((مجلة المنار ـ المجلد [‌19 ] الجزء [‌ 8 ] ص‌ 501 ربيع أول 1335 ـ يناير 1917))

الحركة الطورانيةالجديدة في بلاد تركيا[*]

بقلم: د محمد زغروت , رحمه الله, والد مؤسس الموقع

ننقل هذه المقالة عن العدد 18 والعدد 19 من جريدة القبلة الغرّاء مع تصحيح بعض الألفاظ :

قرأنا في جريدة ( نبرإست ) الإنكليزية الصادرة في أول ذي القعدة مقالاً خطيرًا ( ؟ ) تحت عنوان الحركةالطورانية الجديدة فترجمناها ( ؟ ) إلى لغتنا العربية الشريفة ونشرناها على صفحاتالقبلة ، لعل فيها عِبرة ومُزْدَجرًا فإن أسرار الاتحاديين ، والحمد لله قد ذاعتوشاعت حتى أصبحت حديث الشرق والغرب . وإن وراءها لأشد منه أو أفظع ، وأدهى وأمرّ ،وسيعلم النازحون عن المملكة العثمانية من حقائق الاتحاديين الطورانيين ما علمهالعرب العثمانيون قبل ذلك بأعوام فاستعدوا للدفاع عن كيانهم وعن دينهم ، وبعضهمسادرون في غفلاتهم هائمون في أودية الأوهام والأضاليل ، وإليك ترجمة المقالالمذكور :

ظهرت في تركيا حركةجديدة عرفها القوم باسم ( يني طوران ) أعني طوران الجديدة ، وقد نبتت في الآستانةسنة 1331 ثم أخذت تنتشر في أجزاء كثيرة من السلطنة ، وقد امتازت هذه الحركة بكونهامقصورة على فئة مخصوصة غايتها توحيد القومية التركية بالعنصرية الجنسية دونالروابط الدينية الإسلامية . وإليك بيان الغايات التي ترمي إليها في مساعيهاوأعمالها :

أولها : أن تجعلالأتراك أمة قائمة بذاتها مستقلة عن الدين الإسلامي تمام الاستقلال حتى يتهيأ لهاأن تربي فيهم ذلك الشعور القومي الذي ذكره الدكتور ألفرد نونج في مقالة نشرها تحتتوقيعه في جريدة ( أندرنوخ ) الألمانية على إثر حديث دار بينه وبين زعماءالاتحاديين [1] .

ثانيها : ترقية الروحالعسكري التركي فقط [2] .

ثالثها : إنشاءالعلاقات التجارية وغيرها من الصلات بين مسلمي بلاد العجم الشمالية ( آذربيجان )وبلاد روسيا في آسيا والأجزاء الجنوبية منها.

رابعها : تطهير اللغةالتركية من الألفاظ العربية والفارسية ومن آداب هاتين اللغتين .

ولهذه الجمعية التركيةمَطمع آخر ترمي إليه وإن لم تجهر به رسميًّا وهو تتريك العرب وإدغامهم في التركحتى لا تبقى لهم قومية قائمة بذاتها . وأكبر آمال هذه الجمعية أن تجعل التركيالعثماني يعد نفسه تركيًّا قبل كل شيء ، وأما كونه مسلمًا فيعد عنده من المسائلالثانوية التي لا تهمه كثيرًا .

أما هذه الجمعية فإنهاتقوم بتلك الأعمال بإيعاز من السلطة الحاكمة التي تؤيدها بكل وسيلة ممكنة وتدفعلها كل ما يلزمها من المال لأجل بلوغ هذه الغاية ، وهم يسمونها ( ترك أوجاغي ) أي: جمعية الوطن التركي . وهي تقوم الآن بنشر دعوتها والقيام في أعمالها بهمة فائقة. أما الأطفال الترك فإن المدارس الطورانية التي شُرع في إنشائها كفيلة بأن تغرسفي نفوسهم تلك الروح التركية الجديدة.

وقد بذلوا غاية الجهدفي تدريس التاريخ القومي للطورانين ، وأفرغوا كل عناية لنشره في المدارس العالية ،وحضوا الطلاب على التنافس فيه والتهافت عليه ، وأخذوا بتأليف قوة كبيرة من فتيانهمسموها بالتركية ( إيزجي ) أي : قافة الأثر . ووضعوها تحت رعاية أنور باشا وهميدربونها على الفنون العسكرية حتى تكون قادرة على الانضمام للجيش العامل وتفوقغيرها من أبناء العناصر الأخرى كالعرب والأكراد واللاز ونحوهم , ولهذه القوةالصغيرة علامات مخصوصة وشارات معينة وألقاب معروفة ، وكلها تركية قديمة يرجعتاريخها إلى ما قبل العصر الإسلامي . أما الأولاد الذين أسماؤهم مأخوذة من العربيةفقد استبدلوا بها ألفاظًا تركية محضة بدعوة أن الكشافة تركية خالصة وأن أسماءهايجب أن تكون كذلك إتمامًا للقومية ورعاية للجنسية ، ومن الأسباب التي عملت علىإيجاد هذه الحركة أمور علمية ولغوية ؛ لأن الاتحاديين شرعوا في نقل كتب كثيرة منعلمية وتاريخية إلى لغتهم فكان لها في نفوسهم تأثير . وقد تفانوا في ذلك حتى عزمواعلى ترجمة القرآن الكريم إلى التركية واستعماله في العبادة بها لا باللسان العربي، ولكن العلماء المسلمين من جميع النِّحل حتى بعض التُّرك أنفسهم عارضوا في ذلكأشد معارضة .

وقد طبع الاتحاديونكتبًا كثيرة لتأييد المبدإ العُنصري ، ومن ذلك الروايات الكثيرة التي وضعوهاوأهمها ( يني طوران ) وهي الرواية التي كتبتها إحدى نسائهم المطالبات بحقوقالانتخاب واسمها ( خالدة خانم ) وقد حبَّذت فيها تلك الحركة الجنسية ونوهت بمطالبالسيدات وحقوقهن ، ولا ريب أن مثله مسألة المطالبة بحقوق النساء ، وما يقوم بهالأتراك من نشر دعوتهم والحث على العودة إلى مدينة طوران من شأنه أن يعيد إلىمخيلة الإنسان ذكرى ما هو معروف عن الأقوام الطورانية وما كانت عليه من الأحوالالاجتماعية ؛ لأن استبدادهم بالنساء وما ألحقوه بهن من ضروب القسوة والظلم يفوق مافعلته جميع شعوب الأرض في العصور المظلمة.

يقال : إن الحركةالتركية بدأت بالظهور تحت صور شتى وأسباب مختلفة أولها اللغة التركية ومحاولةكتابتها بما يخالف الأحرف العربية حتى تعذرت قراءتها على كثيرين . على أن هذاالأمر لا شأن لنا به على الإطلاق . وهنالك أسلوب آخر أعني به توطيد العلاقات معمسلمي روسيا والقوقاس دون غيرهم من سائر المسلمين بحجة أن هذه الأقوام ربما كانتمن أصل تركي أو أن تتريكها ممكن في الأقل ، ولكن ذلك لم ينقذهم من خطر الاندماج فيالعرب وخسران قوميتهم ما دام للإسلام سلطان على النفوس [3] ولذلك عالجوا أمرهمبإحياء اللغة التركية والسعي في استلالهم عن سواها.

أما الباحث الثالث الذيشدد عزائمهم فهو كتاب تلاه [4] الدكتور ناظم المرخص المسئول لجمعية الاتحاد فكانكالجذوة أصابت يابسًا ؛ لأنه أوقد في نفوسهم نار الحماسة والحمية . وذلك الكتابمؤلَّف تاريخي وضعه الموسيو ليون كوهين بالفرنساوي عن آسيا والأتراك في منغولياوأصلهم منذ سنة 1405 ميلادية ، وقد صدر ذلك الكتاب سنة 1896 . وبما أن الجمعيةالعلمية الفرنساوية قرظته وخصته بالعناية فقد حل عند الاتحاديين مكانًا رفيعًافنقلوه إلى التركية بعبارات بالغوا فيها ما استطاعوا ولم يلتفتوا ألبتة إلى صحةبعض الأحكام والآراء المذكورة في الكتاب بل عدّوا ذلك أمرًا ثانويًّا بالنسبةلخطتهم المرسومة . ومن البديهي أن من مقتضيات تلك الحركة استقلال العنصرية التركيةدون الإسلام تمام الاستقلال وانفصالها عنه أشد الانفصال ، وإن ذلك لأمر خطير عندالمسلمين وغيرهم من الدول العظمى مثل روسيا وفرنسا وإيطاليا وإنكلترا ؛ لأن لهذهالدول عددًا كبيرًا من الرعايا المسلمين ، وذلك ما يجعل لهذا الانقلاب أهمية كبيرةفي الشرق والغرب.

وهذه الحركة كما يقولون، مقصورة على جمعية الاتحاد والترقّي ومبنية على نظرات أستاذهم المجري فمبري لماعلق في ذهنه من المزاعم القديمة البالية من أن الإسلام ينافي الوطنية [5], ويزعمالاتحاديون أن الإسلام باختلاطه مع التقاليد والمؤثرات العربية والفارسية واليونانيةوالبيزنطية قد حوَّل الترك إلى عنصر شرقي مسلم ليس له مدنية ( كلتور ) خاصة به ،وهم يقولون : إن هذه الحقائق تحملهم على الاهتمام بمصيرهم والتفكير في عاقبة أمرهموزيادة العناية في تمييز الحياة الوطنية التركية عن الإسلام .

أما تيار المهاجرةالتركية فقد بدأ منذ أوائل عهد النصرانية في آسيا من بلاد الصين والأكسوس . وكانتديانتهم في ذلك الزمن على افتراض أنهم كانوا يدينون بدين خاص ما يسمونه اليوم (السامانزم ) أي : العبادة الوثنية [6] . وكانت مدينتهم مؤلفة من المبادئ البسيطةالمعروفة عند القبائل الرحّالة المنتشرة في أواسط آسيا كما يقضي بذلك مركزهمالجغرافي وحالتهم الاقتصادية والمحيطة بهم . ولم يكن لهم من المزايا غير الصفاتالحربية ، ولم يكن لهم من الشرف القومي أيضًا سوى ما يستعيرونه من شرف الأمة التيتستخدمهم بالدراهم للمحاربة في صفوفها ، وكانوا يُعرَفون بالطاعة لكل من أطعمهموتولى قيادتهم في ساحة القتال . ولا مُشاحّة أن التركي لم يستطع تجوُّز تلك الحدودمن تِلقاء نفسه . ولم يكن للتركي دين خاص به ولم يعمل شيئًا لترقية شئونه وبلوغدرجة رفيعة من المدنية ، ولم يحاول الترك قط أن يمتزجوا ببقية أجناس قومهم ، وإنكان جنكيز المغولي قد حدّث نفسه بهذا الأمر وجعله نُصْبَ عينيه وأكبر آماله . ولميكن التركي يقتبس من المدنية إلا ما تلجئه الأحوال الضرورية إليه لاحتكاكه بهاكرهًا كما وقع له مع المدنية الصينية فالفارسية فالعربية فالرومية فالألمانية .ولا يقع في وهم أحد أن ما استعاره التركي من مدنيات أولئك ولا سيما مدنية الإسلامقد حال دون بلوغه ( كلتور ) مدنية خاصة به [7] وأن التركي لم يُظهر في عصر منالعصور مقدرة خاصة أو استعدادًا طبيعيًّا لأجل النهوض وإظهار مدنية يستقل بها عماكان يقترضه اقتراضًا ويقلده تقليدًا مضحكًا.

وفي الحقيقة أنالعثمانيين من بين قبائل التركمان أقل الناس لياقة لتمثيل أمة يدلك على ذلك أنالأناضول عدا ما فيه من قبائل اليودوك والتركمان خالٍ من آثار القبائل التركيةالأصلية ؛ لأن القومية التركية فيه ليست إلا لفظة أوجدتها الأحوال السياسية . وليسالدم التركي فيها سوى قطرة صغيرة في بحار تلك الدماء المتحدرة من الأقوام والشعوبالقديمة الراجعة في تاريخها إلى ما وراء تأسيس القسطنطينية بأجيال كثيرة كاليونانالقدماء والفريجيين والغلاطيين والآشوريين والكاريانس والحيثيين ، وتلك الدماء هيالتي تحركت في أعصاب ذلك المزيج المسمى بالعثماني فأوجدت فيه ميلاً للزراعة وحرثةالأرض ، ولا سيما العناية بالبحرية في القرن السادس عشر . وقد كان من جملة العواملالتي حفظت وجود الأتراك حتى اليوم بصفة شعب معروف أمران : الدين والطاعة العسكرية. فإذا ذهب الإسلام من تركيا ، فماذا عسى أن يبقى لها . وقد أجاب عن ذلك أصحاب (قوم جديد ) فقالوا : إنه سيبقى لهم أتراك طوران والإسلام بصورة جديدة فيكون دينًاوطنيًّا أهليًّا . على أن شعب طوران لم تظهر عليه دلائل الابتكار والاختراعفيستطيع قلب الإسلام رأسًا على عقب وجعله كما تشاء عنصريته الطورانية : وكما يزعمأقطاب القوم الجديد ، وكل ما في الأمر أن للطورانيين سبقًا في التدمير والتخريبوالقتل كما فعل جدهم هولاكو فقد دمر الترع المائية التي كانت في العراق وجعل بقاعهالمخصبة مجدبة حتى اليوم . أما الطورانيون العثمانيون فقد نسفوا المدنية البيزنطيةالزاهرة ، ومثلهم جنكيز السفاح الذي ملأ بُخارى بغيًا وظلمًا وقد لا يصدق الناس أنتيمور كان من الفرسان وأن جنكيز من أقطاب السياسة.

ولقد أفاض المسيو كوهينفي وصف المزايا العسكرية الطورانية ، ولكنه لم يذكر شيئًا عن فظائعها إلا أنالدكتور بيسلر أصلح ذلك الخطأ فبين ما كانت تستعمله تلك البطون الطورانية من ضروبالقسوة والظلم مع جميع الأمم الخاضعة لأحكامهم ، وليس للتركي لذة أو اهتمام خاص فيالأمور الدينية ؛ ولذلك لم يبذل شيئًا في خدمة الإسلام الذي جمد بين يديه فلميتقدم خطوة ؛ ولذلك يستصعب العارفون قدرة ( قوم جديد ) على جعل الإسلام تركيامحضًا .

ومما لا ريب فيه أنالتركي يخاف العرب أشد خوف ويدأب في استعمال كل الوسائل لجعلهم أتراكًا ومحوقوميتهم تقليدًا لما فعله شولرويك هولستين مع ولايات الدانمرك التي انضمت لألمانيا. ولقد صرح بذلك جلال نوري بك في أحد كتبه فقال : ( إن البلاد العربية بأسرها ولاسيما العراق واليمن يجب أن تكون تركية في اللغة والجنس ، وأن تكون لغة الدين عندهمتركية أيضًا ، والإسراع في تتريك البلاد العربية من أهم الأمور لحفظ وجودنا ؛ لأنروحًا جديدة بدأت تدبّ في نفوس العرب ورجال نهضتهم وأخذت تهدد وجودنا السياسيبضربة تقضي علينا قضاء مبرمًا ، فالضرورة -والحالة هذه- توجب علينا أن نكون علىتمام الأُهبة والاستعداد لاتقاء هذا الخطر ) . وكتب أحمد شريف بك في جريدة طنين مايأتي : ( يتحدث العرب كثيرًا في هذه الأيام عن نفسهم وقوميتهم ، وهم يجهلون اللغةالتركية جهلاً تامًّا كأن بلادهم ليست خاضعة للأتراك ، فالواجب يقضي على حكومةالباب العالي أن تهتم اهتمامًا فعليًّا في جعلهم ينسون هذه النغمة وتضطرهم لتعلماللغة التركية الرسمية . فإذا أهمل الباب العالي ذلك كان كمن يحفر قبره بيديه.وإذا بقي العرب على يقظتهم هذه فلا يبعد أن يهبوا لاسترجاع ملكهم ، وفي ذلك القضاءعلى السيادة التركية في آسيا ) وهنالك أدلة أخرى عديدة على أن الأتراك يسعون بكلجهدهم للقضاء على أمة شريفة كالأمة العربية ومحو أثرها من عالم الوجود ، ولكنالحلفاء يدافعون عن مبدأ القومية ويؤيدونه ، وهم لا يسمحون بفناء أمة كريمة تريدالبقاء ولا سيما إذا كانت أمة أخرى طاغية تريد سحقها . وذلك ما يجعل ميول الحلفاءعربية محضة وهو أمر لا يرتاب فيه أحد من المسلمين المتمتعين بالعيش في ظل إنكلتراوفرنسا . فالحلفاء أنصار العرب ، وهم يسعون لتأييدهم ؛ لأنهم أصحاب الدين الإسلاميالحنيف ، ومنهم النبي الأعظم -صلى الله عليه وسلم- وفوق ذلك كله فإن هنالك صلةقرابة بين العرب والمسلمين التابعين لحكومة فرنسا في شمال إفريقيا اهـ . ________________________
(*)
قد لخص هذه المقالةصاحب المقتطف ناسبًا إياها إلى أحد أدباء الإنكليز وأبقى كلمة الطورانية بالتاء .
(1)
عبارة المقتطف : وهذهالعبارة هي عبارة الدكتور ألفرد نوسيج من حديث دار بينه وبين زعماء الاتحاديينونشر في جريدة درتاج الألمانية اهـ .
(2)
ترقية الروح العسكريةبين الترك أهم .
(3)
عبارة المقتطف : وإلالابتلع العرب الترك العثمانيين في آخر الأمور ولو فاز هؤلاء باستخدام الجامعةالإسلامية لبلوغ غاياتهم .
(4)
أي : اطلع عليه وقرأه .
(5)
عبارة المقتطف : ويقالأن أحرار الترك يميلون إليها بوجه خاص بناءً على القاعدة التي وضعها فمبيرياليهودي المجري المعروف وهي أن (لا وطن في الإسلام).
(6)
المقتطف : كانت القبائلالتركية تقطن بلاد آسية من حدود الصين إلى نهر جيجون (أوكسوس أو موداريا كما يسميهالتتر) وكانت ديانتها - إن كان لها ديانة- ما يسمى (بالشامانية) أي عبادة قوىالطبيعة بالشعوذة والسحر .
(7)
كذا في القبلة والمراد: دون إنشائه مدنية خاصة .


((مجلة المنار ـ المجلد [‌ 19 ] الجزء [‌ 8 ] ص‌ 501 ربيع أول 1335 ـ يناير1917))







hgpv;m hg',vhkdm hg[]d]m td fgh] jv;dh