فكرة التاريخ عند المسلمين و اليهود


لكى نقف على مدى التزييف الذى طرأ على كتابة التاريخ الإسلامىأود أن أشير إلى ملحوظة مهمة كانت منفذا من أخطر المنافذ التى أندلف منها الفكر اليهودىإلى بعض العقول من مفكرى المسلمين اليوم ألا وهى "فلسفة التاريخ" التى فتحتعلى التاريخ الإسلامى أبوابا من النظريات المبهرجة رتب لها اليهود ترتيبا محكما علىأيدى واضعى النظريات الوضعية والفلسفات المادية التى غزت الثقافات العالمية فى مطلعالقرن التاسع عشر ، ثم ما زالت تعصف بالتاريخ الإسلامى حتى اليوم .


هنا وإن كانت فلسفة التاريخ تلك هى الغائية الكبرى التى يتطلعإليها كتاب التاريخ الإسلامى اليوم وينظرون إليها على أنها فكر إسلامى رفيع ينبع مننظرية فلسفية تمثل مفهوما إسلاميا للتاريخ فهذا أمر لا بأس به بل هو إحدى الضرورياتالملحة فى حقل الدراسات الإسلامية اليوم . وإنما تستغل هذه الفلسفة من قبل المستشرقيناليهود اليوم بحجة واهية ادعوها وروجوا لها فى الأوساط العلمية الأكاديمية ثم غرسوهافى عقول بعض الدارسين على أيديهم من أبناء المسلمين فهذا هو موضع الداء الذى ينبغىبتره تماما ولا نقبله بأى حال من الأحوال .


إن فلسفة التاريخ التى نعنيها ونحتاج إليها نحن المسلمينفى كتابة تاريخنا الإسلامى لهى نظرة فلسفية شاملة لجميع كتب التراث تنبع من التصورالحقيقى للتاريخ الإسلامى وحضارته الإسلامية ليستقلا معا بسماتها المميزة عما حولهمامن تواريخ وحضارات ، ومعنى ذلك أننا فى حاجة إلى المؤرخ الفيلسوف الذى يكشف عن الحقيقةالتاريخية ويوثق الخبر ويحلله ثم يبين ملابساته المختلفة وهذا هو دور المؤرخ الفيلسوفالذى يختلف بطبيعة الحال عن المؤرخ فحسب الذى يعتمد على جمع المادة التاريخية فقط وتدوينها.


ومن هذا المنطلق نتحصل على تاريخ مفلسف يقدم فيه تاريخنامن خلال الفكرة الإسلامية على اعتبار أن التاريخ هو تاريخ الإنسان وأن الفكر الإسلامىضرورة له .


من تلك النظرة الشمولية لفلسفة التاريخ تنشأ حاجتنا إلى تفسيرالتاريخ الإسلامى على نحو يحقق أصالتنا نحن المسلمين من خلال كتابات تاريخية تفسر تفسيرافكريا شاملا نتخطى فيه الوقوف عند سرد الأحداث وتسجيلها ، كما ونتخطى أيضا التعليمالتاريخى المحدود لنحلق إلى آفاق أوسع يتخللها رؤية فلسفية شاملة تتناول وعى ذلك الإنسانالمسلم بنفسه وإدراكه لدوره المنوط به فى الحياة ، وتفاعله مع الوجود من حوله هذه فلسفةالتاريخ التى نحتاج إليها بالفعل ، وهى منهجأصيل فى كتابة التاريخ عرفها المؤرخون المسلمون الأوائل وقد استطاعوا من خلالها أنيعمقوا فكرة التاريخ وأن يضيفوا عليها بعدا فلسفيا جديدا يكشف عن قيمهم واتجاهاتهموتبرز أصالتهم وهويتهم .


أما وأن ذلك المنهج التاريخى الأصيل قد غاب عن حقل الدراساتالإسلامية بصفة عامة وعن الدراسات التاريخية بصفة خاصة فى أعقاب تدهور العالم الإسلامىبعد وقوعه فريسة لبراثن الاستعمار الأوروبى والصهيونية العالمية إبان القرن التاسععشر أقول: إن غياب ذلك المنهج لا يعنى فقدانه بالمرة وإنما قد جدت على الدراسات التاريخيةفى بلادنا من التحديات ما ساعد على انزواء ذلك المنهج وتعطيله ، إذ انفرد المستشرقونإبان مرحلة الاستعمار بكتابة تاريخنا الإسلامى من منطلق فلسفى علمانى لا يخدم إلا الاستعماروالصهيونية ، وذلك بأنهم صاغوا بعض فلسفات وضعية فسروا من خلالها التاريخ الإسلامىتفسيرا تعسفيا ، كالتفسير المثالى لهيجل ، والتفسير المادى لماركوس وإنجلز ، والتفسيرالحضارى لتونبى ، وذلك لإحلال هذه الفلسفات محل الفكرة الإسلامية للتاريخ وقد كانتتلك الفلسفات بلا شك من أخطر المداخل التى تسرب منها الفكر اليهودى إلى الدراسات التاريخيةاليوم ، ولكى ندرك خطورة ذلك المنزلق يفضل أن نقف وقفة نبين من خلالها مفهوم فكرة التاريخعند كل من المسلمين واليهود .





أولا : فكرة التاريخ عند المسلمين


لا عجب إن قلنا بكل ثقة واطمئنان أن فلسفة التاريخ كانت منهجاعربيا إسلاميا خالصا ، التقطه الأوروبيون عن المسلمين وربطوا بين الحدث والتاريخ وفكرالمؤرخ بطريقة علمية استنباطية تؤدى إلى الغاية من علم التاريخ .


والمتتبع لهذه الظاهرة فى القرآن الكريم يجدها واضحة جلية، إذ ظهر فى الدراسات القرآنية ما يسمى بأسباب النزول ، وظهر فى التشريع حكمته ودورانالحكم مع العلة وجودا وعدما(1) ، الأمر الذى ساعد على ظهور فلسفة التاريخعند بعض مؤرخى المسلمين . فابن خلدون فى مقدمته التاريخية المشهورة يوضح فلسفته لعلمالتاريخ ، ثم يبين أخطاء من سبقه من المؤرخين ، ويذكر كيف أنهم خلطوا بين الروايات، ودسوا فيها من البدع والضلالات ، الأمر الذى أدى بالمتأخرين منهم إلى الوقوع فى الأخطاءفيقول: "إن فحول المؤرخين فى الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها ، وسطروهافى صفحات الدفاتر وأودعوها ، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوها، وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووعوها ، واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها ، وأدوها إلينا كما سمعوها ، واقتفى تلكالآثار الكثير ممن بعدهم وأتبعوها ، وأدوها إلينا كما سمعوها ولم يلاحظوا أسباب الوقائعوالأحوال ولم يراعوها ، ولا رفضوا ترهات الحديث ولا دفعوها ، فالتحقيق قليل ، وطرف التنقيح فى الغالبقليل والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل ، والتقليد عريق فى الآدميين وسليل ... والبصيرةتنقد الصحيح إذا تمقل "نظر" والعلم يجلو لها صفحات القلوب ويصقل" (2).


إن هذا الكلام - بلا شك يُعد سبقا منهجيا فى كتابة علم التاريخسبق به المسلمون كتَّاب التاريخ فى أوروبا ، وقد تأثر الأخيرون به عن طريق الاحتكاكالثقافى والعلمى إبان فترة الحروب الصليبية ، وفى الأندلس وصقلية وفلسطين ، إذ كانت تلك البلاد من أكبر مراكز الاحتكاك الثقافىآنذاك . ويكفينا فى هذا الصدد قول Heernshau : "لقدخرج الصليبيون من ديارهم لقتال المسلمين ، فإذا هم جلوس عند أقدامهم ؛ يأخذون عنهمأفانين العلم والمعرفة ، لقد بُهت أشباه الهمج عندما رأوا حضارة المسلمين التى رجحتحضارتهم رجحانا لا تصح معه المقارنة بينهما" (3) .


هذا عن معرفة المؤرخين الأوائل من المسلمين عن منهج فلسفةالتاريخ . وهو منهج بلا شك نابع من تصورهم لمفهوم فكرة التاريخ فما هو ذلك التصور وماهو مفهوم تلك الفكرة ؟ .


إن مفهوم فكرة التاريخ عند المسلمين ، مفهوم نابع من تصورهملرسالتهم فى الحياة وعمران الأرض ، وهو مفهوم يمثل فيه "الزمان والإنسان"محورين هامين وأساسيين فى تفسير التاريخ ، وعن العنصر الأول يقول الدكتور عفت محمدالشرقاوى : إن الزمان فى نظر المسلم يمثل نوعين من الوجود: الأول وجود فانٍ متزمن لهبداية ونهاية وهو مخلوق مستحدث ، والثانى وجود أبدى سرمدى هو مصدر لكل وجود ، وهو ماتنفرد به الألوهية القائمة من الأزلية إلى الأبدية . وقد ربط الدين الإسلامى بين الوجوديينربطا محكما مما كان له تأثيره فى فهم أحداث الزمان فهما يخالف الأمم الأخرى - إذ حددالعلاقة بين الوجود المتزمن "المخلوق" وبين الوجود اللامتزمن "الخالق"وجعلها علاقة الفانى بالأبدى التى هى مصدر كل خير وسعادة(4) . ومن هذا المنطلقفهم المسلمون الزمان على النحو التالى :


أ- أن الألوهية وحدها تنفرد بالسرمدية وكل ما عداها فى هذاالكون فهو مخلوق .


ب- أن الزمان المتفانى هو امتداد العالم بين الخلق بوصفهبدايته والبعث بوصفه نهايته ، وبينهما يمتد تاريخ الإنسانية على الأرض .


ج- لما كان تاريخ الإنسانية هو وجود للزمان المستحدث الفانىارتبط فى حس المسلمين بأنه نسبى موقوت ، ولكنه مرتبط بغاية كلية يتحرك نحوها جميع البشر، وهذه الغاية بلا شك مستمدة من التصور الإسلامى :


- فالزمان الماضى فى نظر الإسلام غير ضائع ، بل سوف يحاسبعليه الإنسان ، وهذه نظرة جديدة مخالفة لنظرة الأمم السابقة للإسلام التى فقدت الإحساسبالغاية من الوجود وعجزت عن إدراك السرمدية المضادة للزمانية التى هى مصدر كل سعادةكلية . من هنا ارتبط مفهوم الماضى عند المسلمين بالإيمان وبالمسئولية التى ألقاها اللهعلى كاهل الإنسان بعد أن زوده بالإحساس والإدراك وبشريعته السماوية على أيدى رسله وأنبيائه. يقول تعالى: "وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاهمنشورا . اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا" .


فكل ما يتعلق بالماضى محفوظ لا يضيع ، لأن الغاية واضحة لدىالمسلم ولم يعد يستشعر بالعجز المطلق أمام الزمان كما كان الحال عند اليهود الذين استسلموالمشاعر الفقدان والحسرة على ما مضى ، أو مشاعر شكوى الزمان حيث فقدوا إدراك الغايةمن الوجود أما المسلم فقد نظر إلى الزمان الماضى على أنه مصدر العبرة والعظة والدروسالمستفادة من تواريخ الأولين .


الزمان الحاضر الذى عاشه المؤرخ المسلم فكان يعده مرحلة تتحركنحو المستقبل على هدى من أحداث الماضى وهى مرحلة العمل وتعمير الأرض لتحقيق الرسالةالمنوطة بالمسلم وبقدر وضوح الغاية الوجودية لديه ترتسم خطى المستقبل ويعظم الثوابوالجزاء .


أما الزمان المستقبل فهو يرتبط عند المسلم وغير المسلم بمشكلةالمصير ، ولكن الفرق بين الاثنين أن غير المسلم ولاسيما اليهودى الذى فقد الإحساس بالغايةمن الوجود كما قلنا سابقا - كما عجز عن إدراك الوجود اللازمانى فى صفاته السرمدية أوأدركه بصورة مشوهة وقد استبد به الخوف من المجهول والقلق على المستقبل فراح يصنع تاريخهفى خلسة من العالم وفقد كل معانى الصدق والأمانة وأحل مكانها النفاق والزيف والتحريفوالتهجم على القيم والمبادئ وتخريب كل ما هو غير يهودى حتى يصبح العالم كله فى قبضةاليهود . لذا فإن عدم إدراك هؤلاء اليهود للغاية من الوجود جعلهم يخربون تاريخهم بأيديهموصدق القائل : إنهم لا يصنعون تاريخا وإنما يزيفون التاريخ .


أما المسلم فقد وضحت غايته من الوجود فاستبان مصيره وأصبحيؤمن بالخلود فى حضرة السرمدية المطلقة التى هى مصدر كل الوجود ، وبذلك اختفت تمامامعانى القلق من المجهول ليحل محلها الشوق للمعلوم(5) ويوم أن ينتهى العالمإلى يوم القيامة ذلك يوم الفصل يقول تعالى"إن يوم الفصل كان ميقاتا ، يوم ينفخفى الصور فتأتون أفواجا" سورة النبأ آية "17 ، 18" ، ومن هنا كانت فكرةيوم القيامة فى مفهوم المسلم بإحساس الزمان المستقبل الذى سوف تتحدد فيه المصائر وتكتسبمن خلاله أعمال البشر سمة الخلود وكان ذلك بلا شك دافعا واضحا للتذكر والعمل الصالحوتسجيل الأعمال فلا عجب بعد ذلك أن يتجه الإسلام من التاريخ اتجاها يقوم على الفكرةالسابقة إذ صار شوق المسلمين للقاء الله دافعا لإقبال الأفراد والشعوب على الطاعة لإرادتهجل شأنه فتتحسس الأمور ويعيش الناس سعداء ويفوز الإسلام بالظفر فى النهاية .


وإذا كان لعنصر الزمان أهميته تلك فى مفهوم المسلمين فذلكراجع إلى دوران التاريخ عندهم حول الرسول والكتاب المنزل عليه ، وهو خاتم الأنبياءوالرسل ورسالته أخر الرسالات ولكنها متصلة اتصالا تاريخيا بسلسلة الأنبياء . من هنافإنها استغرقت وسوف تستغرق الماضى والحاضر والمستقبل إلى أن تقوم الساعة وذلك لأن رسالتهكانت للناس كافة وهذا المفهوم له أثره بلا شك فى تفسير أحداث التاريخ .


أما القرآن الكريم فهو غاية الغايات فى فهم أحداث التاريخ، إذ احتوى على كل معالم الهداية للمسلم فى حياته كما وأنه نبه على علاقة البشر بربهم، فالإنسان لا يستطيع مطلقا الفرار من الله فى التاريخ ولكنه جل شأنه لم يجئ فى التاريخعلى صورة كائن بشرى كما تصور اليهود وكما قيل عن المسيح وإنما أرسل الله تعالى الرسلوالأنبياء وأنزل عليهم الكتب لهداية الناس ولما كانت الرسالة الإسلامية خاتمة الرسالاتفإنه فى نظر المؤرخ المسلم لا يجوز أن تحصل البشرية على هدايتها فى التاريخ إلا منالقرآن الكريم .


أما الإنسان وهو العنصر الثانى من عناصر التاريخ الإسلامىفتبرز أهميته لأنه صانع لأحداث التاريخ وفق مشيئة الله جل شأنه من هنا احتل الإنسانمكانة سامية فى الفكر الإسلامى بصفة عامة وتلك نظرة فريدة للإسلام لا تجدها فى سائرالتشريعات الوضعية أو السماوية التى أصابها التحريف والتزييف .


هذا ويمكننا أن نجمل مكانة الإنسان فى المفهوم الإسلامى فىالنقاط التالية :


1 ـ إن الإنسان أشرف المخلوقات على الأرض ومن هنا فقد اصطفاهالله ثم اجتباه فتاب عليه وهداه ، ولم تلحق به خطيئة أبدية .


2ـ على الرغم من أخطاء ذلك الإنسان فإن الله جلت حكمته أرادهخليفة له فى الأرض دون سائر المخلوقات .


3 ـ إن الإنسان وحده تلقى تبعة الأمانة على عاتقه لأنه مزودمن الله بإرادة حرة قادرة على التمييز بين الخير والشر وفى إمكانه أن يؤدى الأمانةعلى خير وجه لو اتبع سبيلى المعرفة: "الوحى والعقل" .


وبذلك يكون الإنسان المسلم ذا حرية واختيار فى حياته ومنهذا المنطلق كانت حياة الشعوب كلها على وجه الأرض اختبارا وامتحانا لهم قال تعالى:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيماأتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون" المائدة48 .


إذن فالشعوب تقيم الحضارات وتصنع التواريخ إذا حققت ذاتهاوحافظت على تبعات الأمانة وسمت بأخلاقها ، أما إذا انحطت وتبدلت أخلاقها وصار الانحلالفى كيان أفرادها فلابد أن تنهار ويتمزق نسيجها الحضارى فتلك سنة الله لأن الرفعة والانحلالينبعان فقط من ذات تلك الشعوب يقول الله تعالى: "ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمةأنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم" الأنفال53 .


إذن من العرض السابق لعنصرى "الزمان والإنسان"كما وعاهما المؤرخ المسلم لمع مفهومه للتاريخ حيث استمد تفسيره من نظرة إسلامية سليمةلا ينبغى لأى مؤرخ مسلم ألا يحيد عنها مطلقا وسوف نذكر مثالين يزيدان فى وضوح مفهومالتاريخ عند المسلمين الأول من خلال حديث ابن خلدون شيخ المؤرخين لمفهوم التاريخ :والثانى من قول النبى:


المثال الأول لابن خلدون:


إنه يرى أن للتاريخ معنيين أحدهما ظاهر والأخر باطن ؛ المعنىالظاهر هو "فى ظاهره لا يزيد على أخبار الأيام والدول السوابق من القرون الأُول، تنمو فيها الأقوال وتضرب فيها الأمثال وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال وتؤدىلنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال واتسع للدول فيها النطاق والمجال وعمروا الأرضحتى نادى بهم الارتحال وحان منهم الزوال" . وعن المعنى الباطن للتاريخ يقول :" وفى باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق ، وعلم لكيفية الوقائعوأسبابها عميق ، فهو لذلك أصيل فى الحكمة عريق وجدير بأن يعد فى علومها وخليق"(6)





المثال الثانى من أقوال الرسول


انفرد أبو بكر فى جلسه هادئة كريمة وأخذ أبو بكر يتفرس فىوجه الرسول (ص) ثم قال أراك قد شبت يا رسول الله فرد عليه الرسول عليه السلام"شيبتنى هود وأخواتها" وفى رواية أخرى شيبتنى هود والواقعة والمرسلات وعميتساءلون وإذا الشمس كورت"(7) والحقيقة فإنهذه الصورة الكريمة تستعرض تاريخا قديما لأمم ظهرت قبل الإسلام فمنها أمم عصت أوامرالله ورفضت الامتثال لتعاليم أنبيائها حيث جاء هؤلاء الأنبياء ليقوموا اعوجاج هذه الأممولكنهم لم يستجيبوا وأعرضوا ومنهم من عاند الأنبياء ومنهم من آذوهم فكان لابد أن ينالهمعقاب الله ومن هذه الأمم :


أ- قوم نوح: فقد أخذ نوحيدعو إلى الله ألف عام إلا خمسين ولكنهم لم يستجيبوا واستكبروا وأعلنوا احتقارهم لنوحومن معه فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا "وما نراك اتبعكإلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين" سورةهود الآية 27 ولما لم يستجيبوا له حلت عليهم لعنة الله فى الدنيا والآخرة ويقرر القرآنأن مبدأ العقيدة أهم من مبدأ القرابة أو النسب وقد وضح ذلك من موقف نوح وابنه إذ قالنوح "ربى إن ابنى من أهلى" أى قد وعدتنى بنجاة أهلى ووعدك الحق فقال:"يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألنى ما ليس لك به علم أعظكأن تكون من الجاهلين" سورة هود آية 46


ب- قوم عاد: وقد أرسل اللهلهم هودا عليه السلام ينصحهم ويأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له ناهيا لهم عن الأوثانوأخبرهم أنه لا يريد منهم أجرا على هذا النصح والبلاغ فيقول الله تعالى: "وإلىعاد أخاهم هود قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون"سورة هود آية 50


ج- قوم ثمود: "وإلى ثمودأخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركمفيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربى قريب مجيب" فقد أرسل الله إلى قوم ثمود وهمالذين كانوا يسكنون مدائن الحجر بين تبوك والمدينة وقد بعث الله منهم أخاهم صالحا وأغراهمبعبادة الله وحده ولكنهم رفضوا واستكبروا إذ غرتهم جناتهم وزروعهم وقصورهم وطلب منهمألا يذبحوا ناقة الله ولكنهم عصوه وذبحوها وعصوا رسولهم فأخذتهم الصيحة فأصبحوا فىديارهم جاثمين .


د- قوم لوط: فقد أرسل اللهلهم نبيهم لوطا لهدايتهم حيث كانوا يرتكبون المنكر وهو اللواط وقد أصبحت تلك الفاحشةعادة من عاداتهم القبيحة يباهون بها فقضى الله عليهم حيث أمطرهم بحجارة من سجين مسومةقضت عليهم يقول الله تعالى: "فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهاحجارة من سجين منضود مسومة عند ربك وما هى من الظالمين ببعيد" سورة هود 82 ،83


ﻫ- أهل مدين: فقد أرسل اللهلهم النبى شعيب وهم من البلاد العامرة بالخيرات ولم يشكروا الله على تلك النعم وقدفشت فيهم بخس الميزان حيث راحوا يتلاعبون بالموازين ظلما للناس وحين جاء شعيب ينصحهملم يتقبلوا نصحه بل رموه بالجهل وأخذوا يسخرون منه وهددوه بالطرد والرجم لولا رهطهوقومه فأخذهم الله بالصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين يقول الله تعالى: "وقالوايا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنتعلينا بعزيز " سورة هود آية 91


و- فرعون: أرسل الله إلىفرعون موسى عليه السلام بالبينات وعددها تسع بينات ولكن فرعون استكبر وعلا فى الأرضوقال أنا ربكم الأعلى فكان يقتل الذكور من بنى إسرائيل ويستحى نساءهم ولم يتقبل النصيحةمطلقا فكان عاقبته أن أغرقه الله فى البحر"


مما سبق يتضح أن تلك الأمم الغابرة كانت ظالمة لأن الظلمهو وضع الأمر فى غير موضعه أو الحيد عن الحق وقد أصيبت تلك الأمم بداء كان سببا فىظلمها ومن ثم أخذها الله بظلم أهلها وقد نعمت تلك الدول بالرغد ورفاهية العيش والترفوبدلا من شكر الله والاستجابة إلى رسله والسير على نهجه انحرفوا عن الجادة وفسدوا فىالأرض وتمكن الشر من أنفسهم وقد بلى بعضهم بحب المال و التطفيف فى الميزان وبعضها الأخرأضلتها الفاحشة وساءت علاقات الرجال بالنساء وانتشر فيها اللواط فكان لابد من عقابالله لتلك الأمم الظالمة يقول الله تعالى :"وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنابعدها قوما آخرين" سورة الأنبياء آية 11 ويقول أيضا "وكذلك أخذ ربك إذ أخذالقرى وهى ظالمة إن أخذه أليم شديد" سورة هود آية 102


وهكذا يتقرر مبدأ من مبادئ التاريخ يقره الإسلام حيث يقولالله تعالى:"وتلك الأيام نداولها بين الناس" سورة آل عمران 140 وقد التفتابن خلدون لهذا المبدأ والذى سماه مبدأ التداول فيقول فى مقدمته "إن أحوال العالموالأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر إنما هو اختلاف على الأياموالأزمنة والانتقال من حال إلى حال وكما يكون ذلك فى الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلكيقع فى الآفاق والأقطار والأزمنة سنة الله التى قد خلت فى عباده"(8)


ومن كلام بن خلدون السابق يتضح لنا تصورا إسلاميا لا يشوبهشائبة حيث عنصر الزمان ليس ملكا لأحد لا للمسلمين ولا لغيرهم وليس عنصر الحضاره مقصورعلى أمة دون الأخرى وفى إمكان أية أمة أن تنتظر دورها فى الحضارة وفرصتها فى الصعودحينما تكون جديرة بذلك حتى ولو كانت تلك الأمة كافرة بالله فالأمة التى يتوفر لها مقوماتالمدنية والحضارة هى التى تصعد وتحتل مكانتها الرائدة فى تاريخ هذه الحياة التى يعيشهاالإنسان عصرا بعد عصر وحقبة بعد حقبة وفى إمكان الأمم أن تنهض وتطلع إلى أمل الصعودحتى وإن كانت فى القاع وبعملهم الدائب وبأخذهم بأهداب الرقى العلمى والحضارى يمكنهمأن يصعدوا بعد انحطاط وبإمكانهم تولى القيادة مرة وعدة مرات وهكذا تلك الأيام نداولهابين الناس والتصور الإسلامى لإحراز الحضارة هو أن يحدث تغيير داخلى للأفراد وبدون هذاالتغيير لن يحدث شيئا وهذا الحال هو حالنا اليوم وهذا الحال هو ما تعيشه أمتنا العربيةفقد كانت فيما مضى مشعلا للحضارة حينما تغيرت أنفس أبناءها فقادوا الدنيا وأناروهابهديهم وعلومهم وحينما ركنوا واستكانوا هبطوا اليوم إلى القاع ولن يتأتى لهم الصعودوإن كان هذا ممكنا إلا إذا غيروا أنفسهم "ذلك أن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمهاعلى قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" سورة الأنفال الآية 53 . وكما أن التغيير الداخلىيؤدى بالحتمية إلى الصعود والترقى فهناك حتمية لسقوط الحضارات فمتى تسقط الحضارة؟ هناكتصور إسلامى لسقوط الحضارات وبيان أسبابها ومظاهرها فالدولة تسقط عندما يتحكم فى السلطةحفنة من الظلمة المترفين أو من المجرمين الطغاة الذين يرفضون كل إصلاح أو دعوة تجديديةحرصا على كراسيهم وامتيازاتهم وإيذاء هذه الحفنة الظالمة المتسلطة يستسلم الشعب ويرضخلكل الجرائم التى ترتكب فى حقه ويصعب الوقوف فى وجه هؤلاء الظلمة وقد أخبرنا الرسولالكريم بهذا الموقف حيث يقول "سيكون أمراء تعرفون و تنكرون ، فمن نابذهم نجا ،و من اعتزلهم سلم ، ومن خالطهم هلك(9)


ويقول أيضا: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلةإلى قصعتها . فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاءكغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل : يا رسول الله ! وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت"(10)ومن أسباب السقوط الحضارى ومظاهره كما نراه من خلال التصور الإسلامى هو تفشى الضعفوالتفسخ فى شتى مجالات الحياة وفى معظم أنشطة الدولة المترنحة وخاصة على الصعيد الاقتصادى:


1- نرى انقسامالأمة إلى قسمين غير متكافئين فئة قليلة مترفة وفى يدها القرار ، وكثرة فقيرة معدمةوإيذاء هذا التقسيم تحتكر الفئة القليلة ثروة البلاد بينما تنتفى الثروة عن الجموعالفقيرة فى الفئة المقابلة التى تتضور جوعا وهنا يبدو الترف المسرف والفاقة المدقعةفى الطرف الآخر ومن ثم يختل ميزان الحياة ويختل العدل الذى هو أساس معيشة الأفراد وأساسالحياة الاجتماعية فيؤدى فى النهاية إلى ضياع الأمة وتدميرها يقول الله تعالى:"وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناهاتدميرا" سورة الإسراء آية 16 ، وينبغى ألا يستهين أحد بمضار الترف فهو ممارسةمدمرة سواء للجماعة كلها التى تسكت على ذلك وتغض الطرف أو تغلو فى انهزاميتها فتتملقوتتقرب وتداهن وهذا كله إحدى صور النفاق(11)


أما هؤلاء المترفين الذى أعمى الثراء بصائرهم وطمس على قلوبهموادى إلى كل انحلال أخلاقى وهذا هو الجانب الأخطر الذى يبتلى به الإنسان من جريرة الترفوقد يلجأ هؤلاء المترفين إلى كنز المال وعدم تداوله فى المجتمع وعدم دفع حصة الفقراءمنه فينشأ مجتمع الكراهية والحقد من الفقراء المعدومين على هؤلاء الأغنياء المترفينويتمزق السلام الاجتماعى فى الأمة بل نرى ما هو أخطر من ذلك كله إذ تطبق القوانين فىالدولة على الفقراء بصفة عامة ويتهرب منها الأغنياء وبذلك ساءت أحوال الأمة وشعرت الطبقةالكبيرة الفقيرة بالظلم والحرمان والإهانة وأن ولعل هذا الظلم يدفع الناس إلى الموبقاتوارتكاب الجرائم عندها تسقط الحضارة وتتفكك شخصية الأمة فقد روى فى عهد الرسول:"أن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح ، ففزع قومهاإلى أسامة بن زيد يستشفعونه . قال عروة : فلما كلمه أسامة فيها تلون وجه رسول اللهصلى الله عليه وسلم ، فقال: "أتكلمنى فى حد من حدود الله" . قال أسامة: استغفرلى يا رسول الله ، فلما كان العشي قام رسول الله خطيبا ، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد ، فإنما أهلك الناس قبلكم: أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريفتركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، والذى نفس محمد بيده ، لو أن فاطمةبنت محمد سرقت لقطعت يدها" . ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأةفقطعت يدها ، فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت ، قالت عائشة: فكانت تأتى بعد ذلك ، فأرفعحاجتها إلى رسول الله "(12


2- على الصعيدالاجتماعى: إن هذا العامل بلا شك يعد من أهم العوامل التى تؤدى إلى سقوط الحضارات فإنالفساد الاجتماعى وسوء العلاقات بين الناس وسقوط الأخلاق والانقياد وراء الشهوات والملذاتوالأنانية كل هذا يؤدى إلى زوال الحضارة فمن المعروف أن كل حضارة تسقط يسبقها سقوطأخلاقى وقد إبان عن ذلك الجانب كثير من المؤرخين الذين كتبوا عن سقوط الحضارات فكانالعامل الأساسى هو انحطاط أخلاق الأمة وكان مظهر الانحلال فى جميع الحضارات التى زالتيكاد يكون متشابها .


ومن مظاهر الانحلال الاجتماعى غير الترف الذى سبق ذكره هوفقدان التوازن بين الجانب الروحى والجانب الجسدى من متطلبات الإنسان وهذا ما يعرض الجماعةإلى الانحلال والحضارة إلى انحدار ومن هنا كانت تعاليم الإسلام متوازنة إذ طالب المسلمبأن يعدل بين متطلبات الجسد من أكل وشرب وبين متطلبات الروح من إيمان وقراءة وتعلموذكر والقرآن الكريم نراه دائما يرسم خطا جديدا فى تصويره للعلاقة بين الإنسان والعالمخطا يقوم على الوئام والانسجام والتكامل بين الروح والمادة أى بين العقل والقلب بينالأرض والسماء بين الجبرية والقدرية بين الغريزة والوجدان فلا يصح أن يطغى أحد الجانبينعلى الآخر بل لابد أن يتوافق هذان الجانبان وهذا هو الوضع الطبيعى الذى يشجع الإنسانعلى بذل الحد الأقصى لطاقاته وقدراته وهذه إحدى العوامل التى تدفع بعجلة الحضارة إلىالأمام .


3- الصعيد السياسى: إن العامل السياسى والاجتماعى صنوان لايفترقان وبدونهما لا يقوم للحضارات كيان أو ذكر فمن المشاهد والثابت تاريخيا أن وحدةالأمة وتماسكها هو أقوى العوامل للحرص على بقاء الحضارة واستقرارها من جانب وازدهارهامن جانب أخر فالخلافة العباسية التى أحكمت قبضتها على ما تحكمه من دول وولايات كماهو واضح فى العصر العباسى الأول ترعرت فى ظل وحدتها الحضارة الإسلامية التى نعم بهاالشرق والغرب آنذاك وحينما ضعفت قبضة الخلافة على دويلاتها تمزقت البلاد واستقلت أكثردولها وتفسخت إلى كيانات صغير فأدى ذلك إلى أفول الحضارة العباسية وهيمنة العناصر الغيرعربية على الدولة وأضحت أمة متخلفة تنظر إليها أمم الأرض بازدراء وكذلك الحال فى الأندلسالإسلامية فحين فقدت وحدتها وبدأ عصر الطوائف وانقسمت الدولة إلى دويلات تحارب بعضهابعضا وقد هيمنت عليها عناصر الضعف والتخاذل وملأ العداء والحقد قلوب ملوكها فاستعانوابالأجنبى ليرجح كفة أحدهما على الأخرى ، ومن ثم وقعت بلاد الأندلس فى براثن ذلك العدو، وهذا هو الأمر الذى حذر منه القرآن الكريم فيقول الله تعالى: "إن الذين فرقوادينهم وكانوا شيعا لست منهم فى شئ" سورة الأنعام الآية 159 ويقول فى موضع أخر"ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم" سورة الأنفال آية 46 ، فهل لزعماء العالمالعربى والإسلامى اليوم من ملوك ورؤساء أن يستوعبوا الدرس أم ران على قلوبهم فهم لايفقهون!! .





ثانيا : فكرة التاريخ عند اليهود


ربط اليهود بين طبيعة الذات الإلهية وحركة التاريخ بطريقةخاطئة شوهت مقام الألوهية إذ صوروه جل شأنه فى صورة كائن بشرى يصنع التاريخ وفق إرادتهمن هنا كان التاريخ فى نظرهم مجالا لتجلى الإرادة الإلهية وطريقا لفهم إرادته ومشاعرهوغضبه ورضاه ومن يتصفح التوراة يجد عبثا كبيرا من هذا القبيل فمثلا تصورهم لمفهوم الألوهيةمن خلال التوراة أن الله يبدو فى صورة بشر ، ويمكن لصورته أن تحل فى بعض الأشخاص تعالىالله عما يقولون علوا كبيرا فالله مثلا يدخل فى عراك مع يعقوب ويكاد يعقوب ينتصر عليهويضطر عندما أحس بالهزيمة أن يطلب العفو ولا يتركه يعقوب إلا بعد أن يباركه رغم أنفه- كما أن التوراة تصور أن الله إله خاص لا يحب إلا بنى إسرائيل ، وأما بقية الأممينفهم أقل أن يأبه الله بهم أو يرعاهم .


ومما لا شك فيه أن نظرتهم تلك لمقام الألوهية من خلال توراتهمالمحرفة قد أثرت على مفهوم فكرة التاريخ عند اليهود قاطبة إذ إنهم فقدوا تماما الإحساسبالغاية من الوجود فاختلت لديهم مفاهيم الزمان سواء فى الماضى أو الحاضر أو المستقبل، كما وقد تشوه مقام كينونة الإنسان فى نظرهم . وهذا المفهوم يختلف تماما عن مفهومالمسلمين للزمان والإنسان كما وضحنا سابقا وهما بلا شك المحوران الأساسيان لحركة التاريخبصفة عامة .


فعنصر الزمان اقترن فى حسهم بالأسى والحزن والتشرد والضياع، وتنبع تلك النظرة من مفهومهم الخاطئ بسقوط أدم عليه السلام الذى أعقبه استمرار الخطيئةفى ذريته وتوارثهم الطبيعى للإثم ، وأن ما حل بهم من آلام وتشريد إنما هو عقوبة منالله على ما ارتكب شعب الله من آثام . بل ربما تتسع دائرة الإحساس بالذنب إلى ما هوأكبر فهم يرون أن الحقائق التاريخية ما هى إلا مواقف بين الله والبشر تتجلى فيها إرادةالله فاعلة وحاكمة على الفعل الإنسانى الذى سلب كل حرية وكل خيار لذا كان لكل هزيمةحربية أو كارثة تفسير لاهوتى واضح لديهم يبين غضب الله على هؤلاء القوم وقد تفيض تلكالآلام والآثام على العالم أجمع بسبب خطيئة اليهود مع الله (13) .


أما عن الإنسان فقد جاء مفهومهم له ولرسالته مشوها فلأن انتفاءالغاية عن الوجود لدى اليهودى بصفة عامة قطعت أواصر الثقة فى الذات الإلهية الأمر الذىنجم عنه الخوف على المصير ، والقلق على المستقبل . لأنه مستقبل ملوث بخطايا البشر التىلحقت بهم من الخطيئة الأولى وقد انتقل هذا المفهوم عن الإنسان إلى المسيحية حتى كانمقتل المسيح على الصليب فى نظرهم تخليصا لذنوب البشر ، بل إن صعوده إلى السماء فى نظربعضهم تأكيد للبشرية على الخلود وأنه سوف يعود فى المستقبل جالبا معه يوم الحساب .


ومن هنا كان تجسيد الله فى صورة بشرية ثم دخوله فى التاريخوقضايا الصلب والقيامة والصعود كلها حقائق التاريخ فى نظر اليهود والنصارى(14)وهذه الحقائق بلا شك منافية لروح الإسلام وتعاليمه السمحاء :


1 ـ إن قصة هبوط آدم كما يراها الدكتور محمد إقبال فى كتابه" تجديد التفكير الدينى فى الإسلام " ليس لها صلة بظهور الإنسان الأول علىهذا الكوكب " وإنما أريد بها بالأحرى بيان ارتقاء الإنسان من بدائية الشهوة الغريزيةإلى الشعور بأن له نفسا حرة قادرة على الشك والعصيان ، ولا يعنى الهبوط أى فساد أخلاقى، بل هو انتقال الإنسان من الشعور البسيط إلى ظهور أول بارقة من بوارق الشعور بالنفس... هذا إلى أن القرآن لا يعتبر الأرض ساحة للعذاب سجنت فيها إنسانية شريرة العنصربسب ارتكابها خطيئة أصلية فالمعصية الأولى للإنسان كانت أول فعل له تتمثل فيه حريةالاختيار ، ولهذا تاب الله على آدم كما جاء فى القرآن الكريم وغفر له"(15).


2 ـ يوضح القرآن سبب المعصية وهى رغبة آدم فى الحصول علىملك لا يبلى أى ملك لا نهائى من حيث هو فرض ذو وجود متحقق وهى رغبة فى دوام الحياةويصور القرآن الكريم تلك الرغبة التى شدت آدم وزينها له الشيطان فوسوس إليه الشيطان. " قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ، فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهماوطفقا يخسفان عليهما من ورق الجنة ، وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه وهدى " طه120 ـ 122


وتفسر مدام بالفاتسكى فى كتابها " المذهب السرى" سر تلك الشجرة ، والكاتبة كما عرف عنها كانت على حظ كبير من العلم بالرمزيةالقديمة ، وأن الشجرة كانت عند القدماء رمزا إلى علم الغيب ، وأن آدم حرم عليه أن يذوقثمر هذه الشجرة لأن تركيبته البشرية كانت غير مهيأة لمثل تلك المعرفة بل كانت مهيأةلنوع آخر من أنواع المعرفة تقتضى الكد فى معاناة الملاحظة وقد انقاد آدم للشيطان لالأن الشرك متأصل فيه بل لأنه كان عجولا بطبعه إذ أراد أن يأخذ المعرفة عن أقرب طريق، وكان السبيل إلى ذلك أن يوضع فى بيئة مهما تكن مؤلمة ـ لإبراز قواه العاقلة وليسذلك عقابا بل كان ذلك بهدف صد الشيطان الذى احتال عليه(16) .


3 ـ إن الإسلام لا يعتقد بالخطيئة الأولى أو الأصلية التىبنى عليها اليهود حقائق التاريخ والتى بسببها لعنت التوراة المزيفة الأرض بسبب تلكالمعصية ، فالقرآن الكريم يقرر أن الأرض دار سكن للإنسان ومصدر رزق له وعليه أن يشكرالله على تلك النعمة يقول الله تعالى: "ولقد مكناكم فى الأرض وجعلنا لكم فيهامعايش قليلا ما تشكرون" سورة الأعراف آية 10


4- كما أن الإسلام ينكر تماما فكرة الإثم الوراثى التى قامتعليها فكرة التاريخ عند اليهود فالإنسان يولد على الفطرة وإنما الإثم الذى يلحق بهإنما يرجع إلى خطأ فى تربيته يقول الرسول :"كل مولود يولد على الفطرة ثم أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه "ومنهذا المنطلق فإن فى استطاعة الإنسان السوى كما يقرر الإسلام أن يجتث الخطيئة بأعمالهالحرة الخيرة وبتوجيه قوى الطبيعة لصالحه وبذلك يتغلب على الشر فإذا حاد الإنسان عنذلك فسوف ينحط إلى الخطيئة ولكنها ليست خطيئة آدم كما يدعى اليهود(17) يقولالله تعالى: "والتين والزيتون . وطور سنين . وهذا البلد الأمين . لقد خلقنا الإنسانفى أحسن تقويم . ثم رددناه أسفل سافلين . إلا الذين أمنوا عملوا الصالحات فلهم أجرغير منون" .


5 ـ كما أن الإسلام ينكر فكرة النمو الخلقى المحتوم وهى فكرةأخرى قام عليها التفسير التاريخى لليهود والتى يرجعها اليهود إلى فكرة العناية الإلهيةأو الجبرية اللاهوتية ومؤداها أن كل ما يجرى فى العالم من أحداث فهو مقدر منذ الأزلوهى فكرة غزت بعض الفرق الإسلامية والتى تقول بالجبرية ، ومن هذا المنطلق فإن اليهوديرون أن إرادة الله فاعلة التاريخ وكيفية ذلك أمر يعجز عن إدراكه العقل البشرى ولذافإنه يمكن أن تكون أخلاق حقبة تاريخية أرقى من أخلاق حقبة أخرى أو أن شعبا أرقى منشعوب أخرى أو أن جنسا أعرق من أجناس أخرى ، وهذا ما تفسره خرافة اليهود القائلة بأنهمشعب الله المختار(18) .


إذن مما تقدم عرضه ندرك أن مؤرخى المسلمين كانت لهم فلسفتهمالواضحة فى علم التاريخ وهى فلسفة قائمة على وعى عميق برسالة المسلم فى الحياة ودورهفى عمران الأرض وإقامة الحق والعدل عليها ، وهى فكرة أصيلة ربما تكون اليوم غائبة عنكتابات بعض المؤرخين المعاصرين مما دفع البعض إلى التماس تفسيرات تاريخية فردية عنفكرنا الإسلامى كالتفسير المثالى لهيجل والتفسير المادى لماركس وإنجليز ، والتفسيرالحضارى لتونبى وغيرها من تفسيرات واهية حاول البعض إحلالها محل التفسير الإسلامى مماجعل الفرصة سانحة لمفكرى اليهود من مستشرقين وغيرهم أن يبثوا أفكارهم من خلال تلك التفسيراتالوضعية الهدامة وأن يزرعوها فى عقول الدارسين على أيديهم الأمر الذى أدى إلى تشويهالكثير من حقائق التاريخ الإسلامى . وسوف نعرض فى الصفحات التالية بعضا من التفسيراتالتاريخية التى نفذ من خلالها الفكر اليهودى إلى كتابة التاريخ الإسلامى والتأثير فيه.
























































مراجع المبحث الأول


1- أحمد شلبى. موسوعة التاريخ الإسلامى والحضارة الإسلامية ، الجزء الأول ، مكتبة النهضة المصرية. القاهرة ط الحادية عشر 1984م . ص33 .


2- ابن خلدون. المقدمة . ص4 . لعلنا نلمس من نص ابن خلدون نظرته الفلسفية لعلم التاريخ ، فإن كانالمؤرخون الآخرون ينظرون إلى التاريخ على أنه مجرد سرد حكايات للعبرة أو التسلية ،فإن التاريخ عنده يعنى فلسفة عميقة للحادثة التاريخية قائمة على التحقيق والتنقيح لقوانينعلم الاجتماع ، وبذلك يكون ابن خلدون صاحب نظرية فى فلسفة التاريخ سبق بها أصحاب النظرياتالحديثة .


3- موسوعة التاريخالإسلامى . مرجع سابق ص33 .


4- أدب التاريخعند العرب . مرجع سابق ص175 ـ 196 بتصرف .


5- المرجع السابق، نفس الصفحات .


6- مقدمة بن خلدونص4 .


7- تفسير بن كثيرج4 ص210


8- مقدمة بن خلدونص140 نقلا عن الشيخ عمر عوده الخطيب فى كتابه المسألة الاجتماعية مؤسسة الرسالة


9- الألبانى-صحيح : صحيح الجامع ص 3661


10- الألبانى- صحيح - صحيح أبى داود- ص4297


11- أضواء على تفسيرالتاريخ . دكتور نعمان عبد الرزاق . السامرائى


12- صحيح- الجامع الصحيح – البخارى – ص4304


13- أدب التاريخعند العرب . ص113 ـ 121 .


14- المرجع السابق، نفس الصفحات .


15- نقلا عن كتاب محمود الشرقاوى ، التفسير الدينى للتاريخ ، الجزء الأول ، كتاب الشعب ص243 .


16- المصدر السابق ص244 .


17- المصدر السابق ص247 .


18- المصدر السابق ص248 .



t;vm hgjhvdo uk] hglsgldk , hgdi,]