ملاحظات هامة :
إن من الامور الغريبة حقا أن نرى نفس الخليفة يكتب وثيقة العهد ـ الطويلة جدا!! ـ بخط يده .. وأغرب منه أنه تقدم إلى الامام ، وقال له : « اكتب خطك بقبول هذا العهد. وأشهد الله والحاضرين عليك، بما تعده في حق الله ورعاية المسلمين .. ».( مآثر الأناقة ج 2 ص 332.).
وهذا إن دل على شيء ، فإنما يدل على مدى أهمية هذا الأمر بالنسبة إلى المأمون ، وأنه يريد تطويق هذا الموضوع من جميع جهاته ، وإن استلزم ذلك كل تلك الامور ؛ وإلا .. فما هو الداعي لأن يكتب له العهد بخط يده!!! ثم أن يتقدم إليه بنفسه!!! .. ثم ما الداعي لأن يطلب من الإمام ذلك!!!.
هذا .. ولا بأس أيضا بملاحظة تعبير المأمون بـ « قبول »!!!. ثم ملاحظة أنه طلب منه أن يكتب هذا القبول بـ « خط يده »!!!. ثم طلب منه أن يشهد الله والحاضرين على نفسه!!!.
ولعمري .. لو كان ما كتبه الإمام الرضا على وثيقة العهد من شخص عادي آخر ، لكان يقال عنه الشيء الكثير تعظيما وتبجيلا ؛ حيث إنه لم يضل عن خطته التي اختطها لنفسه ، ولا حاد عن نهجه قيد أنملة .. مع أن المأمون كان قد فاجأه بطلب الكتابة على الوثيقة ، ولم يكن هو مستعدا ، ولا متوقعا لذلك ؛ لأن العادة لم تكن قد جرت على ذلك ..
وهذا ولا شك مما يزيد من عظمة الإمام ، ويعلي من شأنه ، ويستدعي المزيد من التعظيم والتبجيل له ..
هذا ولقد لقد قام الخليفة المأمون بما يلي:
خلع أخاه المؤتمن من ولاية العهد.
بدل شعار الدولة من السواد إلى الخضرة.
أمر ولد العباس وأركان دولته وقادة جيشه بمبايعة الإمام عليه السلام ولياً للعهد.
ولنفس السبب أيضا نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضا
أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضا ابنته أم حبيبة.، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له ، حيث كان يكبرها الإمام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الاخرى للامام الجواد ، الذي كان لا يزال صغيرا ، أي ابن سبع سنين (راجع مروج الذهب ج 3 / 441 ، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج 11 / 1103، طبع لندن، والبداية والنهاية ج 10 / 269 : أنه (الرضا) لم يدخل بها إلا في سنة 215 للهجرة ، ولكن يظهر من اليعقوبي ج 2 / 454 ط صادر : أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله الى بغداد ، وأمر له بألفي الف درهم ، وقال : إني أحببت أن أكون جدا لأمرئ ، ولده رسول الله ، وعلي بن أبي طالب ، فلم تلد منه. انتهى.
وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضا ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضا؛ حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريبا بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في البحث عن ظروف وملابسات وفاته.
وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسيا، مفروضا إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسيا أيضا ، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الايرانيين ، ويجعلهم يطمئنون إليه ، خصوصا بعد عودته إلى بغداد ، وتركه مروا ، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل ، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل ، المعروف بثرائه ونفوذه ..).
وفاة الرضا
هذا وقد اختلف في أمر وفاة الرضا؟ وكيف كان سببه السم الذي سقيه؟
ولقد أجمع الشيعة على أن المأمون قد قتله بالعنب المسموم. وواقع الأمر أنه بعد كل الذي قدمناه نستطيع القول بكل يقين أن ذلك الاتهام إنما هو من فعل الرافضة لعنة الله عليهم كما سنوضحه في حينه.
ولما توفي الرضا لم يظهر المأمون موته في وقته، وتركه يوما وليلة، ثم وجه إلى محمد بن جعفر بن محمد، وجماعة من آل أبي طالب، فلما أحضرهم أراهم إياه، صحيح الجسد، لا أثر له، بكى، وقال: " عز علي يا أخي أن أراك في هذه الحالة، وقد كنت أؤمل أن أكون قبلك، فأبى الله إلا ما أراد "، وأظهر جزعا شديدا، وحزنا كثيرا، وخرج مع جنازته يحملها حتى أبى الموضع الذي هو مدفون فيه الآن، فدفنه هناك إلى جانب أبيه هارون الرشيد (أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبين ص ٣٧١ - ٣٧٢.).
ويروي اليعقوبي عن أبي الحسن بن أبي عباد قال: رأيت المأمون يمشي في جنازة الرضا، حاسرا في مبطنة بيضاء، وهو بين قائمتي النعش يقول: " إلى من أروح بعدك يا أبا الحسن، وأقام عند قبره ثلاثة أيام، يؤتى في كل يوم برغيف وملح فيأكله، ثم انصرف في اليوم الرابع، وكان سن الرضا أربعا وأربعين سنة (تاريخ اليعقوبي 2/ 453).
وفي رواية المسعودي: وفي خلافته (أي المأمون) قبض علي بن موسى الرضا مسموما بطوس، ودفن هناك، وهو يومئذ ابن تسع وأربعين سنة، وستة أشهر، وقيل غير ذلك (المسعودي: مروج الذهب 2 / 395.).
ولعل من الجدير بالإشارة أن الشيعة لا تجد تناقضا بين أن يجد الرضا كل هذه الحظوة لدى المأمون حين بايع له بولاية العهد، وزوجه أخته (الصحيح ابنته)، وبين أن يدس له المأمون السم في العنب، ثم يصلي عليه، ويدفنه بجوار قبر أبيه الرشيد في مشهده بطوس، فقد أصبح مقدرا على الأئمة - منذ الإمام الحسين بن علي - أن يكون قاتلوهم هم الخلفاء، أو بإيعاز منهم (أحمد صبحي: المرجع السابق ص 378.).
هذا ولما كان الإمام علي الرضا مات شهيدا، فقد أقيمت حول قبره مدينة جديدة يعيش فيها زوار قبر الإمام، والمتبركون به، سميت " المشهد الرضوي " أو " مشهد " والتي أخذت بالتدريج تأخذ مكان مدينة " طوس " القديمة، حتى قضت عليها، وغدت تمثل الآن أكبر عتبات الشيعة المقدسة - بجوار كربلاء والنجف - وهكذا يحق للشيعة أن يذكروا أن مدفن الإمام علي الرضا في طوس - والذي يعد من أكبر مزارات الشيعة بجوار مدفن هارون الرشيد - وهو من كان في عليائه وجبروته، وذيوع صيته، حتى فاقت شهرته جميع الخلفاء - يحق للشيعة أن يذكروا أن قبر الرشيد هذا، إنما قد اندرس، وأهمل شأنه، بينما ظهر قبر الإمام الرضا، يقصده زوار الشيعة، ومحبي آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، من أطراف البلاد، وشاسع الأمصار، وهكذا يعلو شأن الأئمة الروحيين بعد مماتهم، بينما لا يعار سلاطين الأرض، أدنى اهتمام منذ اللحظة التي توارى فيها أجسادهم التراب (أحمد صبحي: المرجع السابق ص 389.).
وروى ابن خلكان (وفيات الأعيان 3 / 270 - 271.) (608 - 681 ه) أن بعض أصحاب أبي نواس
- الشاعر المشهور - قال له: ما رأيت أقبح منك، ما تركت حمرا، ولا طردا، ولا معنى، إلا قلت فيه شيئا، وهذا " علي بن موسى الرضا " في عصرك لم تقل فيه شيئا، فقال: والله ما تركت ذلك، إلا إعظاما له، وليس قدر مثلي أن يقول في مثله، ثم أنشد بعد ساعة هذه الأبيات:
قيل لي أنت أحسن الناس طرا * في فنون الكلام النبيه لك من جيد القريض مديح * يثمر الدر في يدي مجتنيه فعلام تركت مدح ابن موسى * والخصال التي تجمعن فيه قلت لا أستطيع مدح إمام * كان جبريل خادما لأبيه وفي الإمام علي الرضا يقول أيضا:
مطهرون نقيات جيوبهم * تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا من لم يكن علويا حين تنسبه * فما له في قديم الدهر مفتخر الله لما أبرأ خلقا فأتقنه * صفاكم واصطفاكم أيها البشر فأنتم الملأ الأعلى وعندكم * علم الكتاب وما جاءت به السور .
على أن الأهم أن الإمام الرضا - بعد أن أصبح وليا لعهد الخلافة - لم يعد إماما للشيعة وحدهم، وإنما أصبح إماما للمسلمين جميعا، بما فيهم أهل السنة والزيدية، فضلا عن سائر فرق الشيعة المتناحرة، ومن ثم فقد اجتمعت الأمة على إمامته واتباعه والالتفاف حوله، وكان الإمام الرضا - رضوان الله عليه - هو الإمام المطاع في العالم الإسلامي كله .
لقد كان من نتائج اختيار المأمون للإمام ، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ : أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والامصار. ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد البيعة للرضا ، سوى ثورة عبد الرحمن بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق المؤرخين ـ هو فقط : ظلم الولاة وجورهم ، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه ... الفضل في قفص الاتهام :
وأخيرا .. فإن بعض المؤلفين ، كأحمد أمين ، وجرجي زيدان(تاريخ التمدن الاسلامي ، المجلد الثاني جزء 4 ص 439.) وأحمد شلبي(التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ج 3 ص 320.) ، وغيرهم. وبعض المؤرخين كابن الأثير في الكامل ، طبعة ثالثة ج 5 ص 123 ، وابن الطقطقي في :الفخري في الآداب السلطانية ص 217 ، وغيرهما .. يرون أن الفضل بن سهل كان العامل الرئيسي في لعبة « ولاية العهد » هذه ، وأن المأمون كان في ذلك واقعا تحت تأثير الفضل ، الذي كان يتشيع.
مواقع النشر (المفضلة)