الظروف المواتية لتسريب الفكر اليهودى



احتل كتاب اليهود المقدس المعروف بالعهد القديم مكانة كبيرة في التاريخ الإسرائيلى القديم باعتباره المصدر الوحيد للتاريخ اليهودى ، بل امتدت أهمية ذلك الكتاب فكان المرجع الأول لدراسة تاريخ الشرق الأدنى القديم كله عند كثير من المؤرخين، وظل كذلك حتى بداية القرن التاسع عشر ، حيث تغيرت المفاهيم التاريخية المستمدة منذلك الكتاب بسبب النجاح الذى حققه علماء الآثار والحفريات وفكهم لرموز كثير من الكتابات القديمة فى مصر والعراق واليمن وسوريا ولبنان والأردن ، إذ أثبتت هذه الكتابات تهافت الروايات التاريخية القديمة المستمدة من العهد القديم ، الأمر الذى دفع بكثير من الباحثين إلى إعادة النظر فى جميع المرويات الإسرائيلية التى ظلت على مدى أجيال طويلة حقائق مسلما بها عند بعض مؤرخى العصور الوسطى .


وقد سرت هذه الصحوة التاريخية فى المحيط الإسلامى بأكمله وأصابته من الدهشة ما أصاب العالم أجمع آنذاك ، ولا غرابة فى ذلك إذ كان العالم العربىفيما مضى مستودعا للحضارات القديمة التى عاشت فى أحضانها جماعات اليهود عبر العصورالتاريخية ، والتى لم ترع لفكره وتراثه حرمة إذ دست عليه من إسرائيلياتهم ما غصت بهكتب التراث .


من هذا المنطلق قامت حملة من المسلمين تنادى بتصفية الفكرالإسلامى من الرشح اليهودى منهم الشيخ محمد عبده ، والسيد محمد رشيد رضا ، وأمين الخولى ، وأحمد أمين ، والعقاد ، وغيرهم .


وقد يقول قائل: كيف تمكنت تلك الجماعات اليهودية على الرغممن قلة أعدادها أن تسرب عقائدها فى الأمم على هذا النحو المريب؟ وقد يُطرح هذا التساؤلبصيغة أخرى . هل توفر لليهود على مر العصور الجو الصالح والمناخ الملائم الذى ساعدهمعلى بث أفكارهم وتسريبها إلى عقائد المسلمين المعايشين لهم والمتعايشين معهم ؟ إن الإجابةعلى هذا التساؤل ستكشف لنا عن حقيقة تاريخية مخالفة تماما لما يردده بعض المؤرخين اليومفى كتابتهم عن طبائع اليهود داخل البلدان التى يعيشون فيها - وسوف نوضح تلك الحقيقةالتاريخية من خلال مناقشتنا للادعاء التالى :


القول بعزلة اليهود إدعاء صهيونى باطل ينفى عنهم تهمة تزييفالتاريخ !


من المفاهيم التى شاعت فى العصر الحديث ما يتردد فى كتاباتبعض مؤرخى المسلمين أن الجماعات اليهودية قد دأبت أن تعيش فى عزلة داخل البلاد التىيعيش فيها حتى حدا ببعضهم أن يصفهم بأنهم يشكلون دولة منعزلة داخل الدولة الكبرى لهافكرها وثقافتها ومعاملاتها الحياتية التى تميزهم عن سائر المواطنين المسلمين . وبذلكعاش اليهود فى عزلة عن مخالطة الشعوب الأخرى والتى ينتفى معها أى تأثير فكرى أو احتكاكثقافى .


إن هذا الإدعاء على الرغم من احتمال صحته فى بعض الجوانبإلا أننا لا يمكن أن نسلم به تسليما كليا ومطلقا ، لأن الأدلة العلمية والشواهد التاريخيةالقديمة والحديثة تثبت خلاف ذلك كما يقول الدكتور قاسم عبده قاسم "إن أية جماعةدينية تعيش بين جماعة دينية أكبر تعتنق دينا آخر ، لا يمكن أن تكون من وجهة النظر العلمية- جيبا اجتماعيا أو قوميا برغم دينها المخالف"(1) .


ولعل فى نقضنا هذا الادعاء يكون فيه الرد على دعاوى الصهيونيةوالماسونية القائلة بأن اليهود طوال فترات التاريخ الإسلامى شكلت جماعات متقوقعة داخلالمجتمعات الإسلامية بسبب القهر والتعسف على أيدى أنظمة الحكم المختلفة .


ولا يخفى علينا هدف هذه المقولة التى ظلت تتردد فى محيط العالمالإسلامى والتى تناقلتها بعض أقلام المسلمين اليوم ، والتى تهدف من ورائها الصهيونيةعدة أهداف لعل من أبرزها ما يعنينا فى هذا المقام: تبرئة اليهود من تزييفهم للتاريخبصفة عامة وللتاريخ الإسلامى بصفة خاصة ، فإن جناياتهم الكبرى فى الدس والتخطيط وتسريبأفكارهم إلى عقائد الشعوب لتشويهها كل ذلك كان من أهم الأسباب التى أثارت حقد العالموكراهيته لهم ، لذا فهم يرددون مثل هذه الأقوال لينالوا من المسلمين صك التبرئة بجريمتهمتلك ، وليس ذلك بغريب عليهم ، فبعدما تم لهم تشويه المسيحية عقيدة وتاريخا ، راحوايلتمسون العفو من "البابا" حتى ظفروا بصك التبرئة من دم المسيح ومن ثم تمالتقارب بين اليهود والمسيحيين كما نلمسه اليوم فى وقوف الغرب شكلا ومضمونا بجانب اليهوديؤازرونهم فى المحافل الدولية : جمعية الأمم ، ومجلس الأمن وإلى غير ذلك من قراراتوسياسات تخدم القضية اليهودية . إذن لو سلمنا بصحة تلك الادعاءات لانتفى عن اليهودذلك الرشح الفكرى الذى قوَّض الكثير من العقائد والأفكار ، وزيف العديد من التواريخ، وهذا أمر تثبته الوثائق التاريخية ويجسده الواقع . وإننى لأحسب أن المقولة السابقة– القول بعزلة اليهود - لا أساس لها من الصحة بتاتا ، لأن اليهود فى أغلب المجتمعاتالإسلامية وعبر كافة العصور "كانوا يشكلون جزءا من النسيج العام للمجتمع الذىيعيشون فيه ، وليس لهم فى يهوديتهم ما يميزهم عن غيرهم من أفراد المجتمع الذى يعيشونفيه" بل إنه قد توفرت لهم - على الرغم من بعض الاضطهادات التى حلت بهم - من العواملوالأجواء المناسبة ما ساعد على اختلاطهم بالشعوب واحتكاكهم بالثقافات الأمر الذى أعانهمعلى تحقيق أهدافهم وبث أفكارهم إلى الشعوب ومن تلك العوامل :

أولا: تلاحم البؤراليهودية عبر العصور:



تمكنت العناصر اليهودية من إيجاد شبكة للمبادلات الثقافيةوالاقتصادية ربطت بين الجاليات اليهودية فى جميع أنحاء العالم ، إذ كانت هذه الشبكةهى ملاذهم بعد كل شتات تم لهم ، حيث إنهم من خلالها قد تمكنوا من مواجهة كل حدث طارئعلى حياتهم ، وسرعان ما كانوا يعيدون تشكيل أوضاعهم لاستقبال الحياة الجديدة بحيث يتصدونفيها للزعامة الفكرية والتجارية(2) .


وتشير المصادر التاريخية إلى أن اليهود قد تعرضوا للشتاتثلاث مرات أعقب كل شتات منها تسلل إلى بعض من بلدان العالم حتى تم لهم فى أعقاب الشتاتالثالث توزع يهودى فى جميع بلدان العالم . بدءا من بلاد ما بين النهرين وأرمينية والقوقاز، إلى بلاد الشام والجزيرة العربية والحبشة وبلاد الشام والجزيرة العربية والحبشة والشمال الأفريقى وأخيراإلى أسبانيا وإيطاليا ومعظم بلدان أوروبا(3).


وهنا يظهر هذا التساؤل: هل كانت العناصر اليهودية تلك منعزلةبعضها عن بعض ، أم كانت على اتصال دائم ينظم حركتها ويوجه نشاطها لتستفيد من تسللاتهاالثلاثة ؟ . الواقع أن تلك المناطق التى استقرت فيها الجاليات اليهودية صارت تضم نوعينمن مراكز تجارية كبرى تتم إدارتها بأيد يهودية ، ومراكز لاهوتية كبرى للإشراف على الديانةاليهودية الكبرى فى جميع أنحاء العالم ، وقد سار النشاط اليهودى فى هذين النوعين منالمراكز جنبا إلى جنب ، فالرواج التجارى الذى أحدثه اليهود آنذاك ولاسيما فى العصورالوسطى وتحكمهم فى أنواع خاصة من السلع الموردة أو المستوردة(4) كما أنكثرة الأموال فى أيديهم ، ساعد كل هذا على دعم المراكز اللاهوتية اليهودية من جهة ،كما وأنه عن طريق شبكات التجارة الدولية تم التنسيق والاتصال بين تلك المراكز من جهةأخرى ؛ فقد عمل اليهود على تسهيل الاتصالات بين المشرق الساسانى ، ودول شمال وغرب أوروبا، عبر جاليات تناثرت على طول وادى نهر الرون ، وامتدت من أسبانيا حتى المغرب الأقصىوالصحراء الكبرى والسودان(5) .


غير أن اليهود لم يلعبوا دورا فى تاريخ العلاقات التجاريةفحسب ، بل إن المراكز اللاهوتية فى قرطبة وطليطلة بأسبانيا ، كانت تجتذب وتستقبل التياراتالفكرية والدينية القادمة من المراكز اللاهوتية فى بلاد ما وراء النهرين وفلسطين والإسكندرية(6).


وفى العصور الإسلامية نشطت الشبكات اليهودية فى علاقاتهاالفكرية وكذلك التجارية حيث استفادت من ازدهار التجارة الإسلامية ، ومن التسامح الدينىالذى حث الإسلام المسلمين أن يتعاملوا به مع أهل الكتاب . ومن هذا المنطلق استأثر اليهودبموضوع العلاقات التجارية ولاسيما تجارة الجملة فى بعض السلع المهمة فى حياة المسلمين، كما أن الكثيرين منهم تقربوا لبعض الخلفاء وساروا من جملة الحاشية التى قلما يخلومنها بلاط من بلاطات حكام المسلمين ، بل أصبح منهم الأطباء والوزراء وكبار الموظفينفى الدولة كما سنعرف بعد فهل بعد هذا التلاحم المنظم بين مراكز الفكر والتجارة اليهوديتينفى العالم ولاسيما العالم الإسلامى نقول بعزلة اليهود ؟ .

ثانيا: طرق انتقالالفكر اليهودى المبكر:



شهدت الفترة السابقة للإسلام واقعا لغويا استفادت منه العناصراليهودية استفادة عظيمة ، فقد كانت اللغات الرسمية آنذاك هى الإغريقية فى سوريا البيزنطية، والبهلوية فى بلاد ما بين النهرين ، أما الآرامية فقد كانت لغة التخاطب الدارجة فىكل مكان(7) .


وقد كانت اللغة الآرامية تشتمل على لهجتين أجاداهما اليهودإجادة ممتازة سواء أكانت لغة كتابة أو لغة تخاطب: الأولى كانت آرامية غربية سائدة فىالدولة البيزنطية ، وقد استخدمها اليهود فى كتابة تلمود بيت المقدس إبان القرون الخمسةالهجرية الأولى . والثانية كانت الآرامية الشرقية والتى سادت الإمبراطورية الساسانيةوالتى ضمت لهجتين فرعيتين هما: البابلية وهى اللغة التى يتكلمها يهود تلك المنطقة وهىالتى كتبوا بها تلمود بابل فى القرنين الخامس والسادس الميلاديين وأما اللهجة الثانيةفهى السريانية والتى صارت لغة الآداب والطقوس فى كل الكنائس النصرانية بدءا من فلسطينحتى بلاد ما بين النهرين(8) .


وعند الفتح الإسلامى برزت اللغة العربية باعتبارها لغة القرآنولغة التخاطب عند الفاتحين ، بينما اللغة العبرية القديمة لم تعد تدرس إلا باعتبارهالغة مقدسة عند اليهود فى مراكز التهويد فى فلسطين وبلاد ما بين النهرين . أما سائراللغات فقد أجادها اليهود كما وضحنا سابقا . هذا مع ملاحظة أن الثقافة اليهودية فىتلك المناطق التى أشرنا إليها قد اتصفت بإشعاع نشيط ، وقد ساعد على ذلك الدور الذىقام به "رش غالوثه" رئيس المنفى اليهودى والذى كان على صلة كبيرة ببلاط بغداد. كما أن اللغة السريانية استطاعت عن طريق الترجمة للعديد من المؤلفات الإغريقية أنتحقق مخضا خارقا فى الأفكار والمصطلحات تمثل أكثر المميزات الثقافية لشعوب الشرق القديمةبما فيها الشعب اليهودى القديم(9) .


وابتداء من القرن السابع الميلادى تقريبا وبفضل رسالة الإسلامانحصرت اللغات فى الجزيرة العربية بين لغتين هما: "الآرامية - العربية" وبالاحتكاكالثقافى بين اللغتين خرجت اللغة العربية ظافرة على إثر اندفاع الفتح الإسلامى، وإنكانت اللغة العربية قد خرجت ظافرة من ذلك الصراع اللغوى فمما لا شك فيه أن عوامل التأثربالفكر اليهودى كانت متوفرة من خلال عملية الاحتكاك اللغوى الذى ساعد على تسريب العديدمن الإسرائيليات والتى امتد تأثيرها على كتَّاب التاريخ الإسلامى بعد ذلك . فهل بعدذلك الاحتكاك اللغوى والثقافى بين لغة اليهود واللغات الأخرى نقول بعزلة اليهود ؟.

ثالثا : البناءالفكرى اليهودى فى المجتمعات الإسلامية:



عاش اليهود أحداث الفتح الإسلامى ، ذلك الحدث الجلل الذىغير من موازين القوى السياسية والفكرية والاجتماعية السائدة آنذاك . وكان على اليهودالقاطنين فى العالم الإسلامى آنذاك أن يعتنقوا الإسلام عن طواعية واقتناع ، أو أن يبقواعلى ديانتهم مع دفع الجزية وأن يدخلوا فى نطاق "أهل الذمة" .


ولعل تخييرهم بينهذين الأمرين دون أدنى ضغوط كان إحدى مزايا الدين الجديد الذى عرف بالتسامح والتآخىفى نطاق الإسلام وقد وعى المسلمون الأوائل هذا المعنى وعيا جيدا ، وعرفوا مغزى فرضالجزية على أهل الكتاب والذى يتلخص فى "بناء المواطنة الحقه" لليهود والنصارى، حيث سمح لهم بالإقامة داخل المجتمع المسلم الذى تحكمه شريعة إلهية غايتها تحديد نوعيةالعلاقات بين أفراد ذلك المجتمع بمقتضى تلك الشريعة .


وكان الرسول (ص) أول من طبق عمليا قواعد تلك المواطنة وفقنظام فرض على كل من اليهود والنصارى فى الحجاز ولم تكن تلك الجزية عقوبة إذ حاول اليهودتشويهها على أنها نوع من العقوبة أو الجزاء على الذمى ، وإنما كانت أسمى قاعدة لتطبيقنظام المواطنة عليهم فى المجتمع المسلم فى مقابل:


1- أن يبقوا على ديانتهم .


2- تعهد المسلمين بالمحافظة على أرواحهم وأموالهم وبيعهموهياكلهم .


3- إعفاؤهم من الخدمة العسكرية ، وذلك لأن الهدف الأول للدولةالإسلامية هو نشر الإسلام ، ولما كان الدين الجديد يعترف بالأديان السماوية اليهوديةوالمسيحية ، فليس من العدل إذن إلزامهم بالانخراط فى سلك الجيش الخاص بالدولة الجديدة، وصارت الجزية هى الشرط الجديد الذى حل محل العهود والمواثيق من أجل الحصول رسمياعلى حقوق المواطنة لأهل الكتاب فى الدولة الإسلامية(10) .


ومن مظاهر سمو تلك المواطنة ، أن الجزية قد فرضت على الذكورالبالغين وحدهم من أهل الذمة دون استثناء الأطفال والشيوخ والنساء منهم .


وقد هيأ نظام المواطنة ذلك لأهل الذمة بما فيهم اليهود أنيكونوا رعايا من أبناء الدولة الإسلامية ، ينعمون بحقوق المواطنة فى ديار الإسلام ،كما أباحت لهم ممارسة كافة الأعمال التى يقوم بها المسلمون ، حيث استهدفت سياسة الرسولمن وراء حق المواطنة ذلك ؛ مزج أهل الذمة مع أبناء المجتمع الإسلامى الجديد ، وتوفيرعوامل الانسجام بينهم جميعا فى ظل "نظام المواطنة فى الإسلام" .


وتابع الخلفاء الراشدون ثم الأمويون والعباسيون والفاطميونوغيرهم من حكام المسلمين تطبيق قواعد المواطنة لأهل الذمة فى دقة تامة ، الأمر الذىجعلهم أعضاء عاملين فى المجتمعات الإسلامية فى شتى مجالات العمل : المهنى - الرسمى- الطبى - العلمى بلا استثناء .


وقد استغل اليهود سماحة الدين الإسلامى ، والمعاملة الطيبةالتى حث عليها ذلك الدين ، وراحوا يعيدون حساباتهم فى ظل المتغيرات السياسية الجديدةلتنظيم بنائهم الفكرى والثقافى ، ومن ثم بث أفكارهم ومعتقداتهم فى العقلية المسلمةآنذاك .


والآن نأتى على هدم آخر ركن من أركان تلك الدعوى الزائفةالتى روج لها اليهود وتناولتها بعض الأقلام الساذجة بدون وعى أو تبصر ، وسوف يكون سبيلناإلى ذلك أن نبين حالة اليهود من خلال مجتمع من مجتمعاتنا الإسلامية وقد وقع اختيارالباحث على المجتمع المصرى المسلم باعتباره نموذجا للمجتمعات التى ضمت أكبر جالية يهوديةفى أغلب فترات التاريخ الإسلامى .


والمتتبع لتاريخ اليهود فى مصر يدرك أنهم كانوا يتمتعون بحقوقالمواطنة فى ذلك المجتمع إذ توفرت لهم حرية الإقامة فى جميع المدن والأرياف ، وحريةالمعتقد والفكر ، وحرية العمل فى كل المهن بلا استثناء إلى غير ذلك من أنواع الحريات. وبطبيعة الحال لا يمكن لليهود أن يتمتعوا بمثل هذه الامتيازات إلا إذا اختلطوا بطوائفالشعب المصرى وقامت بينهم علاقات لمباشرة الأنشطة الحياتية وتشير المصادر إلى توزعالجماعات اليهودية وفق الكثافة اليهودية وأهميتها الدينية ، ففى العاصمة كان مقر رئيس اليهود حيث تتركز حوله السلطة الدينية والقضائية، وحيث كان يتقرر كل ما يتعلق بالجماعات اليهودية من أمور . أما الجماعات متوسطة الحجمفكانت تقيم فى المدن الساحلية مثل الإسكندرية ودمياط ، أو فى المراكز الداخلية الكبرىمثل المحلة الكبرى وزفتى فى الوجه البحرى وقوص فى الوجه القبلى أما الجماعات اليهوديةالأقل عددا فكانت تقيم فى الريف وتعتمد كثيرا على المراكز فى أمورها الدينية والقضائية(11)وبخصوص البناء العقدى والفكرى لليهود فى مصر، فقد سمحت لهم الدولة بمباشرة شعائرهم الدينية وبحرية الانتماء إلى أية فرقة من فرقهمالثلاث: الربانيون ، القراؤون ، السامرة . والتى كان يتم الإشراف عليها من قبل رئيساليهود ، وهو منصب رسمى كان يصدر عن ديوان الإنشاء ، بينما الإدارة الروحية كانت تتممن العراق أو فلسطين حيث كانت مراكزهم الدينية هناك تفسر قوانين التلمود ، وتعد القضاةالذين يتولون الحكم داخل الجماعات الدينية المنتشرة فى بلاد المسلمين(12).


ويُعد العصر الفاطمى من أزهى عصور اليهود فى مصر وفى العالمالإسلامى بأسره وهذه الظاهرة التاريخية ينبغى أن تأخذ حظا وفيرا من الدراسة لنقف علىأسباب تلك الظاهرة ، فمن الملاحظ اعتماد الفاطميين على عناصر يهودية فى إدارة شئونالدولة المالية ، وقد استوزر منهم أفرادا ليسوا بقليلين ، على أن الملاحظة الجديرةبالاهتمام هى تلك الهجرة التى تمت لأعداد غفيرة من اليهود إلى مصر ، إذ صارت مصر الفاطميةآنذاك عنصر جذب للمهاجرين اليهود. ويبدو أن تأثير الوزراء اليهود على الحكومات الفاطميةكان كبيرا ، سهل لليهود الحصول على امتيازات كبيرة استفزت مشاعر المعاصرين من المصريينوقد كتب أحد الشعراء يعبر عن سطوة اليهود على الحياة فى مصر وعلى رأسهم الوزير اليهودىابن أبى سعد بن سهل التسترى(13) :

يـهـود هذا الزمانقد بلغـوا غـايــة آمالهم وقد ملكوا


الـعـز فيهم والمالعندهمـو ومنهمـو المستشار والملك


يا أهل مصر إنـىنصحت لكم تـهـودوا قد تهـود الفلك



وقد عمل الكثيرون من اليهود فى المجال العلمى والفكرى ، فكانمنهم أطباء ذكرهم ابن أبى أصيبعة ممن برعوا فى خدمة بلاط حكام مصر ، ومنهم من عمل فىالتنجيم وفى مهنة الوراقة والنسخ حيث انتشروا فى البلاد لمزاولة هذه المهنة على وجهالخصوص . كما برع بعضهم فى أعمال الترجمة حيث كانت عناصر منهم تجيد أكثر من لغة(14).


كما برزت المرأة اليهودية فى المجتمع المصرى القديم بثقافتهاوفكرها اليهودى الدخيل على المرأة المسلمة ، الأمر الذى أدى إلى تأثر الكثيرات من المصرياتبعادات وتقاليد ومهن كلها دخيلة على المجتمع المصرى آنذاك ، فمثلا كان من النساء اليهوديات: الماشطة التى تقوم بتزيين العروس وإعدادها للزفاف ، والداية "القابلة"التى تقوم بتوليد النساء ، وكانت منهن أيضا عجائز تحترفن مهنة قراءة الكف والطالع ،والدلالة ، وغاسلة الموتى وغير ذلك من مهن كانت أغلبها مهن دخيلة سربت للنساء المصرياتوكان بعضها من العادات والتقاليد المنحرفة(15) مثل تفشى ظاهرة البغاء فىالأعياد وعلى شواطئ النيل فى نزهات ليلية والرقص وشرب الخمور وصناعة الحلوى والفطائرفى الأعياد الدينية ومولد الرسول (ص) ومثل امتناع نساء مصر عن شراء السمك أو أكله يومالسبت تماشيا مع عادات اليهود التى تحرم صيد السمك يوم السبت كذلك تحريم شراء الصابونودخول الحمام وغسل الثياب اعتبارا لحرمة السبت أيضا(16) وهكذا انخرط اليهودفى المجتمع المصرى وغيرهم من المجتمعات الإسلامية وتجاوبوا معهم أبناء تلك الشعوب وانصهروامعهم فى اللغة والثقافة والفكر والعادات والتقاليد ومعنى ذلك أن الجماعات اليهوديةلم تعش منعزلة كما تدعى الدوائر الصهيونية وإنما كانت تلك الجماعات حريصة كل الحرصعلى أن تمتلك زمام الأمر فى المجتمع المصرى على الرغم من قلتهم وذلك لتقلد الوظائفالكبرى ومباشرة المناصب المهمة والعمل فى الأعمال التجارية الكبرى التى تتحكم فى العصبالاقتصادى للدولة ، كل هذا سهل على هذه الجماعات أن تبث الكثير من فكرها ومعتقداتهالإفساد الشعوب وهدم المجتمعات . فهل بعد ذلك العرض يمكن أن نسلم بدعوى الصهيونية بأنجماعات اليهود كانت تعيش فى عزلة عن الشعوب ؟!




مراجع المبحث االثانى :


1- قاسم عبده قاسم, اليهود فى مصر من الفتح العربى حتى الغزوالعثمانى , دار الفكر للدرسات والنشر و التوزيع طبعة أولى 1987م , من عبارته علىغلاف الكتاب المذكور.


2-موريس لمبارد , الجغرفيا التاريخية للعالم الإسلامى ترجمة عبد الرحمن حميدة , دارالفكر. دمشق ص.271,27.


3-كان الشتات الأول على أيد بختنصر والثانى بعد خرابهيكل أورشليم , وقد نتج عن هذين الشتاتين ظهور سلسلة من الجاليات اليهودية استقرتعلى كل طرق التجارة الكبرى والتى تعاونها مراكز التهويد المقامة على تلك الخطوط وقد اتصلت طرق التجارة والتهويد فى آن واحد ابتداء من بلادما بين النهرين حتى أرمينية وبلاد القوقاز وبحر قزوين وبلاد الخزر ثم إيران وخراسان وخوارزم ثم الخليج العربى والهادى.


كما ظهرت جاليات يهودية انطلقت من بلاد الشام ومصرالبيزنطيتين أولا إلى شمال جزيرة العرب ثم الحجاز ثم اليمن والحبشة وكافة أقطارالبحر الأحمر , ثم عبروا إلى الواحات حتىجنوب المغرب الأقصىى .


أما التسلل أو الشتات اليهودى الثالث فقد ابتدأ منالقسطنطينية وآسيا الصغرى حتى وصل إلى البحر الأسود وبلاد شبه جزيرة القرم وجنوبروسيا حيث امتد خط التهويد بين بحر قزوين وبلاد الخزر وأخيراً دخل اليهود إيطاليا وإسبانيا حتى وصلوا إلى بلاد غرب أوربا ثم سائر البلدان الأوربية . المصدرالسابق ص 271,270


4- تجلى نشاط اليهود التجارى بصورة أشد فى قطاعاتالتجارة الدولية ولا سيما تلك التى كانت تربط بين المشرق والمغرب الإسلاميين وبلادأوربا النصرانية حيث تكونت منهم مجموعات انتشرت على خط نهر اللوار والرون والمور ووادى الراين وقد احتكر اليهود أنواعًا من التجارة مثلتجارة الأقمشة ومنسوجات الحرير والتوابل والأدوية والذهب والرقيق كما اختصوابعمليات الصرف لبعض العمليات التجارية لاستجلاب ما عز من البضائع كما كانت بعضالسلطات الحاكمة فى الدولة الإسلاميةيستعملونهم وثيقة بحكامها . كما أنهم قد كونوا ثروات هائلة من تعاملهم بالربا مع المسلمين .ينظر كتاب , نجاة باشا. التجارة فى المغرب الإسلامى . منشورات الجامعة التونسية ,عام 1976م ص108,107


5- من المراكز اليهودية النشطة فى التهويد آنذاك مدرسة سوارا قرب الأنبار ومدرسة بدمبديتاالواقعة إلى الجنوب منها وهما المدرستان اللتان صدر عنهما تلمود بابل ، كما أنفلسطين كانت من المراكز اليهودية فى المجال البيزنطى إذ كانت تضم مدرسة أورشليموطبرية , ومن فلسطين ظهر تلمود أورشليم كما ضمت مصر ولاسيما الإسكندرية مركزا كبيرا للتهويد , ومن المدينة الأخيرة ظهرتتوراة السبعين كذلك ظهرت مراكز متناثرة فى شمال إفرقيا وإسبانيا ولا سيما قرطبةوطليطلة وغرناطة.


6- الجغرافيا التاريخية : مرجع سابق, الصفحات السابقة.


7- الصدر السابق ص 125- 129 .


8- المصدر السابق .


9- الصدر السابق.


10- إبراهيم العدوى " نظام المواطنة فى الإسلامومنجزاته للحضارة العربية " بحث مقدم ضمن مجموعة البحوث التى ألقيت فى مادةالحضارة الإسلامية فى ذكرى الأستاذ الدكتور أحمد فكرى 16 أكتوبر عام 1976م ، وقدنشر فى كتاب " بحوث فى تاريخ الحضارة الإسلامية " نشرته مؤسسة شمال الجامعةعام 1983م الإسكندرية.


11- قاسم عبده قاسم, اليهود فى مصر من الفتح العربى حتىالغزو العثمانى , مرجع سابق ص27.


12- المرجع السابق ص 31-41 .


13- المرجع السابق ص 60.


14- المرجع السابق ص 62- 64 .


15- المرجع السابق ص66.


16- المرجع السابق ص71 .



hg/v,t hgl,hjdm gjsvdf hgt;v hgdi,]n