن أبي طالب وخرجوا من طوعه لأنه قبل التحكيم وقالوا أن الحكم لله وحده ولايجوز تحكيم الرجال فماذا يريدون بذلك هل هم ينتظرون وحيا من السماء ينزل بقرآن جديد! لقد أنتهي عصر النبوة وأنقطع الوحي بنزول القرآن الكريم المادة الخصبة للتحكيمفي كل شيء ولم يمت الرسول إلا بعد اكتمال الدين وأحكامه ونصرته وهذا نزاع بينطائفتين وحكمه في القرآن الكريم واضح جلي ، فلابد أن يتدخل الناس للإصلاح بينهماولكن عميت القلوب وأغلقت الأذهان وبلغ العناد أقصاه حينما رموا المسلمين بالكفروساءت الأحوال أمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أيقاتل أهل الشام الذين رفضواالدخول في جماعة المسلمين والخضوع لطاعته أم ينبري لقتال تلك الفئة الباغية فأشارعليه أصحابه أن قتال المكفرين أولئك أولي وأهم من قتال المخالفين من أهل الشامفوافق علي ذلك وقد راسلهم وأعذرهم قبل القتال وإليك كتابه إلي الخوارج ورد الخوارجعليه :


أولا : كتابعليّ إلي الخوارج: ( بسم الله الرحمن الرحيم : من عبد الله علي أميرالمؤمنين إلي زيد بن حصين وعبد الله بن وهب ومن معهما من الناس ، أما بعد ، فإنهذين الرجلين اللذين ارتضينا حكمهما خالفا كتاب الله ، واتبعا أهواءهما بغير هدىمن الله ، فلم يعملا بالسنة ولم ينفذا للقرآن حكما فبرئ الله ورسوله منهماوالمؤمنون ) .


فإذا بلغكمكتابي هذا فأقبلوا فإنا سائرون إلي عدونا وعدوكم ، ونحن علي الأمر الذي كنا عليهوالسلام ) ([44]) .


ثانيا : كتابرد الخوارج علي عليّ أمير المؤمنين: ( أما بعد ،فإنك لم تغضب لربك ، وإنما غضبت لنفسك ، فإن – شهدت علي نفسك بالكفر ، واستقبلتالتوبة نظرنا فيما بيننا وبينك ، وإلا فقد نابذناك علي سواء إن الله لا يحبالخائنين ([45]) .


يئس الإمام عليمن القوم بعد أن قرأ كتابهم ، وعلم أنهم لن يرجعوا عن غيهم وأجابهم بقوله : أصابكمحاصب ، وما بقي منكم وابر ، أبعد إيماني برسول الله r وهجرتي معه ، وجهادي في سبيل الله أشهد علي نفسي الكفر ؟ لقد ضللتإذن وما أنا من المهتدين ([46]) .


وإذا كان انتهيعلي من أمر الخوارج بعد حروب طويلة وقاسية ، وقضي علي رؤوسهم ولكنه لم يستطيعالقضاء علي أفكارهم التي سرت في النفوس الضعيفة المتوترة مسري النار في الهشيموتمثل ذلك في أناس كانوا مصدر قلق واضطراب بما كانوا يثيرون من القتال الحين بعدالحين .


وأخذ علي يحرضأصحابه علي الخروج لقتال أهل الشام ، ولكنهم تثاقلوا عن الخروج ولم تتهيأ له فرصةليواجه قوات الشام فقعد ولم يخرج وبقي الوضع كما هو طوال عام 38 هـ حيث شغل عليبظهور فتنة جديدة وهي فتنة الخريت بن راشد .


وهناك ملاحظةجديرة بالإشارة إليها من خلال تلك الفتنة التي فشت وتغلب المتآمرين علي الناسوإعلاء كلمتهم وهم علي الباطل فقد أرغموا عليّ علي قبول الخلافة بل هددوه فالمنصفهنا يستطيع أن يتبين أن السلاح الذي قتل عثمان بن عفان مازال باقيا وهو نفس السلاحالذي بات يتهدد حياة عليّ بن أبي طالب فمن الذي يعصمه ومدينة النبي r عاصمة الدولة الإسلامية صارت مستكينة تحت وطأة الإرهاب وقد عششفيها أصحاب الفكر الشعوبي الذي يريدون به تخريب الإسلام وعقيدة المسلمين فليسالأمر فرقة من الناس خرجت وليس الأمر في مجموعة ابن سبأ التي تواطأت وليس الأمر فيهؤلاء الغوغائيين الرعاع ولكن الأمر أفدح من ذلك وأخطر وهي تلك السموم التييبثونها وتلك الأفكار التي يتبنونها والتي وجدت طريقها لتعشش في عقول بعض المسلمينوقد أجهدت تلك الفرق الضالة الحكومات المسلمة المتتابعة في حربها والقضاء عليهاولكنها مع ذلك انتقلت لتنتشر في الأمصار الإسلامية ولتصبح غذاء جديدا لعقولالمسلمين فيها .


أما قتلة عثمانالمنتشرون في معسكر علي فهي حقيقة ملموسة بل إن الأشتر وهو من رؤوس البغاة عليعثمان كان أكبر مسعر للحرب بين أصحاب رسول الله r سواء في معسكر علي أو في معسكر معاوية . ولما طالب عليّ معاويةومن معه من الصحابة والتابعين أن يبايعوه احتكموا إليه في قتلة عثمان وطلبوا منهأن يقيم حد الله عليهم أو أن يسلمهم اليهم فيقيموا عليهم حد الله وقد اعتذرنا عنأمير المؤمنين علي بأن قتلة عثمان لما صاروا مع علي في العراق صاروا في معقل قوتهموعنجهية قبائلهم ، فكان عليّ يري – إبراز لهذه الحقيقة للصحابي الجليل القعقاع بنعمرو التميمي وتحدث بها مع أم المؤمنين عائشة وصاحبي رسول الله r طلحة والزبير فأذعنوا لها وعذروا عليا ووافقوا علي التفاهم معهعلي ما يوصله إلي الخروج من هذه الفتنة ، ولكن ما لبث قتلة عثمان أن أنشبوا الحرببين الفريقين . فالمطالبون بإقامة حد الله علي قتلة معذورون لأنهم يطالبون بحق ،سواء كانوا من أصحاب الجمل ، أو من أهل الشام . وتقصير عليّ في إقامة حد الله كانعن ضرورة قائمة ومعلومة ، ولكن إذا كانت حرب البصرة ناشئة عن انشاب قتلة عثمانالحرب بين الفريقين الأولين ، فقد كان من مصلحة الإسلام أن لا تنشب حرب صفين بينالفريقين الآخرين .


وكان سبط رسولالله r الحسن بن علي كارها خروج ابيهمن المدينة إلي العراق لأن ذلك سيؤدي إلي نشوب الحرب مع أهل الشام . ولو أن عليالم يتحرك من الكوفة استعدادا لهذا القتال لما حرك معاوية فيه ساكنا قالا شيخ الاسلامابن تيمية في منهاج السنة ( 2 : 219) : (( لم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداء)) .


ومع ذلك فانهذه الحرب قد ظهر فيها بعض الجوانب الإنسانية في التاريخ التي جري فيها المتحاربانمعا علي مبادئ الفضائل التي يتمني حكماء الغرب لو يعمل بها في حروبهم ونحن فيالقرن الحادي والعشرين وأن كثيرا من قواعد فقه الحرب في الإسلام لم تكن لتعلموتدون لولا وقوع هذه الحرب ، ولله في كل أمر حكمة . ([47])






1- الطبري ج4 صـ561 .

1- المصدر السابق صـ561 ،562 .

2- المصدر السابق .

3- أنظر الطبري ج4 صـ567 وابن الأثير ج3 صـ282 .

4- وصفين هذه قرية خربه من بناء الروم قريبة منالفرات .

1- أنظر بن الأثير ج3 صـ285 ، والبداية والنهاية ج7صـ266 ،267 .

2- الطبري ج4 صـ573 ، 574 .

1- البدايةوالنهاية ج7 صـ270 .

2- ابن كثير ج7 صـ270 .

3- الطبري ج5 صـ11) .

1- ابن الأثير ج3 صـ297 .

1- الإستك : هو الدبر . أنظر بن كثير ج7 صـ274 .

2- ( أنظر بن كثير ج7 صـ274 ،275) .

1- الطبري ج5 صـ40، 39 .

2- تاريخ الطبري ج5 صـ38 ، 39 .

3- ابن الاثير ج3 صـ310 ويذكر المسعودي أن الذي قتلعمار أبو العادية العامري من اليمن وابن جون السكسكي وأختلف في سلبه فأحتكما إليعبد الله بن عمرو بن العاص قال لهما: أخرجا عني ، فإني سمعت رسول الله e يقول ، أو قال قال رسول الله e وولعت قريش بعمار (( ما لهمولعمار ؟ يدعوهم إلي الجنة ويدعونه إلي النار )) وكان قتله عند المساء وله ثلاثوتسعون سنة وقبره بصفين وصلي عليه علي عليه السلام ولم يغسله ، وكان يغير شيبه أييصبغ شعره ( أنظر مروج الذهب ج2 صـ379 تحقيق سعيد محمد اللحام . دار الفكر ) .


1- أنظر مروج الذهب ج2 صـ379 تحقيق سعيد محمداللحام . دار الفكر .

2- الطبري ج5 صـ41 .

3- المصدر السابق وابن كثير ج7 صـ271 .

4- انظر ما قاله بن كثير بهذا الصدد البدايةوالنهاية ج7 صـ279 وما يليها .

1- الطبري ج5 صـ48-50 ، وابن كثير ج7 صـ284 وما بعدها .

2- ابن كثير البداية والنهاية ج7 صـ284 ومابعدها .

1- مروج الذهب ج2 صـ387 .

2- أنظر بن كثير صـ284 وما بعدها، تاريخالطبري ج5 صـ50 .

1- ابن الأثير ج3 صـ318 ، وكذلك المصدر السابق ونفسالصفحة .

2- الطبري ج5 صـ51 .

3- أنظر مروج الذهب للمسعودي ج2 صـ388 .

1- الطبري ج5 صـ52 .

2- الطبري ج5 صـ54 .

1- ابن كثير البداية والنهاية ج7 صـ 285 .

1- مروج الذهب ج2صـ392 .

1- أنظر كتاب إتمامالوفاء في سيرة الخلفاء للشيخ محمد الخضري صـ235، 236، 237وهناك حوارات أخريللحكمين بصيغ متقاربة ومختلفة بعض الشيء أنظر حوار الحكمين للطبري ج5 صـ68 ،البداية والنهاية ج7 صـ293 وما بعدها ومروج الذهب ج2 صـ394 ، 395 .


1- الطبري ج5 صـ71 .

2- مروج الذهب ج2 صـ396 .

3- مروج الذهب ج2 صـ396 .

1- مروج الذهب ج2 صـ397 .

2- مروج الذهب ج2 صـ398 .

1- المصدر السابق صـ399 .

1- جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين صـ593،594 .

2- كان أبو موسيالأشعري من الشخصيات الوفية بالدين والمحببة إلي الصحابة فقد كان واليا علي الكوفةولم يشارك في تلك الفتنة وقد جاءه الدعاء يتلون منه الاستعداد للقتال مع عليّ فيواقعة الجمل فرفض أبو موسي أن يحرض الناس خوفا أن تسفك دماء المسلمين هدرا وذكرهمبقول النبي r في الفتنة القاعد فيها خيرا منالقائم فتكرهم الأشتر يتحدث مع الناس وصارع باحتلال دار الإمارة وعزله عنها وقالله أعتزل إمارتنا فأعتزل وأقام في قرية بعيدا عن الفتن وسفك الدماء فلما حدثالتحكيم واضطروا إلي اختيار القضاة فأختار أهل العراق أبا موسي الأشعري لصلاحهوتقواه وللحالة التي كان يعيش عليها فهو لم يخض الفتنة بل عاش معتزلا وقد زعمت بعضالروايات التاريخية الضعيفة أنه كان أبله ضعيف الرأي ) .


1- العواصم من القواصم صـ178 .

2- وهو حديث حسنكما جاء في الأحاديث الصحيحة 2/64 وأنظر العواصم من القواصم صـ181 .


1- أنظر تفاصيل ذلك في العواصم منالقواصم صـ172 .

1- الطبري ج5 صـ 78 .

2- المصدر السابق صـ84 .

3- المصدر السابق ونفس الصفحة .

1- أنظر العواصم من القواصم صـ168 ، 169الهامش .




hgYlhl ugd , luv;m wtdk