المراحل الأولى لكتابة التاريخ الإسلامي و منافذ تسريب الفكر اليهودي إليه

بدأ اليهود تسريب أفكارهم إلى التاريخ الإسلام منذ إشراقةشمس الإسلامى على الدنيا ، إذ تخللت مراحل نشأة التاريخ عند المسلمين بعض الثغرات كانتبمثابة منافذ اندلف منها الفكر اليهودى إلى عقول بعض المسلمين العاملين فى كتابة التاريخمما أثر تأثيرا كبيرا فى طريقة نقل الخبر وفى صحته وتفسيره ، وإن كانت مظاهر هذا التأثيربدأت مبكرة حيث سادت أفكار أهل الكتاب قبيل ظهور الإسلام ، فإن الدعوة الإسلامية قدأبطلت مفعولها وحصرتها فى نطاق ضيق ، بل من المأثور فى هذا الصدد أن الرسول (ص) كان يدعو المسلمينإلى تعلم العبرية فقد قال لزيد بن ثابت "تعلم كتاب يهود فإنى ما آمنهم على كتابى"كما أمره بتعلم السريانية فتعلمها (1) .


من هذا المنطلق عاش الرسول (ص) وجيل الصحابةرضوان الله عليهم من بعده يتصدون لهذا الفكر الدخيل ، ولكن بعدما اتسعت رقعة الدولةالإسلامية الناشئة وظهرت الفرق السياسية والدينية وانقسم المسلمون إزاءها بين مؤيدومعارض اندس أفراد من اليهود بين هذا وذاك مما أتاح الفرصة لبعض من الأفراد والفئاتأن تروى الأخبار الفاسدة أو تضع الأحاديث التى تخدم فكرتهم أو مذهبهم السياسى ، أو تبغى من ورائه فسادا فى الدين وخاصةإن وضعنا فى الاعتبار أن بعضا من هؤلاء الداخلين فى الإسلام لم يكن قد حسن إسلامهم، بل كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الزندقة .


من هنا ظهرت مؤثرات الفكر اليهودى مبكرة على بعض من كتب التاريخمما أدى إلى إفساد الخبر ، والخبر الفاسد كاللقمة الفاسدة إذ غزا العقلية المسلمة آنذاكثم تناقلته أجيال المؤرخين دون وعى أو تبصر حتى وصلت إلينا بعض تلك الأخبار الفاسدةكحقائق تاريخية مسلم بها ومن ثم بنى بعض المؤرخين المحدثين عليها أغلب كتابتهم التاريخية. ولكى ندرك أبعاد وحجم تلك المشكلة فى تراثنا الإسلامى يفضل أن نتعرف على منافذ الفكراليهودى التى تسربت من خلالها سموم أهل الكتاب إلى تاريخنا الإسلامى ، وهى منافذ صاحبت- فى غفلة من المسلمين - مراحل نشأة علم التاريخ الثلاث على النحو التالى :


أولا مرحلة الروايةالشفهية :



ظهرت هذه المرحلة مع بداية تكوين الدولة الإسلامية وإن لميكن هناك تسمية واضحة لعلم التاريخ آنذاك شأنه فى ذلك شأن سائر العلوم ، فقد ظهرت الحاجةإلى جمع معارف عن البلدان التى تم فتحها على أيدى المسلمين ، وذلك للتعرف على ثقافاتهاوعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها قبل الإسلام ، ومن ثم يتمكن الخلفاء من وضع النظم والأساليباللازمة لإدارة البلدان وجباية الأموال وصرفها ، ومن هنا ظهرت وظيفة المؤرخ الذى اقتصردوره على جمع روايات عن تلك الشعوب اختلط أغلبها بأساطير الأولين وأخبار اليهود وأحبارهموالنصارى ورهبانهم ، وكان جلُ هذه الروايات تتناقل مشافهة دون أدنى تمييز يفرق بينالخبر الصادق أو الخبر الكاذب .


وعلى الرغم من أن هذه المرحلة الشفاهية من التاريخ قد صاحبتالدعوة الإسلامية منذ اشراقتها ، إلا أنه ظهر لون من المعرفة صاحب تلك المرحلة المبكرةوهو "القصص" الذى بدأ فى أول الأمر سامى الهدف ، ثم سرعان ما أصبح منفذامن أسهل المنافذ التى سرب اليهود من خلالها فكرهم السقيم إلى عقول بعض المسلمين آنذاك.


وقد بدأ القصص فى عهد عمر بن الخطاب (2) ، وكانينطلق من مفهوم القصص فى القرآن الكريم الذىتناول قصص الأنبياء والمرسلين والأمم القديمة بهدف الوعظ والإرشاد وتذكير الناس بالآخرة، من هنا كان القاصُّ واعظا ومؤرخا لأنه استعمل مادة القصص فى وعظ الناس وهدايتهم عنطريق أخبار الأمم السابقة ، وكان غالبا ما يمارس القاص مهمته فى المسجد حيث يلتقى بعامةالناس وغالبا ما كان يحضر الخلفاء هذه الحلقات فيسمعون منه ويتأثرون لكلامه حتى يجهشوابالبكاء وتفيض أعينهم بالدمع حتى تبلل لحاهم .


ثم انتشر هذا اللون بعد ذلك فى العصر الأموى انتشارا كبيراواتخذ مسحة سياسية لتعضيد سياسة الحكم الأموى ، فقد روى عن معاوية بن أبى سفيان أنهكان يستمر إلى ثلث الليل فى قراءة أو سماع أخبار العرب وأيامها ، والعجم وملوكها وسياستهاوغير ذلك من أخبار الأمم السالفة ، فإذا أصبح يأتيه غلمان بكتب يقومون على حفظها ويقرءونله مما فيها من سير الملوك وأخبار دولهم(3) .


وقد أفاد هذا اللون من القصص ثراء فى الفكر الإسلامى قبلأن يحيد عن مساره وأهدافه السامية ، إذ صارت مجالس القصاصين حلقات علمية لدراسة القرآنالكريم والحديث النبوى الشريف واللغة العربية ، كما نشطت العقلية المسلمة ودربتها علىالجدل الذى نشط آنذاك لمناقشة النصارى واليهود من جهة ومناقشة الفرق الإسلامية من جهةأخرى ، ولا غرو فى ذلك فقد كان الحسن البصرى من أشهر قصاصى المسلمين ، إذ خُصص له مجلسفى مسجد البصرة كان يغشاه العلماء وطلاب العلم من كل فج لطلب المعرفة ومدارسة الجدلالعقلى الذى عرفت به مجالس ذلك الرجل والتى ساهمت فيما بعد فى التمكين لمدرسة المعتزلة(4).


وبمرور الوقت انحرف القصص عن مقصده إذ دخل فى زمرة القصاصينذوو الأغراض الخبيثة ممن أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر والزندقة وأغلبهم من أهل الكتابالذين لم يحسن إسلامهم بعد واتخذوا من امتهانهم للقصص منفذا خطيرا تسربت من خلاله الأساطيراليهودية والمسيحية التى عكرت على المسلمين صفو عقيدتهم الغراء ، إذ سارع بعضهم لوضعأحاديث مزيفة نسبوها إلى الرسول (ص)بقصد الترغيب والترهيب أو لمساندة فرقة سياسيةضد الأخرى الأمر الذى أدى إلى فساد الخبر أو الرواية التاريخية ، فإذا وضعنا فى الاعتبارأن هذه المادة الشفوية كانت الأساس الذى بنى عليه أغلب المؤرخين أخبارهم وتأريخهم فيمابعد لأدركنا خطورة ذلك المنفذ الذى أطل منه الفكر اليهودى على تاريخنا الإسلامى فىمرحلة نشأته المبكرة ، ويكفينا فى هذا الصدد أن نستعرض أشهر الأسماء التى باشرت مهمةالقصص إبان تلك المرحلة .


- تميم الدارى:


يعد أول قاص فى الإسلام ، وكان نصرانيا ثم أسلم عام 9ھ ،وقد شُهد له بمكانته الدينية عند نصارى نجران إذ أطلقوا عليه "راهب أهل عصره"، وتشير بعض المراجع إلى أنه هو الذى ألح على عمر بن الخطاب أن يقص على المسلمين ،ولكن عمر رفض مطلبه ، وقد كرر المحاولة ونجح فيها فى عهد عثمان بن عفان(5). ولعل نزعته إلى الترهيب والوعظ التى هى من بقايا المسيحية هى التى دفعته إلى ذلك.


- وهب بن منبه:


هو من أصل فارسى ، قد ارتحل إلى اليمن مع جيش كسرى الذى أرسلهلمساعدة سيف بن ذى يزن لاسترداد ملكه من نجاشى الحبشة ، ثم استقر به المقام فى اليمن، وقد عرف عنه أنه كان واسع الإطلاع والثقافة على كتب اليهود والنصارى وكان يجاهر بذلكقائلا : "سمعت اثنين وتسعين كتابا كلها أنزلت من السماء ، اثنان وسبعون منها فىالكنائس وعشرون فى أيدى الناس لا يعلمها إلا قليل"(6) .


- كعب الأحبار:


كان من أصل واسمه "كعب بن ماتع" ارتحل من اليمنواستقر به المقام فى المدينة المنورة حيث أشهر إسلامه فى عهد أبى بكر ويكنى بأبى إسحاق، وهو مطعون فى عقيدته عند أغلب الثقات من علماء المسلمين ويعتبرونه المورد الأول لأغلبالإسرائيليات التى غصت بها كتب التراث الإسلامى إذ كان الرجل داهية يملك من اللباقةوسرعة البديهة وغزارة المعلومات التى استمدها من التوراة والأناجيل وشروحهما ما مكنتهمن أن يجذب إليه بعض علماء المسلمين الذين أخذوا عنه دون دراية أو حيطة مثل "الكسائى"الذى أخذ عنه فى كتابته عن قصص الأنبياء ، ومثل المسعودى الذى تأثر به أيضا فى كتابتهعن سِيَر الأنبياء ومبتدأ الخليقة ، وقد أشار "ابن سعد" فى طبقاته الكبرىإلى جرأة ذلك الرجل إذ كان يجلس فى المسجد وأمامه أسفار التوراة يقرأها غير متحرج منذلك(7) ومن طرائف ذلك الرجل أنه قال لعمر بن الخطاب ذات يوم: إنك ميت بعدثلاثة أيام ، فيقول له عمر : وما أدراك ؟ فيقول: أجده فى كتاب الله عز وجل فى التوراة، فيقول عمر فى دهشة : إنك لتجد عمر بن الخطاب فى التوراة ؟ فيقول كعب : اللهم لا ،ولكنى أجد صفتك ولحيتك ، وأنه قد فُنى أجلك"(8) . هذا وإن كان بعضالمؤرخين المسلمين قد نقل عن كعب الأحبار رواياته وإسرائيلياته دون تمحيص ، فقد تنبهالكثيرون لمرامى الرجل وامتنعوا عن الرواية له مثل ابن قتيبة والنووى ، ومنهم من روىعنه بتحفظ شديد مثل ابن جرير الطبرى .


وهكذا كانت روايات القصاص هى المادة التاريخية الأولى التىسادت المرحلة الشفهية من نشأة علم التاريخ عند المسلمين والتى بنى عليها بعض المؤرخينتأريخهم الإسلامى فيما بعد ، وهى مرحلة - كما علمنا - محفوفة بالأخطار ، محدقة بالبدعوالأساطير والخرافات التى نقلها هؤلاء القصاص عن الفكر اليهودى والمسيحى والتى كانمن أبرز نتائجها تلك الإسرائيليات التى تفشت فى بعض كتب التاريخ التى دونت بعد ذلك.




ثانيا: مرحلة التدوينالتاريخى :



شهد القرن الأول بعد الهجرة شيئاً من تدوين الأخبار المختلفةعن العرب الجاهلية والأمم المجاورة لهم متأثرة بأفكار أهل الكتاب مثل كتابى "وهببن منبه": قصص الأنبياء ، وقصص الأخبار ، ومثل كتابى "عبيد بن شريه":أخبار الملوك ، وأخبار الماضين . ثم أعقب هؤلاء كتّاب مهدوا للكتابة التاريخية منهم: محمد بن السائب الكلبى توفى "146ھ - 763م" ، وابنه هشام الكلبى توفى"204ھ - 819م" ، وأبو مخلف الأزدى توفى "157ھ - 773م" ، والمدائنىتوفى "225ھ -839م"(9) .


أما التدوين التاريخى المنظم الذى أصبحت فيه المادة التاريخيةالمدونة مادة علمية لتفسير التاريخ فلم تكن موجودة آنذاك فى أغلب المؤلفات السابقةوأمثالها، وإنما ظهرت تلك المرحلة مع بداية تدوين كل من القرآن الكريم والحديث النبوىالشريف ، من هنا كان للإسلام أثره الفعَّال فى ظهور علم التاريخ المدون والذى تطورفى كنف القرآن والسنة حتى صار علماً قائماً بذاته على النحو التالى :


أ- التاريخ وتدوين القرآن الكريم:


أفاد تدوين القرآن الكريم التاريخ الإسلامى إفادة كبيرة بمافيه من معنى للتاريخ يركز على عنصرى الزمان والإنسان باعتبارهما معاً موضوع التاريخالذى هو خلاصة التجربة الإنسانية حيث اشتمل على أخبار العرب قبل الإسلام مثل عاد وثمودوغير العرب مثل فرعون وذى القرنين ، كما اشتمل على قصص الأنبياء والحكماء وأخبار ملوكاليمن وأصحاب الفيل إلى غير ذلك من أخبار تلقى ضوءاً على تجربة تلك الأمم عبر التاريخ"والتى ارتبط فيها الماضى بمسئولية العمل الصالح ، كما ارتبط فيها المستقبل بغائيةمحددة بالبعث والخلود ، وبين الماضى والمستقبل يمتد تاريخ الإنسانية على الأرض"(10).


وعلاوة على هذا المفهوم المحدد لمعنى التاريخ فى القرآن الكريم، فقد ساهمت عملية تدوين القرآن فى إيجاد منهجية لعلم التاريخ تتميز بالدقة التامةفى نقل الخبر ، فهو كتاب الله أنزله على رسوله لفظاً ومعنى وقد دون بطريقة سليمة كفلتله بجانب حفظه فى الصدور سلامة الخبر وصحته ، كما وأنه يُعد من أهم المصادر الوثيقةالتى ألقت ضوءاً واضحاً على حالة المجتمع الأول فى الدولة الإسلامية إبان عصر الرسول(ص) حيث وردت فيهإشارات عن الرسول والصحابة وما اعترضهم من عقبات ومشاكل .


كما ساعد تدوين القرآن على انتشار الخبر التاريخى المتعلقبالصحابة والتابعين الذين إنساحوا فى أرض الإسلام لتفسير القرآن وشرح معانيه التى استغلقفهمها على الكثيرين ، الأمر الذى ساعد على انتشار عدد من التفاسير ، واتساع كبير لأفاقالمعرفة التى تتطلبها تلك التفاسير كالإلمام بعلوم اللغة العربية وآدابها وأشعارها، ووضع أصول الفقه ، وكل ذلك ساعد بلا شك على اتساع حركة التأريخ فيما بعد(11) .








ب- التاريخ وتدوين الحديث الشريف:


كما استفاد التاريخ من تدوين القرآن الكريم ، فقد استفادأيضا من تدوين الحديث النبوى الشريف ، فقد كان كل من التاريخ والحديث يهدفان إلى دراسةأقوال النبى (ص) وأفعاله ، واعتمدا معاً على الرواية الشفهية ، لذا قيل إنالتاريخ والحديث كل منهما "دراية ورواية" وذلك لاعتماد كل منهما على نفسالمصدر والمنهج ، حيث كان الجيل اللاحق يعتمد على روايات الجيل السابق ، كما وأن المتنفى كل منهما كان مسبوقا بالسند أو الإسناد . من هنا كانت طبيعة علم التاريخ فى تلكالمرحلة المدونة لا تختلف عن طبيعة علم الحديث سوى فى الهدف ، فإن كان علم الحديث يعتنىبالفقه فإن علم التاريخ يعتنى بالروايات التى تتجه إلى سرد الحوادث(12) .


لذا نشأ علم التاريخ الإسلامى المدون مرتبطا بتدوين الحديثجنبا إلى جنب فى كتب واحدة أطلق عليها "كتب المغازى والسير" وهى التى تجمعسيرة الرسول (ص) وغزواته وحروبه فى الجزيرة العربية وبلاد الشام ، وتجمعأخبار هجرة المسلمين إلى الحبشة وإلى المدينة . من هنا كانت كتب المغازى أول خطوة حقيقيةنحو الكتابة التاريخية . ومن أقدم كتاب المغازى والسير الذين جمعوا بين الحديث والتاريخ:"عروة بن الزبير" توفى 92ﻫ ، و"أبان بن عثمان بن عفان" توفى سنة105ﻫ ، و"شرحبيل بن سعد" توفى 123ﻫ ، و"وهب بن منبه" توفى 110ﻫالذى ينسب إليه كتاب "المبتدأ" تحدث فيه عن مبتدأ الخلق ، وقصص الأنبياء، وقد أخذ عنه الثعلبى فى كتابه "عرائس المجالس فى قصص الأنبياء"(13) .


أما أشهر كتاب المغازى: محمد بن مسلم الزهرى توفى 124ﻫ الذىاتصل بالخلفاء الأمويين وكلفوه بتدوين الأخبار ، وكتب منها مجلدات كثيرة كانت هى المادةالتى استعان بها تلاميذه فى كتابة التاريخ ومن أشهرهم: "محمد بن اسحق" المتوفىعام 151ﻫ الذى اتصل بالخليفة المنصور العباسى ، وألف له كتابا فى المغازى لم يصل إليناكاملا ، وقد عرفناه فى كتاب سيرة ابن هشام بعد أن أدخل عليه تعديلا(14).


ثم جاء "محمد بن عمر الواقدى" توفى 207ﻫ والذىيُعد من تلاميذ "ابن إسحق" وهو من سكان أهل المدينة وقد توثقت صلته بالخليفةالمأمون العباسى . وله باع طويل فى العلم والتأليف ، ومن أهم كتبه التاريخية"كتاب المغازى" ، ثم جاء من بعده كاتبه "محمد بن سعد" المعروفبكاتب الواقدى توفى 230ﻫ وهو صاحب كتاب "الطبقات الكبرى" ويعد من خيرة الكتبالتى ترجمت لصحابة النبى والتابعين ، كما تعطينامعلومات وفيرة عن رسائل النبى وسفاراته وصفة أخلاقه وعلامات نبوته (15) .


وعلى الرغم من البداية المبكرة لتدوين السنة ، إلا أنها تعرضتللدس من ذوى الميول والأغراض المختلفة إذا أدخلوا عليها أحاديث موضوعة تخدم أغراضهم، وقد أثر ذلك بطبيعة الحال على صحة الخبر أو الرواية التاريخية ، وهذه الظاهرة واضحةوغير خافية على الباحثين فى هذا المجال . وإن كانت تلك الظاهرة قد بدأت فى عهد الرسول(ص)إلا أنها استشرتمنذ الفتنة الأولى زمن "عثمان بن عفان" وما أعقبها من صراع بين على ومعاوية، إذ كثر وضع الأحاديث التى تؤيد طرفا على الأخر ، كما كانت للفرق السياسية والخصومةالمحتدمة بين زعمائها من عباسيين وفاطميين وأمويين أثرها الواضح فى وضع الأحاديث التىتعضد أحقية كل طرف فى تولية الخلافة والحكم .


أما الفرق الدينية فهى الأخرى قد ساهم بعضها فى ظاهرة الأحاديثالموضوعة لتعضيد رأيها وتأييد مسلكها ، ونظرة يسيرة إلى كتب المرجئة والباطنية والصوفيةوالخوارج توضح لنا أنها احتوت على الكثير من الأحاديث الموضوعة التى لا يليق انتسابهاللرسول وخاصة تلك التى تتصل بمسائلالعقيدة .


ولم يقتصر الأمر على أصحاب الفرق الدينية والمذاهب السياسيةفى وضع الأحاديث وإنما لجأ إليها بعض الأتقياء والزهاد ظانين - جهلا - أنهم بذلك يخدمونالإسلام ومن أمثال هؤلاء "نوح بن مريم" وهو من الفقهاء المحدثين فى خلافةأبى جعفر المنصور ، حيث روى كثيرا من الأحاديث فى فضائل السور، واعترف بأنه وضعها تقربالوجه الله وذلك ليصرف الناس إلى قراءة القرآن الكريم(16) .


ولعل ظاهرة وضع الأحاديث والتى تسمى بالإسرائيليات كانت منأشد المنافذ التى ساعدت على تسريب الفكر اليهودى إلى الحديث النبوى والتاريخ الإسلامى، قام به الزنادقة الذين أظهروا الإسلام وأضمروا فساده وكان أغلبهم من اليهود الحاقدينعلى الإسلام ، ومن هؤلاء على سبيل المثال "عبد الكريم بن أبى العوجاء" الذىاتهم بالمانوية ، فقد دفعه خبثه أن يخترع للأحاديث التى يزيفها أسانيد محكمة قد ينطلىاكتشافها على غير المتخصصين فى حقل دراسة الحديث ، وقد اعترف ذلك الزنديق المزيف عندماسيق لضرب عنقه بأنه وضع أربعة آلاف حديث من بنات أفكاره حلل فيها ما شاء وحرم فيهاما شاء(17) .


وقد كان لتلك الظاهرة التى عبثت بأحاديث الرسول (ص) رد فعل كبير دفعالعلماء الغيوريين على الدين والعقيدة أن يقوموا بتدوين الحديث النبوى الشريف وتنقيتهمن هذه الإسرائيات ، ومن هنا ظهر التدوين المنظم لعلم الحديث فى بداية القرن الثالثالهجرى تقريبا ، والتى برزت كظاهرة طيبة فى تحرى صحة الخبر المتمثل فى سلسلة الإسناد، وقد ظهرت خلال هذا القرن مجموعات من كتب الصحاح من أهمها: صحيح البخارى توفى 256ﻫ، صحيح مسلم توفى 261ﻫ ، وسنن أبى داود توفى 275ﻫ ، وسنن الترمذى توفى 279ﻫ ، والنسائىتوفى 303ﻫ ، وسنن ابن ماجة 275ﻫ (18) .

























ثالثا : مرحلةالتاريخ العام:



كانت كتب المغازى والسير التى سبق الحديث عنها مرحلة ممهدةلظهور كتب التاريخ العام ذات النظرة الشمولية التى تشتمل على أحوال الأمم والبلاد ،وقد التزمت منهجا ثابتا فى أغلب المؤلفات آنذاك ، إذ أنها تتناول تاريخ الإنسان منذبدأ الخليقة مصحوبا بقصة الخلق للسموات والأرض والماء والهواء والنور والظلام وسائرالمخلوقات ثم الحديث عن أنبياء بنى إسرائيل ، ثم العرب الجاهلية ، والسيرة النبوية، ثم تتحدث عن الفتوحات والمغازى وأخبار الصحابة والتابعين إلى غير ذلك من أحوال الأمموالشعوب . وقد تأثر كتَّاب التاريخ فى بداية هذه المرحلة بكتب التاريخ الفارسية التىنقل بعضها إلى اللغة العربية مثل كتاب "سير ملوك العجم"(19) الذىعربه ابن المقفع المتوفى عام "140ھ - 757م" . ومن أقدم كتب التاريخ العامفى ديار المسلمين(20) أيضا :


- كتاب المعارف لابن قتيبة الدينورى توفى "276ھ -889م" ، وقد بدأه بموجز عن مبدأ الخليقة ثم الرسل ثم العرب الجاهلية ثم السيرةالنبوية والفتوحات والمغازى وأخبار الصحابة والتابعين والعجم . ومن كتب ابن قتيبة أيضا"الإمامة والسياسة" و"عيون الأخبار"


- كتاب "البلدان" و" كتاب التاريخ "لليعقوبى توفى "284ھ - 897م" ، وقد جاء كتابه الأخير فى جزأين: الأول فىالتاريخ العام القديم على نحو ما فعل ابن قتيبة ، والثانى فى تاريخ الإسلام وقد رتبهحسب ظهور الخلفاء إلى عصر المعتمد على الله العباسى عام 259ھ .


- كتاب الأخبار الطوال للدينورى توفى 282ھ - 895م . بدأه بالحديث عن آدم عليه السلام إلى نهاية حكميزدجرد متناولا ذكر ملوك قحطان والروم والترك ، ثم تحدث عن خلفاء المسلمين إلى أخرأيام المعتصم متناولا ثورة بابك الخرمى وحروبه كما وأنه فصل القول فى أخبار بنى أميةعند الحديث عن أخبارهم .


- كتاب " تاريخ الرسل والملوك " لأبى جعفر بن جريرالطبرى توفى 310ھ -922م . وقد بدأه بمبدأالخليقة ثم انتهى منه إلى عام 202ھ ، وقد رتب أحداثه حسب السنين الهجرية "الحوليات"واتبع فيه طريقة الإسناد على نحو ما يفعله رواة الحديث . وقد اعتمد على هذا الكتابجُلة من المؤرخين أمثال : ابن مسكوية وابن الأثير ، وابن خلدون ، وأبو الفداء والذهبى.


- " مروج الذهب ومعادن الجوهر " للمسعودى توفى346ھ - 957م . وهو من المعتزلة الذين اعتنوا بالعلم ، وقد جاء كتابه جامعا بين التاريخوالجغرافيا ، وكان على قدر كبير من الأهمية ، إذ جمع فيه بجانب التأريخ للمسلمين تواريخالهند والفرس والروم واليهود . وهناك كتب أخرى يضيق بنا المقام عن ذكرها . وإنما أودأن أركز على نقطتين مهمتين فى كتب التاريخ العام :


الأولى: تحررت هذه الكتبمن أساليب المحدثين المعتمدة على سلسلة الإسناد كما كان الحال فى كتب المغازى والسير، إذ أصبحت وحدها غير كافية لكتابة التاريخ الإسلامى وذلك لتطور الحياة السياسية والاجتماعية، بينما أصبح رجال البلاط وحاشية الخلفاء والملوك والقادة ورجالات الحرب والسياسة أفضلمصدر عند المؤرخين آنذاك لتلقى الخبر التاريخى . والدليل على ذلك أن الجزء الأخير منكتاب الطبرى غير كاف عند المؤرخين لضعف مادته ، إذ افتقر فيها لأحاديث تسند فكرته.


الثانية: وهى نتيجة مترتبةعلى الملاحظة الأولى ، إذ أدى ترك المؤرخين فى هذه المرحلة لسلسلة الإسناد إلى عدمتحرى الدقة فى تناول الخبر الأمر الذى أدى إلى تأثر بعض مؤرخى التاريخ العام بأفكارأهل الكتاب ، وتناثر بعض الإسرائيليات فى ثنايا كتابتهم . ويبدو ذلك التأثر واضحا عندحديث هؤلاء المؤرخين عن مبدأ الخليقة إذ استقى بعضهم مادته من التوراة مخالفين روحالإسلام وتصوره إزاء هذا الأمر ، ونلمس ذلك جلياً فى بعض كتب التاريخ العام سالفة الذكرالتى فصّلت القول فى خلق العالم فى ستة أيام ، والتى تحدثت عن تاريخ الإنسان وأنبياءبنى إسرائيل إلى غير ذلك من قضايا تاريخية استمد فيها المؤرخ مادته من تصورات يهودية. وسوف نوضح ذلك من خلال مثالين .


1- ابن الأثير: فى كتابه "الكامل" يتحدث عن إبراهيمالخليل وأنبياء بنى إسرائيل ، ويعتمد فى معظم رواياته على نفس التفسير التاريخى الواردفى أسفار : التكوين ، والخروج ، والتثنية ،والعدد ، ويشوع ، وأسفار التواريخ ، حتى خيمة الاجتماع التى ذكرتها المصادر الإسرائيليةيتحدث عنها بعنوان : "ذكر بناء قبة الزمان" . انظر ذلك فى صفحة 307 ،308 من الجزء الأول . الطبعة الأولى . طبعة السعادة 1932م .


2- القرطبى: فى تفسيره "الجامع لأحكام القرآن":يتحدث عن افتنان داوود بامرأة أوريا الحثى ص169 - 180 ، ويتحدث عن صفة كرسى سليمانص202 - 204 ، ثم يرجح أن الذبيح إسحق وليس إسماعيل ص99-103. أنظر الجزء الخامس عشر. مطبعة دار المعارف 1946م.


إذن مما سبق يتضح أن مراحل نشأة علم التاريخ الإسلامى الثلاثقد تخللتها بعض الثغرات كانت بمثابة منافذ تسرب منها الفكر اليهودى إلى بعض الأعمالالتاريخية ، فبعض القصاصين كان أغلبهم من اليهود الذين لم يحسن إسلامهم بعد مما أدىإلى خلط الأخبار التاريخية بشئ من الخرافات والأساطير وحكايات أهل الكتاب ، كما أنظاهرة وضع الأحاديث التى قامت بها بعض الفرق الدينية والسياسية وجماعات من الزنادقةاليهود كان لها أثر كبير فى تشويه الخبر التاريخى وخلطه بالإسرائيليات التى غصت بهابعض كتب التاريخ . والتى بنى عليها مؤرخو التاريخ العام أغلب تأريخهم ولاسيما تأريخهملبدء الخليقة وسلسلة الأنبياء والمرسلين لعصور ما قبل الإسلام .























مراجع المبحث الأول:


1- مصطفى الشكعة ، مناهج التأليف عند العلماء العرب . دارالعلم للملايين، بيروت 1974مص19 .


2- المرجع السابق ، ص29 .


3- سيدة إسماعيل الكاشف ، مصادر التاريخ الإسلامى ومناهجالبحث فيه . مكتبة الخانجى . القاهرة بدون تاريخ . ص13 .


4- مناهج التأليف عند العرب . مرجع سابق ص33 .


5- المصدر السابقص29 .


6- المصدر السابق ص31 ، وانظر أيضا الحديث عنه فى كتابناهذا فى الباب الرابع عند الحديث عن أشهر الوضاعين فى القرآن الكريم والحديث الشريف.


7- المصدر السابق ص31 ، 32 .


8- المصدر السابق ص32 ، وانظر أيضا الحديث عنه فى كتابنا هذافى الباب الرابع عند الحديث عن أشهر الوضاعين فى القرآن الكريم والحديث الشريف.


9- مصادر التاريخ الإسلامى ، مرجع سابق ص14 .


10- عفت محمد الشرقاوى ، أدب التاريخ عند العرب ، دار العودة، بيروت بدون تاريخ . ص 180 ، 184.


11- مناهج التأليف.مرجع سابق ص39 .


12- مصادر التاريخ الإسلامى ، مرجع سابق ص25 .


13- المرجع السابق ، ص27 . 14- المرجعالسابق ص28،29


15- المرجع السابق، ص31 ، 32 . 16- المرجع السابق، ص21 .


17- مناهج التأليف ص43 .


18- مناع القطان ، مباحث فى علوم الحديث ، مكتبة وهبة . القاهرةط أولى 1408 - 1987 ص36 .


19- مصادر التاريخ الإسلامى ص32


20-المصدر السابقص33-37





hglvhpg hgH,gn g;jhfm hgjhvdo hgYsghld , lkht` jsvdf hgt;v hgdi,]d Ygdi