صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 40 من 54

الموضوع: الخليفة المأمون المفترى عليه

الخليفة المأمون المفترى عليه دراسة أعدها لكم المهندس زهدي جمال الدين محمد وكان الفراغ منه في الأول من مارس عام 2021م نسخة مختصرة منقحة

  1. #1

    1 (7) الخليفة المأمون المفترى عليه

    245039525.jpg

    الخليفة المأمون
    المفترى عليه
    دراسة أعدها لكم
    المهندس
    زهدي جمال الدين محمد
    وكان الفراغ منه في الأول من مارس عام 2021م
    نسخة مختصرة منقحة



    hgogdtm hglHl,k hgltjvn ugdi


  2. #2

    افتراضي




    توطئة
    صلة الماضي بالحاضر والمستقبل :

    .. بديهي

    أن بعض الأحداث التاريخية ، التي تمر بالأمة ، تؤثر تأثيرا مباشرا ، أو غير مباشر في واقعها ، إن حاضرا ، وإن مستقبلا .. بل وقد تؤثر في روح الأمة ، وعقلها ، وتفكيرها .. ومن ثم على مبادئها العامة ، التي قامت عليها قوانينها ونظمها ، التي تنظم لها مسيرتها ، وتهيمن على سلوكها .. فقد تقوي من دعائمها ، وتؤكد وجودها ، واستمرارها ، وقد تنسفها من أسسها ، إن كانت تلك المبادئ على در
    جة كبيرة من الضعف والوهن في ضمير الأمة ووجدانها .. وعلى صعيد العمل في المجال العملي العام ..
    فمثلا .. نلاحظ أن الاكتشافات الحديثة ، والتقدم التقني قد أثر أثرا لا ينكر حتى في عاطفة الإنسان ، التي يفرضها واقع التعايش .. وحتى في مواهبه وملكاته ، فضلا عن سلوكه ، وأسلوب حياته ..
    وحيث إن المبادئ الاجتماعية لم تكن على درجة من الرسوخ والقوة في ضمير الإنسان ووجدانه ، ولم تخرج عن المستوى الشكلي في حياته العملية ـ وإن انغرست في أعماق بعض أفراده أحيانا في دورات تاريخية قصيرة ـ نرى أنها بدورها قد تأثرت بذلك ، ونسفت او كادت من واقع هذه الأمة ، وعدمت أو كادت من دائرة حياتها .. وليكون البديل ـ من ثم ـ عنها لدى هذا الكائن هو « الذاتية » الكافرة بكل العواطف الاجتماعية ، والعوض عنها في نفسه هو المادة الجافة ، التي لا ترحم ولا ترثي ، ولا تلين ، لا يجد لذة العاطفة ، ولا حلاوة الرحمة ، وليعود الانسان ـ بعد لأي ـ متشائما حاقدا ، لا يثق بمستقبله ، ولا يأمن من يحيط به ، ولا يطمئن إلى أقرب الناس إليه ..
    وبطبيعة الحال ، سوف يتأثر النشء الجديد بذلك ، ثم ينتقل ذلك إلى الجيل الذي يليه .. وهكذا ..
    وهكذا .. فإن الحدث التاريخي الذي كان قبل ألف سنة مثلا ، أو أكثر قد نجد له آثارا بارزة ، حتى في واقع حياتنا التي نعيشها اليوم.وإذن .. فنستطيع أن نستخلص من هذا : أن الأحداث التاريخية مهما بعدت ، ومن أي نوع كانت تؤثر في وضع الأمة ، وفي تصرفاتها ، وفي حياتها ، وسلوكها على المدى الطويل .. وتتحكم ـ إلى حد ما ـ في مستقبلها. وان العامل التاريخي له أثر كبير في فرض المستوى الذي يعيشه المجتمع بالفعل ، سواء في ذلك الأدبي منه ، أو العلمي ، أو الديني ، أو السياسي ، أو الاقتصادي ، أو غير ذلك ..وغني عن القول هنا .. أن التأثر بالأحداث يختلف من أمة لأخرى ، ومن عصر لآخر ..

    لماذا كان تدوين التاريخ :
    ومن هنا تبرز أهمية التاريخ ، ونعرف أنه يلعب دورا كبيرا في حياة الأمم : مما يجعلنا لا نجد كثير عناء في الإجابة عن سؤال : لماذا عنيت الأمم على اختلافها بالتاريخ ، تدوينا ، ودرسا ، وبحثا. وتمحيصا؟!
    فان ذلك لم يكن إلا لأنها تريد أن تستفيد منه ، لتتعرف على واقعها الذي تعيشه ؛ لتستفيد من ذلك لمستقبلها الذي تقدم عليه .. ولتكتشف منه عوامل رقيها ، وانحطاطها ، ولتنطلق من ثم لبناء نفسها على أسس متينة وسليمة ..
    فمهمّة التاريخ إذن ـ تاريخ الأمة المدوّن ـ هي : أن يعكس بأمانة ودقة ما تمر به الأمة من أحوال وأوضاع ، وأزمات فكرية ، واقتصادية ، وظروف سياسية : واجتماعية ، وغير ذلك.
    ونحن .. هل نملك تاريخا؟!!
    ونحن أمة .. لكننا لا نملك تاريخا ـ وأقصد بذلك كتب التاريخ ـ نستطيع أن نستفيد منه الكثير في هذا المضمار ؛ لأن اكثر ما كتب لنا منه تتحكم فيه النظرة الضيقة ، والهوى المذهبي ، والتزلف للحكام.
    وأقصد بـ « النظرة الضيقة » : عملية ملاحظة الحدث منفصلا عن جذوره وأسبابه التي تلقي الضوء الكاشف على حقيقته وواقعه
    نعم .. إننا بمرارة ـ لا نملك تاريخا نستطيع أن نستفيد منه الكثير ؛ لأن المسيرة قد انحرفت ، والأهواء قد لعبت لعبتها وأثرت أثرها المقيت. البغيض ، حتى في تدوين التاريخ نفسه.
    وإنه لمما يدمي قلوبنا ، ويملأ نفوسنا أسى وألما ، أن نكون قد فقدنا تاريخنا ، ودفناه تحت ركام من الانانيات ، والعصبيات ، والأطماع الرخيصة ، حتى لم يبق منه سوى الرسوم الشوهاء ، والذكريات الشجية ..
    ومرة أخرى أقول : إن كل ما لدينا هو ـ فقط ـ تاريخ الحكام والسلاطين ، الذين تعاقبوا على كراسي الحكم. وحتى تاريخ الحكام هذا ، رأيناه مشوها ، وممسوخا ؛ حيث لم يستطع أن يعكس بأمانة وحيدة الصورة الحقيقية لحياة أولئك الحكام ، وأعمالهم وتصرفاتهم ؛ وما ذلك إلا لأن المؤرخين لم يكونوا أحرارا في كتابتهم للتاريخ. بل كانوا يؤرخون ويكتبون حسب ما يريده الحكام أنفسهم ، ويخدم مصالحهم .. إما رهبة من هؤلاء الحكام ، او رغبة ، او تعصبا لمذهب ، أو لغيره ..
    ومن هنا .. فليس من الغريب جدا أن نرى المؤرخ يعتني بأمور تافهة وحقيرة ؛ فيسهب القول في وصف مجلس شراب ، أو منادمة ، حتى لا يفوته شيء منه ، أو يختلق ويفتعل أحداثا لم يكن لها وجود إلا في عالم الخيالات والأوهام ، أو يتكلم عن أشخاص لم يكن لهم شأن يذكر ، بل قد لا يكون لهم وجود أصلا .. بينما نراه في نفس الوقت يهمل بالكلية شخصيات لها مكانتها ، وخطرها في التاريخ ، أو يحاول تجاهل الدور الذي لعبته فيه .. ويهمل أو يشوه أحداثا ذات أهمية كبرى ، صدرت من الحاكم نفسه ، أو من غيره ، ومن بينها ما كان له دور هام في حياة الأمة ، ومستقبلها ، وأثر كبير في تغيير مسيرة التاريخ ، أو يحيطها ـ لسبب أو لآخر ـ بستار من الكتمان ، والابهام.
    ومن تلك الأحداث ..
    وفي طليعة تلك الأحداث التي كان نصيبها ذلك من قبل الخليفة العباسي عبد الله المأمون!! ..
    والمتهم والمتهم بقتل كلا من أخيه محمد الأمين خليفة المسلمين والإمام على بن موسي الكاظم بن جعفر الصادق الإمام والثامن عند الإمامية الاثني عشرية، عمدا مع سبق الإصرار والترصد بالإضافة إلى جوره على أهل مصر والتنكيل ببطريكهم. هذا بخلاف تنكيله بالإمام أحمد بن حنبل وذلك فيما يعرف بمحنة خلق القرآن الكريم.
    هذه الأحداث الذي لم تكن عادية ، وطبيعية ، كسائر ما يجري وما يحدث ، والتي كان نصيبها من المؤرخين أن يتجاهلوها ، ويقللوا ما أمكنهم من اهميتها ، وخطرها ، وأن يحيطوا أسبابها ودوافعها ، وظروفها بستائر من الكتمان .. وعند ما كانت تواجههم الأسئلة حولها تراهم يرددون تلك التفسيرات التي أراد الحكام أن يفهموها للناس ، دون أن يكون من بينها ما يقنع ، أو ما يجدي ..
    إلا أننا مع ذلك ، لم نعدم في هذا الذي يسمى ، بـ « التاريخ » بعض الفلتات والشذرات المتفرقة هنا وهناك ، التي تلقي لنا ضوءا ، وتبعث فينا الرجاء والأمل بالوصول إلى الحقائق التي خشيها الحكام ؛ فقضوا عليها ـ بكل قسوة وشراسة ـ بالعدم ، والاندثار ..
    ولو فرض : أنه كان للمؤرخين القدامى العذر ـ إلى حد ما ـ في تجاهل هذه الأحداث ، والتقليل من أهميتها ، لظروف سياسية ، واجتماعية ، ومذهبية معينة ... فان من الغريب حقا أن نرى الباحثين اليوم ـ مع أنهم لا يعيشون تلك الظروف ، وينعمون بالحرية بمفهومها الواسع ـ يحاولون بدورهم تجاهلها ، والتقليل من أهميتها ، عن قصد أحيانا ، وعن غير قصد أخرى ، وإن كنا نستبعد هذا الشق الأخير ؛ إذ أننا نشك كثيرا في أن لا يسترعي أحداث غريبة كهذه من انتباههم ، وتلفت أنظارهم ..
    وأيا ما كان السبب في ذلك ، فان النتيجة لا تختلف ، ولا تتفاوت ؛ إذ انها كانت في الواقع الخارجي سلبية على كل حال.


  3. #3

    افتراضي

    مقدمة الدراسة
    عندما هممت بالدفاع عن الخليفة المأمون واجهتني إشكالية كبرى أجدها تعترض العقل بوجه عام ألا وهي:
    إذا تجذرت في العقل فكرة ما سوف تراه كالمغناطيس يجذب كل الظروف الداعمة لتأكيد تلك الفكرة ويهمل ويصد الحالات التي تثبت العكس..
    إذ أن العقل قادر على تشويه صورة الواقع ليصبح ملائما ومطابقا لوجهات نظره في الأشياء والأحداث والوقائع التاريخية، ومن ثم يجب علينا أن لا نغمت حق الشخصية التي نتناولها ونجعل الهوى هو المسيطر علينا..
    صعوبة مهمة المؤرخ
    والحق أنها مهمة صعبة أن تستكشف حقيقة الظالم من المظلوم، والغالب من المغلوب، والهادي والضال في هذه الدولة التي لعبت فيها الأقلام والألسنة دورًا عظيمًا، ولولا ما جنحنا إليه من الاطلاع على شتى المصادر، وقضينا في ذلك تمهيدًا طويلًا ودرسًا مملًّا مُتعبًا، فطالعنا أقوال الأحزاب المتضاربة، ووازنَّا بين كلمة هذا ودفاع ذاك لما كنا بالغين بعض ما بلغناه من إماطة اللثام عن بعض الحقائق التاريخية.
    ولقد اعتمدت في هذه الدراسة على أمهات الكتب وكثير من المراجع المشهورة عند أهل السنة والشيعة فانتقيت منها ما يتماشى مع طبيعة العقل وتسلسل الأحداث متجاوزا عن الإسهاب المخل ولقد اعتمدت على نقل النصوص بذاتها دون الإشارة إلى المرجع -إلا ما ندر- على أنني سوف أثبتها في نهاية الدراسة وذلك حتى لا أقطع تسلسل الأحداث على القارئ والذي يستطيع بسهولة تمييز النص الأصلي عن أسلوبي الكلامي. وقبل أن نبدأ في العرض والتحيل من المهم الوقوف على الحقائق التالية:
    أولاً: خطر نظام ولاية العهد وأثر البطانات

    لننظر نظرة عجلى في تاريخ هذا النظام لنقنع بما وصلت إليه بحوثنا، فنرى مثلًا أن مروان بن الحكم جعل ولاية العهد من بعده لابنه عبد الملك بن مروان، ثم من بعده لابنه عبد العزيز بن مروان، ومهما يكن الباعث لمروان على أن يجعل ولاية العهد لولدين من أولاده، فإن جُلَّ خلفاء بني أمية من بعده اتخذوا صنيعه سنة متبعة. سنرى في كلامنا عن العصر العباسي إلى أي مدًى كان خطر هذا النظام على حياة الدولة، أو على الأقل مبلغ ما فيه من ضعف لها، وإيذان باضمحلالها، واضطراب لحبلها.
    لم يكن هذا النظام شرًّا مستطيرًا وعاملًا كبيرًا من عوامل الضعف؛ إلاَّ لما يستلزمه من نكث العهد، ثم من انشقاق البيت المالك على نفسه، وترك المجال واسعًا لوشايات تسعى بها بطانات السوء ممن نرجو أن نصوِّر مثَلهم ومثَل صنيعهم السيئ ومثَل خطرهم على الدولة، حين نعرض للكلام عن عصر المأمون وما شجر بين الأخوين من خلاف، أو ما أذكته البطانة بينهما من خلاف — هذه البطانة ترقب دائمًا انشقاق البيت المالك، أو ما هو مُركَّب في الطبيعة البشرية وولاة العهد من ترقُّب لتسلُّم مقاليد الأمور، وتعجل للذة الحكم والسلطان، فتستغله لتقضي مآربها، وتستمتع بأطماعها، وسرعان ما تجد الفرصة سانحة لها، ومواتية لأطماعها إذا صار الأمر إلى ولي العهد الأول الذي حاول ما هو طبعي من خلْع من أُشرك معه في ولاية العهد؛ إما كراهية له، أو إيثارًا لغيره عليه ممن هم أمسُّ منه رحمًا، وأقرب مودة.
    نعم، قد يجد ولي العهد كثيرين من الناصحين الذين يستنكرون الخلع، بيد أنه لا يعدم أيضًا كثيرين ممن هواهم مع غير هذا الذي يراد خلعه يُزيِّنون له ما يحاول، حتى إذا صار الأمر إلى مَن أريد خلعه كافأ كلًّا من الفريقين بما يستحق — وكان أحيانًا يُفتَك بكثير من ذوي البلاء الحسن في تشييد الملك؛ وهذا الفتك على ما فيه من خسارة قوم من ذوي الرأي والتجارب قد كان يبذر في قلوب أنصارهم وعشائرهم بذور الحقد وحب الانتقام — وبذلك صار بنو أمية يفقدون العشائر عشيرة بعد عشيرة، وأخذ ظلُّ سلطانهم على النفوس ينحسر شيئًا فشيئًا، حتى إذا قام لهم منافس عظيم لم يجدوا لديهم من القوة والكفايات والأنصار ما يستطيعون به التغلب عليه.

  4. #4

    افتراضي

    ثانياً: التكلم عن البيعة

    والآن ونحن نقترب من عصر المأمون علينا أن نتحدث إليك عن أكبر أغلاط الرشيد، وأبعدها أثرًا في حياته وفي الدولة العباسية، بل في حياة المسلمين السياسية بوجه عام، وهي بيعته بولاية العهد الثلاثية لأبنائه: الأمين والمأمون والقاسم. ورأينا في هذا النوع من احتياط الخلفاء لأنفسهم ولأبنائهم، وما كان له من الأثر السيئ في حياة القصور خاصة، وفي السياسة عامة، ولا سيما البيعة بولاية العهد لأكثر من واحد، فقد كان ذلك ينشئ بطانات مختلفة، ويُكوِّن أحزابًا لا تلتفُّ حول مبدأ أو فكرة، وإنما تلتف حول الأشخاص والمنافع التي تُنتظر منهم.
    وهذه البطانات والأحزاب تتنافس في القصر، فتفسد على الخليفة والأمراء حياتهم الخاصة، وتقطع ما بينهم من صلات كان يجب أن تُرعى حرمتُها، كما أنها تتنافس خارج القصر، فتفسد على الدولة سياستها العامة فتصرفها عن مرافقها الداخلية، كما تصرفها عن الاحتياط لحماية الثغور والاحتفاظ بمهابتها الخارجية.
    ومع أن هذا النوع من البيعة بولاية العهد الثنائية أو الثلاثية سُنَّة أُموية آتت ثمرها الخبيث، وجرَّت على الأمويين أنواع الوبال فمزقتهم وأضاعت ملكهم، وكان المعقول أن يستفيد العباسيون من هذا الدرس، ويُعرضوا عن سنة مُنكَرة في نفسها، وقد سنَّها أعداؤهم السياسيون، مع هذا كله تورط الرشيد فيما تورط فيه عبد الملك وخلفاء عبد الملك، وتعرضت الدولة العباسية لما تعرضت له الدولة الأموية، بل كان خطر هذه السنة على العرب أيام بني العباس أشد منه أيام بني أمية؛ ذلك أن سقوط الدولة الأموية قد نقل السلطان من أسرة إلى أسرة واحتُفظ به لقريش.
    فأما أثر هذه السنة أيام بني العباس، فهو نقل السلطان الفعلي من العرب إلى الفرس ثم إلى الترك، وجعل الخلافة نوعًا من العبث والسخرية في أيدي المتغلبين من القواد والخدم والرقيق.
    ومهما نلتمس الأسباب لتورط الرشيد في هذه السنة التي كان يجب أن يتجنبها، فلن نستطيع أن نهمل سببين أساسيين؛
    أحدهما:
    تأثر القصر العباسي بسنن الملك الفارسي القديم وسياسته.
    والآخر: تأثر الخلفاء بما كان للنساء، حرائرهن وإمائهن، من سلطان ونفوذ.
    فلولا هذان السببان لما تورط الرشيد في هذه السنة التي تورط فيها أبوه المهدي، وذاق هو غير قليل من ثمرها.
    ستقول: ولكن الرشيد احتاط فأخذ على أبنائه العهود والمواثيق أن يفي بعضهم لبعض، ويبر بعضُهم ببعض. ولكن ما قيمة هذا الاحتياط أمام سطوة الملك وسلطانه ومطامع الإنسان التي لا حدَّ لها؟ وما قيمة هذه العهود والمواثيق وقد أثبت التاريخ في جل مراحله أنها لا تعتبر عهودًا ومواثيق إلا عند الضعفاء من الأمم والأفراد، أما الأقوياء وذوو السلطان والبطش فهي عندهم ليست بعهود ولا مواثيق، إنما هي «قصاصات ورق» لا أكثر ولا أقل، وقد يُفتي بأنها «قصاصات ورق» أولئك الذين وكدَّوها وشهدوا على صحتها، وتضامنوا في البر بها، والوفاء لأصحابها.
    لما لاحظ الفضل بن يحيى سنة ١٧٥ه أن جماعة من بني العباس قد مدوا أعناقهم إلى الخلافة بعد الرشيد؛ لأنه لم يكن له ولي عهد، أجمَع على البيعة لمحمد، ولما صار الفضل بن يحيى إلى خراسان فرَّق في أهلها أموالًا، وأعطى الجند أعطيات متتابعات، ثم أظهر البيعة لمحمد بن الرشيد، فبايع الناس له، وسمَّاه الأمين،
    ولما تناهى الخبر إلى الرشيد بذلك، وبايع له أهلُ المشرق بايع وكتب إلى الآفاق فبويع له في جميع الأمصار.
    ويقول لنا اليعقوبي في هذا الصدد: إن هارون بايع لابنه محمد بالعهد من بعده سنة ١٧٥ﻫ ومحمد ابن خمس سنين، وأعطى الناس على ذلك عطايا جمة، وأُخرِج محمد إلى القواد، فوقف على وسادة فحمد الله وصلَّى على نبيه، وقام عبد الصمد بن علي فقال: أيها الناس، لا يغرنكم صغر السن، فإنها الشجرة المباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
    ويقول لنا الطبري في حوادث سنة 182ه: إن فيها كان انصراف الرشيد من مكة، ومسيره إلى الرقة، وبيعته بها لابنه عبد الله المأمون بعد ابنه محمد الأمين، وأخذ البيعة له على الجند بذلك بالرقة، وضمه إياه إلى جعفر بن يحيى، وأنه قد بويع له بمدينة السلام حين قدمها، وولاه أبوه خراسان وما يتصل بها إلى همذان، وسمَّاه المأمون.
    وفي سنة 189ه بايع الرشيد لابنه القاسم بعد المأمون، وجعل أمر القاسم، في خلعه وإقراره، إلى عبد الله إن أفضت الخلافة إليه. فلقد حضر الرشيد وأحضر وجوه بني هاشم والقواد والفقهاء وأُدخِلوا البيت الحرام، وأمر بقراءة الكتاب على عبد الله ومحمد، وأشهد عليهما جماعة من حضر، ثم رأى أن يُعلَّق الكتاب في الكعبة، فلما رفع ليعلق وقع، فقيل: إن هذا الأمر سريع انتقاضه، قليل تمامه.
    وبعد، فإن لعصر الرشيد مكانته وقدره، فقد ازدهرت فيه الحضارة الإسلامية أيما ازدهار، وظهرت فيه آثار تحول المدنية في العصور التي سبقته، كما أثَّر هو في العصور التي تلته، ولقد صدق صاحب «النجوم الزاهرة» فيما رواه عن أبي علي صالح بن محمد الحافظ، قال: «اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره: وزراؤه البرامكة، وقاضيه أبو يوسف، وشاعره مروان بن أبي حفصة، ونديمه العباس بن محمد عم أبيه، وحاجبه الفضل بن الربيع أنبهُ الناس وأعظمهم، ومُغنِّيه إبراهيم الموصلي، وزوجته زبيدة بنت عمه جعفر.».
    وقد كان الخلفاء قبل الرشيد يحتاطون لكل بيعة فيها أخذٌ للعهود والمواثيق، ومع ذلك لم ينفع هذا الاحتياط أيام بني أمية ولا أيام بني العبا

  5. #5

    افتراضي

    ثالثاً: الدولة البرمكية والنكبة البرمكية
    ولما ولي الرشيد الخلافة قلد يحيى بن خالد الوزارة وقال له: قد قلدتك أمر الرعية، وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، واعزل من رأيت، وأمض الأمور على ما ترى. ودفع إليه خاتمه، ففي ذلك يقول إبراهيم الموصلي:
    ألم تر أن الشمس كانت سقيمة /فلما ولي هارون أشرق نورها
    بيمن أمين الله هارون ذي الندى /فهارون واليها ويحيى وزيرها
    وليس في مقدورنا أن نصور شخصية يحيى بن خالد بن برمك بأحسن من إثباتنا رأيه في الأخلاقيات، فقد قيل له: أي الأشياء أقل؟ قال: قناعة ذي الهمة البعيدة بالعيش الدون، وصديقٌ كثيرُ الآفات قليلُ الإمتاع، وسكون النفس إلى المدح، وقيل له: ما الكرم؟ فقال: ملك في زي مسكين، وقيل له: ما الجود؟ فقال: عفو بعد قدرة، وقال مرة: إذا فتحت بينك وبين أحد بابًا من المعروف فاحذر أن تغلقه ولو بالكلمة الجميلة، وقال: «أحسن جبلة الولاة إصابة السياسة، ورأس إصابة السياسة العمل بطاعة الله، وفتح بابين للرعية؛ أحدهما: رأفة ورحمة وبذل وتحنُّن، والآخر: غلظة ومباعدة وإمساك ومنع.»
    ويروي لنا «ياقوت الرومي» في «معجمه» عنه، أنه لما كان الفضل بن يحيى واليًا على خراسان، كتب صاحب البريد إلى الرشيد كتابًا يذكر فيه: أن الفضل تشاغل بالصيد واللذات عن النظر في أمور الرعية، فلما قرأه الرشيد رمى به ليحيى وقال له: يا أبت، اقرأ هذا الكتاب، واكتب إلى الفضل كتابًا يردعه عن مثل هذا. فمد يحيى يده إلى دواة الرشيد وكتب إلى ابنه على ظهر الكتاب الذي ورد من صاحب البريد:
    حفظك الله، يا بني، وأمتع بك، قد انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنت عليه من التشاغل بالصيد ومداومة اللذات عن النظر في أمور الرعية ما أنكره، فعاوِدْ ما هو أزينُ بك، فإنه مَن عاد إلى ما يزينُه لم يعرِفه أهل زمانه إلا به، والسلام.
    وكتب تحته هذه الأبيات:
    انصَبْ نهارًا في طِلاب العلا /واصبر على فقد لقاء الحبيب
    حتى إذا الليل بدا مُقبلًا /وغاب فيه عنك وجهُ الرقيب
    فبادر الليلَ بما تشتهي /فإنما الليلُ نهارُ الأريب
    كم من فتًى تحسبه ناسكًا /يستقبل الليل بأمر عجيب
    ألقى عليه الليل أستاره /فبات في لهو وعيش خصيب
    ولذة الأحمق مكشوفةٌ /يسعى بها كلُّ عدو مريب
    هذا هو يحيى الذي يقول عنه المأمون: «لم يكن كيحيى بن خالد وكولده أحدٌ في البلاغة والكفاية والجود والشجاعة»، وهذا هو يحيى الذي كان يُجري على سفيان الثوري رضي الله عنه ألف درهم في كل شهر، فكان إذا صلى سفيان يقول في سجوده: «اللهُ إن يحيى كفاني أمرَ دنياي، فاكْفِه أمر آخرته.»
    هذا وإذا علمت أن أُمَّ الفضل بن يحيى، وهي زينب بنت منير، كانت ظئرًا للرشيد فأرضعته بلبان الفضل، وأرضعت الخيزرانُ، والدة الرشيد، الفضلَ بلبان الرشيد، استطعت أن تُقدِّر إلى أي مدًى كانت علاقة الرشيد بآل برمك وهو لم يَدرَج في مهده، ولم يفرق بين أمسه ويومه.
    ويقول الطبري في أخبار سنة 178ه: إن الرشيد فوَّض أموره كلها إلى يحيى بن خالد بن برمك.
    ولننظر إلى مكانة الفضل وآل برمك من الرشيد، فإن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري يحدثنا أنه لما قدم الفضل بن يحيى من خراسان؛ خرج الرشيد إلى بستان أبي جعفر يستقبله، وتلقاه بنو هاشم والناس من القواد والكتاب والأشراف، فجعل يصل الرجل بألف الألف وخمسمائة الألف.
    وفي أخبار سنة 180ه هاجت العصبية بالشام، وتفاقم أمرها، واغتمَّ الرشيد بذلك، فعقد لجعفر بن يحيى على الشام وقال له: إما أن تخرج أنت أو أخرج أنا، فقال له جعفر: بل أقيك بنفسي. وشخص إليهم جعفر في جلة القواد والكُراع والسلاح، فأصلح بينهم، وأطفأ تلك الثائرة.
    ولما عاد جعفر مُوفقًا من سفرته هذه وقد استخلف على الشام مكانه عيسى بن العكي، دخل على الرشيد فزاده إكرامًا وإجلالًا.
    وفي أخبار سنة 180ه نفسها ولَّى الرشيد جعفرَ بن يحيى الحرس، وهكذا تجد في أخبار كل سنة نبأ عن آل برمك، وتمداحًا لآل برمك، وأثرًا جليلًا في خدمة الدولة من آل برمك، ومكانة سامية تبوَّأها آل برمك من الرشيد.
    حتى أنني أسوق واقعة خطيرة تجسد ذلك الأمر على أنا نترك الكلمة لابن طباطبا ليقص عليك ما يرويه فيما نحن في صدده، قيل:
    أن جعفر بن يحيى البرمكي جلس يومًا للشرب وأحبَّ الخلوة، فأحضر ندماءه الذين يأنس بهم، وجلس معهم وقد هُيِّئ المجلس ولبسوا الثياب المُصبَّغة- وكانوا إذا جلسوا في مجلس الشراب واللهو لبسوا الثياب الحُمر والصُّفر والخُضر- ثم إن جعفر بن يحيى تقدم إلى الحاجب ألا يأذن لأحد من خلق الله تعالى سوى رجل من الندماء كان قد تأخر عنهم، اسمه عبد الملك بن صالح، ثم جلسوا يشربون ودارت الكاسات وخفقت العيدان — وكان رجل من أقارب الخليفة يقال له: عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس، يعني ابن عم الرشيد وكان شديد الوقار والدين والحشمة، وكان الرشيد قد التمس منه أن ينادمه ويشرب معه، وبذَل له على ذلك أموالًا جليلة فلم يفعل — فاتفق أن عبد الملك بن صالح -ابن عم الرشيد-حضر إلى باب جعفر بن يحيى ليخاطبه في حوائج له، فظن الحاجب أنه هو عبد الملك بن صالح الذي تقدم جعفر بن يحيى بالإذن له وألا يدخل غيره، فأذِن الحاجب له، فدخل عبد الملك بن صالح العباسي على جعفر بن يحيى، فلما رآه جعفر كاد عقله يذهب من الحياء، وفطن أن القضية قد اشتبهت على الحاجب بطريق اشتباه الاسم، وفطن عبد الملك بن صالح أيضًا للقصة، وظهر له الخجل في وجه جعفر بن يحيى، فانبسط عبد الملك وقال: لا بأس عليكم، أحضروا لنا من هذه الثياب المُصبَّغة شيئًا، فأُحضِر له قميص مصبوغ، فلبسه وجلس يباسط جعفر بن يحيى ويمازحه، وقال: اسقونا من شرابكم. فسقوه رطلًا، وقال: ارفقوا بنا؛ فليس لنا عادة بهذا. ثم باسطهم ومازحهم، وما زال حتى انبسط جعفر بن يحيى وزال انقباضه وحياؤه، ففرح جعفر بذلك فرحًا شديدًا وقال له: ما حاجتك؟.
    قال: جئت، أصلحك الله، في ثلاث حوائج أريد أن تخاطب الخليفة فيها:
    أولاها: أن عليَّ دينًا مبلغه ألف ألف درهم أريد قضاءه.
    وثانيتها: أريد ولاية لابني يشرُف بها قدره.
    وثالثتها: أريد أن تزوج ولدي بابنة الخليفة؛ فإنها بنت عمه وهو كفء لها.
    فقال له جعفر بن يحيى: قد قضى الله هذه الحوائج الثلاث؛ أما المال ففي هذه الساعة يُحمل إلى منزلك، وأما الولاية فقد ولَّيتُ ابنَك مصر، وأما الزواج فقد زوجته فلانة ابنة مولانا أمير المؤمنين على صداق مبلغه كذا وكذا، فانصرِفْ في أمان الله.
    فراح عبد الملك إلى منزله فرأى المال قد سبقه، ولما كان من الغد، حضر جعفر عند الرشيد وعرَّفه ما جرى، وأنه قد ولَّاه مصر، وزوَّجه ابنته، فعجب الرشيد من ذلك وأمضى العقد والولاية، فما خرج جعفر من دار الرشيد حتى كُتب له التقليد بمصر، وأحضر القضاة والشهود وعقد العقد.
    انتبهوا
    عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس هو ابن عم الرشيد..
    وعندما ألمت به حاجة لجأ إلى جعفر بن يحي البرمكي وكله يقين في قضاء حاجته..
    أما الأهم في الموضوع فهو إجابة جعفر الواثق منها والتي فيه قوله: (قد قضى الله هذه الحوائج الثلاث).
    أرأيت كيف لم ينقض الرشيد ما أبرمه جعفر في مسألة خطيرة الخطر كله، لأنها تتعلق بكرامة الرشيد وأسرة الرشيد وشئون الرشيد الخاصة؟.
    أليس في ذلك ما يقطع برفيع مكانة القوم، وكبير قدرهم، وسامي منزلتهم عند الرشيد وفي الدولة التي هم مفزع رجالاتها، وموئل زعمائها؟.
    وأرجو ألا يفوتك في المثل المتقدم ما جاء فيه خاصًا بالملابس؛ فإنه قد يعطيك فكرة ما عن تخصص بعضها للسهرات والردهات والمنادمات مما لا يختلف عن نظام اليوم من «ردنجوت» و«سموكنج» و«فراك» إلى غير ذلك مما يدل على مبلغ الثروة، واستفحال أمر المدنية عند القوم في تلك الأيام الخاليات؛ فتأمل …!.
    ربما تطلب إليَّ مثالًا على جُودهم وتعلق الناس بهم، بلا مبالغة ولا غلو ولا تهويل ولا إغراق، وسنترك الكلمة في هذا الباب للإتليدي فيما يرويه من حديث جرى بين المأمون والمنذر بن المغيرة، فهاكه بحذافيره:
    قال خادم المأمون: طلبني أمير المؤمنين ليلة وقد مضى من الليل ثلثه، فقال لي: خذ معك فلانًا وفلانًا — سماهما لي؛ وأحدهما: علي بن محمد، والآخر دينار الخادم — واذهب مسرعًا لما أقول لك، فإنه بلغني أن شيخًا يحضر ليلًا إلى آثار دور البرامكة وينشد شعرًا، ويذكرهم ذكرًا كثيرًا، ويندبهم ويبكي عليهم ثم ينصرف، فامضِ أنت وعلي ودينار حتى تردوا تلك الخرابات، فاستتروا خلف بعض الجُدر، فإذا رأيتم الشيخ قد جاء وبكى وندب وأنشد أبياتًا فأتوني به، قال: فأخذتهما ومضينا حتى أتينا الخرابات، فإذا نحن بغلام قد أتي ومعه بساط وكرسي حديد، وإذا شيخ قد أتى وله جمال، وعليه مهابة ولطف، فجلس على الكرسي وجعل يبكي وينتحب ويقول هذه الأبيات:
    ولما رأيت السيف جندل جعفرًا / ونادى منادٍ للخليفة في يحيى
    بكيتُ على الدنيا وزاد تأسفي / عليهم وقلت الآن لا تنفع الدنيا
    مع أبيات أطالها، فلما فرغ قبضنا عليه وقلنا له: أجب أمير المؤمنين، ففزع فزعًا شديدًا وقال: دعوني حتى أوصي بوصية؛ فإني لا أوقنُ بعدها بحياة.
    ثم تقدَّم إلى بعض الدكاكين واستفتح وأخذ ورقة وكتب فيها وصية وسلَّمها إلى غلامه، ثم سِرنا فلما مثَل بين يدي أمير المؤمنين قال: مَن أنت؟ وبما استوجبت منك البرامكة ما تفعله في خرائب دورهم؟.
    قال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن للبرامكة أيادي خضرة عندي، أفتأذن لي أن أُحدِّثك بحالي معهم؟.
    قال: قل، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا المنذر بن المغيرة من أولاد الملوك، وقد زالت عني نعمتي، كما تزول عن الرجال، فلما ركبني الدينُ واحتجت إلى بيع ما على رأسي ورءوس أهلي، وبيتي الذي ولدت فيه؛ أشاروا عليَّ بالخروج إلى البرامكة، فخرجت من دمشق ومعي ثلاثون رجلًا ونيِّف من أهلي وولدي، وليس معنا ما يباع ولا ما يُوهب، حتى دخلنا بغداد ونزلنا في بعض المساجد، فدعوت ببعض ثياب كنت أعددتها لأستتر بها، فلبستها وخرجت وتركتهم جياعًا لا شيء عندهم، ودخلت شوارع بغداد سائلًا عن البرامكة، فإذا أنا بمسجد مزخرف وفي جانبه شيخ بأحسن زيٍّ وزينة، وعلى الباب خادمان، وفي الجامع جماعة جلوس، فطمعت في القوم ودخلت المسجد وجلست بين أيديهم وأنا أقدم رجلًا وأؤخر أخرى، والعرق يسيل مني؛ لأنها لم تكن صناعتي، وإذا الخادم قد أقبل ودعا القوم فقاموا وأنا معهم، فدخلوا دار يحيى بن خالد فدخلت معهم، وإذا يحيى جالس على دكة له وسط بستان، فسلمنا وهو يعدنا مائة وواحدًا، وبين يديه عشرة من ولده، وإذا بمائة واثني عشر خادمًا قد أقبلوا ومع كل خادم صينية من فضة على كل صينية ألف دينار، فوضعوا بين يدي كل رجل صينيته، فرأيت القاضي والمشايخ يضعون الدنانير في أكمامهم، ويجعلون الصواني تحت آباطهم، ويقوم الأول فالأول، حتى بقيت وحدي لا أجسر على أخذ الصينية، فغمزني الخادم فجسرت وأخذتها، وجعلت الذهب في كمي والصينية في يدي، وقمتُ وجعلتُ أتلفت ورائي مخافة أن أمنع من الذهاب، فوصلت وأنا كذلك إلى صحن الدار ويحيى يلاحظني، فقال للخادم: ائتني بهذا الرجل. فأتاه بي، فقال: مالي أراك تتلفت يمينًا وشمالًا؟ فقصصت عليه قصتي، فقال للخادم: ائتني بولدي موسى. فأتاه به، فقال: يا بني، هذا رجل غريب؛ فخذه إليك، واحفظه بنفسك ونعمتك. فقبض موسى ولده على يدي وأدخلني إلى دار من دُوره، فأكرمني غاية الإكرام، وأقمت عنده يومي وليلتي في ألذ عيش وأتم سرور، فلما أصبح دعا بأخيه العباس وقال له: الوزير أمرني بالعطف على هذا الفتى، وقد علمت اشتغالي في بيت أمير المؤمنين، فاقبضه إليك وأكرمه، ففعل ذلك وأكرمني غاية الإكرام، ثم لما كان من الغد تسلمني أخوه أحمد، ثم لم أزل في أيدي القوم يتبادلونني مدة عشرة أيام لا أعرف خبر عيالي وصبياني؛ أفي الأموات هم أم في الأحياء؟ فلما كان اليوم الحادي عشر جاءني خادم ومعه جماعة من الخدم فقالوا: قم فاخرج إلى عيالك بسلام، فقلت: وا ويلاه! سُلبت الدنانير والصينية وأخرُج على هذه الحالة! إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ فرفع الستر الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع، فلما رفع الخادمُ الستر الأخير قال لي: مهما كان لك من الحوائج فارفعها إليَّ، فإني مأمور بقضاء جميع ما تأمرني به، فلما رُفع الستر الأخير رأيت حجرة كالشمس حُسنًا ونورًا، واستقبلني منها رائحة الند والعود ونفحات المسك، وإذا بصبياني وعيالي يتقلبون في الحرير والديباج، وحمل إليَّ مائة ألف درهم وعشرة آلاف دينار، ومنشور بضيعتين وتلك الصينية التي كانت أخذتها بما فيها من الدنانير والبنادق. وأقمت، يا أمير المؤمنين، مع البرامكة في دورهم ثلاثَ عشرة سنة لا يعلم الناس أمن البرامكة أنا أمْ رجل غريب، فلما جاءتهم البلية، ونزل بهم، يا أمير المؤمنين، من الرشيد ما نزل، أجحفني عمرو بنُ مسعدة وألزمني في هاتين الضيعتين من الخراج ما لا يفي دخلُهما به، فلما تحامل عليَّ الدهر كنت في آخر الليل أقصد خرابات دورهم، فأندبهم وأذكر حسن صنيعهم إليَّ، وأبكي على إحسانهم، فقال المأمون: عليَّ بعمرو بن مسعدة. فلما أُتي به قال له: تعرف هذا الرجل؟ قال: يا أمير المؤمنين، هو بعض صنائع البرامكة، قال: كم ألزمته في ضيعته؟ قال: كذا وكذا، فقال له: ردَّ إليه كل ما أخذت منه في مدته، وأفرِغهما له ليكونا له ولعقبه من بعده، قال: فعلا نحيبُ الرجل، فلما رأى المأمون كثرة بكائه قال له: يا هذا، قد أحسنا إليك، فما يبكيك؟ قال: يا أمير المؤمنين، وهذا أيضًا من صنيع البرامكة! لو لم آتِ خراباتهم فأبكيهم وأندبهم حتى اتصل خبري إلى أمير المؤمنين ففعل بي ما فعل، مِن أين كنت أصل إلى أمير المؤمنين؟ قال إبراهيم بن ميمون: فرأيت المأمون وقد دمعت عيناه وظهر عليه حزنه، وقال: «لعمري هذا من صنائع البرامكة! فعليهم فابكِ، وإياهم فاشكرْ، ولهم فأوفِ، ولإحسانهم فاذكرْ.»
    ومما يدل على تقدير المأمون للبرامكة ما رواه القاضي يحيى بن أكثم قال: سمعت المأمون يقول: لم يكن كيحيى بن خالد وولده أحدٌ في الكفاية والبلاغة والجود والشجاعة، قال القاضي: فقلتُ: يا أمير المؤمنين، أما الكفاية والبلاغة والسماحة فنعرفها فيهم، ففيمن الشجاعة؟ فقال: في موسى بن يحيى، وقد رأيتُ أن أُولِّيه ثغر السند.
    •••
    مكانة عالية بلا ريب مكانة آل برمك، وسلطان لا حد له سلطانهم، وغنى فاحش قبل الإسلام، وصولة ونفوذ قول في دولة الرشيد، فما الذي يا ترى غيَّر قلب الرشيد عليهم حتى نكبهم؟.

  6. #6

    افتراضي

    نكبة البرامكة:
    لم تكن تغيب عن الرشيد افعال البرامكة واستغلالهم للمناصب، واستحواذهم على المال والسلطة بل وحتى إساءتهم اليه شخصيا، وكان يصبر عليهم ويغض الطرف لعلهم يرعوون، أو يقفوا عند حد. فقد كان وفيّا لهم، لما قدموه من خدمات في تثبيت اركان الدولة وفي تأييد توليه للخلافة. لقد كان حريصا على عدم القطيعة معهم. ولم يكن من السهل الانقلاب عليهم، لسببين:
    أولاً: للصلة الأسرية والروابط الاخوية والعاطفية التي تجعله يتجمّل حتى يتيقن من استحالة المضي بهذا الشكل.
    وثانياً: لأنهم اصحاب النفوذ الفعليين ولهم اتباع وأنصار في كل مفاصل الدولة. وليس من السهولة مجابهتهم أو تنحية بعضهم (ولو تدريجياً) عن السلطة.
    فهذا سيشكل جبهة معارضة قوية منهم، لا طاقة له بها، حيث غدت الدولة واقعاً دولة البرامكة لا دولة الرشيد.
    لم يكن الرشيد فاسداً أو ظالماً، وإنما كان حكيماً عادلاً لا يرضى بالظلم، لم يكن الرشيد خَبّاً (مخادعاً)، كان أجلّ من ان يُخدع وأورع من أن يَخدع.
    وكان في ذات الوقت عبقريا بعيد النظر واسع الدهاء (بدليل ما وصلت اليه بغداد في زمنه من عصرها الذهبي المؤطر بالرخاء والرقي الحضاري) ولذا كان الحق معه في ان لا يستمر طويلاً بصمته على ما يجري في البلد أكثر مما صمت وعليه الآن إعادة الأمور الى مجاريها وأن يتحين الفرصة المناسبة، وأدلة الإدانة الكاملة التي تستلزم اتخاذ خطوته الجريئة التي لا مناص منها، ولا بديل عنها، واتخاذ قرار يضع حدّاً لكل ذلك. ولتكن غضبة الحليم، إذا طفح به الكيل.
    كان لا بد له من السريّة والكتمان الشديد، على ما سيقدم علية، وبسبب هذه السرية في تخطيط وتنفيذ (البطش بالبرامكة)، نستطيع القول إنه ليس بمقدور أحد من المؤرخين حتى اليوم ان يعرف ما هو السبب المباشر الذي حدا بالخليفة هارون الرشيد للقيام بعملية تصفية البرامكة المفاجئة، وانهاء نفوذهم في ليلة وضحاها- قد يكون السبب كل الاخطاء التي وقعوا فيها- وقد يكون خطأ أو اخطاء بعينها، لقد جنوا على أنفسهم.. وقد ذكرتها في منتدى واحة الأدب بالتفصيل فليرجع إليها هناك.
    وأيّا مّا يكون السبب، فإن تصرفه بهذا الشكل دليل على حكمة ورجاحة عقل الخليفة وشجاعة القائد في التدبير والمباغتة في المواقف المصيرية التي تمس أمن البلد. دون ان يحدث فراغًا أمنيًا أو إداريًا أو ردة فعل عكسية في أركان الدولة.
    وفي ليلة السبت (أول صفر 187 هـ = 29 من يناير 803م)، أمر رجاله بالقبض على البرامكة جميعًا، وأعلن ألا أمان لمن آواهم، وأخذ أموالهم وصادر دورهم وضياعهم. وفي ساعات قليلة انتهت أسطورة البرامكة وزالت دولتهم، وتبدت سطوة تلك الأسرة التي انتهت إليها مقاليد الحكم وأمور الخلافة لفترة طويلة من الزمان، تلك النهاية المأساوية التي اصطُلح على تسميتها في التاريخ بـ” نكبة البرامكة”.
    الأسباب المباشرة للنكبة: الراجح أنه قد طفح الكيل بهارون الرشيد من طغيان البرامكة، بأمرين:
    الأمر الأول: تشكيل الفضل بن يحيى البرمكي (حاكم الجناح الشرقي لدولة الاسلام)، لجيش تعداده 50 ألف مقاتل من الأعاجم في منطقة خراسان بدون مشورة الخليفة. جيش لا ينتمي لجيش الخلافة، بل يدين بالولاء للوالي الفضل البرمكي فقط، وليس للخليفة. (وهذا العمل هو أشبه بالمليشيات المسلحة التي تنشئها كيانات سياسية أو حزبية في وقتنا الحاضر ويكون ولائها لمن ينشئها، فتعتبر خارجة على القانون. ومن الطبيعي ان يكون الشك والريب قرين لأهداف انشائها)، فنوايا إنشاء هذا الجيش لم تكن حسنة. بدليل ان الرشيد حين استدعى الفضل البرمكي الى العاصمة بغداد، (باعتباره وال تابع للخليفة) حضر ومعه عشرون ألف من مقاتلي النخبة من هذا الحيش، في استعراض لقوة الوالي.
    ولقد أدرك الرشيد بهذا التحرك العسكري، انه هو المستهدف، وان هنالك انقلاب عليه على وشك الوقوع، وبالتالي فإنّ الخلافة العباسية في بغداد هي المستهدفة (إسقاط النظام)، أو على أقل تقدير انفصال الجزء الشرقي من الدولة العباسية لإعادة تشكيل الدولة الفارسية المجوسية عليها. (على رأي من يرجح الشك في إسلامهم).
    الأمر الثاني: ظهور الخيانة العظمى من البرامكة (خيانة الوطن)، في تفريطهم بأمن الدولة من خلال تواطؤهم مع خصوم السلطات العباسية (ما أشبه اليوم بالأمس في تفريط أولي الأمر بأمن المدن وتسليمها لأعداء الوطن).
    وثبوت خيانة البرامكة لأمانة الخليفة حين أمرهم في التحفظ على (الثائر على الخلافة) يحيى بن عبد الله بن الحسن الطالبي الذي خرج في بلاد الديلم وتوظيف قضايا آل البيت لمصالحهم.
    مفهوم النكبة:
    تاريخياً هنالك من حاول التضخيم والتهويل لحادثة نكبة البرامكة ورسم حولها هالة خيالية من المبالغة والدراما في القتل وسفك الدماء على الطريقة الهوليودية. وان (مسرور) سياف هارون الرشيد يقف بالمرصاد ليقطع رقاب الآلاف من البرامكة واعوانهم. وهذا كله تهويل ومبالغة، انما يتماشى مثل هذا التهويل ويتساوق مع أسلوب قصص ألف ليلة وليلة. فكل ذلك لا يثبت وبعيد عن العقل والمنطق.
    مفهوم النكبة في معاجم اللغة تعني بالدرجة الأساس: (الازاحة والابعاد والعزل)، كما تعني تاليا (المصيبة). وجملة ما فعله الرشيد للبرامكة ينضوي تحت مفهوم إزاحتهم وابعادهم عن التصرف في شؤون الدولة وليس سفك الدماء والإيغال في القتل كما يشيعه الشعوبيون والحاقدون من القوميين الفرس.
    لقد اراد الرشيد التخلص من نفوذهم وليس من ذواتهم.
    التخلص من استبدادهم وتحكمهم، ولكن ليس بالقتل بدليل انه لم يقتل من رؤوس البرامكة سوى جعفر بن يحيى، وانما قتله لارتكابه الخيانة العظمى [خيانة الوطن].
    فلو كانت النكبة بمعنى القتل، لكانت قيادات البرامكة ممثلة في الأب يحيى واولاده الفضل وموسى ومحمد هم أول القتلى، لكونهم رؤوس الأسرة البرمكية المستهدفة في النكبة. (والوقع يشهد أنه ان اُريد إخماد تمرد أو إضعاف تنظيم أو كتلة انما تستهدف القيادة أولاً، من أجل أن ينفرط عقد الأتباع بغياب القيادة).
    ولكن كان أمر الرشيد، السجن لهم هو البديل والذي هو حكم أقرب للعفو:
    1-يحيى بن خالد (الأب) حبس في منزله وتوفي سنة 190هـ وله من العمر 70 سنة وصلى عليه ابنه الفضل ودفن على شاطئ الفرات.
    2-أما الفضل بن يحيى، فقد سجن كذلك في منزل أخر وتوفي سنة 193هـ قبل وفاة الرشيد بخمسة أشهر، وهو ابن خمس وأربعين سنة، وصلى عليه اخوانه في القصر الذي كانوا فيه قبل إخراجه، ثم أُخرج فصلى الناس على جنازته. وهذا يعطيك فكرة عن نوعية السجن الذي يتواجد ويتقابل فيه البرامكة.
    3-أما موسى بن يحيى، فقد بقي في الحبس حتى تولى الأمين الخلافة، سنة 193هـ فأطلق سراحه، فالتحق موسى بالخليفة الجديد الامين يقاتل في صفوفه، ولم يفارقه حتى قتل الامين.
    4-واما محمد بن يحيى، فقد اختلفت الروايات في سجنه، فهنالك روايات تقول ان الرشيد استثناه من السجن لنصحه الصادق للرشيد، واخرى تقول انه سجن كذلك.
    وعلى اي حال فقد عاش حرّاً طليقًا طويلاً. والتحق بالمأمون الذي تولى الخلافة بعد أخيه الامين سنة 198هـ، وظل أحد قادته حتى وفاته.
    ومن هنا ندرك ان الرشيد لم يكن مولعا بسفك الدماء كما يُشاع، في حدث هو الأبرز في تاريخه، وان مسرور السياف بريء مما ينسب اليه، وأوامر الرشيد في قضية النكبة كانت تهدف الى ابعاد وعزل البرامكة الفاسدين، وكذا الذين يمتون لهم بصلة ممن كان لهم تأثير سلبي في ادارة الدولة، تأثيرا لا يتماشى مع خط الخلافة.
    ومع ذلك لم يطل محبسهم سوى قرابة 5 سنوات ليعاود من تبقى من الاسرة، الحياة بشكل طبيعي دون إعلام يُسلط عليهم الأضواء، ولا صلاحيات مطلقة كما كانت لهم بالأمس.
    اما مصادرة الاموال والضياع والقصور فهي أموال وأملاك الدولة، وإنما الشكاية فيها والحسم للقضاء. ولقد عُرِف عن الرشيد رده للمظالم، وطلبه للحق، وخشيته الشديدة من الله، حاجّاً ومجاهدًا.
    واختم هذا البحث برواية وردت في كتب التأريخ مفادها: ان أحد ابناء يحيى البرمكي سأل اباه بعد ان أصابهم ما أصابهم: يا أبت! بعد الأمر والنهي والنعمة صرنا الى هذا الحال.
    فقال: يابني! لعلها دعوة مظلوم سرت بليل ونحن عنها غافلون. (وحقًا وصدقًا ما قال. فان من يستولي على المال العام وعلى املاك الآخرين عليه ان لا ينتظر دعوة مظلوم واحد، بل ستلحقه دعوة مظاليم في جنح الليل، دعوة لن يغفل الله عنها. وقال: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين).
    ان من تثير نكبة البرامكة شجونه واحزانه لا يبعد ان يكون على صلة عاطفية بفارس القديمة، وأمثال هؤلاء هم من ثبت انهم شوهوا صورة الخليفة العظيم هارون الرشيد ووصفوه - ظلمًا وعدوانًا- بالمجون وشرب الخمر والظلم والجواري وكل ما يشين.
    تلك النهاية المأساوية التي اصطُلح على تسميتها في التاريخ بـ ” نكبة البرامكة”.
    وكان لتلك النكبة أكبر الأثر في إثارة شجون القومية الفارسية، فعمدت إلى تشويه صورة الرشيد ووصفه بأبشع الصفات، وتصويره في صورة الحاكم الماجن المستهتر الذي لا همّ له إلا شرب الخمر ومجالسة الجواري، والإغراق في مجالس اللهو والمجون؛ حتى طغت تلك الصورة الظالمة على ما عُرف عنه من شدة تقواه وحرصه على الجهاد والحج عامًا بعد عام، وأنه كان يحج ماشيًا ويصلي في كل يوم مائة ركعة.
    وفي أواخر سنة (192 هـ = 808م) خرج الرشيد لحرب “رافع بن الليث”، واستخلف على بغداد ابنه الأمين، وفي الطريق مرض الرشيد، وما لبث أن اشتد عليه المرض، وفاضت روحه في (3 من جمادى الآخرة 193م = 24 من مارس 809م)، فتولى الخلافة من بعده ابنه “محمد الأمين”.
    في ظل هذه الظروف والأجواء نستطيع أن نقترب قليلاً من قصر الخلافة.

  7. #7

    افتراضي

    والدراسة التي بين يديك تشتمل على الموضوعات التالية:
    توطئة: صلة الماضي بالحاضر والمستقبل
    مقدمة الدراسة

    أولاً: خطر نظام ولاية العهد وأثر البطانات

    ثانياً: التكلم عن البيعة

    ثالثاً: الدولة البرمكية والنكبة البرمكية
    نكبة البرامكة:
    الفصل الأول: محمد الأمين

    نشأته وأخلاقه

    النزاع بين الأمين والمأمون

    البيعة للأمين بولاية العهد
    خلافة الأمين
    حصار بغداد وسقوط الأمين

    قتل الأمين

    هل قتل الخليفة المأمون أخاه الخليفة الأمين؟
    الفصل الثاني: الخليفة المأمون
    نسبه ونشأته
    ولاية المأمون للعهد
    خلافته
    علمه وثناء العلماء عليه
    صفاته وأخلاقه
    سياسة المأمون
    السياسة الداخلية للمأمون
    النهضة العلمية في عهد المأمون
    بعثة المأمون في قياس محيط الأرض
    الرياضيات وعلم الفلك
    تطور علم الجغرافيا
    حركة الترجمة

    حرية التعبير في زمن الخليفة العباسي المأمون

    السياسة الخارجية للمأمون

    جهاده
    الثورات في عهد المأمون
    ثورة نصر بن شبث
    ثورة مصر
    الزط

    ملخص الحالة العامة في المدة البغدادية

    غزو المأمون للروم

    ثورة بابك الخُرَّمِي

    فتح جزيرة صقلية
    كلمة ختامية عن وفاة المأمون ورجالاته ومعاصريه ووصيته

    الفصل الثالث: المحنة وقضية خلق القرآن من 218ـ 231هـ
    الفصل الرابع: مقتل الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب
    هذا والله ولي التوفيق..
    زهدي جمال الدين محمد
    الأول من مارس 2021م

  8. #8

    افتراضي

    الفصل الأول
    محمد الأمين
    هو محمد الأمين بن هارون الرشيد، ولد سنة 170 هجرية، وهي السنة التي استُخلف فيها والده الرشيد، وكان مولده بعد مولد أخيه عبد الله المأمون بستة أشهر، وولد المأمون في الليلة التي استُخلف فيها والده.
    وأم الأمين أم جعفر زبيدة بنت جعفر بن المنصور؛ فهو هاشمي الأب والأم، وقيل: إن ذلك لم يتفق لخليفة عباسي غيره.
    وإذ كان أخواله هاشميين ولهم في الدولة نفوذ قوي وكلمة مسموعة، فقد سعوا، فيما يحدثنا التاريخ، حين مدَّ جماعة من بني العباس أعناقهم إلى الخلافة، إلى أن يكون الأمر إلى ابن أختهم، وقد نجحوا.
    سعى خال الأمين عيسى بن جعفر بن المنصور إلى الفضل بن يحيى الذي بعثه الرشيد على رأس جيش إلى خراسان، لمحاربة بعض الخارجين على الخلافة، وتسكين الاضطراب في تلك النواحي، وقد كان التوفيق حليفه في ذلك الوجه، فقال عيسى للفضل: «أنشدك الله لما عملت في البيعة لابن أختي، فإنه ولدُك وخلافتُه لك»، فوعده الفضل أن يفعل، فلما كان الفضل بخراسان يُدِلُّ بما واتاه فيها من ظهور على الخارجين، وهو بعدُ من آل برمك وزراء الرشيد، وأصحاب السلطان العظيم في الدولة، بايَع لمحمد الأمين هو ومن معه من القواد والجند بعد أن فرق أموالًا عظيمة، وأعطى أعطيات كثيرة، وتغني بذلك شعراء العصر، أمثال أبان بن عبد الحميد اللاحقي والنمري وسلم الخاسر وغيرهم. ولبيان وجهة نظرهم في البيعة نقتطف لك شيئًا مما قاله سلم والنمري؛ قال سلم:
    قد وفَّق الله الخليفة إذ بنى /بيت الخليفة للهجان الأزهر
    فهو الخليفة عن أبيه وجده /شهدا عليه بمنظر وبمخبر
    قد بايع الثقلان في مهد الهدى /لمحمد ابن زبيدة ابنة جعفر

    وقال النمري:
    أمسَت بمرو على التوفيق قد صفَقتْ /على يد الفضل أيدي العُجم والعرب
    ببيعة لولي العهد أحكمها /بالنصح منه وبالإشفاق والحدب
    قد وكَّد الفضل عقدًا لا انتقاض له /لمصطفى من بني العباس منتخب
    فلما تناهى أمر البيعة إلى الرشيد ووجد نفسه أمام «الأمر الواقع»؛ إذ قد بايع لمحمد أهل المشرق، بايع له بولاية العهد، وكتب إلى الآفاق فبويع له في جميع الأمصار.
    ومن هذا تعلم ما يصح أن يعتبر سرًّا في أن الأمين كان ولي عهد الرشيد دون أن يكون أكبر ولده سنًّا.
    نشأته وأخلاقه

    ولنتساءلْ الآن: هل سجَّل لنا التاريخ شيئًا قيمًا عن نشأة الأمين وطفولته؟
    أظن أنني لا أعدو الحق كثيرًا إذا قلت: لا؛ إذ قلما يعرض المؤرخون القدماء لشيء من طفولة العظماء ورجال التاريخ.
    على أنا قد وقفنا من طفولة الأمين على شذرات ليست بذات غناء كبير، نثبتها لك وندرسها معك؛ فربما ساعدتنا بعض المساعدة على تفهم حداثة الأمين، واستخلاص بعض الحقائق عنه.
    يحدثنا البيهقي في «المحاسن والمساوي» بما سنلخصه لك خاصًّا بنشأة الأمين التعلُّمية؛ لتقف على البيئة التي كان فيها الأمين، ولأن روايته — خصوصًا ما جاء عن حُلم زبيدة وفزعها منه، مما رواه المسعودي في «مروجه» أيضًا — قد تجعلنا نعلل بحق أثر الوسط والوراثة في خَلْق ما كان بالأمين من استعداد لحب الاستخارة، مما كانت له نتائجه السيئة، ولأنه يفهمنا بوجه عامٍّ لِمَ كان الأمين فصيحًا أديبًا بليغًا، ولمَ كان عابثًا مستهترًا، ولَمِ كان وادعًا متهيبًا من الدماء، ولأنه يفسر نشأته في ترف الخلافة ونعيمها، ومَرَح الحداثة ونهزِها، والاستمتاع بمال زبيدة والإدلال بهاشميتها.
    •••
    ولما كان الرشيد قد جعل الأمين في حِجْر الفضل بن يحيى، والمأمون في حجر جعفر بن يحيى، فإن الفضل كان أكثر ما أخذ به ولي العهد الأمين هو تعظيم الدماء، لأنه أُحب أن يُشرِب الله قلبه الهيبة لها، والعفاف عن سفكها.
    ربما كان من الحق أن نقول: إن هذه النشأة كانت لها آثارها السيئة، خصوصًا أنَّا نلاحظ أن الأمين تنقصه الدربة السياسية، ومن المعلوم أن الدربة السياسية هي ناحية يُؤبَه لها كثيرًا في تنمية روح الحكم، وتقوية المواهب الإدارية، وتنظيم ملكات السلطان في ولي العهد، خصوصًا ذلك العصر الذي لم تكن فيه وسائل الثقافة الملكية متوافرة توافرها اليوم؛ مع أن الحاجة إلى الثقافة السياسية في ذلك العصر كانت أشد منها اليوم؛ لأن الملك حين ذاك كان صاحب سلطان فعليٍّ مُطلق غير مقيد بقانون أو دستور إلا ما يرجع إلى دينه وورعه.
    نريد أن نقول: إنه إذا كان نَدْب الهادي للرشيد حين ولاه قيادة الجند لحرب الروم، قد أوجد الرشيد في مركز القيادة العامة، وفيها من الشيوخ المحنكين والقادة المدربين والزعماء المنظمين مجموعةٌ صالحة للثقافة السياسية، وفرص تسنح في الفينة بعد الفينة للمرانة السياسية، ولتخريج خليفة مُدرَّب في فنون الملك، وإذا كان المأمون قد نُدب للحكم في خراسان وغير خراسان حتى نكَّبت به ظروف الأحوال عن مفاسد مال الخلافة ونعمة ابن زبيدة ودلال الهاشميين، نريد أن نقول: إنه إذا كان ذلك كذلك، وكانت هذه هي نتائج الدربة السياسية، فمن الميسور أن نفهم مغبة افتقادها، كما أنه من الميسور أن نستنبط أن عنصرًا هامًّا من عناصر تكوين رجال السياسة والحكم كان ينقص الأمين الذي لم تستطع غاشيته من الخدم، وبطانته من الموالي، وأخواله من الهاشميين، وأساتذة من المربين أن يحولوا بينه وبين ما تشتهيه نفسه وتهوَى طفولته.
    على أنه من العدل والحق أن نقرر أن الأمين لم يكن بليد الذهن أو ثقيل الظل، بل كان نقيض ذلك على حظٍّ من توقُّد الذهن وفصاحة اللسان، وخفة الروح والظل، وحسبك أن ترى شيئًا مما كان ينضح به في مجالس اللهو والمنادمة من سرعة البديهة، وظرافة النكتة، وحلاوة التندر، ورقة الدعابة، وعذوبة الفكاهة؛ لتؤمن بما نقول.
    وكل ما اتفقت عليه كلمة المؤرخين العرب جميعًا أنه كان مستهترًا مسرفًا، مع خَوَر خُلُقي، وعدم تبصر في العواقب ولا تروٍّ في مهمات الأمور — مما يرجع في الواقع إلى عدم العناية بثقافته السياسية، كما أسلفنا.
    وفي الحق أن قصف الأمين وانهماكه في لهوه وغلوُّه في عبثه، واستهتاره في مرحه، واشتغاله بوجه خاص بخدمه، قد جرَّ عليه وبالًا كثيرًا، وشرًّا مستطيرًا، ونفَّر منه قلوب العقلاء من مشايعيه ومناصريه، والأقوياء من مؤيديه وذويه.
    من أمثال ذلك ما ذكروه عن العباس بن عبد الله بن جعفر، وهو من رجالات بني هاشم جلدًا وعقلًا وصنيعًا، وكان يتخذ الخدم كطبيعة حياة المترفين في ذلك العصر، قالوا: كان له خادم من آثَرِ خدَمه عنده يقال له منصور، فوجَد الخادم عليه فهرَب إلى محمد وأتاه وهو بقصر أم جعفر المعروف بالقرار، فقبله محمد أحسن قبول، وحظي عنده حظوة عجيبة، فركب الخادم يومًا في جماعة خدم كانوا لمحمد يقال لهم السيافة، فمرَّ بباب العباس بن عبد الله، يريد بذلك أن يُري خدم العباس هيئته وحاله التي هو عليها، وبلغ ذلك الخبر العباس، فخرج إليه وقامت معركة، وكادوا يُحرقون دار العباس، وقبض الأمين على العباس وهمَّ أن يقتله لولا وساطة أم جعفر من ناحية، واشتغاله بخروج الحسين بن علي بن ماهان عليه وانضمامه إلى المأمون من ناحية أخرى.
    ولموضوع خدم الخليفة وغاشيته ذوي السلطان من المقربين والزعماء والقادة والوزراء، بل الخدم والأمناء أسوأُ أثرٍ في تاريخ المدنية الإسلامية.
    •••
    وهناك ظاهرة خُلُقية في أخلاق الأمين، وهي حبه للاستخارة، واحتفاله بالبحث عن أمر طالعه، وركونه حتى في آخر لحظة من حياته، وهي لحظة التقرير في مصيره، أيُسلِّم نفسه إلى طاهر أم إلى هرثمة إلى منام رآه.
    وربما كانت هذه الخلة فيه من أثر البيئة، كما أسلفنا، أو من روح العصر نفسه، وإن كان ابن ماهان قائده يحتقرها، وسنرى أن المأمون كان على عكس الأمين لا يحفل في مهام أموره بالاستخارة ووحي الأحلام، بل كان يجعل جل اعتماده على مشورة رجالاته وذوي النصيحة من أنصاره.
    على أنه ليس معنى ذلك أن الأمين لم يكن يستشير، ولكنه كان في كل شئونه يغلبه هواه على وجه الصواب من أمره، وكان لرياء حاشيته وتأثير بطانته فيه النتيجة السيئة، فكان لا يعمل بما يُدلَى به إليه من نصح.
    ولكن الأمين، كما قلنا، كان هواه يُعمِّي عليه وجه الصواب من أمره، وكان واقعًا تحت سلطان الفضل بن الربيع وعلي بن عيسى بن ماهان وغيرهما من بطانته، وهم الذين كان رياؤهم سمًّا زُعافًا، ونفاقهم وباء فتَّاكًا، ولين كلامهم حسكًا وقتادًا، والذين لم يُخلصوا لمليكهم أو بلادهم فيما يدلون به من الآراء، وما يقدمونه من النصائح، وإنما يُخلصون لعاجل مصلحتهم، فزينوا له نكث العهد، وسهلوا له أمره، حتى أقدم عليه، وكان ما كان من النزاع.

  9. #9

    افتراضي

    وكان طيب القلب يعفو حتى عن الخارجين عليه والمسيئين إليه، وإن موقفه مع حسين بن علي بن ماهان لمعروفٌ مشهور، وكذلك موقفه مع أسد بن يزيد أحد قادته حينما طلب إليه أن يدفع له ولدي عبد الله المأمون ليكونا أسيرين في يديه، فإن أعطاه المأمون الطاعة فبها، وإلا عمل فيهما بحكمه، وأنفذ فيهما أمره، فقال له الأمين: «أنت أعرابي مجنون، أدعوك إلى ولاء أعنه العرب والعجم، وأطعمك خراج كور الجبال إلى خراسان، وأرفع منزلتك عن نظرائك من أبناء القواد والملوك، وتدعوني إلى قتل ولديَّ، وسفك دماء أهل بيتي! إن هذا للخَرقُ والتخليط!»
    هذا الموقف النبيل دليل على سلامة طويته وطهر سجيته، ولكن حظه الحالك ونجمه الآفل، ورياء مشيريه، وضعف إرادته، وخور عزيمته، ولهوه وعبثه، ونصيب المغلوب من الدعوة عليه، والحملة الموجهة إليه قد ضربت بجِرانها على سيرته؛ فإذا بها شوهاء مُزْرية، وإذا بها مقبحة منفرة، حتى قيل فيه ما قيل.
    يقول ابن الأثير: «لم نجد للأمين شيئًا من سيرته نستحسنه فنذكره»، وهذا حق في جملته عن الأمين كمدبر مملكة وخليفة، فإن فتًى غرًّا لم يُثقَّف الثقافة السياسية اللازمة، ثم يصبح ذا سلطان مطلق في ملك كبير يشبع ذوي المطامع النهمة، ثم تحوطه حاشية من الدهاة ذوي المطامع الواسعة، والأغراض الكبيرة كالفضل بن الربيع الذي أفسد ما بينه وبين أخيه، وبكر بن المعتمر الذي زيَّن له خلعه، ثم هو فوق ذلك ينصرف إلى حد كبير عن معالجة تدبير الملك إلى اللهو، وإلى اللهو بكل ألوانه وضروبه، فقد ذكر الطبري في حوادث سنة193ه عن علي بن إسحاق أحد معاصريه، أنه لما أفضت الخلافة إلى محمد، وهدأ الناس ببغداد، أصبح صبيحة السبت، بعد بيعته بيوم، فأمر ببناء ميدان حول قصر أبي جعفر في المدينة للصوالجة واللعب، فقال في ذلك شاعر من أهل بغداد:
    بنى أمينُ الله ميدانًا /وصيَّر الساحة بستانًا
    وكانت الغزلان فيه بانا /يُهدَى إليه فيه غزلانا
    نقول: إن مثل هذا الفتى الذي يولِّي وجهه منذ الساعة الأولى إلى مثل هذه الشئون التي كان يجدر به ومن كان في مكانه ألا تكون صاحبة النصيب الأول من عنايته واهتمامه، خليقٌ ألا يجد المؤرخ له عملًا صالحًا في شأن من شئون الدولة، وقمينٌ على ذلك أن يكون موضع استغلال كبير للدعوة المأمونية.
    وقال غير ابن الأثير: «كان الأمين فصيحًا بليغًا كريمًا»، وكيف لا يكون تلميذ الأحمر والكسائي وقطرب وحماد وغيرهم من فحول اللغة، وجهابذة البيان، وأساتذة الأدب من منثور ومنظوم فصيحًا بليغًا؟
    على أنه من الحق والعدل أن نقرر أيضًا، أن هذه الصفات تكاد تكون من سجايا كل ناجم من هذه الأسرة الباسقة الفينانة، ومن أجل هذا ذهبنا إلى ما ذهبنا إليه من أن الأمين لم يكن كما صوَّروه لنا من البلَهِ والسُّخف، ومن الخمول والبلادة، ومحال أن يكون كذلك وتصرفاته في بعض شئون الدولة على ما وصفنا، ومحال أن يكون بليدًا بفطرته واستعداده، أو جاهلًا غبيًّا؛ لأنه في الذروة من الهاشمية، وأنت تعلم مقدار اهتمام الخلفاء العباسيين والأمراء الهاشميين بالثقافة الأدبية، كما بينا لك ذلك في كلمتنا عن الحياة الأدبية والعلمية في العصر العباسي، وإنما ظروف حياة الأمين والبيئة التي أحاطت به وما إلى ذلك مما فصلناه لك، جعلت صورة الأمين كما أراناها التاريخ، ثم هي في الوقت نفسه جنحت به إلى الاستهتار، وإلى العبث والمجانة.
    وقد يكون أحسن ما نختم به كلمتنا عن تحليل الأمين وسيرته، وأصدق وصف له ما ذكره الفضل بن الربيع، وزيره ووزير أبيه من قبله، والذي سنعرض لشيء من دقيق تصرفاته، وحكيم تدبيراته عندما نعرض لتفصيل النزاع بين الأمين والمأمون، فهذا الوصف ربما كان أقل تحاملًا من غيره على الأمين، وربما كان خيرًا من سواه في تصوير الأمين وتحليل أخلاقه ونفسيته.
    ولقد كان استعداد المأمون الفطري منذ نشأته أن يكون رجل جماعة وقائد أمة.
    وبعد، فليس من شك في نجابة المأمون كانت من الأسباب التي حملت الرشيد على أن يستوثق له الأمر في ولاية العهد من أخيه، ولأخيه منه، فجمعهما في بيت الله الحرام حين حج عام 186ه، ومعه كبار رجال الدولة وجل الظاهرين من الأسرة المالكة، واستكتب كليهما عهدًا بما له وعليه قبل الآخر، وأشهد عليهما جماعة من ذوي المكانة والنفوذ، ثم علق العهدين في الكعبة، ليكونا في مكان الاحترام الديني.
    ولسنا ننكر أن من جملة تلك الأسباب ما يصح افتراضه من أن الرشيد كان يقدر قوة حزبي المأمون والأمين، وبعبارة أخرى: حزبي الفرس والعرب، أو العلوية والهاشمية، أو الشيعية والسنية.
    ونحن لا نستطيع أن نرجع مظاهر العطف المختلفة، وفي مناسبات كثيرة، من الرشيد على المأمون إلى الأُبوة وحدها، فإن للرشيد أولادًا غير المأمون وغير الأمين لم ينالوا شيئًا من هذه الحظوة العظيمة لديه؛ لذلك نرى — وقد ترى معنا رأينا — أن هذه الحُظوة التي ينالها المأمون من الرشيد في مناسبات كثيرة دون إخوته ترجع إلى ما امتاز به المأمون من نجابة خارقة، وميل إلى جد الأمور، وترفُّع عن سفسافها، وسموٍّ عن دناياها، واضطلاع بما يُكلف القيام به من أعباء ومهامَّ.
    ولعل أظهر مظاهر العطف من الرشيد على المأمون ما فعله الرشيد حين وافته منيته ﺑ «طوس»، من وصيَّته بجميع ما كان معه من جند وسلاح ومال للمأمون دون أن يكون لخليفته من بعده؛ ليشد بذلك من أزر المأمون، ويقوي من جانبه.
    ولعلنا لا نعدو الواقع كثيرًا حين نذهب إلى القول بأن الرشيد كان يحذر الخلاف بين الأخوين، ويخاف كليهما على الآخر، يخاف الأمين على المأمون؛ لأن الأمين سيصبح الخليفة الذي بيده قوة الدولة من جند ومال، وتصحبه مزاياها من عظم الهيبة ونفوذ الكلمة، وسيكون مطمح آمال الآملين وموضع رجاء الراجين.
    ويخاف المأمون على الأمين؛ لأن ما امتاز به المأمون من نجابة خارقة، وجدٍّ وحنكة، وعرفان بشئون الحياة واضطلاع، واعتداد بنفسه يجعل منه خطرًا شديدًا على الأمين جديرًا بأن يُخشى ويُتَّقى أيضًا، ويظهر أن كل هذا وقر في نفس الرشيد الذي كان معروفًا بالحزم وجودة الحَدْس، وقوة البصر بالعواقب، فأراد أن يتقيه، ورأى أن خير وسيلة لاتقائه، أن يستكتبهما العهدين، كما قدمنا، فيقطع بذلك أسباب الخلاف بين الأخوين، ويحول دون دسِّ الدساسين، وسعاية الساعين، ويفهم أنصار الفريقين ما للبيعة بين الأميرين من حرمة وتوقير.
    غير أن تصرفات الأيام، وآثار البطانة، ونتائج السعاية، ومغبات الرياء والنفاق كانت فوق ما كان يُقدِّر الرشيد، فوقع الخلاف بين الأخوين أعنف ما يكون، ولم يكن ما اتخذه الرشيد من وقاية وحيطة ليصد تياره الجارف.
    وكان المأمون الشاب حسن التوفيق في اختيار حاشيته ومشيريه، فجمع حوله طائفة من ذوي الدهاء والحنكة، وهؤلاء وإن كانوا من ذوي المطامع والأغراض قد أخلصوا له النصح، وثقَّفوه التثقيف الذي يكفل له النجاح، فإن تحقيق أطماعهم الواسعة موقوف على نجاحه.
    فإخلاصهم له إخلاص في الواقع لأنفسهم أيضًا، ولما كانت أم المأمون فارسية فربما جاز لنا أن نقول: لعل لكونها فارسية أثرًا في أن يخلص له هؤلاء المشيرون؛ إذ كانوا كلهم من الفرس، وإذ كانت له بهم هذه القرابة.
    ومن هنا نستطيع أن نفهم الرأي الذي يقول به بعض المؤرخين الفرنجة: إن انتصار المأمون على الأمين كان أيضًا انتصارًا للفرس على العرب، كما كان انتصارًا للفرس على العرب انتصارُ العباسيين على الأمويين، ومن هنا نستطيع أن نعلل أيضًا ما ذهب إليه بعض الباحثين من أن المأمون كان شيعيًّا وهو عباسي؛ لأن البيئة الفارسية التي نشأ فيها كانت إلى حد غير قليل مهد التشيع للعلويين، فيجوز أن تكون قد صبغت المأمون بشيء من ألوانها، وقد كان لذلك آثاره لا في السياسة ونظام الملك فحسب، بل في الآراء والمذاهب مما سنذكره حين نعرض للكلام على الخليفة المأمون.
    ولعلنا نكون بما قدمناه عن نشأة المأمون وصباه قد رسمنا لك صورة واضحة لهذا الأمير الذي سيكافح كفاحًا شديدًا في سبيل الملك، والذي كان له أكبر أثر في الحضارة الإسلامية.
    أما شتى مواهب المأمون وآراؤه، وما اشتهر به من الحلم والعفو والكرم والبصر بالسياسة، وجودة الحدس، وكفاية البطانة، وشغفه بالعلم والأدب والجدال، وما كان لهذا الشغف من ثورة علمية وفكرية وكلامية في عصره، فسنرجئ الكلام فيها إلى موضعها من كتابنا، وهو الكلام على الخليفة المأمون بعد أن استقر له الأمر في بغداد، وحين نضجت فيه هذه الخلال وآتت كل ما لها من ثمرات.



  10. #10

    افتراضي

    النزاع بين الأمين والمأمون

    توطئة

    عرفت مما ذكرناه لك في مجمل كلامنا عن الرشيد والأمين، أن الرشيد أعلن ولاية العهد للأمين في سنة ١٧٥ هجرية، وسِنُّ الأمين فيما قيل وقتئذٍ خمس سنين، ثم أشرك معه المأمون في ولاية العهد سنة ١٨٣ هجرية، ثم استوثق لكليهما من أخيه سنة ١٨٦ هجرية، وهو عام حج الرشيد، بأن استكتب كلًّا منهما عهدًا بما عليه وله قبل الآخر، وعلَّق العهدين بالكعبة، كما قدمنا.
    ويؤخذ من نصوص العهدين وما تبودل بعد ذلك من الرسائل بين الأمين والمأمون، مما سنورد لك بعضه لما تضمنته من «الديبلوماطيقية العباسية»؛ وهي: لين في حزم، وتيئيس في تأميل طويل الأجل، ويؤخذ منها أن خراسان ونواحيها إلى الري كانت تحت إمرة المأمون يتصرف في جميع شئونها من سياسية وحربية واقتصادية وقضائية تصرفًا تامًّا، لا تربطه بحاضرة الخلافة إلا رابطة الدعاء للخليفة، وقد صارت إليه إمرة هذه النواحي في عهد الرشيد، وهي من الأمور التي أخذ الأمين بالوفاء بها فيما أخذ به من عهود ومواثيق.
    وكان الرشيد قد أشرك في سنة ١٨٨ هجرية ولده القاسم مع أخويه في ولاية العهد، وجعل من نصيبه العمل على الشام وقنسرين والعواصم والثغور.
    وكانت الأمور جارية مجراها الطبيعي آخر أيام الرشيد، ثم شطرًا كبيرًا من السنة الأولى من خلافة الأمين، إلا ما كان من أشياء طوى عليها المأمون كشحًا دُرْبة منه وسياسة، وحصافة وكياسة، وتريثًا وتعقلًا، وحزامة وتمهلًا.
    ولم تنقض السنة الأولى من خلافة الأمين حتى كانت الدسائس قد فعلت فعلها، وحتى كانت المنافسة العنيفة بين البطانتين قد بلغت غايتها، وأخذ كل من الأخوين يحذر أخاه ويتقيه، وامتلأت الصدور حفائظ وإحنًا، ولم يبق إلا أن تُلمس فتنفجر. وسنفصل لكم كل ذلك تفصيلًا.
    البيعة للأمين بولاية العهد
    لم يكد الأمين يبلغ الخامسة من عمره حتى اجتهدت أمه زبيدة وأخواله في أن تؤول إليه ولاية العهد، لتكون الخلافة له من بعد أبيه.
    وبالرغم من أن الرشيد كان يتوسم النجابة والرجاحة في “عبد الله المأمون”، ويقول: “إن فيه حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة الهادي، ولو شئت أن أقول الرابعة مني لقلت”- فإنه قدَّم محمدا بن زبيدة على أخيه الأكبر المأمون، مع علمه أن متبع هواه. ولعل رغبة أمراء البيت لعباسي واجتماعهم على تولية الأمين كانت وراء نزول الرشيد على رأيهم، وتحقيق تلك الرغبة التي اجتمعوا عليها.
    وكانت حجتهم في ذلك أن الأمين هاشمي الأبوين، وأن ذلك لم يجتمع لغيره من خلفاء بني العباس، وكان يؤجج تلك الرغبة كرههم لـ”آل برمك” الذين استأثروا بالرشيد، ونالوا لديه حظوة ومكانة كبيرة.
    استدعى الرشيد الأمراء والقواد ورجال الحاشية، وطلب الفقهاء ليُشهدهم على قراره الخطير الذي عقد عليه العزم، وهو البيعة لابنه الثاني “محمد الأمين”. وفي يوم الخميس (6 من شعبان 175 هـ = 8 من ديسمبر 791 م) عقد الرشيد مجلس البيعة، وأخذت لمحمد البيعة، ولقبه أبوه بـ” الأمين”، وولاه في الحال على بلاد الشام والعراق، وجعل ولايته تحت إدارة مربيه “الفضل بن يحيى البرمكي”.
    خلافة الأمين
    تولى الأمين الخلافة وعمره ثلاث وعشرون سنة، ولكن لم تتم له البيعة إلا في (منتصف جمادى الآخرة 193م = 4 من إبريل 809م).
    وقد أدى تولي الأمين الخلافة إلى إثارة الفتنة بينه وبين أخيه المأمون، ومما زكّى نار هذه الفتنة وقوع التنافس بين رجلين قويين كان أحدهما الوزير “الفضل بين الربيع”، الذي يسيطر على الأمين، والآخر هو “الفضل بن سهل”، الذي يسيطر على المأمون، بالإضافة إلى اتخاذ العنصر العربي والفارسي من ابني الرشيد رمزًا للصراع بين العرب والعجم، والتفاف كل فريق حول صاحبه.
    واستطاع الفضل بن الربيع إقناع الأمين بعزل أخيه المأمون من ولاية العهد، وأن يجعلها في ابنه “موسى بن الأمين”، ثم ما لبث أن خلع أخاه المؤتمن من ولاية العهد.
    ومن ناحية أخرى عمل الفضل بن سهل على توسيع هوة الخلاف بين الأخوين، وحرص المأمون على الاستقلال بخراسان.
    وأعلن الأمين البيعة بولاية العهد لابنه موسى وسماه “الناطق بالحق”، وأمر بالدعاء له على المنابر بعده، وقطع ذكر المأمون والمؤتمن. وبذلك يكون قد نكث عما أخذه عليه أبوه الرشيد من عهود ومواثيق.
    وكان ممكنًا بعد أن طوى المأمون كشحًا على ما وقع من القوم من نكث للعهود، واغتصاب لما أوصى به الرشيد له من جند ومال وسلاح، وبعد أن أخذ يُهدي إلى أخيه خير ما وصلت إليه يُمناه من تُحف خراسان ونفائسها، أن تسير الأمور في مجراها الطبيعي، وأن يستقر الأمر بين الأخوين على ما أراد الرشيد، لولا أن بطانة الأمين أوغرت صدره على أخيه، ولولا أن بطانة المأمون حفزته إلى مقابلة العدوان بمثله، وأفعمت قلبه ثقة بالغلبة والظفر، وإيمانًا بالفوز والنُّجح.
    وإن كلمة الفضل بن الربيع «لا أدع ملكًا حاضرًا لآخر لا يدري ما يكون من أمره» فيها الغنية والكفاية في تفهيمنا الأساس الذي بنيت عليه تصرفاته بين الأخوين، فهو ينظر لمصلحة من بيده الملك اليوم، لا يحفل ببيعة ولا عهد، ولا يكترث لوحدة قومية، ولا يحفل بإحلال الوفاق بين العباد، ولا يعمل على مصافاة ولا وداد، وإنما همه الملك الحاضر، والإمعان في إرضاء الملك الحاضر.
    كذلك كانت حال الفضل بن سهل في موقفه مع عبد الله المأمون، ومهما كانت صورة المأمون التي صورها لنا التاريخ بأنه المغلوب على أمره في النزاع الذي نشب بين الأخوين، وأن الأمين هو الناكث الغادر، ومهما كانت القلوب الإنسانية تحنو على المظلوم، وتعطف على المغلوب، مهما كان كل ذلك، مما يجعلنا نستسيغ تصرفات الفضل بن سهل مع المأمون، بل مما يدفعنا إلى الافتنان بها، وعزو الحصافة والأصالة والكياسة إلى صاحبها، وأن ليس هناك من هو أنهدُ منه في مثل مواقفه ولا أجزى، ولا أحكم من تدبيراته ولا أوفى، ولا أرهف غرارًا من عزماته ولا أمضَى، ولا أقدر منه في خططه ولا أغنَى، بيد أنا مع ذلك إذا جردنا النفس الإنسانية من بعض صفاتها ونظرنا «ببرود» — على حد التعبير الإنجليزي — وبحيدة ونَصفة منه وله، فإنا نقرر من غير أن نعدو الحق والواقع، أن الفضل بن سهل لعب مع المأمون ذلك الدور الخطير بذاته الذي لعبه الفضل بن الربيع مع الأمين، وأن كلًّا قد توكأ على أميره لغايته، واستغله في سبيل نجح سياسته، ودفع به إلى حيث يريد.
    ولننظر معًا في حوادث سنة 194ه ؛ لنكون مُلمِّين بتحول النزاع الذي شجر بين الأخوين، ولنؤمن الإيمان كله أن البطانة قد لعبت دورًا شنيعًا في إشعال جذوة الحقد والسخيمة بينهما، وعملت على إضرام أُوارها، وسعَت جهدها في توسيع مسافة الخلف بين الأخوين حتى كان ما كان، نجد أن الفضل بن الربيع، فيما يرويه لنا المؤرخون، سعى بعد مقدمه العراق على محمد مُنصرفًا عن «طوس» وناكثًا للعهود التي كان الرشيد أخذها عليه لابنه عبد الله، وعلم أن الخلافة إن أفضت إلى المأمون يومًا وهو حي لم يُبْق عليه، وكان يترقب في ظفره به عَطَبه — سعى جهده في إغراء محمد به، وأعمل قريحته في حثِّه على خلعه، وزيَّن له، بما في مقدوره، أن يصرف ولاية العهد من بعده إلى ابنه موسى، ولم يكن ذلك في رأي محمد ولا عزمه، بل كان عزمه، فيما ذكر الرواة عنه الوفاء لأخويه عبد الله والقاسم بما كان أخذ عليه لهما والده من العهود والشروط، فلم يزل به الفضل بن الربيع يُصغِّر في عينيه شأن المأمون، ويزيِّن له خلعه، حتى قال له: «ما تنتظر يا أمير المؤمنين بعبد الله والقاسم أخويك، فإن البيعة لك كانت متقدمة قبلهما، وإنما أُدخلا فيها بعدك واحدًا بعد واحد!»
    قال ذلك ابن الربيع وضمَّ إلى رأيه معه علي بن عيسى بن ماهان والسندي وغيرهما ممن بحضرته.
    ومن المعقول أن تفترض أن الفضل مضى في الإيقاع على هذه النغمة ثَنْيًا بعد ثني، ومرة إثر أخرى، وقدح في ذلك قريحته، واستخدم شتى وسائل أمثاله ونظرائه حتى أزال محمدًا عن رأيه، وقد ذكر المؤرخون أن أول ما بدأ به محمد عن رأي الفضل بن الربيع فيما دبر من ذلك، أن كتب إلى جميع العمال في الأمصار كلها بالدعاء لابنه موسى بالإمرة بعد الدعاء له، وللمأمون والقاسم بن الرشيد.
    والآن، بعد أن وقفت على تصرف محمد وجماعة محمد مع المأمون وجماعة المأمون، لك أن تستنبط ما يفعله الفريق الآخر إجابة على تصرف الفريق الأول، ولك أن تنتظر من المأمون أن يدبر أمره تدبير من يرى أن أخاه يدبر عليه خلعه، ولك أن تنتظر مثل ذلك من جماعة المأمون وأنصاره.
    وهكذا تنبئنا حوادث السنة نفسها؛ إذ ينبئنا الطبري أن فيها قطع المأمون البريد عن محمد، وفيها أسقط اسمه من الطرز، وفيها لحق رافع بن الليث بالمأمون، وهو من سلالة نصر بن سيار لما انتهى إليه من الخبر عن المأمون، وحسن سيرته في أهل عمله، وإحسانه إليهم، فيما يرويه المؤرخون، أو سعي المأمون ورجالات المأمون كهرثمة وطاهر في إصلاح ما بينه وبين المأمون، وطلب الأمان له؛ ليكون عدة وظهيرًا للحزب المأموني، كما نستسيغه نحن ونستخلصه، وفيها ولَّى المأمون هرثمة رياسة الحرس، ولهرثمة مكانته وشهرته، وله سيرته ونجدته، ولرافع بيته وأنصاره، وكتائبه وفرسانه، كما أن لطاهر بن الحسين حزمه وشجاعته وفروسته ومرانه، ولابن سهل بلا ريب حذقه في تصرفاته التي بمثلها ترد الأهواء الشاردة، وتستصرف الأبصار الطامحة، وعلى رأسهم أو إلى جانبهم إن شئت المأمون، وقد تسربل بالثوب الذي نُصِح إليه بلبسه، فأضحى محمود الشيم، مرضيَّ الخلال، وهو باستعداده ونزعته ذلك الرجل السياسي المعتدل المزاج، الهادئ الأعصاب، السديد التصرف، السمح الأخلاق، اللين العريكة، الكريم المهزة، مع أناة وجلد وعزم وحزم ونفاذ ومضاء.

  11. #11
    رئيس مجلس الإدارة الصورة الرمزية د ايمن زغروت
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    الدولة
    مصريٌ ذو أصولٍ حجازية ينبعية
    المشاركات
    12,200

    افتراضي

    بارك الله قلمك وطيّب مدادك يا باشمهندس زهدي, وتقبل الله منك هذا العمل الرائع.
    ودائما ما تكون الشخصيات التاريخية العظيمة "شخصية جدلية" لها أنصارها ولها معارضوها, ولاشك ان المأمون العباسي هو رائد نهضة الامة علميا بانتهاجه الانفتاح على الحضارات السابقة وسعيه لترجمتها واتاحتها لعلماء المسلمين لبدأوا من حيث انتهت ويبنوا عليها, وهو ما حدث.

  12. #12
    نائب رئيس مجلس الادارة الصورة الرمزية حسن جبريل العباسي
    تاريخ التسجيل
    01-05-2010
    المشاركات
    8,466

    افتراضي

    أستاذنا الفاضل القيمة والقامة
    المهندس/ زهدى جمال الدين،

    السلام عليكم ورحمة الله،
    حياكم الله وأسعد وطيب أوقاتكم بكل خير،
    نتشرف بوجود حضرتكم معنا على صفحات موقعنا،
    فأهلًا ومرحبًا بكم أستاذنا الفاضل فى داركم «النسابون العرب».

    كما نتشرف بمؤلفكم القيم (إعجاز الرحمن في رسم القرآن)
    وذلك بإنشاء صفحة خاصة بإسمكم الكريم بالقسم الإسلامى،
    كى ننهلل من علمكم الفياض والخاص بالدراسات الإسلامية،
    بارك الله لكم وبكم وزادكم من علمه وفضله وجعله فى ميزان حسناتكم.
    ----------

  13. #13

    افتراضي

    ومن المعقول أيضًا أن ينكر الأمين ذلك من ناحيته أيضًا، والمعقول أن يبدأ بالتدبير على المأمون ليصدف عنه قلوب رجاله، وأن تتسلسل الحلقات وتستطرد الإجراءات المحتومة الوقوع في مثل هذه الحالات.
    وربما كنا على حق إذا قلنا: إن النزاع أضحى بين الفضلين؛ ابن سهل وابن الربيع، وانقلب عنيفًا أعظم العنف، فقد كان بين كفايتين لا يعرفان الونية ولهما من الحصافة وثقوب البصيرة، ومن سعة الحيلة وفَدْح الخَتْل، ومن وفرة الحنكة وغناء الاختبار، ومن مضاء العزيمة وثروة الذهن، لهما من ذلك كله وما إلى ذلك من شتى الصفات السياسية ما لا قبل لأحدهما به من صاحبه، فلكلٍّ من صاحبه بواء ونديد، ومُنازِل عنيد، وكميٌّ صنديد.
    وقد أثار موقف الأمين من أخيه غضب أهل خرسان؛ فانحازوا إلى المأمون ضد أخيه، وكان على رأس المؤيدين “هرثمة بن أعين” قائد الجند، و” طاهر بن الحسين” الذي خرج على رأس جيش كبير معظمه من الفرس من خراسان.
    وفي المقابل جهز الأمين جيشًا مكونا من ثمانين ألف مقاتل معظمهم من عرب البادية، وجعل عليه “علي بن عيسى”، وكان يكره أهل خراسان؛ لأنهم دسوا عليه عند الرشيد، فعزله من ولاية خراسان وحبسه، حتى أطلقه الأمين واتخذه قائدًا لجيشه.
    والتقى الجيشان على مشارف “الري”، ودارت بينهما معركة عنيفة، كان النصر فيها حليفًا لجيش المأمون بقيادة “طاهر بن الحسين”، وقُتل “علي بن عيسى” قائد جيش الأمين.
    وأعلن طاهر بن الحسين خلع الأمين، ونادى بالبيعة للمأمون بالخلافة؛ فأرسل الأمين جيشًا آخر قوامه عشرون ألف مقاتل، وجعل على رأسه “عبد الرحمن بن جبلة الأبنادي”، لكنه لقي هزيمة منكرة وقُتل الكثير من جنوده، وما لبث أن قُتل.
    وأرسل الأمين جيشًا ثالثًا بقيادة “أحمد بن مزيد” على رأس أربعين ألف مقاتل من عرب العراق، ولكن طاهر بن الحسين استطاع أن يبث جواسيسه داخل ذلك الجيش فأشاعوا الفرقة بين قواده وجنوده حتى اقتتلوا وانسحبوا عائدين قبل أن يلقوا خصومهم.
    ولم يستطع الأمين أن يجهز جيشًا آخر لملاقاة أهل خراسان، بعد أن رفض الشاميون السير معه، وانضم عدد كبير من جنوده وأعوانه إلى خصومه، وفر كثير منهم إلى المدائن.
    حصار بغداد وسقوط الأمين
    وقد سادت الفوضى والاضطراب “بغداد” عاصمة الخلافة؛ حتى قام “الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان” بانقلاب ضد الأمين، وأعلن خلعه من الخلافة، وحبسه هو وأمه زبيدة في قصر المنصور في (رجب 196 هـ = مارس 812م)، وأعطى بيعته للمأمون، لكن فريقًا من أنصار الأمين استطاعوا تخليصه من الأسر، وأعادوه إلى قصر الخلافة.
    وتقدم جيش المأمون نحو بغداد فحاصرها خمسة عشر شهرًا، وضربها بالمجانيق حتى أصيبت بأضرار بالغة، وتهدمت أسوارها، وأصابها الخراب والدمار، وسادت فيها الفوضى، وعمت المجاعات حتى اضطر الأمين إلى بيع ما في خزائنه للإنفاق على جنوده وأتباعه.
    قتل الأمين

    ولقد ضيق طاهر وهرثمة على الأمين الخناق، وفكَّرا فيمن يتسلَّم الأمين ليكون له قصب السبق، وإنه لمن المؤلم حقًّا أن ترى الأمين وهو يُقبِّل أولاده، ومن المؤلم أن تسمعه وهو يقول: «وددت أن الله قتل الفريقين جميعًا، فما منهم إلا عدوٌّ من معي ومن عليَّ، أما هؤلاء فيريدون مالي، وأما أولئك فيريدون نفسي!» وقال:
    تفرقوا ودعوني / يا معشر الأعوان
    فكلكم ذو وجوه / كثيرة الألوان
    وما أرى غير إفك / وتُرَّهات الأماني
    ولست أملك شيئًا / فسائلوا خُزَّاني
    فالويل لي ما دهاني / من نازل البستان؟
    وإنه لمن المؤلم حقًّا أن يتفقا على أن يأخذ أحدهما بدنه، والآخر خاتم الخلافة وشاراتها! ومن المؤلم حقًّا أن تُختم حياته بمأساته المُروِّعة.
    وبدأت المدينة تتهاوى حتى سقطت أمام جنود المأمون، وتم القبض على الأمين ووضعه في السجن. وفي ليلة (25 من المحرم 198 هـ = 25 من سبتمبر 813م) دخل عليه جماعة من الفرس في محبسه، فقتلوه .
    والسؤال الأن هل قتل الخليفة المأمون أخاه الخليفة الأمين؟..

  14. #14

    افتراضي

    بداية لقد نقض الخليفة الأمين العهد الذي قطعه على أبيه خليفة المسلمين هارون الرشيد واعلانه البيعة بولاية العهد لابنه موسى وسماه “الناطق بالحق”، وأمر بالدعاء له على المنابر بعده، وقطع ذكر المأمون والمؤتمن. وبذلك يكون قد نكث عما أخذه عليه أبوه الرشيد من عهود ومواثيق.
    فما هو حكم ناكث العهد في الإسلام؟..
    إنّ احترام المواثيق، والوفاء بالعهود، شرط ضروري لاستقرار الحياة الاجتماعية واستقامتها، إذ الثقة المتبادلة ركن أساس لهذه الحياة، ولا تتحقّق هذه الثقة المتبادلة إلا بالوفاء بالعهود، والاحترام المتقابل للمواثيق والوعود، ولهذا، أمر الله سبحانه وتعالى بلزوم الوفاء بالعهد، وقال: «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُول» (الإسراء: 34). ويقول عن صفات المؤمنين: «وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ» (المؤمنون: 8). وتبلغ أهميّة ذلك، أنّ القرآن كما يمدح الموفين بالعهد، ويقول: «الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنقُضُونَ المِيثَاقَ» (الرعد: 20)، يذمّ في المقابل الناقضين للعهود، ويقول عنهم: «وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ» (الرعد: 25). بل يشبّه الناقض للعهد بالمرأة الناقضة لغزلها، بعد أن تعبت على صنعه، إشارة إلى ما يتركه نقض العهد من اختلال في الحياة الاجتماعية، فيقول: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً» (النحل: 91 92). وقد تضافرت الأحاديث على التأكيد والإيصاء بهذا الأمر، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليف إذا وعد». وقال أيضاً: «أقربكم منّي غداً في الموقف، أصدقكم في الحديث، وأداكم للأمانة، وأوفاكم بالعهد». إنّ نقض العهد والميثاق خير دليل على فقدان الوازع الديني، وانعدام الشخصية الدينية، ولهذا قال النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلّم): «لا دين لمن لا عهد لهُ». إنّ الذي لا يرتاب فيه أحد، هو أنّ المشركين واليهود أشدّ الناس عداوةً للمؤمنين، كما صرّح القرآن بذلك، قائلاً: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا» (المائدة: 82). ومع ذلك، نجد القرآن الكريم يصرّح بلزوم احترام المواثيق والمعاهدات المعقودة مع المشركين، فيقول: «وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ» (التوبة: 3 ــــ 4). نعم، أجاز الإسلام قتال المشركين إذا نكثوا إيمانهم وخالفوا عهودهم مع المسلمين، ولذلك قال سبحانه: «وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ)» (التوبة: 12). ولأجل أهميّة العهود والمواثيق المعقودة بين المسلمين وغيرهم من الحكومات والأطراف، أوصى الإمام عليّ (عليه السلام) واليه الأشتر باحترام المواثيق، إذ كتب في عهده المعروف: «وإن عقدت بينك وبين عدُوِّك عُقدةً أو ألبستهُ منك ذمّةً، فحُطْ عهدك بالوفاء، وارع ذمَّتك بالأمانة، واجعل نفسك جُنّةً دون ما أعطيت، فإنّهُ ليس من فرائض الله شيء الناسُ أشدّ عليه اجتماعاً مع تفرّق أهوائهم، وتشتّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعُهود». ومن نماذج التزام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بمواثيقه وتعهّداته، ردّ أبي بصير إلى مكّة بعد توقيع ميثاق الحديبية، حيث التزم توخّياً للمصلحة في أحد بنود ذلك الميثاق، أن يردّ إلى المشركين كلّ مَن فرَّ من مكّة إلى المدينة واعتنق الإسلام، فلمّا قدم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، أتاه أبو بصير، وكان ممّن حُبِس لإسلامه بمكّة، فلمّا قدم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كتبت فيه قريش إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) يطلبونه منه وفق ما التزم في صلح الحديبية وأرسلوا مَن يعيده إلى مكّة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «يا أبا بصير، إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلُحُ لنا في ديننا الغدر، وإنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، فانطلق إلى قومك». قال: يا رسول الله، أتردّني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «يا أبا بصير، انطلق، فإنّ الله تعالى سيجعلُ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً». وقد فرّج عنه في ما بعد، كما وعده الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بإذن الله. سعادة الطاعة في فعل الخير للعطاء أوجه متعدّدة، يمكن أن يقدّمها الانسان للأشخاص المحيطين به، أو المقرّبين على وجه التحديد، بيد أنّ هناك مَن يرى أنّ العطاء قد يكون متشعّباً ويضحّي الإنسان من خلاله بأُمور كثيرة، مقابل أن يقدِّم السعادة للآخرين. ولأوجه العطاء أثر إيجابي على المدى البعيد، لأشخاص ضحّوا بحياتهم من أجل حياة آخرين.. فقد حضَّنا الإسلام على فعل الخيرات والعطاء والتكافل، حيث تبرز إنسانية الإنسان في وجهها المشرق الذي يملأ الحياة سعادةً وأُلفةً وطمأنينةً، والمجتمع المتوادّ والمتراحم والمعطاء الذي يضحّي أفراده في سبيل الآخرين، ويعطون من أوقاتهم وجهدهم وإمكاناتهم في سبيل رفع الحرمان ومساعدة الآخرين، هو مجتمع يعيش بالفعل روح الإسلام في الدعوة إلى الخيرات ونشر المحبّة والتآلف، وبذلك يتعزّز وضع المجتمع وتقوى أُسسه، وتتكرّس العلاقات الإنسانية فيه بأحسن صورها وأصدقها نبلاً. وعن الذين يقومون بفعل الخيرات، قال تعالى: «أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ» (المؤمنون: 61)، لأنّهم ارتكزوا في حياتهم على القاعدة الصلبة التي ينطلق منها كلّ خير، وهي الإيمان بالله وبتوحيده، والخوف منه، والمحبّة له، والوجل من المصير يوم الحساب، ولذلك فإنّهم ينتهزون كلّ فرصةٍ لعمل الخير، لئلا تفوتهم، فتفوتهم سعادة الطاعة ونتائجها السعيدة، فيسارعون فيها.. «وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ» (المؤمنون: 61)، لأنّ مَن يسارع إلى الهدف الذي يحبّه، لا بدّ من أن يسبق الناس إليه.. وتلك هي الجنّة التي يتنافس فيها المتنافسون، وينطلق إليها المتسابقون، «وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا» (المؤمنون: 62)، فلكلٍّ طاقته على عمل الخير، وعليه القيام بما يستطيعه منه، فلن يطلب الله منه أكثر من ذلك، لأنّ الله لا يكلّف عباده بما لا يطيقون، لأنّه ظلم لا يصدر عنه سبحانه وسيجزيه الله جزاء ذلك، «وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ» (المؤمنون: 62) يسجِّل لعامل الخير كلّ دقائقه وخفاياه، «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» (المؤمنون: 62) شيئاً من ذلك، بل يأخذونه وافياً كاملاً غير منقوص.

  15. #15

    افتراضي

    اهتم القرآن الكريم بمسألة الوفاء بالعهود، ولم يتسامح فيها أبداً؛ لأنها قاعدة الثقة التي ينفرط بدونها عقد الجماعة ويتهدم. وجعل من الفضائل فضيلة الوفاء بالعهد، واحترام الوعود، فقد أمر سبحانه عباده المؤمنين بالإيفاء بالعقود، فقال سبحانه: {أوفوا بالعقود} (المائدة:1)، وجعل الالتزام بالعهود والوعود من المسؤوليات التي يحاسب عليها المؤمن، فقال عز وجل: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا (الإسراء:34.
    من أجل ذلك، كان نقض العهد نقيصة مخجلة؛ لأن الإنسان يحيد بها عن حق الله تعالى، وحق عباده؛ ذلك أن من ينقض ما عاهد الله عليه، من السهل أن ينقض عهود الناس، وألا يلتزم بوفاء الوعود، ما يجعل العلاقات الإنسانية عرضة للمخاطر التي تجلب الأضرار المادية والمعنوية، وتلحق الأذى والدمار بالصلات والروابط على اختلافها.
    والنصوص القرآنية هنا لا تقف عند حد الأمر بالوفاء، والنهي عن النقض، بل تستطرد لضرب الأمثال، وتقبيح نكث العهد؛ إذ القصد بالأمثال صرف المكلف عن مضمونها إذا كان قبيحاً، والدعاء إليه إذا كان حسناً.
    ولهذا، بعد أن أمر الله بالعدل والإحسان، ونهى عن المنكر والعدوان، أعقب ذلك بقوله سبحانه: (وأفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان} (النحل:91}، توجيهاً للناس نحو الحق والخير، وأمراً لهم بالوفاء بالعهد، ونهياً عن نقض الأَيمان.
    ثم ضرب الله سبحانه مثلاً توضيحيًّا للذين ينقضون بالعهود، ولا يوفون بالوعود، فقال عز من قائل: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا} (النحل:92)، فجاء هذا المثل من واقع الناس، يرونه في حياتهم. حيث يأمرهم ربهم بألا يكونوا مثل تلك المرأة الحمقاء الخرقاء، التي تغزل صوفها بإحكام، ثم تعود وتحل ما غزلته، فيذهب تعبها وعملها سدى، وبحسب التعبير القرآني: {أنكاثا}، أي: قطعاً متفرقة، أو خيوطاً مبعثرة، لا تصلح في حياكة ثوب، أو صُنع شيء يُنتفع به.
    وقد تحدث سيد قطب رحمه الله عن هذا المثل، فقال: "مثل من ينقض العهد مثل امرأة حمقاء ملتاثة ضعيفة العزم والرأي، تفتل غزلها، ثم تنقضه، وتتركه مرة أخرى قطعاً منكوثة ومحلولة! وكل جزئية من جزيئات التشبيه تشي بالتحقير والترذيل والتعجب. وتشوه الأمر في النفوس، وتقبحه في القلوب، وهو المقصود. وما يرضى إنسان كريم لنفسه أن يكون مَثُلُه كمثل هذه المرأة الضعيفة الإرادة، الملتاثة العقل، التي تقضي حياتها فيما لا غناء فيه!".
    والمراد من ضرب هذا المثل التحذير والتخويف من سوء عاقبة نقض العهود والمواثيق، والحث على الوفاء بها، وبيان أن فعل ذلك كمثل المرأة التي غزلت غزلاً وأحكمته، فلما استحكم، نقضته فجعلته أنكاثاً. قال الألوسي: "ففي الآية تشبيه حال الناقض بحال الناقض في أخس أحواله؛ تحذيراً منه، وأن ذلك ليس من فعل العقلاء، وصاحبه داخل في عداد حمقى النساء".
    أما الشيخ الشعراوي فقد قال عن المراد من هذا المثل ما نصه: "فكأن القرآن شبه الذي يعطي العهد ويوثقه بالأيمان المؤكدة، ويجعل الله وكيلاً وشاهداً على ما يقول بالتي غزلت هذا الغزل، وتحملت مشقته، ثم راحت فنقضت ما أنجزته، ونكثت ما غزلته...والحق تبارك وتعالى بهذا المثل المشاهد يحذرنا من إخلاف العهد، ونقضه؛ لأنه سبحانه يريد أن يصون مصالح الخلق؛ لأنها قائمة على التعاقد والتعاهد والأيمان التي تبرم بينهم، فمن خان العهد، أو نقض الأيمان لا يوثق فيه، ولا يُطمأن إلى حركته في الحياة، ويُسقطه المجتمع من نظره، ويعزله عن حركة التعامل التي تقوم على الثقة المتبادلة بين الناس".
    ويُستدل من هذا المثل على وجوب احترام معاهدات الصلح والاتفاق بين الأمم، وعدم نقضها من طرف واحد؛ لأن الأصل في ذلك توافق إرادة الطرفين المتعاهدين على إلغاء المعاهدة أو وقفها، وأن يُقصد بها الإصلاح والعدل والمساواة، فتبنى على الإخلاص دون الغش والخداع والمكر؛ ذلك أن الإسلام يريد الوفاء بالعهد والمعاهدات، وعدم اتخاذ الأيمان ذريعة للغش والخداع. وعلى هذا الأساس السليم والمتين من الوفاء بالعهود والوعود قام بناء الدولة الإسلامية؛ فنَعِمَ العالم بالطمأنينة والثقة في المعاملات الفردية والدولية، يوم كانت قيادة البشرية لهذا الدين القويم.

  16. #16

    افتراضي

    في الوفاء بالعهود

    الإسلام يجعل العلاقات بالآخر تقوم على العهود والمواثيق ومدى ما يوفره المسلم من ضمانات لاستمرارها وثباتها ذلك لأن هذه المواثيق والعهود الله تعالى طرف فيها، وصيانة العهود والمواثيق هي في حقيقتها حماية للمبادئ والقيم التي دعا إليها الإسلام، وشدد في وصاياه للمسلمين على أن يصونوها ولا يفرطوا فيها، بل اعتبرها من معالم الصراط المستقيم الذي نسأله ليلا ونهارًا أن يهدينا إليه، يقول تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مسؤولا) (الإسراء/ 34).

    وحذر الإسلام أشد التحذير من نقض العهود والمواثيق، فقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (النحل/91) والإسلام يحذر أتباعه من خيانة العهود والمواثيق حتى ولو كانت مع الكفار الذين يريدون الشر بالإسلام والمسلمين ذلك لأن الله تعالى طرف في العهود والمواثيق ويجب ألا تخفر ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    والإسلام يشدد على الوفاء بالعهود حتى ولو كانت مع غير المسلمين، بل حتى من يناصب الإسلام العداء، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال «ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبى حسيل، قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما تريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فأخبرناه الخبر، فقال: انصرفا، تفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم» رواه مسلم.

    أي التزام بالعهود كهذا الالتزام ومع من مع كفار يريدون الشر بالمسلمين؟ ولو غير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي وصفه مولاه سبحانه بقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم) (القلم/4) لاستغل هذا الظرف ونقض العهد معهم لكنه صلوات ربي وسلامه عليه وفى لهم بعهدهم واستعان بالله تعالى على حربهم، والنصر من عند الله تعالى مهما تعاهد الأعداء عليك، وتداعوا عليك من كل جانب.

    إن أخلاقيات الإسلام تمنعه من أن ينقض العهود والمواثيق، وتحدثنا السيرة المباركة أنه (صلى الله عليه وسلم) عندما دفع عهد الصلح بينه وبين قريش، وقبل أن يجف الحبر جاء ابن سهيل بن عمر هاربًا من قريش، فقال سهيل مندوب قريش للرسول (صلى الله عليه وسلم) العهد بيننا وبينكم أن تعيدوا إلينا من جاءكم مسلمًا ونحن لا نعيد إليكم من جاءنا كافرًا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صدقت لك ذلك، فقال ابن سهيل كيف ترجعوني إليهم قد آمنت بالإسلام؟

    فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صبرًا لعل الله تعالى يجعل لك من ذلك مخرجًا، وفعلا عندما أرجعه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إليهم ورأى بعض المسلمين في ذلك غبنا ولم يدركوا الحكمة النبوية البالغة فلما وفى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعهده لهم هرب منهم وقطع عليهم الطريق حتى طلبوا من الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يستعيده فرجع إلى جماعة المسلمين وجاهد معهم الكفار.

  17. #17

    افتراضي

    معالم قرآنية في الصراع مع اليهود

    الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ﴾ [الأنفال: 56] ﴿ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 100].
    ينظر اليهود إلى العهود والمواثيق التي يوقعونها مع غيرهم إنها توقع للضرورة ولغرض مرحلي ولمقتضيات مصلحة آنية، فإذا استنفذ الغرض المرحلي، نقض اليهود الميثاق من غير استشعار بأي اعتبار خلقي أو التزام أدبي، فاللجوء إلى العهود والمواثيق ما هو إلا حالة اضطرارية إن لم يستطع اليهود تجاوزها بالحيلة والخداع والتزوير، أو خشوا البطش بهم أو القضاء على مصالحهم المادية.
    ولكن عندما تتوافر الظروف المناسبة، وتزول الحالة الطارئة التي اقتضت التوقيع على الميثاق، فلا بد من إزالة هذا القيد الذي هو يقيد تصرفاتهم أو يحد من حركتهم للوصول إلى هدفهم الذي يسعون إليه.
    ويشير القرآن الكريم إلى هذه الطبيعة الماكرة في اليهود في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾[الأنفال: 56 – 58].
    إن العلاج الناجع لمثل هؤلاء القوم الذين اعتادوا نقض العهود المرة تلو المرة ينبذ إليهم عهدهم وألا يدخل معهم في ميثاق، وإنما تعد لهم القوة التي ترهبهم فهؤلاء لا يستقيمون على شرعة إلا إذا كانت القوة تهددهم، فلا ينبغي أن يكون العهد ملتزماً به من جانب واحد فيصبح له قيداً يثقل كاهله بينما الطرف الآخر لا يتقيد به وينتهز الفرص. ولكن الفرق بين المؤمنين وغيرهم، أن المؤمن يُعلم عدوه بنبذ العهد جهاراً لقاء عدم التزام العدو به فيكون في حل منه، أما العدو فيخاتل وينقضه سراً من غير أن يجرؤ على البوح بمقصده.
    وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع يهود بني قينقاع فقال: "إني أخاف من بني قينقاع فنبذ إليهم عهدهم وكان من الأمر ما كان".
    وسياسة اليهود في نقض العهود أن ينبذه فريق منهم ويبقى فريق محافظاً على العهد وذلك تجنباً للاستئصال، فإن لقي الناقضون للعهد جزاء رادعاً، لم يقدم الآخرون على ذلك، أما إن سلموا من العقوبة والتأديب لحق بهم الآخرون في النقض والتفلت من الميثاق.
    وهذه السياسة أشار إليها القرآن الكريم في معرض الحديث عن اليهود ﴿ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 100] أكثرهم لا يؤمنون بالعهد ومضمونه وإنما يلتزمون به ظاهراً ويعملون على تعطيله وإلغائه باطناً. وتأتي بعد هذه الآية ما يشعر بأنهم قد تحرروا من أكبر عهد وميثاق أخذه الله عليهم ولم يلقوا له بالاً فما بالك بالعهود التي يقطعونها على أنفسهم مع البشر. حيث يقول جل شأنه: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 101].
    لقد كان ضمن ما نزل عليهم في التوراة أنهم إن أدركوا زمان آخر الأنبياء أن يؤمنوا به ويتبعوه وينصروه، وأغلظ الميثاق عليهم في ذلك كما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 81 – 82].
    إن من يلقي بعهد الله وراء ظهره، فكيف يظن به أن يحافظ على المواثيق مع البشر بل إنهم يطبقون ما نصت عليه توراتهم المحرفة. جاء في التوراة (فلا تقطعوا عهداً مع سكان هذه الأرض) انظر سفر القضاة 2/2.
    وينص التلمود. (على اليهودي أن يؤدي عشرين يميناً كاذبة، ولا يعرض أحد إخوانه اليهود لضرر ما)، انظر الكنز المرصود ص 95 نقلاً عن صراعنا مع اليهود في ضوء السياسة الشرعية/102.
    هذا كان موقفهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، غدر يهود بني قينقاع بعد غزوة بدر وساءهم انتصار المسلمين على المشركين.
    وغدرت بنو النضير بعد غزوة أحد وتجرأوا على المسلمين بعد أن أصابهم ما أصابهم في أحد.
    وغدرت بنو قريظة يوم الأحزاب وتمالؤوا مع المشركين على طعن المسلمين من الخلف، فكان من أمرهم أن منهم من أجلي ومنهم من أسر ومنهم من قتل جزاءاً وفاقاً لغدرهم وخياناتهم.
    واليوم يعيد التاريخ نفسه، كم هدنة وقعت مع اليهود، فكانت كل هدنة تمهد لحرب لاحقة وتضم إلى أراضي إسرائيل أرض جديدة.
    واليوم يقدم العرب على تجربة جديدة مع اليهود للتنازل لهم عن فلسطين فهل يرضى اليهود بذلك أم تكون خطوة مرحلية للانقضاض مرة أخرى لتحقيق حلم دولة إسرائيل الكبرى.
    إننا على يقين تام أن هذا الأمر لن يطول، وأن التوسع سيعود من جديد لأن الهدف النهائي لم يتحقق بعد وسيطرة اليهود على العالم لم تتم بشكل ظاهر ولم يتوج ملكهم على العالم.
    وهذا الحدث لن نقف عنده طويلاً فأحداث التاريخ كالمحيط من أراد أن يعرف أكثر عليه أن يغوص أكثر..

  18. #18

    افتراضي

    الفصل الثاني
    الخليفة المأمون
    نسبه ونشأته
    هو عبد الله بن هارون الرشيد سابع خلفاء بني العباس، ولد المأمون عام 170 للهجرة هو ما يوافق عام 786 ميلادية، وهو ابن الخليفة العباسي هارون الرشيد، أمُّه جارية فارسية توفِّيت بعد ولادته بأيام بسبب مرضها بحمى النِّفاس، وقد ولد المأمون في ليلة من ليالي شهر ربيع الأول، سُمِّيت هذه الليلة بليلة الخلفاء ففيها توفِّي عم المأمون موسى الهادي وكان خليفة، وفيها تولَّى والده الخلافة وفيها ولد المأمون الخليفة اللاحق، وقد عاش المأمون في بيت الخلافة آنذاك فأبوه هارون الرشيد خليفة المسلمين، فتعلَّم وتربَّى وتثقَّف كما ينبغي للأمراء والملوك وكان فطنًا ذكيًا، وبسبب ذكائه عقد له والده الرشيد بيعة الخلافة بعد أخيه الأمين.
    إن الخليفة المأمون كان ضحية المؤرخين الذين افتروا عليه شتى المفتريات تمشياً مع روح العصر الذي يكتبون فيه؛ ونرى أننا كلما بعدنا عن عصر الخليفة المأمون كثرت المفتريات والأباطيل..
    فإن الخليفة المأمون قد شوهت صورته من قبل الروافض ونسجت حولها الخرافات بشكل يجعلها أقرب إلى الأسطورة من الحقيقة فهو أفاضل خلفاء العصر العباسي الأول وعلمائهم وحكمائهم، وكان فطنًا، شديدًا، كريمًا. شهد عهده ازدهارا بالنهضة العلمية والفكرية، واتسمت سياسة المأمون بأنها جمعت بين المواقف المتناقضة التي يصعب التوفيق بينها، وهو الذي أظهر القول بخلق القرآن وامتحن الناس عليه، وبه كانت محنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
    ومن الإنصاف أن يسجل المؤرخ لمن يؤرخ له ما أصاب فيه بمثل ما يسجل عليه ما أخطأ فيه واضعاً قول الله تعالى (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ ) المائدة:8، نصب عينيه.
    ولولادته قصة طريفة: كان والده هارون الرشيد متزوجا من ابنة عم له تدعى زبيدة وكانت زبيدة قد أمضت عدة أعوام تحت كنف الرشيد، دون أن تحمل منه فكان ذلك مبعث أسى وحسرة في نفس الرشيد التواقة إلى البنين الشغوفة بالولد وكان في ذلك الحين وليا للعهد. ينازعه فيه أخوه موسى الهادي ويعمل على انتزاعه وغصبه، فتضاعفت همومه وأحزانه وفي ذات يوم كان يحدث بعض خاصته فيما يعانيه،
    انتهز البرامكة ذلك الأثر النفسي فسعت أم الفضل مرضعة الرشيد بالاحتيال عليه فأشارت عليه بأن يتزوج من غير زبيدة لعل الغيرة تحرك فيها عوامل الحمل.. وضربت له مثلا بما كان من أمر سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، بين سارة وهاجر ففكر هارون في الأمر ثم عزم على تنفيذ النصيحة، فتزوج من جارية خراسانية كانت قد أعدتها له تدعى مراجل من قرية باذجيس ودخل بها في القرية التي كانت تقيم فيها وهي تقع على ضفة نهر عيسى تسمى الياسرية قريبة من بغداد وسرعان ما حملت مراجل من هارون وكذلك زبيدة وكان الوقت بين ولادة المأمون والأمين أشهرا قليلة ومن جميل الصدف أن تكون ولادة المأمون في اليوم الذي وسد فيه أمر الخلافة إلى الرشيد وانتقل من ولاية العهد إلى إمارة المؤمنين.
    ولاية المأمون للعهد: - رأت زبيدة أن تعجل الأمر وتوثقه إلى ولدها الأمين، وسعت بكل ما أوتيت من تدبير وذكاء وسلطان إلى الرشيد لكتابة ولاية العهد لولدها الأمين لكن ضمير الرشيد ظل يؤرقه ويضايقه بعد ذلك لما يعلم من كفاءة المأمون وصلاحيته للخلافة، ولم يسترح حتى كتب كتابا آخر يضمن فيه ولاية العهد للمأمون بعد الأمين وأخذ من كلا الأخوين موثقا على ذلك. وأشهد عليهما.
    ولما بلغ المأمون في شبابه المقدرة على مباشرة المعارك والحروب وقيادة الجيوش، الرشيد يوجهه على رأس قوات المسلمين لخوض المعارك تدريبا منه له على القيادة، وكسبا لفضل الجهاد في سبيل الله. فأثبت المأمون مقدرة فائقة في قيادة الجند وحسن إدارة المعارك وكسب النصر على الأعداء خصوصا مع الروم، ولقد ترك ذلك أثره العظيم في نفس الرشيد فازداد إقباله على المأمون.
    وعلى الرغم مما عرف عن هارون الرشيد من ذكاء وبعد نظر، فإنه وقع فيما وقع فيه أسلافه، فقد لجأ تحت ضغط من زوجته زبيدة والقوة العربية في الدولة إلى تعيين الأمين وليًا للعهد سنة 175هـ/791م، وجعل له ولاية العراق والشام حتى أقصى المغرب، وما لبث سنة 182هـ/799م أن عين المأمون في ولاية العهد الثانية على أن تكون له ولاية خراسان وما يتصل بها من الولايات الشرقية، وأعقب ذلك سنة 186هـ/802م البيعة لابنه القاسم بعد المأمون ودعاه المؤتمن وولاه الجزيرة والثغور.
    وقد اتُبع هذا الاتجاه نحو تقسيم الدولة إلى قسمين شرقي وغربي منذ قيام الدولة العباسية، فكان الخلفاء يقلدون كل قسم لأحد القادة المتنفذين أو المظفرين أو أولياء العهود، فإذا كانوا صغار السن عين الخليفة من ينوب عنهم، وهؤلاء بدورهم كانوا يستخلفون العمال على ولاياتهم.
    والي خراسان: - رأى الرشيد ازدياد حدة المنافسة بين المأمون وأخيه الأمين، وخشي مغبة ذلك مستقبلا على وحدة الأمة وتماسك الدولة من خلال انشقاق الأخوين، فرأى أن يوزع جهودهما وممارسة سلطانهما على البلاد المترامية الأطراف ويحدد لكل منهما مقاطعة الحكم والسلطان، فجعل الأمين قيما على العراق والشام والحجاز ومصر، وجعل المأمون قيما على خراسان، وما وراءها من ديار الشرق الإسلامي. ولم يكن الاختيار على عبث أو دون رأي وتدبير، ذلك أن أخوال المأمون كانوا من خرسان فكان ذلك أوحد وأثبت لحكمه وسلطانه، أما الأمين فأمه عربية هاشمية فكانت إمارته على البلاد ا لعربية أليق به ، ومن ثم أقام المأمون في مرو حاكما مطلق اليد، يدين بالطاعة والولاء لأمير المؤمنين هارون الرشيد ومن بعده لأخيه الأمين ولي العهد. وقد أثبت المأمون في ميدان الحكم قدرة عظيمة على ضبط الأمور وحسن الإدارة والتوجيه وتنظيم البلاد. والعدل بين الناس.
    وضع الرشيد بتصرفه هذا وباختياره ثلاثة من أبنائه لولاية العهد بذرة التفكك السياسي وأوقع الدولة في خضم حرب أهلية كبيرة كانت لها نتائجها الخطيرة على مستقبل الدولة، فقد تكتل العرب بزعامة الفضل بن الربيع إلى جانب الأمين، في حين انضم الفرس بزعامة الفضل بن سهل إلى جانب المأمون.
    وهذه الفعلة من الرشيد رحمه الله أدت لنشوب الخلاف بين الأمين والمأمون ووقوع القتال أكثر من أربعة سنوات.

  19. #19

    افتراضي

    الشقاق: كان الحكم وسدة السلطان في نظر الأمين مجال ترف واستمتاع وغرق في اللذات واستياق الشهوات، على عكس ما كان المأمون الذي جند نفسه بكل طاقاته وإمكاناته لخدمة ولايته والاضطلاع بمسؤوليات الفتح ورد العدوان وتثبيت الأمن والاستقرار، ولقد تهيأ لكلا الطرفين من يزين له موقفه ، وبدأت حدة النزاع والشقاق تظهر بين الأخوين، وكانت البداية من الفضل بن الربيع وزير الأمين الذي زين له أن يخلع أخاه من ولاية العهد ويجعلها في ولده من بعده، وقد راقت هذه الفكرة للأمين فعمل على تنفيذها على مراحل، فبدأ ببذر الفتنة وقطع صلة الرحم فزاد في الإيذاء والضرر لأخيه المأمون، فجرد الخليفة من بغداد جيشا تعداده 40 ألف مقاتل ووجهه إلى خراسان لإخضاع المأمون والإتيان به أسيرا أو قتله إن قاوم وركب رأسه. واستشار المأمون وزيره الناجح الفضل بن سهل فأشار إليه بعدم التخاذل والضعف فلابد من مقاومة جند الأمين، وفعلا التقى الجيشان في معارك ثلاث وكان النصر فيها حليف جيش المأمون وهزم جيش الأمين شر هزيمة، وقتل الأمين عندما ولى هاربا على يد طاهر بن الحسين فبكى وحزن لما آل إليه أمر الخلاف بينه وبين أخيه، وهكذا انتهى أمر الأمين ودوره من على مسرح الحكم وبدأت الدولة العباسية عهدا جديدا هو عصر المأمون بكل ما في الكلمة من معنى، وكان ذلك سنة 198هـ.
    خلافته
    توفي الخليفة العباسي هارون الرشيد عام سنة 193هـ / 809م في خراسان، وأخذت البيعة لابنه الأمين وفقا لوصية والده التي نصت أيضا أن يخلف المأمون أخاه الأمين، إلا أن الخليفة الجديد سريعا ما خلع أخاه من ولاية العهد وعين ابنه موسى الناطق بالحق وليا للعهد، وكان المأمون آنذاك في خراسان، فلما علم بأن أخاه قد خلعه عن ولاية العهد، أخذ البيعة من أهالي خراسان وتوجه بجيش لمحاربة أخيه، وحدثت فتنة عظيمة بين المسلمين، وقد استمرت الحروب بينهما أربع سنوات، إلى أن استطاع المأمون محاصرة بغداد، والتغلب على الأمين وقتله عام 198هـ / 813م، ظافرا بالخلافة.
    وكان المأمون محظوظًا في وجود عدة شخصيات قوية من حوله ساعدته على الحصول على الخلافة والانتصار على أخيه الأمين، من أمثال هذه الشخصيات القائدين الحربيين الكبيرين طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين والوزير صاحب الدور المشبوه الفضل بن سهل.
    اتسمت سياسة المأمون بأنها جمعت بين المواقف المتناقضة التي يصعب التوفيق بينها، فكان يميل إلى الفرس تارة، ثم إلى العلويين تارة أخرى، ثم يميل إلى أهل السنة والجماعة تارة ثالثة، فاستطاع بتلك السياسة المرنة أن يجمع بين المواقف المتناقضة وأن يرضي جميع الأحزاب ويتغلب على معظم الصعاب. بويع بالخلافة أثناء وجوده في خراسان ولهذا لم ينتقل إلى بغداد مقر الخلافة العباسية، بل ظل مقيما في مدينة مرو بخراسان مدة ست سنوات تقريبا، وكان من الطبيعي أن يفضلها بعد أن انفرد بالخلافة؛ لأنها تضم أنصاره ومؤيديه.
    وكان الفرس يودون أن يبقى بمرو لتكون عاصمة الخلافة، ولكنها بعيدة عن مركز الدولة، وهى أكثر اتجاهًا نحو الشرق، مما جعل سيطرتها على العرب ضعيفة. وقد تسبب عن بقاء المأمون بعيدًا عن عاصمة دولته بغداد بعض الأزمات السياسية خصوصًا أنه فوّض إدارة البلاد إلى وزيره الفضل بن سهل وأخيه الحسن بن سهل، وأثار تحيز المأمون إلى الفرس غضب أهل العراق من بني هاشم ووجوه العرب، فأشاعوا أن بني سهل قد حجبوا الخليفة واستبدوا بالرأي دونه. واضطر المأمون أخيرًا أن يذهب إلى بغداد وأن يترك مرو للقضاء على هذه التحركات فى مهدها، فانتقل بعدها إلى بغداد في منتصف شهر صفر من سنة 204هـ.

  20. #20

    افتراضي

    علمه وثناء العلماء عليه
    قال عنه ابن دحية الكلبي: الإمام المحدث النحوي اللغوي. قال ابن طباطبا في كتابه الفخري: "واعلم أن المأمون كان من عظماء الخلفاء ومن عقلاء الرجال وله اختراعات كثيرة في مملكته. منها أول من لخص منهم علوم الحكمة وحصل كتبها وأمر بنقلها إلى العربية وشهَّرها، وحل إقليدس ونظر في علوم الأوائل وتكلم في الطب وقرب أهل الحكمة".
    تتلمذ المأمون على شيوخ الأدب واللغة في عصره، أمثال سيبويه واليزيدي ويحيى بن المبارك. ذكر ثمامة بن أشرس النميري: "ما رأيت رجلا أبلغ من جعفر بن يحيى والمأمون". خاطبه يحيى بن أكثم قائلا: "يا أمير المؤمنين إن خضنا في الطب كنت جالينوس في معرفته، أو في النجوم كنت كهرمس في حسابه، أو في الفقه كنت كـعلي بن ابي طالب في علمه". ويعلق الأستاذ موير عن عصر المأمون بقوله: "وقصارى القول إن عصر خلافته كان بوجهه الأجمل من أزهى عصور التاريخ الإسلامي".
    وهكذا كان عصر المأمون من أزهى عصور الثقافة العربية، وقد أبدى المأمون اهتمامه بجمع تراث الحضارات القديمة وخاصة الحضارة اليونانية، أرسل بعثات من العلماء إلى القسطنطينية وقبرص للبحث عن نفائس الكتب اليونانية ونقلها إلى بيت الحكمة في بغداد، وكان اهتمام المأمون ببيت الحكمة ببغداد كبيرا، وهو مجمع علمي، ومكتبة عامة لنسخ الكتب ودارًا لترجمتها إلى العربية، وكان لها مديرون ومترجمون ومجلدون للكتب، ومرصد فلكى، وأقام فيه طائفة من المترجمين، وأجرى عليهم الأرزاق من بيت المال، فاستفاد المسلمون من هذه الكتب العلمية، ثم ألفوا وابتكروا في كافة العلوم، التي أسهمت في نهضة أوروبا يوم أن احتكت بالعرب في الحروب الصليبية وغيرها.
    كما نهض بمهمة بناء المراصد الفلكية، فأنشأ مرصدًا في حي الشماسية ببغداد، وبنى على قمة جبل قاسيون بدمشق مرصدًا آخر، وقرب العلماء والفقهاء والمحدثين والمتكلمين وأهل اللغة والأخبار والمعرفة بالشعر والأنساب، وأطلق حرية الكلام للباحثين وأهل الجدل والفلاسفة، كذلك شجع المأمون المناظرات الكلامية والبحث العقلي في المسائل الدينية كوسيلة لنشر العلم وازالة الخلاف بين العلماء.
    وأصدر المأمون برنامجا منهجيا للدراسات الفلكية في أول المراصد الفلكية التخصصية المقامة ببغداد ودمشق، وأرسل أول بعثة موسعة لإجراء التجارب العلمية، وكشفت هذه المساعي عن طريقة العلماء العرب في فهم المتون واستيعابها.
    ولجأ الخليفة إلى علماء بيت الحكمة طلبا للعون على شؤون الدين والدنيا، وطلب منهم تحديد المكان الدقيق لبغداد ومكة لمعرفة القبلة الشرعية الصحيحة، كما أراد الخليفة صورة دقيقة لطول وعرض العالم الذي يحكمه.
    وكان للمدارس التي فتحها المأمون في جميع النواحي والأقاليم أثرها في نهضة علمية مباركة. إلا أن الاطلاع على بعض فلسفات الأمم الأخرى قد جعل العقل يجتهد في أمور خارج حدوده وتفكيره، ومن هنا نشأ الفكر الاعتزالى الذي يُعْلي من قيمة العقل، ويجعله حكمًا على النص دون حدود أو قيود.
    لذا كان عصر المأمون عصر العلم في الإسلام. ولهذا قيل: لو لم يكن المأمون خليفة، لصار أحد علماء عصره.
    ولعل من أبرز الأسباب التي أدت إلى ظهور تلك النهضة الحضارية والعلمية في عصر المأمون ذلك الهدوء الذي ساد الأجواء بين الخلافة العباسية والروم، والذي استمر لأكثر من عشرة أعوام.
    صفاته وأخلاقه
    كان المأمون ذا خبرة عظيمة في سياسة الحكم عالمًا بأحوال رعيته وخاصة باطنته وخواصه، محبًا للعدل يرى فيه أساسًا لثبات الحكم وكان يجلس بنفسه للفصل بين الناس ويأخذ الحق من أي شخص كائنًا ما كان، وكان محبًا للعفو عن المخطئين وقال عن نفسه: "ليت أهل الجرائم يعرفون مذهبي في العفو، حتى يذهب الخوف عنهم". وكان يقول: "أنا والله أستلذ العفو، حتى أخاف ألا أؤجر عليه، ولو عرف الناس مقدار محبتي للعفو؛ لتقربوا إلى بالذنوب!". وقال: "إذا أصلح الملك مجلسه، واختار من يجالسه؛ صلح ملكه كله". ورفع إليه أهل الكوفة مظلمة يشكون فيها عاملا؛ فوقَّع: "عيني تراكم، وقلبي يرعاكم، وأنا مولّ عليكم ثقتي ورضاكم". وشغب الجند فرفع ذلك إليه، فوقَّع: "لا يعطون على الشغب، ولا يحوجون إلى الطلب".
    ووقف أحمد بن عروة بين يديه، وقد صرفه على الأهواز، فقال له المأمون: "أخربتَ البلاد، وأهلكت العباد. فقال: يا أمير المؤمنين، ما تحب أن يفعل الله بك إذا وقفتَ بين يديه، وقد قرعك بذنوبك؟ فقال: العفو والصفح. قال: فافعل بغيرك ما تختار أن يفعل بك. قال: قد فعلت، ارجع إلى عملك فوالٍ مستعطِف خير من وال مستأنف". وكتب إلى على بن هشام أحد عماله، وقد شكاه غريم له: "ليس من المروءة أن تكون آنيتك من ذهب وفضة ويكون غريمك عاريًا، وجارك طاويًا".
    وكان كريمًا بصورة تصل إلى السرف حتى أنه أنفق في عرسه على "بوران بنت الحسن" ما يوازي خمسين مليون درهم. وكان فيه شهامة عظيمة وقوة جسيمة في قتال الكافرين، خاصة الروم الذي حاصرهم وصابرهم مرات كثيرة، وباشر القتال بنفسه.
    وكان يستمع إلى النصيحة ويرجع إلى الحق. أمر يومًا بإباحة نكاح المتعة "وهذا يوضح أثر التشيع على المأمون لأن نكاح المتعة مباح عند الشيعة، فدخل عليه القاضي يحيى بن أكثم مهمومًا مغتمًا، فقال له المأمون: مالك يا يحيى؟ قال له يحيى: أبيح اليوم الزنا يا أمير المؤمنين. فارتعد المأمون قائلًا: وكيف ذلك؟ قال يحيى: أبيع اليوم نكاح المتعة. فقال المأمون: وهل هو زنا ؟ قال يحيى: يا أمير المؤمنين قل لي عن زوجة المتعة: هل هي التي ترث أو تعتد أو هي ملك يمين؟ فقال المأمون: كلًا. فقال يحيى: إذا هي زنا. فقال المأمون: أستغفر الله من ذلك. وأمر مناديًا بتحريم المتعة.
    وهكذا كان المأمون، حتى لقد وصفه الواصفون بأنه من أفضل رجال بنى العباس، حزمًا وعزمًا وحلمًا وعلمًا ورأيًا ودهاءً، وقد سمع الحديث عن عدد كبير من المحدّثين، وبرع فى الفقه واللغة العربية والتاريخ.
    ومن سرعة بديهة المأمون وسعة فقهه في الدين، أن امرأة جاءت إليه وهو في مجلس من العلماء، وقالت له: يا أمير المؤمنين مات أخي وخلف ستمائة دينار، أعطوني دينارا واحدا. فأخذ المأمون يحسب ثم قال لها: هذا نصيبك. فقال له العلماء: كيف علمت يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذا الرجل خلف ابنتين، قالت: نعم، قال فلها الثلثان أربعمائة، وخلف والدة فلها السدس مائة، وخلف زوجة فلها الثمن خمسة وسبعون. وباالله: ألك اثنتا عشر أخًا؟ قالت: نعم، قال: أصابهم ديناران وأصابك دينار.
    وكان المأمون من حفظة القرآن كثير التلاوة، حتى أنه كان يتلو في رمضان ثلاثًا وثلاثين ختمة، وكانت له بصيرة بعلوم متعددة، فقهًا وطبًا وشعرًا وفرائض وكلامًا ونحوًا حتى علم النجوم.
    كان يقول: أنا والله أستلذ العفو حتى أخاف ألا أؤجر عليه، ولو عرف الناس مقدار محبتي للعفو؛ لتقربوا إلي بالذنوب! وقال: إذا أصلح الملك مجلسه، واختار من يجالسه؛ صلح ملكه كله.
    ويؤثر عنه أن أهل الكوفة رفعوا مظلمة يشكون فيها عاملًا؛ فوقَّع: عيني تراكم، وقلبي يرعاكم، وأنا معوّل عليكم ثقتي ورضاكم. وشغب الجند فرفع ذلك إليه، فوقع: لا يعطون على الشغب، ولا يحوجون إلى الطلب. ووقف أحمد بن عروة بين يديه، وقد صرفه على الأهواز، فقال له المأمون: أخربت البلاد، وأهلكت العباد فقال: يا أمير المؤمنين، ما تحب أن يفعل الله بك إذا وقفت بين يديه، وقد قرعك بذنوبك؟ فقال: العفو والصفح. قال: فافعل بغيرك ما تختار أن يفعل بك. قال: قد فعلت، أرجع إلى عملك، فوالٍ مستعطف خيرٌ من والٍ مستأنف. وكتب إلى علي بن هشام أحد عماله، وقد شكاه غريم له: ليس من المروءة أن تكون آنيتك من ذهب وفضة ويكون غريمك عاريًا، وجارك طاويًا.
    هكذا كان المأمون، حتى لقد وصفه الواصفون بأنه من أفضل رجال بني العباس حزمًا وعزمًا وحلمًا وعلمًا ورأيًا ودهاءً، وقد سمع الحديث عن عدد كبير من المحدثين، وبرع في الفقه واللغة العربية والتاريخ، وكان حافظًا للقرآن الكريم.

  21. #21

    افتراضي

    الحسن بن سهل يصف المأمون:-

    الحسن بن سهل، وهو الشخص الذي كان مقرَّبا للغاية من المأمون والذي زوَّج ابنته بوران للخليفة، يصف الأخير، قائلاً: “وقد أصبحَ أميرُ المؤمنين محمودَ السِّيرة، عفيف الطَّعمة، كريمَ الشِّيمة، مبارك الضريبة، محمود النَّقيبة، مُوفِّياً بما أخَذَ اللهُ عليه، مضطلعاً بما حَمَّله منه، مؤدياً إلى الله حقه، مُقرَّاً له بنعمته، شاكِراً لآلائه، لا يأمر إلَّا عدلاً، ولا ينطِقُ إلَّا فصلاً، لدينهِ وأمانته، كافَّاً ليده ولسانه”.
    حديث ابن العبري عن المأمون:-

    تحدث المؤرخ ابن العبري (المتوفى سنة 1331 م) عن شخصية ومُنجزات الخليفة المأمون الذي كان له اليد الطولى في تأسيس نشاط الترجمة الذي أطلق بدوره شرارة النهوض العلمي للأمة الإسلامية في ذلك الوقت.
    واستعار ابن العبري من مقولات عدد من الشخصيات التي تناولت ابن هارون الرشيد، وذلك نظراً لتباعد المسافة الزمنية ما بينه وما بين الفترة التي حكم فيها المأمون.
    سياسة المأمون
    يمكننا أن نقسم كلامنا عن حكم المأمون إلى مدتين: المدة الخراسانية، والمدة البغدادية، وفي بيان هاتين المدتين بيان للحالة السياسية الداخلية في عصره، وهو ما سنعالج الكلام فيه الآن.
    السياسة الداخلية للمأمون
    لقد تتلمذ المأمون على شيوخ الأدب واللغة في عصره، أمثال سيبويه واليزيدي ويحيى بن المبارك. ذكر ثمامة بن أشرس النميري: "ما رأيت رجلا أبلغ من جعفر بن يحيى والمأمون". خاطبه يحيى بن أكثم قائلا: "يا أمير المؤمنين إن خضنا في الطب كنت جالينوس في معرفته، أو في النجوم كنت كهرمس في حسابه، أو في الفقه كنت كـعلي بن أبي طالب صلوات االله عليه في علمه".
    ويعلق الأستاذ موير عن عصر المأمون بقوله: "وقصارى القول إن عصر خلافته كان بوجهه الأجمل من أزهى عصور التاريخ الإسلامي".
    النهضة العلمية في عهد المأمون
    أبدى المأمون اهتمامه بجمع تراث الحضارات القديمة وخاصة الحضارة اليونانية، أرسل بعثات من العلماء إلى القسطنطينية وقبرص للبحث عن نفائس الكتب اليونانية ونقلها إلى بيت الحكمة في بغداد، كان بيت الحكمة معهد علمي يضم مكتبة لنسخ الكتب ودارًا لترجمتها للعربية، وكان له مدير ومساعدون ومترجمون ومجلدون للكتب، وبحسب ما ذكر ابن النديم في كتاب الفهرست؛ فقد بلغ من شغف المأمون بالثقافة الإغريقية أن أرسطو ظهر له في المنام مؤكدًا له أنه لا يوجد تعارض بين العقل والدين، كذلك شجع المأمون المناظرات الكلامية والبحث العقلي في المسائل الدينية كوسيلة لنشر العلم وإزالة الخلاف بين العلماء، مما أدى إلى قوة نفوذ العلماء في الدولة وكان من أشهرهم أبو عثمان الجاحظ
    أصدر المأمون برنامجًا منهجيًا للدراسات الفلكية في أول المراصد الفلكية التخصصية المقامة ببغداد ودمشق، وأرسل أول بعثة موسعة مكرسة لإجراء التجارب العلمية، وكشفت هذه المساعي عن طريقة العلماء العرب في فهم المتون الكلاسيكية واستيعابها لا كغاية بحد ذاتها، بل كنقطة انطلاق لإجراء أبحاثهم ودراساتهم الخاصة وكانت هذه المشروعات بداية السيرة المهنية لبعض من أهم العلماء والمفكرين الأوائل في الإسلام.
    أظهر المأمون فضولًا صحيًا لمعرفة العالم من حوله وميلًا إلى البحث والمنهج العلمي؛ فخلال زيارة له إلى مصر سنة 832 م حاول تعلم الهيروغليفية القديمة لكنه تمكن من دخول هرم الجيزة الأكبر ليجد القبر الملكي فارغًا قد نهبه اللصوص. وقد اهتم المأمون اهتمامًا عميقًا لعمل العلماء ببيت الحكمة؛ فكان يتردد إليه بانتظام للتباحث مباشرة مع الخبراء والمستشارين في آخر ما انتهت إليه البحوث وفي مسائل التمويل وسوى ذلك من مسائل ذات صلة، وشدد على الاستزادة من دراسة الرياضيات وعلم الفلك من عمل.
    بعثة المأمون في قياس محيط الأرض
    محمد بن موسى الخوارزمي وضع نسخة مختصرة عن زيج السند هند بطلب من المأمون والذي بقي يستخدم قرونا في العالم الإسلامي وأوروبا.
    بالرغم من كتيبة العلماء الكبار الذين كانوا تحت تصرف المأمون، لم يكن يحصل الخليفة دومًا على الأجوبة التي يريدها، ويروي حبش الحاسب أحد أرفع علماء الفلك لدى الخليفة عنه أنه "عندئذ سأل التراجمة عن معنى كلمة (Stades) وهي وحدات طول يونانية، أعطوه ترجمات مختلفة". ولما أعيت خبراؤه الإجابة، قرر المأمون إيجاد طول الدرجة الواحدة من الدائرة الكبرى للأرض بالقياس واضعًا خطة مفصلة لتجربة علمية لحل المعضلة، ففي توسعة لتجربة الرياضي اليوناني القديم اراتوسينس أرسل المأمون فريقين من علماء الفلك والمساحين وصانعي الآلات إلى سهل سنجار الصحراوي، بالقرب من الموصل حيث أخذوا القراءات لارتفاع الشمس قبل أن ينقسموا فريقين، فريق اتجه إلى صوب الشمال وفريق آخر صوب الجنوب الأصلي ومع تحركهم كانوا يسجلون بدقة ما قطعوا من مسافة واضعين في الأرض علامات خاصة على الدرب، وعندما كانت مجموعة ثانية من القراءات الشمسية تشير أنهم قطعوا درجة على دائرة خط الطول يتوقفون ويعودون أدراجهم للتثبت من المسافة التي قطعوها، ثم تحلل المجموعتان المستقلتان النتائج وتقارن الواحدة بالأخرى لتعطيا رقمًا نهائيًا دقيقًا إلى حد لافت. كان حساب بحّاثة المأمون قريبا جدًا مما يعرف اليوم.

  22. #22

    افتراضي

    الرياضيات وعلم الفلك
    عندما كان يحصل خطأ ما، كان المأمون يسارع إلى التدخل وقد استغل ذات مرة زيارة له إلى دمشق، زمن الحرب لقيادة بعثة لتقصي الحقائق بعدما تبين له أن نتائج المحاولات الأولى لتتبع منازل الشمس والقمر في السماء من مرصد بغداد لم تكن دقيقة، طلب الخليفة من مستشاريه إيجاد فلكي مؤهل لتحسين نتائج بغداد، يقول حبش الحاسب: "أمره المأمون بتجهيز أصح ما يمكن من آلات ومراقبة الأجرام السماوية طوال العام" ثم جمعت الحصيلة الضخمة للقياسات الفلكية ورتبت بأمر من المأمون ونشرت لمن يرغب في تعلم ذلك العلم.
    من أهم علماء الفلك الذين عاصروا المأمون هو محمد بن موسى الخوارزمي الذي وضع سنة 825 نسخة مختصرة من عمل السند هند بطلب من المأمون وجداول شهيرة للنجوم عرفت بزيج السند هند ظلت تستخدم قرونًا في العالم الإسلامي ثم في أوروبا المسيحية، ساعد نجاح وانتشار زيج الخوارزمي على تكريس جداول النجوم كعنصر أساس من الترسانة العلمية الإسلامية، يشهد بذلك شيوع استخدامه وطول بقائه الملفت، وقد وضع أكثر من 225 جدولًا من هذا النوع في العالم الإسلامي في ما بين القرنين الثامن والتاسع. كان هذا الزيج الدقيق يزود مستخدمه بكل ما يحتاج إليه من أدوات لتحديد منازل الشمس والقمر والكواكب المرئية الخمسة، وتعيين الوقت من النهار أو الليل استنادًا إلى الأرصاد النجمية أو الشمسية، وكانت مفيدة خاصة لضبط أوقات الصلوات الخمس في الإسلام، وتحري الهلال لتحديد بداية الشهر القمري عند المسلمين، كما كان في الإمكان استخدام الزيج مع بعض الآلات الفلكية غالبًا لحل المسائل المعقدة في الهندسة الكروية وتعيين الوقت. كما أهدى الخوارزمي كتاب الجبر والمقابلة إلى المأمون الذي يتناول حلولًا رياضية للقضايا الدينية والعملية، حيث يقول الخوارزمي: «" وقد شجعني ما فضل الله به الامام المأمون على أن ألفت من حساب الجبر والمقابلة كتابا مختصرا حاصرا للطيف الحساب، وجليله لما يلزم الناس من الحاجة اليه موارثهم ووصاياهم وفي مقاسمتهم وأحكامهم وتجاراتهم وفي جميع ما يتعاملون به بينهم من مساحة الأرضين وكري الأنهار والهندسة وغير ذلك من وجوهه وفنونه"».
    تطور علم الجغرافيا
    الاسطرلاب تم اختراعه في عهد المأمون
    كان المأمون مسؤولًا عن الصالح الديني لمجتمع المسلمين الواسع في إمبراطوريته، لجأ الخليفة إلى علماء بيت الحكمة طلبًا للعون على شؤون الدين والدنيا، طلب من هؤلاء الخبراء تحديد المكان الدقيق لبغداد ومكة لمعرفة القبلة الشرعية الصحيحة، كما أراد الخليفة صورة دقيقة لطول وعرض العالم الذي يحكمه عند فلكيي بيت الحكمة الآخرين، كان كل ذلك يؤول إلى حل مسائل أساسية في الهندسة الكروية، وكانوا قد حذقوا بالاستعانة بالقدماء لتحديد نظام الإحداثيات الجغرافية، أي استخدام خطوط الطول ودوائر العرض التخيلية التي تعطي كل نقطة منها موقعًا فريدًا يمكن تحديده بهذه الدوائر.
    طبق العلماء العرب بسهولة الرياضيات الكروية على مسائل الجغرافيا من البداية، وكان هؤلاء العلماء قد تعلموا من بطليموس صاحب كتاب 'المجسطي' وكتاب 'جغرافيا'، كان المسح الجيوديزي الذي أمر بإجرائه المأمون في برية سنجار الصحراوية قد أعطى طول الدرجة الواحدة من محيط الأرض بوحدات قياس عربية، فكان 56 ميلًا، والميل العربي 4000 ذراع والذراع التي وضعها المأمون 120 اصبعًا حسب المسعودي في المروج، بينما قدمت تصحيحات المسلمين لجداول بطليموس التي تحدد الإحداثيات 8000 مدينة ومكان وما أضافوا إليه من بيانات جديدة أكثر دقة للفلكيين والجغرافيين على السواء..
    كانت المعلومات والتقنيات التي طورها خبراء المأمون وأمثالهم، تستطيع تحديد القبلة بدقة من خط الطول المحلي للدائرة الكبرى للكرة الأرضية، كانت الجغرافيا التي تعرف القبلة بأنها الخط المستقيم الذي يصل المؤمن بمكة، لكن فلكيي ورياضيي بيت الحكمة علموا أن الشكل الكروي للأرض يعني أن القبلة الفعلية كانت في الحقيقة خطًا مائلًا بزاوية محددة من نقطة الصلاة، لا تزال تعرف اليوم باسم السمت، ويستخدم هذا النظام في الحسابات الجغرافية المعاصرة للمسافة والاتجاه، وبذلك تم وضع أعظم إنجاز للمأمون وهي وضع خريطة للعالم وقد عثر على شاخصات تعود للعصر العباسي تبين المسافة من بغداد حتى فلسطين وجورجيا بالقوقاز، جمع المأمون فريقًا من عشرات العلماء لصنع خريطة للعالم صور فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره وعامره ومساكن الأمم والمدن، وهي أفضل مما يقدمه بطليموس ومارينوس، جاء في خريطة المأمون ومسحه وصف ل530 مدينة وبلدة مهمة وخمسة أبحر و290 نهرًا و200 جبل ومقدارها وما فيها من معادن وجواهر. كما صحح جغرافيو المأمون تمثيل بطليموس التقليدي للمحيط الهندي كبحر محاط باليابسة وأوضحوا لأول مرة أنه كتلة كروية من الماء تحيط بالعالم المسكون وهو ما فتح الطريق لما يعرف بعصر الاكتشافات الجغرافية بأوروبا.
    حركة الترجمة
    وكان لتشجيعه حركة الترجمة أكبر الأثر في ازدهارها في عهده، فظهر عدد كبير من العلماء ممن قاموا بدور مهم في نقل العلوم والفنون والآداب والفلسفة إلى العربية، والإفادة منها وتطويرها، ومن هؤلاء:
    “حنين بن إسحاق” الطبيب البارع الذي ألف العديد من المؤلفات الطبية، كما ترجم عددًا من كتب أرسطو وأفلاطون إلى العربية.
    و” يحيى بن ماسويه” الذي كان يشرف على “بيت الحكمة” في بغداد وكان يؤلف بالسريانية والعربية، كما كان متمكنًا من اليونانية، وله كتاب طبي عن الحميات اشتهر زمنًا طويلاً، ثم ترجم بعد ذلك إلى العبرية واللاتينية.
    و” ميخائيل بن ماسويه” وكان طبيب المأمون الخاص، وكان يثق بعلمه فلا يشرب دواءً إلا من تركيبه.
    كما شهد عصر المأمون نهضة حضارية كبيرة، فقد كان المأمون محبًا للعلم والأدب وكان شاعرًا وعالمًا وأديبًا، يحب الشعر ويجالس الشعراء ويشجعهم، وكان يعجب بالبلاغة والأدب، كما كان للفقه نصيب كبير من اهتمامه، وكان العلماء والأدباء والفقهاء لا يفارقونه في حضر أو سفر، وقد أدى تشجيعه للشعراء في أيامه إلى إعطاء الشعر دفعة قوية، وكان تشجيعه للعلوم والفنون والآداب والفلسفة ذا أثر عظيم في رقيها وتقدمها، وانبعاث حركة أدبية وعلمية زاهرة، ونهضة فكرية عظيمة امتدت أصداؤها من بغداد حاضرة العالم الإسلامي ومركز الخلافة العباسية إلى جميع أرجاء المعمورة، فقد استطاع المأمون أن يشيد صرحًا حضاريًا عظيمًا، وأن يعطي للعلم دفعة قوية ظلت آثارها واضحة لقرون عديدة.
    لقد أرسل المأمون البعوث إلى “القسطنطينية” و” الإسكندرية” و” إنطاكية” وغيرها من المدن للبحث عن مؤلفات علماء اليونان، وأجرى الأرزاق على طائفة من المترجمين لنقل هذه الكتب إلى اللغة العربية، وأنشأ مجمعًا علميًا في بغداد، ومرصدين أحدهما في بغداد والآخر في “تدمر”، وأمر الفلكيين برصد حركات الكواكب، كما أمر برسم خريطة جغرافية كبيرة للعالم.

  23. #23

    افتراضي

    علماء في رعاية الخليفة بداية نذكر ما نقله ابن العبري عن الأندلسي:-

    فقد قال القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي: إن العرب في صدر الإسلام لم تكُن معنية بأيٍ من أنماط العلوم، سوى تلك المتعلقة بلغتها وأحكام الشريعة، هذا فضلاً عن بعض المعارف ذات الصلة بالطبِّ الذي مورس من قبل شريحة محددة من الأشخاص وذلك نظراً للحاجة الماسة لهذه المهنة، لصون النفس وحمايتها، وقد استمر الأمر على ذلك حتى في ظلِّ الدولة الأموية.
    وأضاف الأندلسي” فلمَّا أدال الله تعالى للهاشمية وصرف الملك إليهم؛ ثابت الهمم من غفلتها وهبَّت الفطن من ميتتها، وكان أول من عُني منهم بالعلوم؛ الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور، وكان مع براعته في الفقه؛ كلفاً في علم الفلسفة وخاصةً علم النجوم”..
    ويضيف ابن العبري” فمن المنجمين في أيام المأمون؛ حبش الحاسب المروزي الأصل البغدادي الدار.. ومنهم أحمد بن كثير الفرغاني صاحب المدخل إلى علم هيئة الأفلاك.. ومنهم عبد الله بن سهل بن نوبخت، كبير القدر في علم النجوم.. ومنهم محمد بن موسى الخوارزمي، كان الناس قبل الرصد وبعده يعولون على زيجة الأول والثاني.. ومنهم يحيى بن أبي المنصور، رجل فاضل كبير القدر إذ ذاك مكين المكان..”.


    ابن ماسويه.. الطبيب المترجم الكبير
    ومن الحكماء الذين قرّبهم المأمون؛ يوحنا بن البطريق الترجمان، الذي كان أميناً على ترجمة الكتب الحكمية، ومن الأطباء سهل بن سابور، وكان إذا اجتمع مع ابن ماسويه، كل من جيورجيس بن بختيشوع وعيسى بن الحكم وزكريا الطيفوري؛ قصَّر عنهم في العبارة، ولم يقصّر عنهم في العلاج”.
    ومن طبيعة الأسماء العلمية الضخمة التي قرَّبها المأمون وكانت رافعته ودولته في أنشطة الترجمة وعلوم الفلك والطب والهيئة والرياضيات، فضلاً عن الفلسفة والمنطق؛ يمكن لنا إذا التقين من أن ارتقاء الدول يتطلب إرادة وحاضنة سياسية، كانت كفيلة آنذاك بوضع العالم الإسلامي في رأس هرم الأمم المتقدمة علمياً وفكرياً.

    بنو موسى بن شاكر.. أسرة موسوعية
    عاشت هذه الأسرة المباركة في القرن الثالث الهجري، وتبدأ القصة من الأب الذي كان مقرَّبًا إلى الخليفة المأمون العباسي، وأتقن علوم الرياضيات والفلك حيث اشتهر بحساباته الفلكية المتميزة.. الجدير بالذكر هنا ما أورده المؤرخون من دور المأمون (ذلك الخليفة العالم) في التكوين العلمي لموسى بن شاكر الذي عُرف عنه قطع الطريق في بدايات حياته، إلا أن المأمون نجح في تحويل مسار حياته ليقطع أشواطًا في طريق العلم بدلاً من قطع طريق المارَّة!!..
    ولا بد أن تتوقف هنا لتدرك دور الحاكم المسلم في تقدُّم مسيرة بلاده العلميَّة؛ فقد كانت جهود الخلفاء – كما ترى – تتعدى التوجيه العام إلى التبنِّي الخاص المباشر لمشروعات علميَّة بشريَّة.. يتعهَّدها بنفسه، وينفق على تنميتها بسخاء..
    ولم يتمكَّن موسى بن شاكر من مواصلة مسيرة العلم مع بنيه؛ إذ مات وهم صغار.. إلا أنه كان قد عهد بهم إلى المأمون رحمه الله، الذي يواصل القيام بدوره الفريد في احتضان العلماء ورعايتهم؛ فنراه يتبنى بالكامل بني موسى علميًّا وتربويًّا؛ فلقد تكفَّل بهم بعد وفاة أبيهم، وعهد بهم إلى عامله على بغداد "إسحق بن إبراهيم المصعبي" الذي كان – كما تشير الروايات التاريخية – يُسمي نفسه (خادمًا لأبناء موسى!!) من كثرة ما كان المأمون يوصيه بهم؛ فلقد كان المأمون لا يقطع السؤال عنهم كلما كتب إلى بغداد وهو في أسفاره وغزواته في بلاد الروم.
    ولم يُخَيِّب إسحق بن إبراهيم رجاء الخليفة؛ فقد عهد بأبناء موسى إلى شخصية علمية بارزة في بغداد آنذاك وهو "يحيى بن أبي منصور" مدير بيت الحكمة ببغداد وأحد علماء الفلك، فنشأ الإخوة الثلاثة نشأة علمية خالصة في ذلك الصرح العلمي الضخم (بيت الحكمة) الذي كان يُعد محور العلم في الأرض دون منازع؛ إذ كان يعجُّ بالكتب والعلماء والآلات الغريبة النادرة... في هذا الجو المُشَبَّع بالعلم والمحتدم بالمناقشات الهامة بين العلماء نشأ هؤلاء الأطفال (بنو موسى) وترعرعوا؛ فلا عجب إذًا أن يصيروا فيما بعد من أساطين العلم والمعرفة في الحضارة الإسلامية..
    والحق أنه من الصعب مغادرة هذه اللقطة الهامة من لقطات الروعة في الحضارة الإسلامية دون أن نكرر الانبهار والإعجاب بخليفة مثل المأمون الذي يستطيع - من بين المعارك وهموم السياسة – أن يخصص قدرًا غير ضئيل من اهتمامه وجهده لتفقُّد أطفال ثلاثة يحرص على أن يكونوا علماء كأبيهم!!.. حتى ليكتب عبر الصحاري والقفار إلى عامله على بغداد المرَّة بعد المرَّة، لا ينسى في أيٍّ منها الوصاية ببني موسى.. لا عجب بعد ذلك أن تبلغ الحضارة الإسلاميَّة في تلك العهود المجيدة آفاقًا لم يبلغها غيرها.. ولا عجب – أيضًا – أن يهبط المسلمون عن تلك القمم هبوطًا مخجلاً بعد أن تخلَّوا عن العلم الذي هو من ميراث النبوَّة..
    أوقدت النشأة في بيت الحكمة – إذًا – شعلة العلم في عقول وقلوب الإخوة الثلاثة؛ فتعاونوا فيما بينهم في البحوث والدراسات؛ حتى نبغوا في الهندسة والرياضيات والفلك، وعلم الحيل (الميكانيكا) الذي عرفنا طرفًا من جهودهم فيه في مقال سابق.
    وإذا كنا سنتوقف الآن أمام ظاهرة (بني موسى بن شاكر) التي لمعت في سماء الحضارة الإسلامية خلال القرن الثالث الهجري، وشكَّلت سبقًا للمسلمين في ميادين البحث العلمي الجماعي بكل ما يميزه من سمات وما ينتج عنه من ثمار.. إذا كنا سنتوقف أمام هذه الجماعة العلميَّة الفذَّة فإننا سنحاول النظر إليها من ثلاث زوايا: ملامح العمل الجماعي وإنجازاته، إلى جانب رصد ذلك السخاء المادي الفريد في الإنفاق على العلم ورعاية الباحثين، وأخيرًا تبنِّي الطاقات العلمية الناشئة كدليل على التجرُّد للعلم.. وكنوع من ردِّ الجميل للأمة التي أخرجتهم وللمجتمع الذي تعهَّدهم.

  24. #24

    افتراضي

    العمل الجماعي.. ملامح وإنجازات
    يُعتبر مبدأ (التعاون العلمي) أو العمل كفريق بحث متكامل من أهم ما ميَّز عطاء "بني موسى" العلمي؛ فروح الفريق لا تُخطئها العين في أكثر أعمالهم على الصعيدين النظري أو التطبيقي.. ويُعتبر مؤَلَّفهم المسَمَّى: "كتاب معرفة مساحة الأشكال البسيطة والكرِّيَّة" والذي يُعد تطويرًا مهمًّا لكتابَيْ "أرشميدس" عن: (حساب مساحة الدائرة) وعن (الكرة والأسطوانة).. يُعتبر هذا الكتاب من أصدق الأدلة على روح الفريق التي تميَّز بها بنو موسى؛ فبدءًا من غلاف الكتاب يُطالعك التوقيع الجماعي لمؤلفيه: "بنو موسى بن شاكر".. وعبر سائر السطور والصفحات تستوقفك مرارًا عبارات من مثل: "وذلك ما أردناه.."، ".. وعلى ذلك المثال نبيِّن.."، "نريد أن نجد مقداريْن..." إلخ...
    ومن بين ما يستوجب التأمل والإعجاب في كتاب بني موسى تلك الأمانة العلمية التي يتعمَّدون مراعاة لها الإشارة إلى ما ليس لهم من بين معلومات الكتاب.. يقول الإخوة الثلاثة: "فكل ما وصفناه في كتابنا فإنه من عملنا، إلا معرفة المحيط من القُطر فإنه من عمل أرشميدس، وإلا معرفة وضع مقدارين بين مقدارين لتتوالى على نسبة واحدة فإنه من عمل مانالاوس"..
    وما كان لجهود هذا الفريق العلمي الراقي أن تذهب سُدًى.. بل إن سجِلَّ الحضارة العلميَّة الإسلاميَّة سجَّلت لفريق "بني موسى" إنجازات فريدة، لعلَّ على رأسها الإنجاز الأهمَّ والأخطر بالنسبة لهم خاصَّة، وبالنسبة لتاريخ العلم الإسلامي والعالمي على وجه العموم.. ألا وهو قياس محيط الأرض، وهي المهمة التي كلَّفهم بها الخليفة المأمون، وترأَّس الفريقَ القائمَ بها "محمدُ بنُ موسى بن شاكر" الأخ الأكبر والأشهر علميًّا وسياسيًّا، وضمَّ الفريق إلى جانب الأخَوَين: "أحمد والحسن" مجموعةً من الفلكيين والمسَّاحين (علماء المساحة).. والعجيب أن النتائج جاءت دقيقة إلى حدٍّ بعيد؛ فقد توصَّل الفريق إلى أن محيط الأرض يساوي (66 ميلاً عربيًّا) وهو ما يعادل (47.356 كم) لمدار الأرض، وهي نتيجة مقارِبة جدًّا للطول الحقيقي لمدار الأرض والذي عُرِف حديثًا وهو (40.000 كم) تقريبًا!!
    ثمة إنجاز واضح أيضًا لفريق "بني موسى" كان له أكبر الأثر ليس على فروع الهندسة فقط بل على الحركة العلمية عمومًا.. وهو رعايتهم لحركة واسعة للترجمة والنقل من الثقافات واللغات الأخرى إلى العربية؛ فتروي المصادر أن فريقًا كبيرًا من المترجمين من مختلف أنحاء البلاد كانوا يعملون دون إبطاء في دار بني موسى التي أهداها لهم الخليفة المتوكِّل على مقربة من قصره في سامرَّاء.. ومن أبرز هؤلاء "حنين بن إسحق"، وابنه "إسحق بن حنين"، وابن أخيه "حبيش بن الحسن"، إلى جانب "ثابت بن قرَّة" الذي ترجم وحده عددًا هائلاً من الأعمال الفلكيَّة والرياضيَّة والطبِّيَّة لأشهر علماء اليونان مثل (إقليدس وأرخميدس وأفلاطون وأبوقراط..... وغيرهم).
    سخاء فريد!!
    لم يكن "بنو موسى" ينفقون الوقت والجهد فقط في سبيل العلم.. بل عُرِف عنهم إنفاق المال بسخاء قَلَّ نظيره إلا في أمة تعلم أنها تتعبَّد لربِّها بطلب العلم ورعاية رجاله، وأن الذين أوتوا العلم وُعِدوا الدرجات العلا من رضوان الله.. وسيأخذك العجب عندما تعلم أن بني موسى كانوا يوفِدون الرسل على نفقتهم الخاصَّة إلى الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة بحثًا عن المخطوطات العلمية النادرة، وكانوا يدفعون المبالغ الطائلة كأثمان لهذه المخطوطات النفيسة.. فضلاً عمَّا كانوا يدفعونه للمترجمين المنقطعين للنقل والترجمة، والذين تحدَّثنا عنهم منذ قليل.. حيث وصل راتب المترجم الواحد إلى خمسمائة دينار شهريًّا!!!
    وكم تتقدَّم الأمة عندما تكثر فيها نماذج من أمثال "بني موسى" الذين يعتدل ميزان أولويَّات الإنفاق في أفكارهم ووجدانهم؛ فيضعون المال حيث يعُمُّ نفعه ويبقى.. أكثر مما يضعونه فيما ينحصر أثره على ذوات أنفسهم - حتى وإن كان عملاً صالحًا -.
    تبنِّي علماء الغد
    يبقى أن من أجَلِّ ما يُذْكَر عن "بني موسى" هو تبنِّيهم للعديد من المواهب العلميَّة الناشئة وتربيتها.. بل وتولِّي مهمَّة إبرازها والتعريف بها.. في تجرُّد ونُبل ونزاهة صنعتها روح الإسلام، بينما غابت عن محافل علميَّة مرموقة لا تعرف إلا الصراعات على الظهور والمناصب ونسبة العمل لهذا أو ذاك.. فبينما يندر أن نجد عالمًا مُقَرَّبًا من دوائر الحكم وبارزًا في الدولة والمجتمع يُقْدم على تعريف الحاكم بتلميذ من تلامذته، وتقديمه له كأحد النوابغ الأفذاذ... بينما يندر ذلك إذا بنا نجد "محمد بن موسى بن شاكر" يلتقي في طريق العودة من إحدى رحلاته العلميَّة إلى بلاد اليونان بفتًى من أهل "حرَّان" يُسمَّى "ثابت بن قرَّة" الذي مرَّ ذكره منذ قليل.. ولما كان يبدو على الفتى من مخايل النبوغ فقد اصطحبه "محمد بن موسى" معه إلى بغداد، وألحقه بداره ليطلب العلم.. ثم عرَّف الخليفةَ المعتضدَ به، فقرَّبه الخليفة وقدَّمه على غيره.. وأخذ نجم "ثابت بن قرَّة" يعلو حتى غدا من أبرز علماء الهندسة والفلك في الحضارة الإسلاميَّة، ووضع 150 مؤَلَّفًا عربيًّا، وعشرة مؤَلَّفات سريانيَّة.. إلى جانب ما مرَّ بنا من جهوده في الترجمة.
    لا شكَّ أن صحبة أسرة علميَّة مسلمة مثل "بني موسى بن شاكر" تُعَدُّ متعة لا تنتهي للعقل والقلب جميعًا.. وبرغم قلَّة اللقطات التي اتسع المجال هنا لعرضها من سيرتهم وإنجازاتهم إلا أنها أوقفتنا على دروس جليلة بدءًا من إعلاء شأن العمل الجماعي المتكامل وما يقتضيه من تجرُّد وإنكار للذات، ومرورًا بالسخاء المدهش في الإنفاق على العلم وأهله، وانتهاءً بتبنِّي المواهب العلميَّة الصاعدة والحرص على إبرازها وصقلها دون التفاتٍ إلى هواجس التنافس وسرقة الأضواء.. وهي وغيرها معانٍ سامية قامت عليها روعة الحضارة الإسلاميَّة التي أضاءت طريق البشريَّة لألف عام أو تزيد.
    (لمَّا آلت الخِلافة إلى المأمون سنة 813 م ؛ صارَت بغداد العاصِمة العِلمية العظمى في الأرض؛ فَجَمَعَ الخليفةُ إليها كُتُباً لا تُحصَى، وقرَّبَ إليه العُلَماء، وبالغَ في الحَفَاوة بهِم، وقد كانت جامِعَات المُسلمين مفتوحة للطلبة الأوروبيين الذين نزحوا إليها من بلادِهِم لطَلَب العِلم، وكان مُلوك أوروبا وامراؤهَا يَغْدُون على بِلادِ المُسلمين ليُعالَجوا فيها).
    المستشرق الفرنسي جي ديبور. حرية التعبير في زمن الخليفة العباسي المأمون:-

    وعَرَض الشيخ محمد الخضري بك بعض الأمور الجديرة بالإمعان خلال فترة حكم المأمون:
    أولاً: إباحته للكلام وإظهار المقالات، وهو أمرٌ لم تتبعه أمّة من قبّل، فما ظنّك بخليفةٍ عباسي تناظرَّ في مجلسه اثنان في الإمامية، فينصرُّ أحدهما الإمامية والثاني الزيدية، وهما مذهبان يُذهبان بما في أيدي آل العباس من الإمامة، ولم يحل ذلك دون حظر آرائهما من قبل المأمون.
    فقد تميز المأمون بسعة اطلاعه وقدرته على تمييز الأشخاص.
    ثانياً: عابت طوائف على المأمون، موافقته على بعض الآراء التي تخالف رأي العامة في ذلك الوقت.
    ثالثاً: كان يرى المأمون في العلماء المعاصرين لعهده أنهم إنما ينكرون ما يخفون من الآراء التي كانت لهم سببُ رياسة ولو كانت تافهة لا يترتب عليها أثرٌ في الدين، ويغفرون لمن خالفهم في الأمور الجسيمة التي تترتب عليها الآثار العظيمة، ما دامت لا ترتبط بشيءٍ مما يعتقدون به رياسة عند العامة.
    رابعاً: كان اعتقاد المأمون بأنَ مجلسَّ المناظرة كفيلٌ بإزالة الخلافات بين العلماء، حيث آمن بأن هذه الطريقة ستسهم في فضِّ هذه العُقد، وحينها يتبين الشك أو يتثبت، والمعاند يُكره.
    صفات الخليفة العباسي المأمون: -

    ذكرَّ محمد الخُضري بك، سِمات الخليفة المأمون الذي شهدت فترة حكمة بلوغ العلوم ذروة مكانتها في التاريخ العربي الإسلامي.
    وعدد الخُضري في كتابه “الدولة العباسية”، مناقب الخليفة المأمون:
    • أولاً: ميله للعفو وكراهته للانتقام، إذ عفا عن جميع من ساعدوا خصومه ضدَّه، ولم يهجهم بشيء.
    • ثانياً: كان في جدله ميّالاً إلى الإقناع، فكان يُناقش من يُخالفه حتى يُبيّن لهُ الحُجّة، ويتمتع جدلهُ بحجج قوية ناصعة مع سعة الصدر والاحتمال.
    • ثالثاً: لم يُكن بالمُغفّل الذي ينخدع برياء الناس ونفاقهم وإظهارهم ما لا يبطنون.
    • رابعاً: كان أديباً يعرفُ الشعر جيداً ويميز بين الشعر الجيد والرديء، ويُثيب على ما يعجبه منه ثواباً فوق كُل أمل.
    • خامساً: تفوق على سابقيه من خلفاء بني العباس بالعطايا والمكافآت، لكنه أنفق ما لا يُعقل حينما بنى ببوران بنت الحسن بن سهل.
    ولعل من أبرز الأسباب التي أدت إلى ظهور تلك النهضة الحضارية والعلمية في عصر المأمون ذلك الهدوء الذي ساد الأجواء بين الخلافة العباسية والروم، والذي استمر لأكثر من عشرة أعوام.
    ولكن ما لبث أن تبدد ذلك الهدوء حينما بدأ المأمون حملاته ضد الروم عام [215هـ = 830م] ففتح عددًا من الحصون القريبة من حدود دولته، مثل حصن “قرة” و حصن “ماجدة” و حصن “سندس” وحصن “سنان” ثم عاد إلى الشام، ولكن الروم أغاروا على “طرسوس” وقتلوا نحو ألف وستمائة من أهلها، فعاد إليهم المأمون مرة أخرى، واستطاع أخوه “المعتصم” أن يفتح نحو ثلاثين حصنًا من حصون الروم.
    وفي العام التالي أغار عليهم المأمون مرة أخرى، حتى طلب منه “تيوفيل” – ملك الروم- الصلح، وعرض دفع الفدية مقابل السلام.
    ولم يمر وقت طويل حتى توفي المأمون في “البندون” قريبًا من طرسوس في [18 من رجب 218هـ= 10من أغسطس 833م] عن عمر بلغ ثمانية وأربعين عامًا، قضى منها في الخلافة عشرين عامًا. افتراضات

    أما وقد انتهينا من كلمتنا الموجزة عن السياسة الداخلية في عصر المأمون، فقد حق علينا أن نتساءل: لماذا مكث المأمون شطرًا طويلًا من سِنيِّ حكمه في خراسان دون بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية؟
    أما أن نزعم لك أنا سنجيبك إجابة دقيقة مقنعة، فهذا ما لا نقبله لك ولا لأنفسنا؛ لأن المصادر التي بين أيدينا لم تكشف لنا القناع عن وجه الصواب في ذلك.
    إذن فسنقدم لك آراء لنا في هذا الصدد يجدر بنا أن نعتبرها بمثابة افتراضات لا أكثر ولا أقل.
    نفترض أن الفضل بن سهل وجماعة الفضل بن سهل، وحولهم حولهم وسلطانهم سلطانهم، آثروا بقاء المأمون في «مرو» عاصمة خراسان حيث تُجبى أموال الدولة إليه؛ ليكون نصيب البقاع الفارسية والشيعة الفارسية من هذه الأموال أوفر.
    ونفترض أن المأمون وجماعته كانوا يحسون إحساسًا، ربما كان صادقًا، أن كبار رجالات الدولة من العرب القاطنين بغداد لم يكن هواهم مع دولته الفارسية الطابع والميول، وأنهم كانوا لذلك يخشون النزوح إلى بغداد قبل لمِّ شعثهم وتقوية سلطانهم.
    ونفترض أنهم آثروا القُرب من الولايات التي تمدُّهم بجندها ورجالها، كما آثروا أن يكونوا في أوساطهم الفارسية التي من مصلحتها نصرة المأمون وتوطيد دعائم ملكه، والعمل على خذلان مناوئيه.
    هذه افتراضات رأينا أن نقيدها لك لتتأمل فيها، فربما كان بعضها سائغًا معقولًا، على أن تكون حذرًا كل الحذر فلا تتورط في اعتبار كل فرض سائغ معقول لازم الوقوع في التاريخ، فكثيرًا ما يقع في التاريخ غير المعقول من الحوادث.

  25. #25

    افتراضي

    السياسة الخارجية للمأمون

    نعتقد أن الوقت لم يَأْن بعدُ لدرس السياسة الخارجية في أيام المأمون وغيره من خلفاء المسلمين دراسة علمية محققة؛ ذلك لأن كل ما نعرف من أمر هذه السياسة إنما هو الروايات العربية التي تناقلها المؤرخون متأثرين بأشياء كثيرة.
    فقد كان الكثيرون من هؤلاء الرواة يجهلون لغات الأمم الأجنبية التي كانت العلاقات متصلة بينها وبين المسلمين، كما كانوا متأثرين بالحرص على رفع شأن الدولة الإسلامية والتنويه بمجدها وسلطانها؛ فاضطرها هذا كله إلى الغلو حينًا، وإلى التقصير حينًا آخر.
    ولم يظفر البحث بعدُ بنصوص تاريخية واضحة معاصرة كتبت في غير اللغة العربية، ومع أن الباحثين في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية «الروم» جادون في التنقيب على النصوص والآثار التي تجلو تاريخ هذه الدولة في القرون الوسطى، فهم لم يصلوا بعدُ إلى شيء ذي غناء فيما يَمسُّ علاقتها بالدول الإسلامية، فأما الأمم الشرقية الأُخَر التي كانت على اتصال بالمسلمين فلم تترك لنا شيئًا، أو لم نظفر من آثارها التاريخية بشيء ذي قيمة، وإذن فنحن مضطرون إلى أن نعتمد اعتمادًا مؤقتًا ملؤه الاحتياط والتحفظ على ما كتبه العرب.
    ونحن نعلم أن السياسة الخارجية في عصر المأمون كانت تنقسم إلى قسمين متمايزين: الأول سياسته مع دول إسلامية مستقلة عن الخلافة. والثاني سياسته مع دول أجنبية غير إسلامية.
    وليس هناك شكٌّ في أن سياسة المأمون مع الدول الإسلامية المستقلة كانت واضحة بينة الأسلوب؛ فقد اعتقدت الخلافة العباسية دائمًا أن المسلمين جميعًا يجب أن يذعنوا لسلطانها، وإذن فلم تعترف في وقت من الأوقات باستقلال الأمويين في الأندلس، ولا الأدارسة في المغرب الأقصى، وإنما اعتبرتهم بغاةً وعجزت مع ذلك عن إخضاعهم لسلطانها فعلًا أو اسمًا، فاضطرت إلى أن تتقيهم من ناحية، وتؤلب عليهم من ناحية أخرى.
    جهاده
    كان المأمون يكتب إلى عمّاله على خراسان في غزو من لم يكن على الطاعة والإسلام من أهل بلاد ما وراء النهر ولم يغفل المأمون عن قتال الروم، بل غزاهم أكثر من مرة، فقاد المأمون في السنوات الأخيرة من حياته جيوشه بنفسه وتوغل في الأراضي البيزنطية في آسيا الصغرى ما بين 214 - 218هـ، وجعل معظم إقامته في الشام متخذًا دير مُران في دمشق مقرًا له.
    وأهم ما تميزت به حروب المأمون مع البيزنطيين اتخاذه موقف الهجوم، وتغلغله في الأراضي البيزنطية، وفي حملته الثالثة تحقق حلم المأمون بالاستيلاء على حصن لؤلؤة الذي يسيطر على مفارق الطرق.
    ففي سنة 215هـ/830م خرج المأمون بنفسه على رأس الجيوش الإسلامية لغزو الروم، فافتتح حصن قرة، وفتح حصونًا أخرى من بلادهم، ثم رحل عنها، وعاود غزو الروم في السنة الثالثة سنة 216هـ، ففتح هرقلة، ثم وجّه قواده فافتتحوا مدنًا كبيرة وحصونًا، وأدخلوا الرعب في قلوب الرومان، ثم عاد إلى دمشق، ولما غدر الروم ببعض البلاد الإسلامية غزاهم المأمون للمرة الثالثة وللعام الثالث على التوالي سنة 217هـ، فاضطر الروم تحت وطأة الهزيمة إلى طلب الصلح..
    ومن أهم أعماله:
    أولا: استعادة بغداد: بعد انتهاء الفتنة التي دارت بين الأمين والمأمون، كان متوقعا أن يكون للعنصر الفارسي الذي شد عضد المأمون تأثيرا كبير على سياسته الداخلية فاعتمد على وزراء ومستشارين من الفرس، كالفضل بن سهل والحسن بن سهل. بل عمل على تحويل الخلافة العباسية إلى آل علي بن ابي طالب رضي الله عنه، حينما جعل ولاية العهد في علي رضا بتأثير من أولئك الوزراء فلم ترض هذه السياسة أنصار العباسيين، وخرجت بغداد وبايعت بالخلافة إبراهيم بن مهدي عم المأمون وعندما شعر بالخطر قرر المسير إلى بغداد، وفي الطريق توفي علي رضا والفضل بن سهل في ظروف غامضة، فقام بإعادة الأمر إلى العباسيين، وعندما صار المأمون على مشارف بغداد خرج الناس للقائه وخلعوا عمه وبايعوه وذلك سنة 204هـ.
    ثانيا: القضاء على حركة آل علي بن أبي طالب: كانت سياسة المأمون كما أسلفنا تقوم على تقريب آل علي بن أبي طالب حتى كاد ينقل الخلافة إليهم، ومع ذلك فلم يسلم عهده من ثوراتهم، حيث خرج محمد بن جعفر بن محمد بن علي زين العابدين وبويع بالخلافة في مكة غير أن المأمون أرسل إليه جيشا فقضى على ثورته وظفر به ثم عفا عنه وأطلق سراحه.
    ثالثا: الولايات في عهده: كانت أولى الولايات التي انفصلت عن الدولة العباسية هي الدولة الأموية في الأندلس التي استقر بها الأمير عبد الرحمن بن معاوية في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور ثم تبعتها بعد فترة دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى وبعض دويلات الخوارج، وقد ترتب على قيام هذه الدول أن عمدت الدولة العباسية منذ عهد الرشيد إلى إنشاء حزام من الإمارات شبه مستقلة، مثل دولة بني الأغلب في تونس، ودولة بن زياد في اليمن تحكمها أسرة موالية للخلافة بإمكانها التصدي للأخطار المحدقة بالخلافة من ناحية وأن تدعم وجودها من ناحية أخرى،
    أما الدول التي استقلت في عهد المأمون فهي:

    1-الدولة الزيادية في اليمن: وذلك أنه عندما تولى المأمون الخلافة شعر بضرورة الحيلولة دون وقوع اليمن ضحية للفتن، فعين محمد بن إبراهيم الزيادي أميرا عليها سنة 204هـ فقام بالقضاء على عناصر الفتنة وظلت الأسرة الزيادية تحكم اليمن مدة طويلة.
    2-إمارة خراسان: وكان أميرها طاهر بن الحسين أحد قادة المأمون الذين أبلوا بلاء حسنا في تثبيت أركان الخلافة وقد كافأه المأمون بولاية خراسان التي استمرت في عقبه ردحا من الزمن.
    على ذلك نستطيع أن نفهم تشجيعها دولة بني الأغلب في إفريقية وعطفها عليها؛ فقد كانت هذه الدولة تستمتع بشيء من الاستقلال غير قليل، وتظفر بحماية الخلافة؛ لأنها كانت بمثابة الحرس الأمامي الذي يرد عن الخلافة غارات هؤلاء البُغاة، ويحول بينهم وبين التوسع على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
    نستطيع أن نفهم هذا، وأن نفهم أيضًا ما نلمحه لمحًا في القصص من اتصال علاقات ودية بين بغداد وملوك الفرنج الذين كانوا يُناوئون بني أمية في الأندلس.
    ملخص الحالة العامة في المدة الخراسانية

    اطلعنا في دور النزاع بين الأخوين على شيء غير قليل من تصرفات الفضل بن سهل وتدبيراته، ووقفنا على أثره العظيم في الدولة، كما اطلعنا على ما كان من نجاح طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين في حروبهما للجيوش الأمينية.
    ونتساءل الآن، بعد أن تم الأمر للمأمون وحزبه وخلا الجو إلى حد كبير للفضل بن سهل: أمن المعقول أن تستطيع هذه الشخصية البارزة، الفارسية المنبت والنزعة، ذات البيت الكبير والحُماة والأصدقاء، والعُفاة والأنصار، أن تحتمل أن يكون إلى جانبها شخصيات بارزة من العرب كهرثمة بن أعين، وأبطال من ذوي الفضل العظيم والدور الأول في النجاح كطاهر بن الحسين؟.
    نحن نعلم ما كان من أبي مسلم الخراساني مع أمثاله من القادة والكُماة، كما نعلم ما كان نصيبه من الخليفة المنصور، نعلم ذلك كما نعلم الكثير من أمثال ذلك، وإنه ليلوح لنا من غير أن نعدو الصواب كثيرًا أنه في مقدورنا أن نجيب عن تساؤلنا هذا. إن المعقول في طبيعة هذه الشخصيات الفذة في تلك الأزمان المطلقة الحكم أنها تعمل على إزالة كل الشخصيات البارزة من طريقها؛ ليكون ذلك لأطماعها ممهدًا، ولخططها معبدًا.
    يلوح لنا أنا لا نعدو الصواب إذا قلنا ذلك؛ إذ إن هذا هو ما فعله الفضل بن سهل مع الظاهرين وأصحاب الكلمة في الدولة، فإن التاريخ ينبئنا أنه رأى مستقبله ومستقبل حزبه يكون مهددًا إذا بقي طاهر وهرثمة في العراق، فاستصدر أمرين ملكيين: أولهما بتولية شقيقه الحسن بن سهل جميع ما فُتح بجهود طاهر وقيادته الحكيمة وإخلاصه للقضية المأمونية. ينبئنا بأنه نصَّبه على كور الجبال وفارس وعلى الأهواز والبصرة، وعلى الكوفة والحجاز واليمن، كما ينبئنا بأنه ولَّى طاهرًا الموصل والجزيرة والشام والمغرب. ولكي يتمَّ الأمر بإبعاده كتب إليه أن يُسلم الحسن بن سهل جميع ما بيده من الأعمال، وأن يُبادر في الشخوص إلى الرقة لمحاربة نصر بن شبث.
    وثانيهما إلى هرثمة بن أعين يُكلِّفه به أن يشخص إلى خراسان.
    ولنتساءل الآن: هل كان من المصلحة السياسية هذه الصدمة العنيفة لزعيمين قويين أحسنا البلاء في الدولة، ولهما مكانتهما ولهما حزبهما؟.
    وهل كل من المصلحة السياسية إخلاء العراق وهو مصدر الشقاق والنفاق والعصيان والعدوان من هرثمة وطاهر؟.
    وهل كان من المصلحة السياسية أن يترك المأمون مسألةً كمسألة تعيين الحسن بن سهل وإقصاء هرثمة وطاهر تمرُّ هكذا؛ فيستغلها الدعاة على ملكه من بني هاشم ممن لم يكن لهم حظ في دولته، ومن غير بني هاشم ممن يودُّون زوال الملك الهاشمي، فيقول — فيما يقولون عنه: إنه غلب على أمره، أو أن الفرس ملكوا زمامه، أو أن الفضل بن سهل أنزله قصرًا فحجبه عن رجالات دولته، وأن السلطان ومقاليد السلطان قد نزعت منه؟

  26. #26

    افتراضي

    نعود نتساءل: أكان ذلك كله من مصلحته السياسية؟.
    لم يكن ذلك من المصلحة السياسية طبعًا، لا سيما أنه لم تسكن الفتن والثورات بعدُ في الأقطار المأمونية، ولكنا نميل إلى اعتقاد أن المأمون كان مرغمًا على الوقوع في هذه الغلطة السياسية وهو ذلك السياسي المحنك والداهية القدير، كما رأينا وكما سنرى في موضعه؛ لأن لظروف الأحوال نصيبها في ذلك التصرف منه ومن غيره ممَّن يكون في مكانه، ولأنه ربما تحاشى بتصرفه ذلك خطرًا أجسم، وأوسع نطاقًا، وأبعد مدًى؛ وهو خطر إغضاب الفضل بن سهل وجماعة الفضل بن سهل.
    ومهما يكن من شيء، فإن هذه التصرفات التي كانت من الفضل بن سهل وإقرار المأمون لها، وبقاء المأمون بعد أن تم له الأمر في مَرْو دون بغداد عاصمة الخلافة العباسية، كانت لها نتائجها السيئة في شيعة المأمون وأنصاره من جهة، وفي أعدائه والراغبين عن سلطانه من جهة أخرى، ذلك بأن أنصار المأمون وقواده، ونخصُّ بالذكر منهم طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين، قد كسَر قلوبهم وفلَّ من عزائمهم، أن يكون جزاؤهم على فوزهم وحسن بلائهم وإخلاصهم تلك التصرفات السيئة التي كانت نصيبهم من المأمون ومن حاشية المأمون.
    هذا كان أثرها في شيعته وخاصة أنصاره، وأما غير هؤلاء فقد جعلت هذه التصرفات ألسنتهم تنطلق باتِّهام المأمون بأنه يميل إلى الخراسانيين، وأنه أصبح آلة في أيديهم يُحرِّكونه كما يشاءون، وقد حدث من جراء هذه الإشاعات وفتور همة أنصار المأمون الذين لم يجازوا الجزاء الأوفى أن اضطربت الأمور وكثرت الفتن، ووجد أعداء المأمون الفرصة سانحة لتحقيق أطماعهم، ومن تلك الفتن ما يحدثنا التاريخ عنه من خروج محمد بن إبراهيم العلوي المعروف بابن طباطبا بالكوفة، وقد قام بتدبير أمره رجل من رجالات هرثمة بن أعين وكبار أنصاره، وقد خرج لأنه حبس عنه ما كان يُعطاه من رزق. هذا الرجل هو أبو السرايا السري بن منصور، وكان هو الخارج على المأمون في الواقع لا ابن طباطبا، وقد بلغ من أمره أن ضرب الدراهم وجند الجنود حتى اضطر الحسن بن سهل أن يسترضي هرثمة ويستعينه؛ ليكفيه شرَّ هذا الخارج القوي.
    ويظهر أن موت الزعماء كان طلسمًا من الطلاسم أو سرًا من الأسرار، أو صناعة من الصناعات الخفية؛ فإنا نجد أن محمد بن إبراهيم هذا، الذي سمت منزلته بين أتباعه وعظمت طاعتهم له، قد مات بعد أن كُتب النصرُ للقائم بتدبير أموره على سليمان بن جعفر والي الكوفة من قِبَل المأمون، ثم نرى هذا المنتصر يولي مكانه غلامًا أمرد حدثًا هو محمد بن محمد بن زيد العلوي.
    وتعال معي لننظر في حوادث سنة تسع وتسعين ومائة؛ ففيها ما يكشف القناع عن أمور جسام تُفيدنا في تفهم الروح الحزبية بين العلويين والعباسيين، وتفيدنا أيضًا في إماطة اللثام عن سبب هامٍّ من الأسباب التي يرجع إليها تبرُّم بعض الوُلاة الكُفاة بدولة الفضل بن سهل، وانفراده هو وجماعته بمراتب الدولة ووظائفها.
    وإنا نلخص لك الحوادث التي وقعت بعد أن قمَع هرثمةُ ثورةَ أبي السرايا التي انتهت بقتله عام ٢٠٠ﻫ وإخماد فتنته، معتمدين في ذلك على الطبري.
    لما قمع هرثمة ثورة أبي السرايا عاد إلى نهروان دون أن يعرِّج على والي بغداد، وهناك وافاه أمر الخليفة بتوليه حكم سوريا وبلاد العرب، وكان قد اعتزم الذهاب بعد ذلك إلى «مرو» مباشرة ليكشف للخليفة عن حقيقة الموقف وحرجه الذي يخفيه عنه وزيره الفضل، بسبب بقاء الخليفة في «مرو»، وأن الغرب سينتقض عليه سريعًا ويخرج من يده إذا هو لم يبادر إلى العودة إلى بغداد، فلما أحس الفضل عزم هرثمة على القدوم فطن إلى ما ينويه، فدس له عند المأمون حتى أوغر صدره عليه، وكادت السنة تنتهي قبل أن يذهب هرثمة إلى «مرو»، فلما ذهب خشى أن يكتم الفضل خبر قدومه عن المأمون، فدق الطبول عند دخوله المدينة، فلما علم الخليفة الموغر الصدر بقدومه أمر بإحضاره، فلما مثَل بين يديه بالغ في تقريعه وتأنيبه على توانيه في تسكين ثورة أبي السرايا، وفي مخالفة ما أصدره إليه من أمره بالذهاب إلى ما ولاه من أعمال، وما كاد هذا القائد يهم بالكلام ويشرح لمولاه الحالة حتى هجم عليه الحرس الذين أسَرَّ إليهم الفضل أن يغلظوا في تعذيبه، فانهالوا عليه ضربًا ولكمًا على وجهه وجسمه ثم سحبوه بسرعة إلى السجن حيث مات به بعد زمن قصير متأثرًا بجروحه، ولقد اعتقد عامة الناس أن الذي أماته هو الفضل.
    وهكذا انطوت صحيفة هذا الباسل العظيم الذي ذبَّ عن مُلك المأمون، وكافح في توطيد دعائم الدولة من إفريقية إلى خراسان، والذي يرجع إليه الفضل الأكبر في انتصار المأمون على أخيه المخلوع.
    ومات هذا القائد العظيم ضحية للسعاية ونكران الجميل كما مات أمثاله من قبل من صناديد هذه الدولة من جراء السعاية والمنافسة، ومن جراء أعمال البطانة ودسائس الحاشية.
    ولنتساءل: ماذا كانت نتيجة قتل هرثمة؟
    يحدثنا التاريخ أن هرثمة كان محبوبًا في الغرب، وأن موته أحدث فتنًا وقلاقل في بغداد، وثارت الجنود في وجه الحسن بن سهل؛ إذ عدوه آلة في يد أخيه الفضل الذي كانوا ينعتونه بالمجوسي، وبعد قتال دام ثلاثة أيام طردوا الحسن من المدينة، فلجأ إلى «المدائن» ثم ارتد إلى «واسط»، واستمرت الفتن والقلاقل بعد ذلك قائمة ببغداد شهورًا عدة نشطت في خلالها عصابات اللصوص وشراذمة الصعاليك، وشمرت عن ساعدها في أعمال النهب والسلب حتى طغى سيل غاراتهم على تلك المدينة المنكودة التي أصبحت تحت رحمتهم.
    ويحدثنا التاريخ أنهم قد أسرفوا في ذلك إسرافًا عظيمًا مما فزع له أعيان المدينة ووجهاؤها، فأجمعوا أمرهم على صد هؤلاء السفلة الأشرار ودفع غائلتهم عن المدينة وأهلها، ولما تم لهم ما أرادوا اختاروا من بينهم رجلين من ذوي الفضل والمكانة فيهم وولوهما تدبير الحكم ريثما تستقر الحال ويعود الأمن إلى نصابه، ثم عرضوا عرش الخلافة على المنصور بن المهدي والبيعة له، فتأبى عليهم ولكنه عاد وقَبِل أن يتولَّى الحكم باسم الخليفة المأمون.
    ولم توشك هذه السنة أن تنتهي حتى كان قواد الجند في بغداد قد سئموا القتال، فاتفقوا مع الحسن بن سهل الوالي فعاد إلى بغداد بعد أن أصدر عفوًا عامًّا، ووعد بأنه يدفع للجند رواتبهم عن ستة أشهر، وبأن يدفع كذلك لذوي المعاشات أرزاقهم حسبما هو مدرج بقوائمهم.

  27. #27

    افتراضي

    الثورات في عهد المأمون
    ثورة نصر بن شبث العقيلي:
    1 ـ في الصراع بين الأمين والمأمون كان معظم أنصار الأمين من العرب بسبب أن أمه عربية هاشمية عباسية، بينما كان معظم أنصار المأمون من الفرس (الموالي سابقا في العصر الأموي). كانت لا تزال هناك ملامح استعلاء لدى العرب مترسبة من العصر الأموي الذي ساد فيه احتقار الشعوب غير العربية خصوصا (الموالي) أي الفرس، وقابلها الفرس في العصر العباسي بالشعوبية (أي التغني بالقومية الفارسية والحضارة الفارسية)، وهذه المواجهة الثقافية هي التي مكنت الفرس من الاحتفاظ بلسانهم الفارسي حتى الآن بينما اندثرت ألسنة المصريين والأنباط والسريان.
    وهذه المواجهة الثقافية بين العرب والفرس كانت العامل المساعد في سخط بعض العرب على المأمون وكراهيتهم لانتصاره على أخيه الأمين.
    لم يهتموا بتفاهة الأمين وعدم صلاحيته للخلافة، ولكن الذي أهمهم هو أن انتصار المأمون أصبح انتصارا للفرس على العرب ويمثل وجهة النظر هذه (نصر بن شبث العقيلي ).
    2 ـ بمجرد انتصار المأمون وقتل الأمين في عام 198 ـ أعلن نصر بن سيار بن شبث العقيلي الخلاف على المأمون؛ ( وكان نصر من بني عقيل يسكن كيسوم، شمالي حلب، وكان في عنقه بيعة للأمين، وله فيه هوى؛ فلما قتل الأمين أظهر نصر الغضب لذلك، وتغلب على ما جاوره من البلاد، وملك سميساط، واجتمع عليه خلق كثير من الأعراب، وأهل الطمع، وقويت نفسه، وعبر الفرات إلى الجانب الشرقي. ).
    طمع نصر هذا في التغلب على المنطقة وقت أن كان المأمون في الشرق لم يأت الى بغداد بعدُ ،وكثرت جموع نصر العقيلي ، وأصبح خطرا حقيقيا على سُلطة المأمون .
    3 ـ لذا بادر المأمون عام 198 بتعيين أفضل قواده العسكريين ( طاهر بن الحسين ) وأمره أن يسير إلى ( الرقة ) لمحاربة نصر بن شبث العقيلي، وولاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب، فسار طاهر إلى قتال نصر بن شبث، وأرسل إليه يدعوه إلى الطاعة، وترك الخلاف، فلم يجبه إلى ذلك، فتقدم إليه طاهر، والتقوا بنواحي كيسوم، واقتتلوا قتالاً شديداً أبلى فيه نصر بلاءً عظيمأ وانتصر على طاهر بن الحسين الذى تراجع الى الرقة مهزوما، واقتصر على الحفاظ على ما تحت سيطرته .
    4 ـ واستفحلت ثورة نصر بن شبث العقيلي مع استمرار غياب المأمون في الشرق بعيدا عن العراق ، وفى عام 199 تكاثرت جموعه ، وحاصر مدينة (حران ).
    5 ـ وبسبب انتصاراته المتتابعة جاءه بعضهم يطلبون منه أن يبايع لخليفة يحارب باسمه، قالوا له: ( قد وترت بني العباس، وقتلت رجالهم.. فلو بايعت لخليفة كان أقوى لأمرك.)، فقال: (من أي الناس؟) فقالوا: (نبايع لبعض آل علي بن أبي طالب؛) فقال مستنكرا: (أبايع بعض أولاد السوداوات فيقول إنه خلقني ورزقني؟) قالوا: (فنبايع لبعض بني أمية؛) فقال: (أولئك قد أدبر أمرهم، والمدبر لا يقبل أبدأ، ولو سلكت على رجل مدبر لأعداني إدباره.) ثم قال لهم يعبر عن رأيه: (، وإنما هواي في بني العباس، ولكن حاربتهم محاماة على العرب لأنهم يقدمون عليهم العجم. ). هواه مع بنى العباس، ولكنه ليس مع المأمون الذي انحاز للفرس على حساب العرب.
    6 ـ ثم رحل المأمون من الشرق واستقر في بغداد عام 204، وفى عام 206 مات يحيى بن معاذ والى المأمون على الجزيرة، والذي كان يواجه نصر بن شبث العقيلي، وقد عهد يحيى قبل موته لابنه أحمد بن يحيى بن معاذ. ولم يرض المأمون بهذا، ولم ير المأمون الوالي الجديد أحمد كفئا لمواجهة نصر العقيلي، فاستدعى المأمون عبد الله بن طاهر من مصر، وولاه الرقة مركز الجزيرة، وأمره بحرب نصر بن شبث.
    وكان عبد الله بن طاهر بن الحسين ينقم على (نصر العقيلي) أنه هزم من قبل أباه (طاهر بن الحسين)، ولقد كتب طاهر لابنه عبد الله كتابا يعظه وينصحه، ذكره الطبري بالكامل، اعتبره المأمون وحاشيته آية في الأدب السياسي.
    7 ـ ودارت الحرب بين عبد الله بن طاهر ونصر بن شبث العقيلي حتى عام 209. ودحر ابن طاهر غريمه العقيلي، وحاصره عام 209 في معقله كيسوم. وصمد نصر في الحصار قليلا ثم طلب الأمان، ودارت مفاوضات اشترط فيها المأمون أن يأتي نصر خاضعا اليه، ورفض نصر خوفا من الغدر، وطمأنه المأمون - عن طريق مبعوثه - بأنه صفح من قبل عمّن خانه، كالفضل بن الربيع، وعيسى بن محمد ابن أبي خالد.
    ورفض نصر، فضيق ابن طاهر عليه الحصار، فرضخ في النهاية نصر، وتحول من معسكره إلى الرقة وسلّم نفسه الى عبد الله بن طاهر، بعد حصار وحرب استمرت خمس سنين، فلما خرج إليه أخرب عبد الله حصن كيسوم، وسير نصراً إلى المأمون. ووصل نصر في صحبة عبد الله بن طاهر الى المأمون في صفر سنة عشر ومائتين. فأنزله المأمون في مدينة المنصور وحدد إقامته في بيت فيها ‏.يروى لنا التاريخ أن عبد الله بن طاهر الذي نهد لمحاربة نصر بن شبث كتب إلى المأمون يُعلمه أنه حصَره وضيَّق عليه وقتل رؤساء من معه، وأنه قد عاذ بالأمان وطلبه، فأمره أن يكتب له كتاب أمان، فكتب إليه أمانًا نسخته: «أما بعد، فإن الإعذار بالحق حجة الله المقرون بها النصر، والاحتجاج بالعدل دعوة الله الموصول بها العز، ولا يزال المُعْذر بالحق المحتج بالعدل في استفتاح أبواب التأييد، واستدعاء أسباب التمكين حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين، ويمكن وهو خير المُمكِّنين، ولست تعدو أن تكون فيما لهجت به أحد ثلاثة: طالب دين، أو ملتمس دنيا، أو متهورًا يطلب الغلبة ظلمًا؛ فإن كنت للدين تسعى بما تصنع فأوضِحْ ذلك لأمير المؤمنين يغتنم قبوله إن كان حقًّا، فلعمري ما همته الكبرى ولا غايته القصوى إلا الميل مع الحق حيث مال، والزوال مع العدل حيث زال، وإن كنت للدنيا تقصد فأعْلِمْ أمير المؤمنين غايتك فيها، والأمر الذي تستحقها به، فإن استحققتها وأمكنه ذلك فعله بك؛ فلعمري ما يستجيز منْع خَلْق ما يستحقه وإن عظُم، وإن كنت متهورًا فسيكفي اللهُ أميرَ المؤمنين مُؤنتك، ويُعجل ذلك كما عجل كفايته مؤن قوم سلكوا مثل طريقك كانوا أقوى يدًا، وأكثف جندًا، وأكثر جمعًا وعددًا ونصرًا منك، فيما أصارهم إليه من مصارع الخاسرين، وأنزل بهم من جوائح الظالمين.
    وأمير المؤمنين يختم كتابه بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله ﷺ، وضمانه لك في دينه وذمته الصفح عن سوالف جرائمك، ومتقدمات جرائرك، وإنزالك ما تستأهل من منازل العز والرفعة إن أنبْتَ وراجعت إن شاء الله. والسلام».
    وقد ذهب عبد الله بن طاهر إلى وجهه في محاربة نصر ولبث في مناهدته حتى اضطره إلى التسليم نحو خمس سنين، وفي أثناء هذه المدة سعى المأمون إلى إخماد الثورة من طريق الصلح، فندب جعفر بن محمد العامري ليؤدي رسالة منه إلى نصر يطلب منه فيها ترك الحرب والجنوح إلى السلم.
    ثم أخذ عبد الله يَجِدُّ في محاربته وحصره حتى ضيَّق عليه واضطره إلى طلب الأمان، وقد احتُفي بنصر وهو ذاهب إلى بغداد خاضعًا للخليفة احتفاء عظيمًا، بيد أن جماعة ممن كانوا ناقمين على المأمون لم يرقهم أن ينتهي الخلاف بينه وبين ثائر قوي، فأرادوا أن يكدروا صفاء السرور فدبروا مؤامرة، وهي أن يقطعوا جسر الزوارق عند اقتراب نصر بموكبه الحافل، فقبض عليهم، ولأمرٍ ما كان المأمون على غير عادته قاسيًا في عقابهم، فقد جاء بزعيمهم ابن عائشة، فيما قال الرواة، وهو من بني العباس، ووضعه على باب داره في أشعة الشمس المحرقة ثلاثة أيام، ثم أمر بضربه بالسياط، ثم أمر بضرب عنقه مع كثير ممن كانوا معه.
    نقول لأمرٍ ما كان المأمون قاسيًا في عقابهم لأن الرجل الذي يصل به عفوه وحلمه إلى أن يعفو عن إبراهيم بن المهدي والفضل بن الربيع وغيرهما من أصحاب الكبائر وممن كادوا له حقًّا، وسعوا في ضياع ملكه واستلاب عرشه، لا بد أن يكون الدافع له إلى القسوة في عقاب هؤلاء الأشخاص حاجة في نفسه عمِّيت علينا، ونحن نعترف بأن المصادر التي بين أيدينا لم تفسر لنا تفسيرًا مقنعًا السر في هذا الاشتطاط وهذه المبالغة في العقوبة من المأمون الوديع الحليم.
    على أن هذه الحادثة تحتاج إلى تحقيق دقيق، ولم تُتِح لنا المصادر الحاضرة القيام بتعرف وجه الحق فيها، ولا يستبعد البتة أن يكون المأمون منها براء.

  28. #28

    افتراضي

    ثورة مصر

    ضعفت السلطة المركزية في بغداد نتيجة الفتن والحروب التي تخللت عصر الأمين وأوائل عصر المأمون مما أدى إلى انتقال عدواها إلى الأقاليم الإسلامية الاخرى كما شجعت بعض الولاة على التهاون بمصالح الناس وارهاقهم بكثرة الضرائب والأعباء المالية المختلفة مما أدى إلى جنوحهم للثورة والعصيان.
    كان أخطر هذه الثورات جميعا ثورة مصر، ذلك أن الأحوال في مصر كانت مضطربة إذ انتقلت إليها عدوى الخلافات بين الأمين والمأمون ففريق كان يؤيد الأمين وفريق آخر كان يؤيد المأمون وفريق ثالث بزعامة السري بن الحكم وأولاده يعمل لحسابه الخاص ويضرب فريقا باخر بغية الاستقلال بمصر، وتصادف في ذلك الوقت أن قامت ثورة في الأندلس ضد أميرها الحكم الأول الأموي وقد عاقبهم الأمير بهدم ديارهم وحرق حيهم ونفيهم من الأندلس فعبر بعضهم إلى المغرب أما البعض الآخر فقد واصلوا سيرهم في البحر شرقا حتى وصلوا شواطئ الإسكندرية فنزلوا في أوائل عصر المأمون وكانت الأحوال في مصر مضطربة وانتهز الأندلسيون المهاجرون فرصة هذه الفتن واستولوا على مدينة الإسكندرية بمعاونة أعراب البحيرة وأسسوا فيها إمارة أندلسية مستقلة عن الخلافة العباسية دامت أكثر من عشر سنوات وعندما استتب الأمر للخليفة المأمون أرسل قائده عبد الله بن طاهر بن الحسين إلى مصر لإعادة الأمور إلى نصابها سنة 828 فأرسل إلى هؤلاء الأندلسيين يهددهم بالحرب ان لم يدخلوا الطاعة فأجابوه إلى طلبه حقنا للدماء ثم اتجهوا في مراكبهم إلى جزيرة كريت وكانت تابعة للدولة البيزنطية فاستولوا عليها وهناك أسسوا قاعدة بحرية إسلامية ضد الدولة البيزنطية.
    غير أن الأوضاع بمصر لم تستقر بعد حملة عبد الله بن طاهر بن الحسين بسبب تعسف الولاة وفداحة الجزية وكثرة الأعباء الملقاة على كاهل المصريين، ففي سنة 216 ه قام الأقباط بثورة خطيرة عمت الساحل المصري كله واستمرت الثورة ثمانية أشهر حتى اضطر الخليفة المأمون وكان في الشام وقتئذ أن يذهب إلى مصر بنفسه لتهدئة الحالة، وغضب الخليفة على والي مصر وقتئذ وأنبه بقوله " لم يكن هذا الحدث العظيم الا عن فعلك وفعل عمالك حملتم الناس ما لا يطيقون وكتمتموني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطربت البلاد" ثم أمر بعزله، وحاول المأمون في بادئ الأمر أخذ الثوار باللين فوسط بينه وبين أسقف عرف باسم دنيس ولكن الوساطة لم تأت بالنتيجة المرجوة، فاضطر إلى استعمال الشدة والعنف لإخماد تلك الثورة. كذلك قامت القبائل والعشائر العربية في الشام والجزيرة بثورات مختلفة بقيادة زعيم عربي اسمه نصر بن شبث وكانت هذه الثورات موجهة ضد النفوذ الفارسي لميل المأمون إلى جانب الخراسانيين، وقد استطاع القائد عبد الله بن طاهر بن الحسين تهدئة القبائل الثائرة بالحزم والشدة تارة، وبالاستصلاح تارة أخرى إذ رفع عنهم الكثير من الضرائب.
    أما ما كان من أمر عبد الله بن طاهر في مصر، فإن التاريخ يحدثنا أنه لما انتهى أمر نصر بن شبث، كما قدمنا، كتب المأمون إلى عبد الله يأمره بالتوجه إلى مصر لإخماد ما فيها من فتنة، فذهب إليها وجادَّ الثائرين القتال حتى اضطرهم جميعًا إلى طلب الأمان فأجابهم إليه.
    وأما الأندلسيون الذين حضرت جماعة كبيرة منهم إلى الإسكندرية فقد طلبوا الأمان على أن يرتحلوا عنها إلى بعض أطراف الروم، فرحلوا إلى جزيرة إقريطش «كريت» فاستوطنوها وأقاموا بها.
    وأما ما كان من ابن السري فإنه طلب الأمان إلى عبد الله، وذلك بعد قتال عنيف وانهزامه شر هزيمة.
    ولما أخمدت الفتنة في مصر وبلغ المأمون الخبر كتب إلى عبد الله يهنئه، وجعل في أسفل كتابه أبياتًا من الشعر إن ثبت صدورها من المأمون حقًّا ولم تكن من وضع القُصاص والرواة، فإنها تعتبر آية في كرم أخلاق المأمون.
    وقد خرج المأمون إلى مصر في ١٦ من ذي الحجة سنة ٢١٦ هجرية أثر شخوصه إلى دمشق للمرة الثانية، وكان خروجه إلى مصر، فيما يقول الرواة، لإخماد ما قام فيها من فتن واضطرابات، وذلك أن أهالي الوجه البحري خرجوا ومعهم أقباط البلاد على عيسى بن منصور عامل مصر؛ لسوء سيرته فيهم ولقبح صنيعه معهم.
    ويحدثنا التاريخ أن عيسى هذا قد بذل ما في مقدوره لإخماد الفتنة والقضاء على الثورة، فلم يحالفه الظفر، وأخرجه الثوار أقبح مُخْرج من البلاد، فقدم القائد التركي المعروف بالأفشين وعمل على قمع الفتنة وإخماد الثورة، وقتل مقتلة ذريعة من الأهلين فسكنت الفتنة إلى حين.
    ثم عادت الفتنة ثانية واندلع لهيبها واستدعت خطورتها قدوم المأمون إلى مصر، فجاء إليها ونظر في شكاة الأهلين وعمل على إنصافهم، وسخط على عيسى بن منصور ونسب إليه وإلى سيئ أعماله كل ما حدث في طول البلاد وعرضها من فتن وثورات.
    ويظهر أن الثورة المصرية لم تُخمَد تمامًا، وأنها تطلَّبت من المأمون إلى جانب ما أظهره من رغبة في إحقاق الحق وإجراء العدل شيئًا من الحزم واستعمال القوة، فجادَّ الثائرين القتال حتى أذعنوا أخيرًا، ويقول المؤرخون: إنه لبث في مصر أربعين يومًا أو يزيد؛ إذ قدمها في الخامس من محرم سنة ٢١٧ﻫ وبقي بها إلى الثامن عشر من صفر.
    ويظهر أنه قضى هذه المدة إلى جانب اشتغاله بحرب أهلها بالتنقل بين العاصمة وبعض الأعمال مثل سِنْجار وحُلوان وغيرهما.
    ومن أعماله في مصر تعمير مقياس النيل وبعض إصلاحات أخرى بالجزيرة تجاه الفسطاط. وعاد المأمون أخيرًا إلى دمشق بعد أن شَهِد المصريين وخربهم وعدم احتمالهم ظلم الحكام والولاة. عبيد الله بن السري (206 - 211/ 821 - 826م):

    وهكذا كانت مصر مسرحًا للقلاقل والفتن، وكان رأس الفتنة وزعيمها عبيد الله بن السري بن الحكم الذي عظم خطره باشتغال عبد الله بن طاهر بمحاربة نصر بن شبث وإخضاعه.
    ولقد بُويِع عبيد الله واليًا على مصر بعد وفاة أخيه محمد في شعبان سنة 206هـ/ يناير 822م ولم يعترف الخليفة المأمون بولايته، فأرسل واليًا آخر هو خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني سنة 207هـ/ 822م لكن عبيد الله تمكَّن من طرْدِه فاضطرَّ الخليفة المأمون للاعتراف بسلطة عبيد الله وتثبيته واليًا على مصر، واستمرَّ في الحكم حتى صفر سنة 211هـ/ مايو 826م عندما أرسل الخليفة المأمون جيشًا بقيادة عبدالله بن طاهر فدخل مصر وعزل عبيد الله عن ولايتها، ورغم أن الخليفة المأمون لم يعترف بعبيد الله واليًا على مصر إلا بعد سنة 207هـ فقد سجَّل عبيد الله اسم الخليفة المأمون على النقود التي ضربها بمصر منذ بداية حكمه سنة 206هـ، ومن نقود عبيد الله بن السري دينار ضرْب سنة 206هـ محفوظ في متحف قطر الوطني بالدوحة.

  29. #29

    افتراضي

    شاهد دينار عباسي ضرب عام 208 هـ\823 م بالفسطاط (مصر) في عهد الخليفة المأمون. كتب على وجه الدينار: للخليفة المأمون، وكتب على ظهره: عبيد الله بن السري، وهو والي مصر في ذلك العصر. وضرب عبيد الله بن السري سلسلة من الدنانير منذ بداية حكمه في سنة 206هـ وحتى عزله في سنة 211هـ، وتوجد دنانيره في العديد من المتاحف مثل: متحف الآثار بإسطنبول، والمتحف البريطاني، والمتحف العراقي، ومتحف الفن الإسلامي بالقاهرة، ومتحف قطر الوطني بالدوحة.

    ونصوص كتاباته كما يلي:


    الوجه: مركز: لا إله إلا
    الله وحده
    لا شريك له
    عبيد الله بن السري
    هامش: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.
    الظهر: مركز: للخليفة
    محمد
    رسول
    الله
    المأمون
    هامش: بسم الله ضرب هذا الدينار سنة ست ومئتين.
    وبهذا نرى كيف تسبَّب الصراع على الخلافة بين الأمين والمأمون في خروج مصر من سلطة الخلافة العباسية، وإذا كان نقش اسم الخليفة على النقود من أبسط شارات السلطة، فإن ولاة مصر في تلك الفترة المضطربة قد سلبوا هذا الحق من الخلفاء العباسيين، وتحكَّم الجند والقادة في زمام الأمور وبقي في أيديهم الحل والعقد فصاروا يعزلون ويولُّون كما يشاؤون دون الرجوع إلى الخليفة، واستمرَّ هذا الحال حتى تمكَّن عبدالله بن طاهر من إعادة مصر تحت سلطة الخلافة العباسية سنة 211هـ/ 826م.
    الزط

    أما الزُّطُّ فهم المعروفون بما قاله ابن خلدون عنهم: إنهم قوم من أخلاط الناس غلبوا على طريق البصرة وعاثوا فيها وأفسدوا البلاد.
    أما نحن فلا نستطيع من ناحيتنا أن نسلك هؤلاء القوم في سلك أصحاب الثورات، أو الخارجين على الخليفة لنحلة دينية أو مذهب سياسي، وإنما هم طائفة من هنود آسيا كانوا يسكنون شواطئ الخليج الفارسي، قد وُجدوا به حين اضطراب الأمن في أطراف الدولة وضعف سلطان الحكومة، وانصراف القائمين بتدبير الشئون العامة إلى أمر الفتنة القائمة بين الأمين والمأمون التي انتهزها الزط وأمثال الزط فرصة للسلب والنهب والعيث في الأرض فسادًا، فتجمعوا واستولوا على طريق البصرة، فهم بقُرْصان البحر وقطَّاع الطرق أشبه منهم بالثائرين وأصحاب المبادئ.
    ويظهر أنهم كما يقول الأستاذ المرحوم محمد الخضري بك: كانوا إذا أخرجهم الجند تفرقوا في تلك الفيافي، فإننا نرى المأمون يكلِّف غير مرة أكثر من قائد أمر القضاء عليهم، ثم نراهم لا يزالون يعيثون في الأرض فسادًا حتى السنة الأولى من عهد المعتصم الذي كلف أحد قواده، عجيف بن عنبسة، القضاء عليهم، فاهتم عجيف بحربهم وضيق عليهم طريق البر والبحر وحصرهم من كل وجه، ثم حاربهم وأسر منهم نحو خمسمائة رجل، وقتل منهم نحو ثلاثمائة، وقطع رءوس الأسرى وبعث بالرءوس جميعًا إلى المعتصم، وجدَّ في حربهم حتى اضطرهم إلى التسليم، فإذا عِدَّتُهم سبعة وعشرون ألف شخص بين رجل وامرأة وصبي، وكان من هذا العدد اثنا عشر ألف مقاتل، ثم حملهم في السفن إلى بغداد، فمروا على المعتصم بأبواقهم وهيئتهم الحربية ثم نقلوا آخر الأمر إلى قرية تُسمى عين زَرْبة.
    وقد ذكر ابن الأثير في حوادث سنة ٢٤١ﻫ في عهد المتوكل أن الروم أغارت على عين زربة هذه فأخذت من كان فيها أسيرًا من الزط مع نسائهم وذراريهم وذويهم. دخول المأمون بغداد (في صفر سنة ٢٠٤ﻫ/أغسطس سنة ٨١٩م)

    عرفنا فيما سبق أن المأمون بويع بالخلافة أثناء وجوده في خراسان ولهذا لم ينتقل إلى بغداد مقر الخلافة العباسية، بل ظل مقيما في مدينة مرو بخراسان مدة ست سنوات تقريبا، وكان من الطبيعي أن يفضلها بعد أن انفرد بالخلافة؛ لأنها تضم أنصاره ومؤيديه.
    وكان الفرس يودون أن يبقى بمرو لتكون عاصمة الخلافة، ولكنها بعيدة عن مركز الدولة، وهي أكثر اتجاهًا نحو الشرق، مما جعل سيطرتها على العرب ضعيفة. وقد تسبب عن بقاء المأمون بعيدًا عن عاصمة دولته بغداد بعض الأزمات السياسية خصوصًا أنه فوّض إدارة البلاد إلى وزيره الفضل بن سهل وأخيه الحسن بن سهل، وأثار تحيز المأمون إلى الفرس غضب أهل العراق من بني هاشم ووجوه العرب، فأشاعوا أن بني سهل قد حجبوا الخليفة واستبدوا بالرأي دونه. واضطر المأمون أخيرًا أن يذهب إلى بغداد وأن يترك مرو للقضاء على هذه التحركات في مهدها، فانتقل بعدها إلى بغداد في منتصف شهر صفر من سنة ٢٠٤ﻫ/أغسطس سنة ٨١٩م.
    وكان لا يزال الشعارُ الأخضر شعارُ العلويين الذي اتخذه المأمون وهو في مرو شعارَ الدولة، فما زال به كبار قواده وأهل بيته حتى طرحه واستبدل به الشعار الأسود شعار العباسيين.
    ويحدثنا يحيى بن الحسن أن المأمون لبس الخُضرة بعد دخوله بغداد تسعة وعشرين يومًا ثم مُزِّقت، ثم خلع الخلع السنية على من حضر من القواد والأشراف ورجالات الدولة، وعفا عن الفضل بن الربيع وزير الأمين الذي كان اختفى بعد مقتله ثم ظهر مساعدًا لإبراهيم بن المهدي في ثورته، وكذلك عفا عن عيسى وزير إبراهيم مع أنهما كانا رأسي الفتن والقلاقل التي أثيرت على حكم المأمون، فكان موقف المأمون معهما غاية في التسامح والكرم. غزو المأمون للروم

    كانت سياسة المأمون نحو الإمبراطورية الرومانية المقدسة استمرارا لسياسة والده الرشيد التي تقوم على مصادقة هذه الدولة الأوروبية الغربية، وعلى الرغم من أن وفاة شارلمان حدثت في العام التالي من خلافة المأمون سنة 814 إلا أن ذلك لم يحل دون استمرار سياسة التفاهم مع ولده لويس التقي، إذ تشير المصادر الأوروبية إلى أن الإمبراطور لويس أرسل سفارة إلى البلاط العباسي في بغداد في عهد المأمون سنة 831.
    أما عن علاقة المأمون بالإمبراطورية البيزنطية فكانت سياسة عدائية على غرار سياسة آبائه من قبل، ويشير المؤرخون أن المأمون استغل فرصة الفتنة الداخلية التي تزعمها توماس الصقلبي ضد الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثاني 821 وأخذ يمده بالسلاح والمال كي يعينه على فتح القسطنطينية والاستيلاء على الحكم كما أوعز إلى بطريارك القسطنطينية أن يتوج هذا الثائر إمبراطورًا، ليصبغ حركته بصبغة شرعية لكن الدولة البيزنطية كشفت أخبار هذه الاتصالات وانتهي الأمر بهزيمة توماس الصقلبي وقتله على أبواب القسطنطينية سنة 823. ولم يتردد المأمون في السنوات الأخيرة من حياته من قيادة جيوشه بنفسه والتوغل في أراضي الدولة البيزنطية.، إذ قاد حملة من بغداد وسار إلى منبج ثم إلى طرسوس ومنها دخل أراضي الإمبراطورية البيزنطية، في يوليو من عام 830 ففتح حصن قرة عنوة وأمر بهدمه واشترى السبي بستة وخمسين ألف دينار، ثم خلى سبيلهم وأعطاهم دينارًا دينارًا، ثم توجه المأمون إلى الشام وهناك ورده أن الإمبراطور البيزنطي قتل عددًا من سكان طرسوس والمصيصة، فأعاد المأمون الكَرَّة على أراضي الروم فسار حتى وصل أنطيفوا فخرج أهلها على الصلح، ثم توجه إلى مدينة هرقلة فخرج أهلها على صلح أيضا خوفًا من قوات المأمون، ثم وجه عدة حملات داخل الأراضي البيزنطية وتم فتح ثلاثين حصنا بقيادة أحد إخوته، أعاد المأمون التوغل في أراضي الروم مرة ثالثة وأغار على مدينة لؤلؤة مدة مائة يوم ثم رحل عنها، واستخلف عليها قائده عجيف بن عنبسة، لكن أهل المدينة خدعوه وأسروه فأرسل المأمون كتيبة لإنقاذه فتم إخلاء سبيله عبر تفاوض مع الإمبراطور تيوفيل. حاول المأمون غزو البيزنطيين عام 833 فدخل أراضيهم بجيشه عن طريق طرسوس غير أن الوفاة أدركته هناك إثر إصابته بالحمى ودفن بطرسوس..
    ثورة بابك الخُرَّمِي

    يخبرنا المؤرخون أن بابك الخرمي قد ظهر من كورة في شمال بلاد فارس تسمى «البذ»، وقد كان خروجه للدعوة إلى مذهبه الإباحي سنة ٢٠١ﻫ، وكان المأمون لا يزال في «مرو» قبل أن ينتقل إلى عاصمة ملكه بغداد، وقد امتدت فتنة بابك عنيفةً طوال عهد المأمون وصدرًا من عهد المعتصم.
    فتح جزيرة صقلية
    كانت علاقة المأمون بدولة الأغالبة في أفريقية أو المغرب استمرارًا لسياسة والده التي تقوم على الاعتراف بحكم هذه الأسرة على أساس الاستقلال الذاتي، مع التبعية للخلافة العباسية، وكان يحكم دولة الأغالبة زيادة الله الأول بن إبراهيم بن الأغلب، الذي بقي حليفًا وتابعًا مخلصًا للمأمون، وقد تم في عهده الاستيلاء على جزيرة صقلية التابعة للبيزنطيين. ففي سنة 212 هـ/ 827 أمر زيادة الله بغزوها وأسند قيادة الحملة إلى قاضي القيروان أسد بن الفرات بن سنان، وكان الجيش الفاتح يتكون من عشرة آلاف فارس، معظمهم من الفرس الخراسانيين والبقية من الأفارقة والأندلسيين المقيمين في أفريقية، وأبحروا من ميناء سوسة في أسطول من مائة مركب إلى جنوب جزيرة صقلية، حيث نزلوا في مدينة مازرة وغيرها من النواحي المواجهة للساحل التونسي جنوبًا، ودارت معركة شديدة بين الجيش الإسلامي والبيزنطي انتهت بانتصار الجيش الإسلامي واستشهد أسد بن الفرات بعد أن وطد الحكم الإسلامي في بعض نواحيها، وكتب زيادة الله إلى الخليفة المأمون يبشره بفتح صقلية.
    واللوحة المرفقة توضح السفير البيزنطي البطريرك يوحنا الرابع القسطنطيني «النحوي» يقف بين إمبراطور الروم «ثيوفيلوس» (يمين) والخليفة العباسي المأمون (يسار) في سنة 829م اللوحة من القرن 12 أو القرن 12:

    The embassy of John the Grammarian in 829, between the Byzantine emperor Theophilos (right) and the Abbasid caliph Al-Ma'mun, from the Madrid Skylitzes, fol. 47r, detail.
    المصدر:
    Chronicle of John Skylitzes, cod. Vitr. 26-2, Madrid National Library
    Abbasid Caliph Al-Ma'mun sends an envoy to Byzantine Emperor Theophilos
    https://en.wikipedia.org/wiki/Arab%E...Theophilos.png

    By his marriage with Theodora, Theophilos had several children, including:
    • Constantine, co-emperor from c. 833 to c. 835.
    • Michael III, who succeeded as emperor.
    • Maria, who married the Caesar Alexios Mouseles.
    • Thekla, who was a mistress of Emperor Basil I the Macedonian.

    , who was a mistress of Emperor Basil I the Macedonian

    Emperor Theophilos in discussion with Theodore Krateros

    Contributor: The History Collection / Alamy Stock Photo
    Image ID: J8GETW
    File size:
    7.2 MB (0.4 MB Compressed download)
    Dimensions: 2424 x 1031 px | 41 x 17.5 cm | 16.2 x 6.9 inches | 150dpi
    Releases: Model - no | Property - no Do I need a release?
    More information:
    This image is a public domain image, which means either that copyright has expired in the image or the copyright holder has waived their copyright. Alamy charges you a fee for access to the high-resolution copy of the image.
    This image could have imperfections as it’s either historical or reportage. . English: Abbasid Caliph al-Mamun sends an envoy to Byzantine Emperor Theophilos. 23 September 2012, 18:34:37. Unknown, 13th-century author 847 Mamun sends an envoy to Theophilos

  30. #30

    افتراضي

    . English: Abbasid Caliph al-Mamun sends an envoy to Byzantine Emperor Theophilos. 23
    This image is a public domain image, which means either that copyright has expired in the image or the copyright holder has waived their copyright. Alamy charges you a fee for access to the high-resolution copy of the image.
    This image could have imperfections as it’s either historical or reportage.



    A 13th century CE illustration showing Byzantine emperor Michael III (r. 842-867 CE) crowning his great friend and political ally Basil the Macedonian co-emperor. The latter would take the crown himself in 867 CE as Basil I. (Madrid Sklitzes, National Library, Madrid)
    . English: Emperor Theophilos and the monk Lazaros, miniature, Madrid Skylitzes, fol. 49v, detail .



    11th-12th centuries. from the Middle Ages, unknown 841 MadridSkylitzesTheophilosLazarosFol49v
    Lazaros, miniature, Madrid Skylitzes, fol. 49v, detail. 11th-12th centuries. from the Middle Ages, unknown 841 MadridSkylitzesTheophilosLazarosFol49v
    Contributor: The Picture Art Collection / Alamy Stock Photo
    Emperor Theophilos and his court, Skylitzes Chronicle - Muslim conquest of Sicily - Wikipedia, the free encyclopedia

    [IMG]file:///C:/Users/Soma/AppData/Local/Temp/msohtmlclip1/01/clip_image002.jpg[/IMG]رسم لخريطة العالم عام 820 م وتظهر حدود الدولة العباسية واضحة في عهد المأمون
    كلمة ختامية عن وفاة المأمون ورجالاته ومعاصريه ووصيته

    لقد عاجلت المنية المأمون دون تحقيق خطته بموضع يقال له «البدندون» بين «لؤلؤة» و«طرسوس»، وكانت وفاته لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ٢١٨ﻫ وسِنُّه ثمان وأربعون سنة وأربعة أشهر.
    أما عن كبار رجالات المأمون وولاته فيقول اليعقوبي: وكان الغالب عليه في خلافته ذو الرياستين ثم جماعة منهم: الحسن بن سهل، وأحمد بن أبي خالد، وأحمد بن يوسف، وكان على شرطته العباس بن المسيب بن زهير، ثم عزله وولَّى طاهر بن الحسين ثم عبد الله بن طاهر الذي استخلف إسحاق بن إبراهيم ببغداد، فوجَّه إسحاق بأخيه خليفة له على شرطته.
    وكان على حرسه شبيب بن حميد بن قحطبة، ثم عزله وولاه قومس، واستعمل مكانه هرثمة بن أعين ثم عبد الواحد بن سلامة الطحلاوي قرابة هرثمة، ثم علي بن هشام ثم قتله وولَّى عجيف بن عنبسة، وكانت حجابته إلى أحمد بن هشام وعلي بن صالح صاحب المُصلَّى، قال: وخلَّف من الولد الذكور ستة عشر ذكرًا؛ وهم: محمد، وإسماعيل، وعلي، والحسن، وإبراهيم، وموسى، وهارون، وعيسى، وأحمد، والعباس، والفضل، والحسين، ويعقوب، وجعفر، ومحمد الأكبر — وهو ابن معللة وتوفي في حياته — ومحمد الأصغر وعبيد الله أمهما أم عيسى بنت موسى الهادي.
    أما صاحب «نهاية الأرب» فقد ذكر في الجزء العشرين من كتابه أن حجابه هم: عبد الحميد بن شبث، ثم محمد وعلي ابنا صالح مولى المنصور، ثم إسماعيل بن محمد بن صالح.
    وذكر أن قضاته هم: محمد بن عمر الواقدي، ثم محمد بن عبد الرحمن المخزومي، ثم بشر بن الوليد. وكان نقش خاتمه فيما ذكره المسعودي في التنبيه والإشراف: «الله معه عبد الله به نؤمن».
    •••
    وقد يكون من المفيد لنا من وجهة نظر التاريخ المصري أن نقف على ولاة مصر وقضاتها في عهد المأمون؛ وذلك ييسره لنا كتابان ممتعان وافيان في هذا الموضوع، وهما: كتاب «النجوم الزاهرة» لابن تغري بردي الأتابكي، وكتاب «الولاة والقضاة» الذين ولوا أمر مصر وقضاءها للكندي. ونحن ذاكرون لك هؤلاء الولاة والقضاة على وجه الاختصار:
    أما الولاة فهم: مالك بن دلهم، وحاتم بن هرثمة، وجابر بن الأشعث، وعبَّاد بن محمد، والمطلب بن عبد الله، والعباس بن موسى، والسري بن الحكم، وسليمان بن غالب، ومحمد بن السري، وعبيد الله بن السري، وعبد الله بن طاهر، وعيسى بن يزيد، وعمير بن الوليد، وعبدويه بن جبلة.
    ولقد حدثنا المؤرخون في أيامه عمَّا سُمِّي في مصر بالبدع المأمونية الأربع: فالبدعة الأولى منها هي لبس الخُضْرة وتقريب العلوية وإبعاد بني العباس. والثانية: القول بخلق القرآن، والثالثة: ما كتبه المأمون إلى نائبه ببغداد أن يأخذ الجند بالتكبير إذا صلوا الجمعة وبعد الصلوات الخمس.
    ثم أباح المأمون في هذه السنة — وهي سنة ٢١٥ﻫ — «المُتْعة»، فقال الناس: هذه بدعة رابعة. وبعد ولاية ابن جبلة هذا ولاية عيسى بن منصور ونصر بن عبد الله، وشهرته كيدر، والمظفر بن كيدر.
    أما قضاة مصر في عهده فهم: عبد الرحمن العمري، وهاشم بن أبي بكر البكري، وإبراهيم بن البكاء، ولهيعة بن عيسى الحضرمي، والفضل بن غانم، وإبراهيم بن إسحاق العاري، وعطاف بن غزوان، وجعله عبد الله بن طاهر على المظالم، وبعدئذٍ ولي القضاء من قبله عيسى بن المنكدر، وأخيرًا هارون بن عبد الله.
    أما معاصروه فقد كان يعاصره في الأندلس الحكم بن هشام ثالث أمراء بني أمية، ثم ابنه عبد الرحمن.
    وكان يعاصر المأمون في بلاد المغرب الأقصى إدريس بن إدريس بن عبد الله ثم ابنه محمد بن إدريس، ويعاصره في إفريقيا من بني الأغلب عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب ثم ابنه زيادة الله بن إبراهيم فاتح صقلية، ويعاصره في فرنسا «شارلمان» صديق أبيه، ثم «لويز الأول» المُلقَّب باللين، ويعاصره في القسطنطينية «ليون الأرمني» و«ميخائيل» المُلقَّب بالتمتام، ثم ابنه «توفيل».
    أما صفته فهي كما ذكرها صاحب «نهاية الأرب»: «كان المأمون ربعة أبيض طويل اللحية رقيقها قد وخطه الشيب، وقيل: كان أسمر تعلوه صفرة، أجنى أعين ضيق الجبهة، بخده خال أسود» وكذلك وصفه الطبري وغيره.
    ولما حضرته الوفاة أوصى لأخيه المعتصم من بعده، وعلل بعضهم أن الوصية كانت للمعتصم دون ابنه العباس بأن الثاني كان متغيبًا عنه ساعة وفاته.

  31. #31

    افتراضي

    الفصل الثالث
    المحنة وقضية خلق القرآن من 218ـ 231هـ
    تقديم
    هذه المسألة من المسائل التي أخذت من الوقت والجهد وشدة الجدال بين أرباب المذاهب الكلامية أكثر مما ينبغي لها، فقد سفكت بسببها دماء كثيرة وجرت من أجلها محن عظيمة وبلايا متتالية على العلماء في زمن المأمون والمعتصم، واشتد الأمر وغصت السجون بالمخالفين فيها القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود.
    وفي هذه المقدمة نود أن نقرأ قراءة متأنية في كتاب المحنة " للدكتور فهمي جدعان "
    فمن هو الدكتور فهمي جدعان؟.
    لا شك في أن الحديث عن المفكر والمبدع فهمي جدعان متشعب جداً، فهو واحداً من المفكرين العرب الليبراليين الذين تعاملوا مع الفلسفة بروح تجديدية منفتحة، وهو من الباحثين الجادين الذين لا يثيرون الجدل بكتاباتهم بقدر ما يثيرون الإعجاب ويدفعون إلى التأمل، حيث يمتلك القدرة على النفاذ إلى بواطن الأمور، وهو رائد من رواد التنوير وعملاق من عمالقة الثقافة العربية.
    والدكتور فهمي جدعان هو مفكر أردني من أصول فلسطينية، من مواليد سنة 1940م، في بلدة عين غزال الفلسطينية، درس الفلسفة في جامعة السوربون وحصل منها على شهادة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام سنة 1968م، عمل أستاذا للفلسفة والفكر الإسلامي في جامعة الكويت والجامعات الأردنية، وشغل منصب عميد البحث العلمي بالجامعة الأردنية، ونال عضوية مجلس إدارة معهد العالم العربي في باريس بالفترة من 1980 حتى 1984، له آراء جدلية حول الإسلام السياسي حاصل على جوائز عديدة، كما تم اختياره لعنوان الشخصية الفكرية لعام 2013 من قبل بعض المؤسسات الثقافية في بلده.
    من أهم إنجازاته وأعماله: أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، والمحنة – بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام، والطريق إلى المستقبل: أفكار – قوى للأزمنة العربية المنظورة، والماضي في الحاضر: دراسات في تشكلات ومسالك التجربة الفكرية العربية، ورياح العصر: قضايا مركزية وحوارات كاشفة، وفي الخلاص النهائي: مقال في وعود الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين، والمقدّس والحرية، وخارج السِّرب – بحث في النِسْوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية.
    فبعد أربع سنوات من البحث، قدم فهمي جدعان دراسته التي حملت عنوان "المحنة".. بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام، حيث صدرت عن دار الشروق بعمان – الأردن، ويقع كتاب المحنة في أربعمائة وثماني وأربعين صفحة، أتت من القطع المتوسط، قسمه المؤلف علي مقدمة ومدخل وخمسة فصول، عرض فيها وقائع محنة خلق القرآن في إطارها الزمني وتصاعدها حتى انتهائها علي يد الخلفة المتوكل ليثير البحث نقاشاً واسعاً بين المهتمين بالتاريخ الإسلامي ومحنة خلق القرآن والتي اُعتبرت إحدى أهم الجدليات في تراث المسلمين.
    والكتاب ملئ بالحوادث المتشابكة والمعقدة ويحوي قائمة طويلة من أسماء الإعلام بلغت (718) اسماً منها ما يذكر عشرات المرات، أما المراجع العربية فقد بلغت 164 مرجعا وبلغت المراجع غير العربية 27 مرجعا وقام بفهرسة لأسماء الفرق وأهل المقالات والمذاهب الإسلامية أو غير إسلامية وبلغت (45) فرقة منها ما ذكر عشرات المرات ولم يفهرس للاماكن وللآيات والأحاديث والأشعار.
    علاوة علي بحوثه الكثيرة نذكر منها : الكتاب والحكمة، والطريق الملك، ومعنى السلفية، والعالم بين حدين، ونظريات الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، والمعطيات المباشرة للإشكالية الإسلامية المعاصرة، ونظرة طائر": بانوراما الفلسفة العربية، والفارابي: مدخل إلى تجربة العلم والفعل عنده، وهوميروس عند العرب، والمرْكَب والمجاز، ونظر في التراث، وفكرة التقدم عند المفكرين العرب في القرن التاسع عشر، وابن خلدون في الفكر العربي الحديث، والإسلام وأوروبا: الثقة المفقودة، والإسلام وتحولات الحداثة، والمستقبل العربي في ضوء قيمة التواصل، وهواجس الأزمة وأحكام الفعل، والثقافة الكونية والنظم الثقافية العربية، والحضارة المعاصرة ومُشْكِل البدائل، والديمقراطية من منظور تنويري، وفي العدالة والشورى والديمقراطية، والسلفية: حدودها وتحولاتها، والطاعة والاختلاف بين الواجب وبين الحق في الإسلام، وأسئلة المستقبل، والحركات الإسلامية المعاصرة.. الخ..
    وفي هذا المقال نود أن نناقش موقف فهمي جدعان من المسائل الخطيرة التي وقعت في التاريخ الإسلامي ما سمى بقضية "خلق القرآن"، والتي كان ضحيتها عدد من رجال المجتمع فى العصر العباسي؛ خاصة في عصر الخليفة المأمون، على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، وهذا ما يناقشه كتابه "المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام" والصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر في مايو 1989م.
    ويبدو أن محاولة عرض كتاب ما " لا يمكن أن تقوم مقام قراءته " ولهذا غالباً ما يكون عرض كتاب يشكل صعوبة لا يسهل تذليلها، وإذ قمت بقراءة كتاب المحنة للمرة الثانية للقيام بمهمة عرضه، والإشارة إلى مواضيعه، فإنني أعترف صراحة: أنَّ عرض كتاب المحنة يكاد يكون مستحيلاً، لتماسك مادته، وشدة كثافتها، وما تثيره مادة الكتاب من طلب للبحث والاستقصاء خارج الكتاب، فهذه القراءة هي مجرد محاولة للدخول إلى الكتاب.
    ولذلك يرى فهمي جدعان أن قضية "محنة خلق القرآن" هي واحدة قضايا الفكر الإسلامي التاريخي القابعة في كهف الغرابة والليل الطويل، وأن النظر السديد يقضي بإزاحة الستار عن وجهها وبتجريد دلالتها البعيدة لا في إطارها العقيدي والتاريخي المعاصر لها فحسب، وإنما أيضاً في حدود بنية الفكر الديني والسياسي الذي يمد جذوره في عصور الإسلام الأولى وينشر فروعه في أعصرنا العربية والإسلامية الحديثة والمعاصرة. فكان ذلك مشروع هذا البحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام.
    وهذا الكتاب ليس كتابا، وإنما هو حيثيات قضية، هي قضية خلق القرآن، وتدوين تاريخي شامل لما حدث بسبب منها، تماما كما توثق القضايا في المحاكم، المراد من هذا التوثيق جعل القارئ قاضياً فاهماً عدلاً قادراً على الحكم ـ بعد اطلاعه على جميع أوراق القضية ـ فقضية محنة خلق القرآن جرت الكتابة فيها من قبل الحنابلة بداية فقط، ثم كتب فيها غيرهم، ومصدرهم أقوال الحنابلة، وكانوا ولا زالوا يسجلون الصراع على غير حقيقته، يزورون المقال ويـخفون الكثير من الأوراق، فمثلا لم يسأل واحد عن الزمن الذي جرى فيه القول بخلق القرآن، هل يعود القول بخلق القرآن إلى زمن المحنة أي : 218-232هـ أم أنه قبل ذلك بكثير، وإذا كان القول يعود إلى زمن قبل زمن المحنة بأكثر من قرن من الزمان على الأقل، فلماذا لم تحدث محنة فيه قبل ذلك ؟ فمدونة أهل الحديث (الحنابلة) تقول أنَّ أبا حنيفة ت 150هـ استتابة أصحابه من القول بخلق القرآن، والكتاب يقول بوجود صراع حول سورة المسد، لقد ورد في ترجمة عمرو بن عبيد المعتزلي المشهور في تـهذيب التهذيب وكانت وفاته 144هـ ما يلي : وقال أحمد بن إبراهيم الدورقي عن معاذ بن معاذ سمعت عمرو بن عبيد يقول : إن كان (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) في اللوح المحفوظ فما لله على ابن آدم حجة ! يقصد عمرو بن عبيد أنَّ السورة مخلوقة والبنية الفكرية لها دالة دلالة واضحة على خلقها. فما هي الحجة على أبي لـهب إنْ كان قد دُوِّنَ عليه: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) منذ الأزل؟ هل هناك واحد من المسلمين يعرف هذه الحقائق؟ ولماذا غابت هذه الحقائق؟. هذه الكتابة تعيد ربط أوراق القضية فقط في كل أزمانـها: قبل المحنة، ومع المحنة، وبعد المحنة. هذه هي خطة تدوين هذه القضية، وليس وضع كتاب فيها، لترك القارئ يواجه ملفا لا كتابا، لقد كلف جمع هذا الملف زمنا طويلا، إذ بدا العمل في هذا الملف قبل عام 1990 م، وهذا هو عام 2005 م وقد اكتملت جـمع كل الأوراق الضرورية، لـجعل القارئ يصدر الحكم في جهتين: جهة الموضوع ـ أي القول هو الحق؟ القول بخلق القرآن، أم القول بأزليته ـ والثانية هي التثبت من مقدار التزييف في المدونة التاريخية في مسار القضية، أما إعلان تبرئة المعتزلة من صنع المحنة، فقد تكفل به كتاب الدكتور فهمي جدعان ( الـمحنة جدلية الديني والسياسي ) وكتاب الدكتور جدعان أزال الستارة عن وجه المحنة، فمن الـممكن للقارئ الكريم الاطلاع على كتاب المحنة، ويستطيع ـ إن كان على عجل من أمره ـ أن يقرأ محاضرة بعنوان ( قراءة عجلى في كتاب المحنة ) في كتاب موسوعة جدل الأفكار القسم الأول من الجزء الثالث .ولسوف أثبت المحاضرة ولكنني بعد قراءتها اسميتها ( قراءة مـتأنية في كتاب المحنة ).
    لم يأت الكتاب ليؤرخ للمحنة أو ليعالج الوجه الكلامي الخالص أي ليجيب على مسألة خلق القرآن بالنفي أو الإثبات وإنما جاء الكتاب ليزيح الستارة عن وجه المحنة ويوجه الأنظار لدلالاتها السياسية ومن هنا أستمد موضوع الكتاب قيمته إذ يتجاوز البدا هات الخاطئة التي استقرت في الأذهان من مجرد نطق اسم أحمد بن حنبل أو المعتزلة أو خلق القرآن، إذ ما أن ينطق بها أيُ من الناس حتى تستدعي صورة حدث تاريخي درامي صورة احمد بن حنبل المحدث فقط وقد قطع حجة خصومة المشهورين بقوة الجدل والحجاج ولم يجْد هؤلاء الخصوم إلا أن يتحولوا إلى جلادين يمسكون السوط يلهبون جلد احمد بن حنبل وتشبع السياط من جلده دون أن يتزحزح عن موقفه قيد أنمله إذ هو ثابت كالطود الأشم ! . .ومما لا شك فيه أن الحديث عن المفكر والمبدع فهمي جدعان متشعب جداً، فهو واحداً من المفكرين العرب الليبراليين الذين تعاملوا مع الفلسفة بروح تجديدية منفتحة، وهو من الباحثين الجادين الذين لا يثيرون الجدل بكتاباتهم بقدر ما يثيرون الإعجاب ويدفعون إلي التأمل، حيث يمتلك القدرة علي النفاذ إلي بواطن الأمور، وهو رائد من رواد التنوير وعملاق من عمالقة الثقافة العربية.قال عنه الأستاذ جمال الدين فالح الكيلاني:" يربط المفكر العربي الدكتور فهمي جدعان الأفكار والتمثّلات الفلسفيّة في مشاغله كافة بمعين الوجدان، ونهر الحياة، وقوة الأمل، فهذه في نظره من المحدّدات التي يعوّل عليها من أجل تعبيد السبيل أمام الأجيال القادمة، والحيلولة دون إنتاج المزيد من الآفاق المسدودة. ويعتقد جدعان أنّ المثقف يحتاج، كي يفهم الواقع ويحلّله ويوجهه، إلى المفكر وأدواته العلميّة والفلسفيّة المنضبطة والضابطة؛ لأنّ التعويل يكون على «قول» المفكر، لا على «رغبة» المثقف. ويدافع جدعان، عن حتميّة البرمجة الوجدانيّة «الصحيّة»، النبيلة، النّزيهة لأبنائنا، اليوم وغدًا، ففي نظره أنّ غياب هذه القيم والمبادئ، التي ينبغي أن تقترن بها التربية الوجدانيّة المبكّرة، هو الذي يفسّر التدلّي والتخلف والعقم الذي يغلّف ويتلبّس هذه الأجيال المتأخرة من شعوبنا العربيّة".
    وفهمي جدعان ( مع حفظ الألقاب) هو مفكر أردني من أصول فلسطينية، من مواليد سنة 1940م، في بلدة عين غزال الفلسطينية، درس الفلسفة في جامعة السوربون وحصل منها على شهادة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام سنة 1968م، عمل أستاذا للفلسفة والفكر الإسلامي في جامعة الكويت والجامعات الأردنية، وشغل منصب عميد البحث العلمي بالجامعة الأردنية، ونال عضوية مجلس إدارة معهد العالم العربي في باريس بالفترة من 1980 حتى 1984، له آراء جدلية حول الإسلام السياسي حاصل على جوائز عديدة، كما تم اختياره لعنوان الشخصية الفكرية لعام 2013 من قبل بعض المؤسسات الثقافية في بلده.
    من أهم إنجازاته وأعماله : أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، والمحنة – بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام، والطريق إلى المستقبل: أفكار – قوى للأزمنة العربية المنظورة، والماضي في الحاضر: دراسات في تشكلات ومسالك التجربة الفكرية العربية، ورياح العصر: قضايا مركزية وحوارات كاشفة، وفي الخلاص النهائي: مقال في وعود الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين، والمقدّس والحرية، وخارج السِّرب – بحث في النِسْوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية.علاوة علي بحوثه الكثيرة نذكر منها : الكتاب والحكمة، والطريق الملك، ومعنى السلفية، والعالم بين حدين، ونظريات الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، والمعطيات المباشرة للإشكالية الإسلامية المعاصرة، ونظرة طائر": بانوراما الفلسفة العربية، والفارابي: مدخل إلى تجربة العلم والفعل عنده، وهوميروس عند العرب، والمرْكَب والمجاز، ونظر في التراث، وفكرة التقدم عند المفكرين العرب في القرن التاسع عشر، وابن خلدون في الفكر العربي الحديث، والإسلام وأوروبا: الثقة المفقودة، والإسلام وتحولات الحداثة، والمستقبل العربي في ضوء قيمة التواصل، وهواجس الأزمة وأحكام الفعل، والثقافة الكونية والنظم الثقافية العربية، والحضارة المعاصرة ومُشْكِل البدائل، والديمقراطية من منظور تنويري، وفي العدالة والشورى والديمقراطية، والسلفية: حدودها وتحولاتها، والطاعة والاختلاف بين الواجب وبين الحق في الإسلام، وأسئلة المستقبل، والحركات الإسلامية المعاصرة.. الخ..
    وهنا يذكر الدكتور نارت قاخون (الباحث في التاريخ الإسلامي):
    كتاب المحنة للدكتور فهمي جدعان هو نتاج سنوات من البحث في تجلية مسألة مهمة جدا مرتبطة بتاريخنا الإسلامي، وعنوانها " المحنة "، وقد صدر في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وتُلقي بقبول حسن عند جمهرة من الباحثين ولا سيما المختصين في الشأن الفكري.
    طرحت الدراسة أفكارا جديدة تنسق السائد والمتداولة حول محنة خلق القرآن وتقلب الطاولة على ما شاع في الحقل العلمي حول تلك المحنة من روايات رآها فهمي جدعان ضعيفة، اعتمدها الباحثون كنوع من الكسل العقلي والركون إلى السهل والمتداول..
    وعندما قام الدكتور فهمي جدعان حقيقة بدراسة قضية خلق القرآن دراسة نوعية، استطاع حقيقة أن يفكك كثيراً من الصور النمطية والنماذج النمطية التي تسود حول هذه المرحلة التاريخية والقضايا المحيطة بها، ولا سيما في عصر رواجان روايات تاريخية ودينية معينة ذات منظور ديني خاص، واتجاه ديني معين.

  32. #32

    افتراضي

    كان جدعان يري أن المعتزلة هم المتهمون حقيقة بهذه المحنة، وكانوا في تواطؤ مع السلطة، وهنا نجد جدعان يقول: لقد رد البحث المعاصر إلى المعتزلة قدراً عظيما من " الاعتبار" الذي يليق بهم. لا بل إن بعض الكتاب المفعمين بروح " العقلانية" قد أسرفوا في إسباغ الثناء والمديح عليهم حتى لقد تصور بعضهم ان النكبة التي لحقت بهم قريبا من منتصف القرن الثالث الهجري، وبعد ذلك، إنما كانت نكبة للإسلام نفسه آذنت بأفول العصر الذهبي له..

    وأنا أؤيد ما قاله فهمي جدعان؛ لا سيما وأن للمعتزلة لهم أصول خمسة، وهي التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. فأصل التوحيد لا شيء يشبه الله، فالله لا نظير له وهو الواحد الأحد بلا نظير ولا شريك.. والذين يقولون إن القرآن قديم والقرآن غير مخلوق.. هذا يعني أن القرآن يشترك مع الله في صفة معينة، وهي صفة القدم، فعندما تقول إن القرآن قديم، فقد أشركت بالله، والإشراك بالله عند المعتزلة معناه الكفر؛ وهنا نجد فهمي جدعان يقول:" ومن الثابت أن القول بالقرآن مخلوق يرجع إلى عهد بعيد جدا عن مبدأ "الامتحان" الذي شهره المأمون في عام 218 هـ، وأن القضية في مبدئها قضية " جهمية"، تجد أصداء قوية لها في بعض الأقوال المنسوبة إلي الإمام الشيعي جعفر الصادق (ت 148/765م) الذي يعزي إليه أنه أجاب عن السؤال: القرآن خالق أم مخلوق؟ بالقول ليس خالقا ولا مخلوقا، بل هو كلام الله.

    إذن المعتزلة لم يكونوا أول من قال بقضية خلق القرآن ولم يكونوا وحدهم، هنا حقيقة اتجاهات ومذاهب وأشخاص كان لهم حضور قالوا بأن القرآن مخلوق، فالمعتزلة هم جزء من مجموعة ومنظومة قالت بذلك، ولكن المعتزلة حقيقة هي التي قدمت الاستدلالات والحجج المتينة القوية والجدالات لتأسيس هذه القضية، مقارنة بالمذاهب أو الاتجاهات الأخرى التي كانت تتعرض للتضييق والمحاربة ؛ وهنا يقول الدكتور عبد الكريم الوريكات (الأستاذ بقسم أصول الدين بالجامعة الأردنية): إن فهمي جدعان يحاول ما استطاع أن يبعد هذه التهمة عن المعتزلة، لكن للأسف الشديد المحنة أكبر دليل علي قول المعتزلة وتبني المعتزلة وتأصيل المعتزلة بل وممارسة المعتزلة لهذه العقيدة بالقول والفعل؛ كما يقول حسن حنفي: إن قضية خلق القرآن ليس رأي المعتزلة وحدهم ولكنه رأي جميع فرق المعارضة حتي تسمح لنفسها بأن تعارض وأن تفسر وأن تفهم وأن تواجه السلطان بعلماء السلطان ومن ثم فهو رأي سياسي بالأصالة ...

    وهنا نجد فهمي جدعان يقول:" وحياة المأمون ملحمة من الملاحم مبدؤها الصراع علي الملك الذي كان بينه وبين أخيه محمد الأمين، وقد تفجر هذا الصراع حين أقدم الأمين على خلع المأمون وهو بخرسان والدعوة إلى نفسه في عام 195هـ. ونجح طاهر بن الحسين ذو اليمنيين، في قتل الأمين ، فبايع الناس خلع المأمون بالخلافة وتم ذلك في سنة 198هـ.

    من الملاحظ هنا جعل فهمي جدعان القسم الثاني من الفصل الأول مختصاً بتفسير العلاقة بين المعتزلة والخلفاء العباسيين الثلاثة المأمون والمعتصم والواثق.

    والمعتزلة الذين ثبت اتصالهم بهؤلاء الخلفاء أو بالمأمون على وجه التخصيص هم أهل الطبقة السادسة والسابعة من المعتزلة يأتي علي رأس هؤلاء ثمامة بن الأشرس (ت 213 هـ) ويليه أبو الهذيل محمد العلاف (ت 235 هـ) ثم أبو أسحق إبراهيم بن سيار النظام (ت 231 هـ) وأبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم (ت 225 هـ) وكذلك أبو موسى عيسى بن صبيح المردار راهب المعتزلة ت (226 هـ) وأستاذ الجعفرين: جعفر بن حرب وجعفر بن مبشر ولاستكمال صورة الروابط بين المعتزلة والمأمون لا بد من الإشارة إلى صلة هذا الخليفة بثلاثة رجال ينسبون كلهم،أو بعضهم إلى المعتزلة هم الجاحظ (ت 255 هـ) وبشر المريسي (ت 218 هـ) وأحمد بن أبي دؤاد (ت 240 هـ) وكتاب طبقات المعتزلة جعل أحمد بن دؤاد والجاحظ من الطبقتين السادسة والسابعة باستثناء بشر المريسي فلا علاقة له بالمعتزلة يقينا مع أن الدكتور جدعان لم يشر إلى ذلك .

    وكتاب المحنة يبين علاقة هؤلاء بالتفصيل مع المأمون من (ص 65- ص 98) من خلال العرض يتبين وخاصة العرض من خلال علاقة ثمامة والمأمون أن المأمون ليس معتزليا وهذا ما أكده الكتاب انظر (ص 65 – 69) وذلك حسب قول أمين نايف ذياب.

    أما القسم الثالث من الفصل الأول وهو آخر قسم في هذا الفصل فأنه مكرس لفحص علاقة أحمد بن أبي دؤاد في المحنة فأحمد بن دؤاد متقلدٌ أسمى مناصب الدولة منصب قاضي القضاة ومهام قاضي القضاة جسيمة أولها اختيار القضاة وعزلهم وبالتالي الإشراف على عملية فصل الخصومة سواء بين طرفين مشخصين أو بين طرف مشخص وآخر هو حق الطاعة أو حق الإسلام أو حق الأمة الإسلامية ولا بد من أن ينهض بأعباء وظيفة ولهذا كان لا بد من أن يكون المرجع في الامتحان، وإذ يقوم بذلك فإنما يقوم به حسب مذهبه.

    ويذهب الدكتور جدعان إلى أن ابن أبي دؤاد لم يكن متعطشاً للدم والسلطة والقسر، ولا شك انه كان ذا عرق نبيل أبي النفس كريماً، وليس أدل على ذلك من موقفه من أهل الكرخ حين رقق المعتصم حتى أطلق له مالاً قسمه على الناس، فضلاً عن مال عنده،ويخرج الدكتور جدعان في كتابه المحنة قائلاً " والمدقق في وقائع المحنة يتبين بوضوح أن أحمد بن أبي دؤاد كان يحاول دوماً التخفيف من حدتها والبحث عن الوسائل المجدية من أجل ذلك " وينفي الدكتور جدعان أية علاقة لأبي جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي (ت 240 هـ) والذي أعجب به المعتصم إعجابا شديداً فقدمه وأوسع عليه، ومع هذا فلا علاقة له بالمحنة ومع رحيل المعتصم سنة (227 هـ) وتولي الواثق (227- 232 هـ) لا يشك الدكتور جدعان أن علاقة احمد بن أبي دؤاد بالواثق هي نفس علاقته بالمعتصم أي علاقة الوظيفة لا غير، فلماذا يتحمل المعتزلة ولم يكونوا خلفاء الدولة، بل أن أكثرهم على عدم ولاء للدولة إلى حد القطيعة، والذين اتصلوا بخلفاء الدولة إنما اتصلوا بحكم الوظيفة، أو بحكم الإعجاب بهم . أو بحكم حضور جلسات الجدال في أيام المأمون، ولم يكن ما أصاب ابن أبي دؤاد وأهله من محن على يدي المتوكل، راجع إلا لأنهم كلهم سواء بالاهتمام بالحفاظ على سلطتهم السياسية وفي سبيلها ولا جلها يكون ما يظهر من مواقف عقدية، وذلك حسب قول أمين نايف ذياب..

    ويعنون فهمي جدعان الفصل الثاني ويستغرق الصفحات من (111- 187) وهو هنا يؤرخ للمحن كواقع تاريخي (المقصود بالمحنة امتحان الفقهاء والقضاء وأهل الحديث بل والشهود بمقولتهم في القرآن) ومن تعرض لمثل هذا الامتحان من الكثرة منهم من يذكر التاريخ ومنهم من لا يذكره فعلام ارتباط المحنة بأحمد بن حنبل دون غيره؟ مع أن المصادر التاريخية تجمع على أنه لم يجلد أكثر من (68) سوطاً على ثلاث فترات لقد استطاع الإعلام الحنبلي الميكافيلي أن يضخم صورة تلك المحنة بحيث ارتبطت بأحمد بن حنبل، والقارئ للمحنة (كما جمعها ابن عمه وتلميذة حنبل بن اسحق) يدرك الفجوات الواضحة والكثير في سياق هذه المحنة، وهذا وحده كاف كدعوة للدخول إلى دراسة دواعي المحنة ورجالها. أما الفصل الثالث في كتاب المحنة الذي يستغرق الصفحات من (187 – 263) وهي دراسة تركز على رسائل المأمون في محاولة لاكتشاف الدواعي من خلال الوعي على المعطى التي تقدمه تلك الرسائل ولاكتمال الصورة، وجه الكتاب النظر إلى الممتْحَنين من حيثُ واقعهم العقدي وواقعهم العملي، ولقد ركز المأمون في رسائله على بيان الصور القاتمة في واقعهم العملي، وقد بلغ عدد من توجهت الدراسة إليهم أربعون شخصاً يتوزعون على العراق والشام ومصر ويتوزعون من ناحية أخرى على أهل الحديث وأهل الرأي والفقهاء وواحد منهم هو عم الخليفة المدعو إبراهيم بن المهدي ليس من هؤلاء .

    وفي آخر الفصل الثالث يحاول الكتاب بناء صورة لفكر المأمون وعقيدته مع أن المادة المتيسرة لمثل هذه الدراسة قليلة ولا تفي بالغرض، ويتعرض من خلال الهامش ص (233- 235) لنظريات تفسر الدواعي التي أدت إلى قيام المأمون بجعل الإمام الثامن للشيعة الاثنا عشرية وليا لعهده، ويخرج الكتاب بصورة عقدية وفكرية وواقعية تخالف ما استقر في الأذهان عن المأمون وليس من وجاهة نقل صورة عن الممتحنين من مصادر تعد في موقع التحيز لهم.

    أما الفصل الرابع وهو أهم فصول الكتاب بل تعتبر الفصول السابقة مقدمة له والذي يعنونه الدكتور باسم تسويات لحساب التاريخ ص (267 – 290) فهو يكشف عن واقع دور المعتزلة في المحنة، معلناً أن لا علاقة للمعتزلة في هذه المحنة، ويكشف حقيقة أهل الحديث ـ وخاصة أبو مسهر الدمشقي وأحمد بن حنبل ـ وقيام سلطة لهم من خلال العامة موازية للسلطة، بل والتهديد الفعلي لها، وأنهم أصحاب هوى أموي، وقد شارك أبو مسهر بالذات في الثورة مع السفياني (195- 198 هـ) ورغم القضاء على ثورة السفياني ومرور عقدين عليها إلا أن المأمون يكشف عام (217 هـ) أثناء زيارة لدمشق استمرار الهوى الأموي فيها مما جعله يدرك الخطر، خطر أهل الحديث إدراكاً واقعياً ويشعر قارئ هذا الفصل بمقدار كبير من الإثارة، وذلك حسب قول أمين نايف ذياب .

    ويختم الكتاب في الفصل الخامس بعنوان جدلية الديني والسياسي ص (293 – 359) ليرى أن قضية المحنة محكومة بالصراع على سلطة، وهي هنا بالتأكيد الصراع بين الديني والسياسي، ولكن الدكتور لا يبين لنا الفروق الواضحة بين ما هو سياسي وبين ما هو ديني، وهل من الحكمة أن تتكون حدوداً فاصلة بين ما هو ديني وبين ما هو سياسي؟!؛ وذلك حسب قول أمين نايف ذياب. والذي سوف نعرض لقوله تفصيلاً فيما بعد.

  33. #33

    افتراضي

    إذ لا شك أن أحدهما يؤثر في الآخر على وجه ما، وإذا كانت غاية الديني الآخرة من خلال الالتزام بالدين، فإن غاية السياسي الإسلامي السلطوي الآخرة من خلال إحسان العمل السياسي، طبعا المقصود السياسي الراشد، لقد نقلنا الدكتور في كتابه القيم ضمن رحلة شيقة في التاريخ من خلال المراجعة للمحنة ومحاولة الوصول للأسباب المختفية وراءها وهذا ما يحاول الكتاب إبرازه وبيانه جلياً واضحاً لحساب التاريخ كما قرر الدكتور في مدخله.
    والفكرة المحورية التي أرادها فهمي جدعان في دراسته القيمة هذه هي بيان صراع السلطة السياسية مع سلطة موازية تعتمد على العامة هي سلطة الديني أي سلطة أهل الحديث خاصة. فهما أي السلطة السياسية والسلطة الدينية طرفاً المحنة ومع الإشارة للعلاقة ما بين ثورة السفياني (195- 198) وسلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للوقوف أمام الفوضى في بغداد أثناء صراع الخليفتين الأمين والمأمون، وإذ تتوجت أعمال أهل الحديث بثورة أحمد بن نصر الخزاعي ومقتله بيد الواثق على تلك الصورة سنة (231 هـ) انتهي خطر أهل الحديث، ولهذا أصبحت الأجواء مهيأة لإعلان الانقلاب والعودة لرأي أهل الحديث في المسائل العقدية التي آثارها المعتزلة وخاصة مسألة خلق القرآن ولهذا ما أن توفي الواثق حتى أعلن أخوه المتوكل قراره بمنع المناقشة والمجادلة في تلك المسألة وغيرها، مع إبقاء أحمد بن حنبل وهو من أهم مراكز الخطر على الدولة العباسية في حالة سجن شرف في سامراء دون تمكينه من العودة لتحديث العامة تلك التي شكلت قلقا دائماً للمأمون .
    والختام اللائق بهذا العرض القاصر عبارة أوردها الدكتور جدعان في بداية مدخله للكتاب إذ قال " وليس يخفى على أحد أن مسألة محنة خلق القرآن قد احتلت مكاناً فسيحاً في مصادرنا العربية وفي حياتنا الثقافية الاتباعية والحقيقة أن الذي بتابع الوقائع وينظر إليها من أجل الفهم فإن عليه أن يعد نفسه لحالة من الإعياء الشديدة.
    وأخيراً هل في فتح هذه المسألة من جدوى أو نفع لأحد والجواب؟ إن الضرورة تحتم فتح هذه المسألة ليس لإشكاليتها العقدية في موضوع العدل، ولأهميتها في موضوع التوحيد وليس لحساب التاريخ أيضاً بل لضرورتها كمشكلة لا تزال تثير الشقاق بين الفرق الإسلامية المتواجدة والموزعة على العالم العربي ولقد كانت هذه المشكلة محوراً من محاور التكفير للإباضية في رسالة من ابن باز لطالب عربي يدرس في الولايات المتحدة مما حدا بالشيخ أحمد الخليلي أن يقوم بإصدار كتاب يعالج المسائل الثلاث: الرؤية وخلق القرآن وخلود العصاة من زاوية خلافية.
    إنَّ الدليلَ على أنَّ المحنة، لم تكن من صنيع المعتزلة ـ رغم قول المعتزلة بخلق القرآن إجماعا ـ فأساس قول المعتزلة بخلق القرآن، بُني على أنـها مسألة من مسائل العدل، بينما هي عند الجبرية من مسائل التوحيد، والقارئ لنقاشات المحنة، يراها تدور حول التوحيد، أي حول انفراد الله بالخالقية، وحول علم الله الأزلي، وليس حول العدل، وهذا يكشف أنَ أيام المأمون، والمعتصم والواثق لم تكن زمناً اعتزالياً وإنما هو زمن عباسي، يرفض التشبيه، ويقبل الجبر ويمارس الجور أما في أيام المتوكل فهو يقبل التشبيه، والجبر، ويمارس الجور، ويزيد على ذلك ارتكاب الأعمال الحرام [ يقصد من ارتكاب الأعمال الحرام أعمال المتوكل نفسه في شربه المسكر وفي الأمة بممارسة سياسة الظلم في الرعية ] ويقيم سياسة غاية في السوء مع أهل الكتاب، ويقهر التفكير، ويمنع الجدل، ويهبط مستوى العلم، ويبدأ عصر استهانة العسكر التركي بالخلفاء وزيادة في التقرب للنواصب، يعمد إلى هدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام .
    ويعلن الدكتور فهمي منذ البداية في المدخل (ص 12) أنه يسير تماماً في الاتجاه المعاكس لمجرى التيار وذلك عند أمرين اثنين على الأقل.
    الأول: أنه نأى بالمعتزلة نأياً يشبه أن يكون تاماً عن عملية الامتحان التي نسبت إليهم وأنه يَرُدُّ الأمور إلى نصابها في هذا الشأن لحساب التاريخ، والثاني أنه يريد أن ينظر في مسألة المحنة كحالة تبين إبانة بينة عما يمكن أن تكون عليه صيغة العلاقة بين السلطة أو الأمر من وجه وبين الطاعة من وجه آخر في دولة هي دولة الخلافة لا شيء يحول اعتبارها أكمل ممثل تاريخي لما وصل إليه الملك في الإسلام. ويقتضي التاريخ التحفظ على المحور الثاني وخاصة اعتبار الخلافة المركزية الممثل التاريخي لما وصل إليه الملك في الإسلام إذ تتضمن هذه العبارة إسقاط المحور التاريخي المتمثل في العديد في المحاولات لإزاحة هذا الملك العضوض ومع أن الكتاب في فصله الثالث " الدواعي والرجال " يشير إلى بعض من هذه المحاولات ولكنه لا يربط هذه المحاولات في الأسس الفكرية التي يستند عليها.
    ومع أن الدكتور جدعان أعلن بداية انه غير معني ببحث الوجه العقدي في قضية خلق القرآن إلا أنه اضطر في المدخل الذي استغرق الصفحات من (11- 44) أن يتعرض للأقوال المتعددة في مسألة خلق القرآن متعرضاً للرأيين اللذين يستحيل التوفيق بينهما على وجه ما وعرض أربعة آراء أخرى تشكل مواقف متوسطة أساسية متوقفاً عند حدود العرض مما يجعل القارئ محتاراً لا يدري بعد أن ادخله الكتاب إلى صميم هذه المسألة ما رأي الدكتور في تلك المسألة، ولقصور حيثيات المسائل المعروضة يبقى القارئ في حالة من الفراغ حول هذه المسألة، إلاَّ القارئ الذي له موقف مسبق في هذه المسألة .

  34. #34

    افتراضي

    رأي المعاصرين من الخوارج
    بيان رأي الخوارج في مسألة القول بخلق القرآن، الذي لم يعد – ولله الحمد – يذكر على لسان أحد إلا في بطون الكتب وبين مدارسات العلماء.
    لقد ذكر علماء الفرق أن الخوارج قد قالوا بخلق القرآن واعتقدوه حقاً لا يمارى فيه بزعمهم، ولهم شبه واهية وتأويلات بعيدة، وفي ذلك يروي الأشعري أن الخوارج كلهم يقولون بأن القرآن مخلوق بإجماع منهم على هذا الحكم فيقول : "والخوارج جميعاً يقولون بخلق القرآن" .
    ويقول ابن جميع الإباضي في مقدمة التوحيد: " وليس منا من قال إن القرآن غير مخلوق".
    وقد بين الورجلاني الإباضي أدلتهم على خلق القرآن، وناقش فيه المخالفين لهم بقوله: "والدليل على خلق القرآن أن لأهل الحق عليهم أدلة كثيرة، وأعظمها استدلالهم على خلقه بالأدلة الدالة على خلقهم هم فإن أبوا من خلق القرآن أبينا لهم من خلقهم، وقد وصفه الله عز وجل في كتابه وجعله قرآناً عربياً مجعولاً ".
    ثم جاء بالأدلة وهي الآيات التي ذكر فيها نزول القرآن وهي كثيرة مثل قوله تعالى:
    ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ )القدر: 1، وقوله تعالى: ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ )الشعراء: 193، وقوله تعالى: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ )الدخان: 3، وغيرها من الآيات.
    ويقول الحارثي الإباضي في إثبات رأي الخوارج في القول بخلق القرآن أيضاً: " فعند المحققين من الإباضية أنه مخلوق إذ لا تخلو الأشياء إما أن تكون خالقاً أو مخلوقاً، وهذا القرآن الذي بأيدينا نقرؤه مخلوق لا خالق؛ لأنه منزل ومتلو وهو قول المعتزلة".
    وفيما يتعلق بموقف السلف في هذه القضية فإنهم يمتنعون عن وصف القرآن بما لم يوصف به على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ألسنة الصحابة من أنه مخلوق أو غير مخلوق.
    وفي هذا يقول ابن تيمية مبيناً رأي السلف في هذه المسألة: " وكما لم يقل أحد من السلف إنه مخلوق فلم يقل أحد منهم إنه قديم، لم يقل واحداً من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من الأئمة ولا غيرهم، بل الآثار متواترة عنهم بأنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله" (..
    ويقول ابن قدامة: " ومن كلام الله تعالى القرآن العظيم وهو كتاب الله المبين وحبله المتين، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود" (.
    وقد كفر كثير من علماء السلف من قال بخلق القرآن أورد منهم الأشعري عدداً كبيراً ثم قال: " ومن قال إن القرآن مخلوق وإن من قال بخلقه كافر، من العلماء وحملة الآثار ونقلة الأخبار لا يحصون كثرة ".
    ويقول أيضاً: " وقد احتججنا لصحة قولنا إن القرآن غير مخلوق من كتاب الله عز وجل، وما تضمنه من البرهان وأوضحه من البيان ولم نجد أحداً ممن تحمل عنه الآثار وتنقل عنه الأخبار ويأتم به المؤتمون من أهل العلم يقول بخلق القرآن، وإنما قال ذلك رعاع الناس وجهال من جهالهم ولا موقع لقولهم" (7) .
    ومثله ما أورده الدرامي والإمام أحمد بن حنبل من أقوال لعلماء السلف يكفرون فيها من قال بخلق القرآن) ، وهي أقوال كثيرة لا حاجة بنا إلى سردها هنا لأن مضمونها كما قلنا واحد، وهو إثبات القول بعدم خلق القرآن وتكفير من قال بخلقه.
    وأما احتجاج القائلين بخلق القرآن بقوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا )الزخرف: 3، أي خلقناه قرآناً عربياً؛ فهذا احتجاج باطل إذ أن جعل التي بمعنى خلق تتعدى إلى مفعول واحد، وهنا تعدت إلى مفعولين فهي ليست بمعنى خلق (9) .
    وينقض أيضاً احتجاجهم هذا قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف: 19].
    وكذا قوله تعالى: ( وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً )النحل: 91.
    فهل يصح جعل في هاتين الآيتين وأمثالهما بمعنى خلق، هذا لا يمكن ؛ فلو كانت جعل تأتي بمعنى خلق دائماً على ما قالوه لكان المعنى واضحاً وهو أن قريشاً خلقت الملائكة، وكذا الآية الأخرى وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً تعالى الله وتقدس اسمه !!.
    وأما الاحتجاج على خلقه بإنزاله، فإن هذا لا دلالة لهم فيه وذلك أن الإنزال أو النزول لا يعرف من إطلاقه على الحقيقة إلا أنه هبوط من مكان عال إلى مكان أسفل منه، وقد أثبت الله تعالى أن القرآن منزل منه تعالى بمعنى أنه تكلم به نبيه عليه الصلاة والسلام بواسطة جبريل عليه السلام الذي نزل به إلى قلب سيد المرسلين، وهذا هو الواضح والمعروف فيه.
    ولهذا فقد فهمه الصحابة ولم يبحثوا فيما وراءهم لعلمهم بأنه غير مقصود، ولكن الجهلة من المبتدعة القائلين بخلقه تجاوزوا هذا الأمر الواضح وتعسفوا النصوص على ما يوافق أهواءهم المنحرفة، مع أن النزول والتنزيل والإنزال في الحقيقة كما يقول العلامة ابن القيم: "مجيء الشيء أو الإتيان به من علو إلى أسفل، هذا المفهوم منه لغة وشرعاً ". ولا يلزم منه خلق المنزل فقد أسند النزول إلى الله عز وجل وهو قديم، كما وصفه به رسوله أنه ينزل إلى سماء الدنيا.
    وقد حاول علي يحيى معمر الإباضي أن يجعل الخلاف بين القائلين بخلق القرآن وبين النافين به خلافاً لفظياً، إذا أهمل جانباً التطرف- كما يقول – ويعني به أنه لما اشتد الجدل بين الطرفين في مسألة خلق القرآن انقسموا إلى فريقين " فتطرف جانب حتى زعم أن، المصاحف والحروف قديمة، وتطرف جانب آخر حتى نفى صفة الكلام عن الله تبارك وتعالى " .
    ويرى أن " يكفي أن يلتقي المسلمون على حقيقتين في هذا الموضوع، وهي أن الله تبارك وتعالى سميع بصير متكلم، وأن القرآن الكريم كلام الله عز وجل أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم ".
    ولا شيء فيما يريد علي معمر أن يجمع عليه الناس في هذه القضية، لولا أنه لم يوضح رأيه في خلق القرآن، بل اكتفى بالقول بأنه كلام الله أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو كذلك لولا أن الإباضية يستدلون على خلق القرآن بإنزاله، فلا يكفي إذا ما رآه كافياً للتوفيق بين القائلين بخلق القرآن أو إنزاله، وبين القائلين بعدم خلقه.
    هذا ولابد من الإشارة إلى أن بعض العلماء من الإباضية قد خرج عن القول بخلق القرآن، فصاحب (كتاب الأديان) وهو إباضي يرد على المعتزلة ويبطل قولهم بخلقه فيقول: " فإن عارض معارض واحتج بقول الله سبحانه: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا )السجدة: 4، فكل شيء بين السماء والأرض فهو مخلوق قلنا لهم: وقد قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ )الحجر: 85، فالحق الذي خلق به السموات والأرض وما بينهما هو كلامه وهو خارج عن الأشياء " (..
    ومن أئمة الإباضية القائلين بأن القرآن غير مخلوق أيضاً أبو النضر العماني فإنه كان ينكر ذلك القول إنكاراً شديداً وله قصيدة طويلة يرد بها على القائلين بخلق القرآن بلغت خمسة وسبعون بيتاً، وهي قصيدة جيدة فيها إبطال كل ما احتج به القائلون بخلقه، يقول في هذه القصيدة:
    يا من يقول بفطرة القـــرآن / جهلاً ويثبت خلقه بلســان
    لا تنحل القرآن منك تكلفـــاً / ببدائع التكليف والبهتـــان
    هل في الكتاب دلالة من خلقـه /أو في الرواية فاتنا ببيــان
    الله سماه كلاماً فادعـــــه / بدعائه في السر والإعــلان
    ألا فهات وما أظنك واجـــداً /في خلقه يا غر من برهان (14)
    ثم يشرع في الرد بالتفصيل مبيناً أن الجعل في قوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا )ليس نصاً صريحاً في الخلق،ثم استدل بدعاء إبراهيم الوارد في قوله تعالى: (رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا )[إبراهيم: 35]، وقوله (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ) [إبراهيم: 40]]... إلخ.
    وعلى كل حال فإن الخوارج لم يقتصروا على القول بخلق القرآن، بل كانت منه طائفتان أقدمتا على مالم يخطر على بال مسلم يؤمن بأن القرآن كله كلام الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأنه كله حق من فاتحته إلى خاتمته، لم يدخله باطل في كل آياته- لم يخطر هذا القول في حسبان مسلم يؤمن بالله رباً وبمحمد نبياً، فضلاً عن اعتقاده، هاتان الطائفتان هما العجاردة والميمونية فقد أنكرتا سورة يوسف، وادعتا بأنها ليست من القرآن، وحجتهم في هذا أن القرآن جاء بالجد، وسورة يوسف اشتملت على قصص الحب والعشق.
    وقد جزم كثير من العلماء بصحة ما نسب إلى الميمونية والعجاردة في هذا الاعتقاد، وإن كان الأشعري قد حكى عنهم هذا القول وهو غير جازم بصحته حيث قال: "وحكى لنا عنهم مالم نتحققه أنهم يزعمون – يعني العجاردة – أن سورة يوسف ليست من القرآن"..
    وتبعه الشهرستاني فذكر هذا القول على أنه قد حكي عنهم، ولكن عبد القادر بن شيبة الحمد. صاحب (كتاب الأديان) يقول عنهم: "وينكرون سورة يوسف أنها ليست من القرآن، ويقولون هي قصة من القصص خلافاً لأهل الاستقامة – يعني بهم الإباضية- يقولون: القرآن كله كلام الله" ..
    وكما قال الأشعري في العجاردة، قال في الميمونة، فحكى عنهم هذا القول وهو غير مثبت من صحته، ولكن البغدادي قد بين سند هذا القول إليهم بأنه من حكاية الكرابيسي وذلك في قوله: " وحكى الكرابيسي عن الميمونية من الخوارج أنهم أنكروا أن تكون سورة يوسف من القرآن، ومنكر بعض القرآن كمنكر كله"..
    ويزيد الشهرستاني في السند الكعبي والأشعري فيقول: " وحكى الكعبي والأشعري عن الميمونية إنكار كون سورة يوسف من القرآن " (. ويجزم صاحب كتاب (الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة) بأن ميموناً أنكر سورة يوسف أنها من القرآن، وذلك في قوله عنه: "وأنكر سورة يوسف أنها ليست من القرآن على قول عبد الكريم بن عجرد"20.

  35. #35

    افتراضي

    وما رأى المعتزلة المعاصرة في هذه القضية؟

    إنَّ الدليلَ على أنَّ المحنة، لم تكن من صنيع المعتزلة ـ رغم قول المعتزلة بخلق القرآن إجماعا ـ فأساس قول المعتزلة بخلق القرآن، بُني على أنـها مسألة من مسائل العدل، بينما هي عند الجبرية من مسائل التوحيد، والقارئ لنقاشات المحنة، يراها تدور حول التوحيد، أي حول انفراد الله بالخالقية، وحول علم الله الأزلي، وليس حول العدل، وهذا يكشف أنَ أيام المأمون، والمعتصم والواثق لم تكن زمناً اعتزالياً وإنما هو زمن عباسي، يرفض التشبيه، ويقبل الجبر ويمارس الجور أما في أيام المتوكل فهو يقبل التشبيه، والجبر، ويمارس الجور، ويزيد على ذلك ارتكاب الأعمال الحرام [ يقصد من ارتكاب الأعمال الحرام أعمال المتوكل نفسه في شربه المسكر وفي الأمة بممارسة سياسة الظلم في الرعية ] ويقيم سياسة غاية في السوء مع أهل الكتاب، ويقهر التفكير، ويمنع الجدل، ويهبط مستوى العلم، ويبدأ عصر استهانة العسكر التركي بالخلفاء وزيادة في التقرب للنواصب، يعمد إلى هدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام .
    لقد طالت المحنة الكثير من أهل الحديث، وبعض الفقهاء، وعم المأمون إبراهيم بن محمد المهدي، وكان حاذقاً بصنعة الغناء، ومعلوم أنه بويع بالخلافة من 202-204 هـ وقتل بسبب المحنة أحمد بن نصر الخزاعي، ومات محمد بن نوح أثناء حمله وأحمد إلى المأمون، ومات في السجن كل من : نعيم بن حماد، وأبي مسهر الدمشقي، وقد أجاب في المحنة كل الممتَحَنين أما أحمد فلم يُصَرِّحْ أثناءَ الامتحان بأن القرآن غير مخلوق، وإنما كان يعمد إلى المراوغة، ولم يكن الجلد [ الضرب ] بالصورة الدرامية، التي ينشرها جهلة اليوم، فقد كان مجموع ما جُلد أحمد على ثلاث مرات 68 جلدة في أغصان من الشجر فيها أوراقها وفي أخبار أوردها، حنبل بن اسحق بن حنبل ذكر أحمد خمسا وعشرين حديثا، من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، تحث على طاعة ولي الأمر وإن جار وظلم .
    كان للإعلام الحنبلي دور في تضخيم موقف أحمد، وإعطائه صورة درامية، والذي يقرأ أخبار المحنة يظن أنَّ الممتَحَنَ الوحيد هو أحمد، وللعباسية دور في هذا التضخيم، لتستفيد من موقف الطاعة للحكام، والتقوى به على الشيعة المتربصة آنذاك، بلغ من قوة الحنابلة أنْ منعوا دفن العالم الطبري المشهور في مقبرة بغداد، وتـهيأ الأمر لانقلاب الأشعري على المعتزلة، بتسويغات غير مقنعة.
    إذن المعتزلة لم يكونوا أول من قال بقضية خلق القرآن ولم يكونوا وحدهم، هنا حقيقة اتجاهات ومذاهب وأشخاص كان لهم حضور قالوا بأن القرآن مخلوق، فالمعتزلة هم جزء من مجموعة ومنظومة قالت بذلك، ولكن المعتزلة حقيقة هي التي قدمت الاستدلالات والحجج المتينة القوية والجدالات لتأسيس هذه القضية، مقارنة بالمذاهب أو الاتجاهات الأخرى التي كانت تتعرض للتضييق والمحاربة.
    قالوا: نحاول أن نتجنب لفظ مخلوق ـ مع سلامته وقناعتنا به لكونه لفظ قرآني ونستخدم مفهوم آخر وهو محدث فنصف القرآن بأنه محدث ـ عكس قديم ـ ومحدثه هو الله، وهذا المفهوم مستوحى من قول الله تعالى:
    (مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (الأنبياء: 2)
    (وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) (الشعراء: )
    حيث يدور السياق حول القرآن ووصف أثناءه بأنه (ذكر) و (محدث) بينما لم يوصف في الكتاب كله أبدا بأنه (قديم) ولا (أزلي) وكل من له إلمام بلسان العرب يعلم أن (محدث) عكس (قديم). فنفضل مفهوم (محدث) عند الحديث عن (الذكر) أي القرآن بدلا من مفهوم (مخلوق) مع سلامة المفهوم الأخير كذلك حيث أنه إذا لم يكن القرآن مخلوقا فهل هو الخالق؟ أم أن هناك صفة ثالثة بين المخلوق والخالق؟. ثلاثة أسماء غير مترادفة هي “بارئ” و” فاطر” و” خالق” يستخدمها العوام باعتبارها متطابقة في المعنى وهذا خطأ. بين هذه الكلمات الثلاث فروق دقيقة يعلمها الدارس لعلم الفيلولوجيا “فقه اللسان” ولا أريد الآن أن أتعرض لشرح تلك الفروق لكونها مبسوطة الشرح في كتب اللسانيات. إن ما يعنيني الآن هو لفت الانتباه إلى أن الفعل الماضي الثلاثي المجرد “خلق” ليس معناه الإيجاد من العدم المطلق. الإيجاد من العدم المطلق ممكن فقط بالنسبة للبارئ عز وجل. أما الخالق فهو الموجد من مادة أولية. لذلك نسب الله تعالى فعل “خلق” للإنسان كما في قوله تعالى:

    (… وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا …) (العنكبوت: 17)
    فجملة “تخلقون” تتكون من فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعل مبني على السكون في محل رفع. أما “إفكا” فهو مفعول به منصوب. أي أن هناك فاعل قام بالخلق وهذا الفاعل هو “الواو” والمقصود ضمير المخاطب الجمع أي “أنتم”. أضاف الله تعالى فعل “خلق” لفاعل غيره بينما يختص سبحانه وحده بفعل “برأ” وفعل “فطر” فالله سبحانه هو البارئ والفاطر والخالق والمصور. لما كان فعل “خلق” يدل على الحدوث ـ ومقابله هو القدم ـ استخدم علماؤنا الأوائل هذه الصفة “مخلوق” لوصف كلام الله تعالى. هذا الوصف وإن كان صحيحا إلا أنه غير لائق في هذا الموضع. لذلك تستخدم المعتزلة المعاصرة وصفا آخرا أكثر لياقة وأكثر قرآنية وهو وصف “محدث” ووصف “حديث” لكونهما مفهومين قرآنيين خالصين. يقول الله تعالى:
    (وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) (الشعراء: 5)
    (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر: 23)
    لا نصف الذكر المبين إذن بوصف “مخلوق” ولكننا نصفه فقط بوصف “محدث” ومشتقاته لأن الله تعالى وصفه بهذا الوصف. هذا بالنسبة للتسمية.
    هل تدخل مسألة “حدوث” القرآن في أبواب “التوحيد” فقط؟
    الشائع عند من لا ينتهجون النهج الإعتزالي أن تلك المسألة تدخل فقط في أبواب التوحيد وهذا صحيح إلى حد ما. لكن الأصح هو أن مسألة “حدوث” القرآن تدخل في أبواب العدل: لماذا؟.
    يبحث المعتزلة في باب العدل كل ما له علاقة بأفعال الله تعالى، وكلام الله تعالى محدث ـ كما ينص القرآن على ذلك ـ ومن ثم يعتبر كلام الله تعالى فعلا من أفعال الله ولذلك نبحث هذه المسألة ـ أساسا ـ في باب العدل. أفعال الله كلها مقسطة وحكيمة ورحيمة، والقرآن كلام الله، وكلام الله فعل من أفعال الله، لذلك فإن القرآن كله حكمة ورحمة وقسط. أما كلام البشر فقد يخلو من الحكمة والإنصاف بل غالبا ما يخلو منهما.
    إن القرآن الكريم هو كتاب الله المتلو والكون الكبير هو كتاب الله المنظور كلاهما “فعل” حكيم من أفعال الله يدل على عدله جل وعلا. أما لو قلنا أن القرآن غير محدث وأنه “قديم” يخرج بنا نطاق الحديث من باب “العدل” إلى باب “التوحيد” وهذه طريقة الأشاعرة وليست طريقة المعتزلة.
    من هذا المنطلق ورط الأشاعرة أنفسهم مع النصارى حينما نسبوا لله تعالى ما يسمى بالصفات النفسية ـ ما تسميه الأشاعرة صفات نفسية يطلق عليه المعتزلة صفات الذات ـ فجعلوا “الكلام” من الصفات النفسية “القديمة”. بناءا على كلامهم فإن كلام الله قديم، وعيسى بن مريم عليه السلام كلمة الله، ومن ثم فهو قديم. هكذا ورط الأشاعرة أنفسهم بسبب تخبط المفاهيم لديهم أما المعتزلة فليسوا معنيين أبدا بقضية قدم عيسى من حدوثه لأن القضية محسومة عندهم منذ البداية: نحن نبحث مسألة “الكلام” ضمن إطار العدل وليس ضمن إطار التوحيد، والكلام ـ عندنا ـ صفة “فعل” وليس صفة “ذات” وأفعال الله تعالى كلها حادثة، وكلام الله فعل لله ومن ثم يصبح كلام الله حادثا، وعيسى بن مريم كلمة الله الحادثة فيوصف عيسى بالتالي بأنه حادث وليس قديما.
    ولقد تعرض كثير من العلماء والأئمة على مر تاريخ الدعوة الإسلامية إلى كثير من المحن عبر القرون، بعضهم تم رفض أفكاره، ورغم ما يلقونه اليوم من مكانة فقهية كبيرة، إلا أن هؤلاء الأئمة تعرضوا للظلم ومحن وصلت إلى حد الطرد والنفي والتكفير، من بعض الجهلاء الذين لم يذكرهم التاريخ بشيء سوى تعصبهم الأعمى.
    خذ عندك مثلا:
    الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، أحد أشهر علماء الحديث، وصاحب صحيح البخاري، إذ ولد في بخاري في 20 يوليو عام 810م، وواجه ذلك الإمام الذي ينظر إليه نظرة إجلال تقديرا لما قام به من جمع أحاديث النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، العديد من المحن التي كانت سببا في طرده من مدينته ومسقط رأسه وتكفيره.
    محنة البخاري في نيسابور:
    بدأ البخاري في طلب الحديث وهو دون العاشرة، فسمع من مشايخ بلده، ثم خرج في رحلة علمية طويلة لسماع الحديث، وطلب العلم؛ فطاف البلاد، ودخل العواصم، والتقى مع آلاف الشيوخ، ولم يترك بقعة من بقاع العالم الإسلامي المعروفة بالعلم والحديث إلا زارها ودخلها، فطاف خراسان كلها، ودخل العراق؛ فزار بغداد والبصرة الكوفة مرات كثيرة، ودخل الشام والحجاز واليمن ومصر، وكان كلما دخل بلدًا انهال عليه الآلاف من أهلها من طلبة العلم وغيرهم للاستفادة من علمه الغزير، وأدبه الوفير، وسمته وهديه، وكان الناس يستقبلونه استقبال الملوك والخلفاء والعظماء، ويبالغون في تعظيمه وتبجيله واحترامه.
    وبدأت فصول محنة البخاري عندما توجه إلى مدينة نيسابور؛ وهي من المدن الكبيرة في خراسان؛ فلما وصل إليها خرج إليه أهلها عن بكرة أبيهم، فلقد استقبله أربعة آلاف رجل ركبانًا على الخيل، سوى من ركب بغلا أو حمارًا، وسوى الرجالة، وخرج الولاة والعلماء كافة لاستقباله قبل أن يصل المدينة بمرحلتين أو ثلاثة -قرابة المائة كيلومتر مربع-، وبالغوا في إكرامه بصورة لم تكن لأحد قبل، ولا حتى بعده.
    ومن روعة الاستقبال، وعظيم التقدير والاحترام الذي وجده البخاري بنيسابور قرر المقام فيها لفترة طويلة، واتخذ فيها دارًا، وأخذ علماء نيسابور في حض طلبة العلم على السماع من البخاري، وكان رأس علماء نيسابور وقتها الإمام محمد بن يحيى الذهلي، وكان رأسًا متبوعًا مطاعًا، ليس في نيسابور وحدها، بل في خراسان كلها، الناس يطيعونه أكثر من طاعتهم للخليفة والوالي، وكان الذهلي ممن حض الناس على الجلوس للبخاري، وحضور مجالسه ودروسه، والذهلي نفسه كان ممن استفاد كثيرًا من البخاري، حتى إنه كان يمشي خلف البخاري في الجنائز يسأله عن الأسماء والكني والعلل، والبخاري يمر فيها مثل السهم.

  36. #36

    افتراضي

    ومع استقرار البخاري في نيسابور أخذت مجالس التحديث تخلو شيئًا فشيئًا من طلاب الحديث لصالح مجلس البخاري، حتى ظهر الخلل في مجلس كبير علماء نيسابور محمد بن يحيى الذهلي نفسه، عندها تحركت النوازع البشرية المركوزة في قلوب الأقران، فدب الحسد في قلب الذهلي، وتسللت الغيرة المذمومة إلى نفسه شيئًا فشيئًا، حتى وصل الأمر به لأن يخوض في حق البخاري، ويتكلم فيه، ويرميه بتهمة هو بريء منها، فما هذه التهمة يا ترى التي كانت سبب محنة البخاري؟!.

    هذه التهمة هي تهمة اللفظية؛ وهي تعني قول القائل:
    أن لفظي بالقرآن مخلوق، فقد قال - يعني الذهلي - لأصحاب الحديث إن البخاري يقول: اللفظ بالقرآن مخلوق فامتحنوه في المجلس، فلما حضر الناس مجلس البخاري قام إليه رجل فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن: مخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجب، فأعاد الرجل السؤال ثلاث مرات، فالتفت إليه البخاري، وقال القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة، أي أن البخاري قد أدرك مغزى السؤال، وعلم أنه من جنس السؤالات التي لا يراد بها وجه الله عز وجل، وإنما يراد بها امتحان العلماء، وإثارة الفتن والفرقة بين الناس، فشغب الرجل السائل على مجلس البخاري؛ فقام البخاري من مجلسه، وجلس في منزله.
    ولعل البعض لا يدري ما المراد بمسألة اللفظية هذه؛ لذلك يحسن أن نبين معناها في عجالة؛ ذلك أنه خلال فتنة القول بخلق القرآن، وامتحان الخلفاء: المأمون والمعتصم والواثق للناس فيها، التبس الأمر على بعض الناس؛ فتوقف البعض في المسألة، وقال البعض الآخر أن لفظنا بالقرآن مخلوق، وكان أول من قال أن اللفظ بالقرآن مخلوق هو الفقيه الكرابيسي؛ فأنكر عليه الإمام أحمد بشدة، واعتبره من قبيل البدع، وسبيلا للتجهم والاعتزال، وقال الإمام أحمد: من قال القرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: القرآن كلام الله ولا يقول: غير مخلوق ولا مخلوق فهو واقفي، ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع، فرد الفقيه الكرابيسي وأوضح المسألة فقال: تلفظك بالقرآن: يعني غير الملفوظ من باب أن أفعالنا مخلوقة، ومع ذلك أنكر الإمام أحمد عليه هذه المقولة، وذهب إلى أن يعرض الإنسان عن هذه الكلمة بالكلية حتى لا تفتح بابًا للتجهم والابتداع في الدين.
    والخلاصة أن مسالة اللفظ يراد بها أمران: أحدهما الملفوظ نفسه؛ وهو غير مقدرو للعبد، ولا فعل له فيه، والثاني التلفظ به، والأداء له، وهو فعل العبد، فإطلاق الخلق على اللفظ قد يوهم المعنى الأول، وهو خطأ، وإطلاق نفي الخلق عليه قد يوهم المعنى الثاني، وهو خطأ أيضًا، فمنعا الإطلاقين، أما إذا فصَّل القائل في المسألة، وفرق بين اللفظ والملفوظ فقال: إن الملفوظ هو كلام الله عز وجل، والمتلو هو القرآن المسموع بالآذان وبالأمراء من فم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهي حروف وكلمات وسور وآيات، تلاه جبريل وبلَّغه جبريل عن الله تعالى، وهو صفة من صفات الله، وبالتالي الملفوظ غير مخلوق، أما لفظ العباد وأصواتهم وحركاتهم وأداؤهم كل ذلك مخلوق لله، بائن عنه، فهذا حق وصواب تمامًا لا مرية فيه، وهذا ما كان يقول به البخاري.
    بعد هذه الحادثة أخذ الذهلي في التشنيع على البخاري، واتهمه بالتجهم، وقال: قد أظهر البخاري قولة اللفظية، واللفظية عندي شر من الجهمية، ومن ذهب بعد إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه، ثم تمادى الذهلي في التشنيع والهجوم على البخاري، ونادى عليه في الناس، ومنع طلبة الحديث من الجلوس إليه، ثم ألزم كل من يحضر مجلسه إلا يجلس للبخاري؛ فقال يومًا: ألا من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا، وكان في المجلس وقتها الإمام الكبير مسلم بن الحجاج، وأحمد بن سلمة، فقام الاثنان من مجلس الذهلي، وهذا الأمر جعل الذهلي يزداد في هجومه على البخاري، ويصل لأعلى درجات الغلو والغيرة المذمومة؛ إذ قال بعد حادثة خروج الإمام مسلم من مجلسه: لا يساكنني هذا الرجل: (يعني البخاري) في البلد، وأخذ الجهال والسفهاء يتعرضون للبخاري في الطريق: يؤذونه بالقول والفعل؛ مما اضطر معه البخاري في النهاية إلى أن يخرج من البلد.
    وبالنظر لما قام به الذهلي بحق البخاري نجد أن الذهلي قد تدرج في التشنيع والهجوم على الإمام البخاري للوصول لغاية محددة منذ البداية: ألا وهي إخراج البخاري من نيسابور حسدًا منه على مكانة البخاري العلمية، وحتى لا ينسحب بساط الرياسة العلمية منه لصالح البخاري، وهذا ما فهمه البخاري منذ البداية، وقاله لتلامذته، ومن سأله عن هذه النازلة، فهذا تلميذه محمد بن شاذل يقول: دخلت على البخاري لما وقع فيه محمد بن يحيى فقلت: يا أبا عبد الله، إيش الحيلة لنا فيما بينك وبين محمد بن يحيى، كل من يختلف إليك يطرد، فقال البخاري: كم يعتري محمد بن يحيى الحسد في العلم، والعلم رزق الله يعطيه من يشاء، وقال أحمد ابن سلمة: دخلت على البخاري فقلت: يا أبا عبد الله هذا رجل مقبول بخراسان خصوصًا في هذه المدينة، وقد لج في هذا الحديث حتى لا يقدر أحد منا أن يكلمه فيه؛ فما ترى؟! فقبض البخاري على لحيته ثم قرأ: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [غافر: 44]، اللهم إنك تعلم أني لم أرد المقام بنيسابور أشرًا ولا بطرًا، ولا طلبًا للرياسة، وقد قصدني هذا الرجل [يقصد الذهلي] حسدًا لما أتاني الله لا غير، ثم قال لي: يا أحمد إني خارج غدًا لتتخلصوا من حديثه لأجلي، فقال أحمد بن سلمة: فأخبرت جماعة من أصحابنا بخروج الإمام، فوالله ما شيعه غيري، وكنت معه حين خرج من البلد.
    وبالفعل خرج البخاري من نيسابور، واتجه إلى مرو من أعمال خراسان ليواصل رحلته العلمية، فإذا بالذهلي يواصل هجومه الشرس على البخاري، حتى بعد خروجه من نيسابور: حيث أخذ في الكتابة لسائر بلاد ومدن خراسان يحذرهم من البخاري، وأنه يتبنى قول اللفظية، وقد آتت هذه الحملة أكلها؛ فكلما توجه البخاري إلى بلد في خراسان؛ وجد الناس ثائرين عليه، وكُتُبُ الذهلي في حقه تنهال على علماء المدن وأمرائها فتوغر الصدور، وتحرك الشكوك، وتسيء الظنون، حتى وصلت حدة الحملات التشويهية ضد البخاري لأن يقدم رجلان من أكبر علماء الرجال في الحديث: وهما أبو حاتم، وأبو زرعة على أن يقولا: إن البخاري متروك، ولا يكتبا حديثه بسبب مسألة اللفظ، وسبحان الله لا أدري كيف أقدم أبو حاتم وزرعة على مثل هذه المقولة؟ وكيف تجاسرا عليها؟ والبخاري حامل لواء الصناعة، ومقدم أهل السنة والجماعة، والبخاري أعلى منهما كعبًا في كل باب في الحديث والفقه والحفظ، قال الذهبي في السير: كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة، أو لمذهب، أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين.
    وكان البخاري يؤكد في كل مكان أنه لم يقل أن لفظه بالقرآن مخلوق؛ فعندما سأله الحافظ أبو عمرو الخفاف عن هذه المسألة؛ فقال له: يا أبا عمرو احفظ ما أقول لك: من زعم من أهل نيسابور وقومي والري وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والبصرة ومكة والمدينة أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذلك؛ فإني لم أقله، إلا أني قلت: أفعال العباد مخلوقة، ومعنى هذا التصريح أن الذهلي الذي خاض في حق البخاري، وشوه سيرته ومكانته قد بني حملته على البخاري على لازم قول البخاري أن الأفعال مخلوقة، فقال الذهلي: أن البخاري يقول إن ألفاظنا من أفعالنا، وأفعالنا مخلوقة، وإذا هو يقول إن لفظي بالقرآن مخلوق، ولازم القول ليس بلازم كما هو مذهب جمهور المحققين من العلماء إلا إذا التزمه صاحب القول: أما إذا نفاه وتبرأ منه فلا يلزمه، ولا يشنع عليه بسببه، قال الذهبي: ونعوذ بالله من الهوى والمراء في الدين، وأن نكفر مسلمًا موحدًا بلازم قوله، وهو يفرق ذلك اللازم، وينزه ويعظم الرب، لذلك كان البخاري، ينفي في كل موطن هذه التهمة عن نفسه، ويتبرأ منهما.
    لكن الناس لم يكن يعجبها كلام البخاري، وظل في رأيهم أنه خارج عن الدين، ووجب طرده من المدينة، وهو ما دفع الإمام البخاري للخروج من نيسابور إلى بلده الأصلية "بخارى" من دون أن يودعه إلا شخص واحد، وقد ظل ثلاثة أيام خارج أسوار المدينة يرتب أغراضه التي خرج بها على عجل، استعدادا للرجوع إلى بلده الأم.
    وقيل أنه عند دفنه لم يصل عليه سوى ثلاثة فقط هم: الدفان وابنه ورجل ثالث ليس من أهل البلدة وليس عليه أثار السفر، قيل أنه جبريل عليه السلام.
    وهكذا نرى كيف كانت فصول محنة البخاري وهي كما قال الذهبي رحمه الله لا يسلم منها عصر من الأعصار، فهي كانت وما زالت قائمة ومتواجدة، بل هي الآن على أشدها؛ فكم من عالم وداعية خاض الحاسدون، وعشاق التصنيف، وأنصار الحزبية في حقه، وردوه بكل قبيح، ونسبوا إليه ما هو منه براء، لا لشيء إلا حسدًا من عند أنفسهم على حب الناس له، والتفافهم حوله، وكم عالم وداعية راح ضحية هذه التشنيعات، حتى ضاع ذكره وخبره تحت أمواج الوشايات والأباطيل التي ملأت الأسماع، وأوغرت الصدور، وشحنت النفوس، حتى أصبح مجرد ذكر اسم هذا العالم أو الداعية مدعاة للطعن والشك والريب.
    والخلاصة أنها قصة جديدة قديمة، وفصولها كلها محزنة أليمة، والسالم من سلَّمه الله، والمعصوم من عصمه الله، وقليل ما هم.
    المصادر والمراجع:
    سير أعلام النبلاء (12/ 391)./ تاريخ بغداد (2/ 4)./البداية والنهاية (11/ 27)./ الكامل في التاريخ (6/ 228)./ صفة الصفوة (2/ 345)./ وفيات الأعيان (4/ 188)./ تذكرة الحفاظ (2/ 555)./ النجوم الزاهرة (3/ 25)./شذرات الذهب (3 /25)./طبقات الشافعية الكبرى (2 / 212).
    مقدمة فتح الباري (501)./الإمام البخاري للدكتور/ يوسف الكتاني./تراجم أعلام السلف (399)./ترويض المحن – دراسة تحليلية لأهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 ه، 2009م

    وأخيراً هل في فتح هذه المسألة من جدوى أو نفع لأحد والجواب؟ إن الضرورة تحتم فتح هذه المسألة ليس لإشكاليتها العقدية في موضوع العدل، ولأهميتها في موضوع التوحيد وليس لحساب التاريخ أيضاً بل لضرورتها كمشكلة لا تزال تثير الشقاق بين الفرق الإسلامية المتواجدة والموزعة على العالم العربي ولقد كانت هذه المشكلة محوراً من محاور التكفير للإباضية في رسالة من ابن باز لطالب عربي يدرس في الولايات المتحدة مما حدا بالشيخ أحمد الخليلي أن يقوم بإصدار كتاب يعالج المسائل الثلاث: الرؤية وخلق القرآن وخلود العصاة من زاوية خلافية.

  37. #37

    افتراضي

    توطئة
    قراءة متأنية في كتاب المحنة " للدكتور فهمي جدعان "

    من هو الدكتور فهمي جدعان؟.
    لا شك في أن الحديث عن المفكر والمبدع فهمي جدعان متشعب جداً، فهو واحداً من المفكرين العرب الليبراليين الذين تعاملوا مع الفلسفة بروح تجديدية منفتحة، وهو من الباحثين الجادين الذين لا يثيرون الجدل بكتاباتهم بقدر ما يثيرون الإعجاب ويدفعون إلى التأمل، حيث يمتلك القدرة على النفاذ إلى بواطن الأمور، وهو رائد من رواد التنوير وعملاق من عمالقة الثقافة العربية.
    والدكتور فهمي جدعان هو مفكر أردني من أصول فلسطينية، من مواليد سنة 1940م، في بلدة عين غزال الفلسطينية، درس الفلسفة في جامعة السوربون وحصل منها على شهادة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام سنة 1968م، عمل أستاذا للفلسفة والفكر الإسلامي في جامعة الكويت والجامعات الأردنية، وشغل منصب عميد البحث العلمي بالجامعة الأردنية، ونال عضوية مجلس إدارة معهد العالم العربي في باريس بالفترة من 1980 حتى 1984، له آراء جدلية حول الإسلام السياسي حاصل على جوائز عديدة، كما تم اختياره لعنوان الشخصية الفكرية لعام 2013 من قبل بعض المؤسسات الثقافية في بلده.
    من أهم إنجازاته وأعماله: أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، والمحنة – بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام، والطريق إلى المستقبل: أفكار – قوى للأزمنة العربية المنظورة، والماضي في الحاضر: دراسات في تشكلات ومسالك التجربة الفكرية العربية، ورياح العصر: قضايا مركزية وحوارات كاشفة، وفي الخلاص النهائي: مقال في وعود الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين، والمقدّس والحرية، وخارج السِّرب – بحث في النِسْوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية.
    فبعد أربع سنوات من البحث، قدم فهمي جدعان دراسته التي حملت عنوان "المحنة".. بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام، حيث صدرت عن دار الشروق بعمان – الأردن، ويقع كتاب المحنة في أربعمائة وثماني وأربعين صفحة، أتت من القطع المتوسط، قسمه المؤلف علي مقدمة ومدخل وخمسة فصول، عرض فيها وقائع محنة خلق القرآن في إطارها الزمني وتصاعدها حتى انتهائها علي يد الخلفة المتوكل ليثير البحث نقاشاً واسعاً بين المهتمين بالتاريخ الإسلامي ومحنة خلق القرآن والتي اُعتبرت إحدى أهم الجدليات في تراث المسلمين.
    والكتاب ملئ بالحوادث المتشابكة والمعقدة ويحوي قائمة طويلة من أسماء الإعلام بلغت (718) اسماً منها ما يذكر عشرات المرات، أما المراجع العربية فقد بلغت 164 مرجعا وبلغت المراجع غير العربية 27 مرجعا وقام بفهرسة لأسماء الفرق وأهل المقالات والمذاهب الإسلامية أو غير إسلامية وبلغت (45) فرقة منها ما ذكر عشرات المرات ولم يفهرس للاماكن وللآيات والأحاديث والأشعار.
    علاوة علي بحوثه الكثيرة نذكر منها : الكتاب والحكمة، والطريق الملك، ومعنى السلفية، والعالم بين حدين، ونظريات الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، والمعطيات المباشرة للإشكالية الإسلامية المعاصرة، ونظرة طائر": بانوراما الفلسفة العربية، والفارابي: مدخل إلى تجربة العلم والفعل عنده، وهوميروس عند العرب، والمرْكَب والمجاز، ونظر في التراث، وفكرة التقدم عند المفكرين العرب في القرن التاسع عشر، وابن خلدون في الفكر العربي الحديث، والإسلام وأوروبا: الثقة المفقودة، والإسلام وتحولات الحداثة، والمستقبل العربي في ضوء قيمة التواصل، وهواجس الأزمة وأحكام الفعل، والثقافة الكونية والنظم الثقافية العربية، والحضارة المعاصرة ومُشْكِل البدائل، والديمقراطية من منظور تنويري، وفي العدالة والشورى والديمقراطية، والسلفية: حدودها وتحولاتها، والطاعة والاختلاف بين الواجب وبين الحق في الإسلام، وأسئلة المستقبل، والحركات الإسلامية المعاصرة.. الخ..
    وفي هذا المقال نود أن نناقش موقف فهمي جدعان من المسائل الخطيرة التي وقعت في التاريخ الإسلامي ما سمى بقضية "خلق القرآن"، والتي كان ضحيتها عدد من رجال المجتمع فى العصر العباسي؛ خاصة في عصر الخليفة المأمون، على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، وهذا ما يناقشه كتابه "المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام" والصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر في مايو 1989م.
    ويبدو أن محاولة عرض كتاب ما " لا يمكن أن تقوم مقام قراءته " ولهذا غالباً ما يكون عرض كتاب يشكل صعوبة لا يسهل تذليلها، وإذ قمت بقراءة كتاب المحنة للمرة الثانية للقيام بمهمة عرضه، والإشارة إلى مواضيعه، فإنني أعترف صراحة: أنَّ عرض كتاب المحنة يكاد يكون مستحيلاً، لتماسك مادته، وشدة كثافتها، وما تثيره مادة الكتاب من طلب للبحث والاستقصاء خارج الكتاب، فهذه القراءة هي مجرد محاولة للدخول إلى الكتاب.
    ولذلك يرى فهمي جدعان أن قضية "محنة خلق القرآن" هي واحدة قضايا الفكر الإسلامي التاريخي القابعة في كهف الغرابة والليل الطويل، وأن النظر السديد يقضي بإزاحة الستار عن وجهها وبتجريد دلالتها البعيدة لا في إطارها العقيدي والتاريخي المعاصر لها فحسب، وإنما أيضاً في حدود بنية الفكر الديني والسياسي الذي يمد جذوره في عصور الإسلام الأولى وينشر فروعه في أعصرنا العربية والإسلامية الحديثة والمعاصرة. فكان ذلك مشروع هذا البحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام.
    وهذا الكتاب ليس كتابا، وإنما هو حيثيات قضية، هي قضية خلق القرآن، وتدوين تاريخي شامل لما حدث بسبب منها، تماما كما توثق القضايا في المحاكم، المراد من هذا التوثيق جعل القارئ قاضياً فاهماً عدلاً قادراً على الحكم ـ بعد اطلاعه على جميع أوراق القضية ـ فقضية محنة خلق القرآن جرت الكتابة فيها من قبل الحنابلة بداية فقط، ثم كتب فيها غيرهم، ومصدرهم أقوال الحنابلة، وكانوا ولا زالوا يسجلون الصراع على غير حقيقته، يزورون المقال ويـخفون الكثير من الأوراق، فمثلا لم يسأل واحد عن الزمن الذي جرى فيه القول بخلق القرآن، هل يعود القول بخلق القرآن إلى زمن المحنة أي : 218-232هـ أم أنه قبل ذلك بكثير، وإذا كان القول يعود إلى زمن قبل زمن المحنة بأكثر من قرن من الزمان على الأقل، فلماذا لم تحدث محنة فيه قبل ذلك ؟ فمدونة أهل الحديث (الحنابلة) تقول أنَّ أبا حنيفة ت 150هـ استتابة أصحابه من القول بخلق القرآن، والكتاب يقول بوجود صراع حول سورة المسد، لقد ورد في ترجمة عمرو بن عبيد المعتزلي المشهور في تـهذيب التهذيب وكانت وفاته 144هـ ما يلي : وقال أحمد بن إبراهيم الدورقي عن معاذ بن معاذ سمعت عمرو بن عبيد يقول : إن كان (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) في اللوح المحفوظ فما لله على ابن آدم حجة ! يقصد عمرو بن عبيد أنَّ السورة مخلوقة والبنية الفكرية لها دالة دلالة واضحة على خلقها. فما هي الحجة على أبي لـهب إنْ كان قد دُوِّنَ عليه: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) منذ الأزل؟ هل هناك واحد من المسلمين يعرف هذه الحقائق؟ ولماذا غابت هذه الحقائق؟.
    هذه الكتابة تعيد ربط أوراق القضية فقط في كل أزمانـها: قبل المحنة، ومع المحنة، وبعد المحنة. هذه هي خطة تدوين هذه القضية، وليس وضع كتاب فيها، لترك القارئ يواجه ملفا لا كتابا، لقد كلف جمع هذا الملف زمنا طويلا، فكتاب المحنة للدكتور فهمي جدعان هو نتاج سنوات من البحث في تجلية هذه المسألة وقد صدر في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وتُلقي بقبول حسن عند جمهرة من الباحثين ولا سيما المختصين في الشأن الفكري.
    إذ بدا العمل في هذا الملف قبل عام 1990 م، وهذا هو عام 2005 م -تاريخ اصدار الكتاب-وقد اكتملت جـمع كل الأوراق الضرورية، لـجعل القارئ يصدر الحكم في جهتين: جهة الموضوع ـ أي القول هو الحق؟ القول بخلق القرآن، أم القول بأزليته ـ والثانية هي التثبت من مقدار التزييف في المدونة التاريخية في مسار القضية.
    ولم يأت الكتاب ليؤرخ للمحنة أو ليعالج الوجه الكلامي الخالص أي ليجيب على مسألة خلق القرآن بالنفي أو الإثبات وإنما جاء الكتاب ليزيح الستارة عن وجه المحنة ويوجه الأنظار لدلالاتها السياسية ومن هنا أستمد موضوع الكتاب قيمته إذ يتجاوز البدا هات الخاطئة التي استقرت في الأذهان من مجرد نطق اسم أحمد بن حنبل أو المعتزلة أو خلق القرآن، إذ ما أن ينطق بها أيُ من الناس حتى تستدعي صورة حدث تاريخي درامي صورة احمد بن حنبل المحدث فقط وقد قطع حجة خصومة المشهورين بقوة الجدل والحجاج ولم يجْد هؤلاء الخصوم إلا أن يتحولوا إلى جلادين يمسكون السوط يلهبون جلد احمد بن حنبل وتشبع السياط من جلده دون أن يتزحزح عن موقفه قيد أنمله إذ هو ثابت كالطود الأشم ! . .
    ويعلن الدكتور فهمي منذ البداية في المدخل (ص 12) أنه يسير تماماً في الاتجاه المعاكس لمجرى التيار وذلك عند أمرين اثنين على الأقل.
    الأول: أنه نأى بالمعتزلة نأياً يشبه أن يكون تاماً عن عملية الامتحان التي نسبت إليهم وأنه يَرُدُّ الأمور إلى نصابها في هذا الشأن لحساب التاريخ، والثاني أنه يريد أن ينظر في مسألة المحنة كحالة تبين إبانة بينة عما يمكن أن تكون عليه صيغة العلاقة بين السلطة أو الأمر من وجه وبين الطاعة من وجه آخر في دولة هي دولة الخلافة لا شيء يحول اعتبارها أكمل ممثل تاريخي لما وصل إليه الملك في الإسلام. ويقتضي التاريخ التحفظ على المحور الثاني وخاصة اعتبار الخلافة المركزية الممثل التاريخي لما وصل إليه الملك في الإسلام إذ تتضمن هذه العبارة إسقاط المحور التاريخي المتمثل في العديد في المحاولات لإزاحة هذا الملك العضوض ومع أن الكتاب في فصله الثالث " الدواعي والرجال " يشير إلى بعض من هذه المحاولات ولكنه لا يربط هذه المحاولات في الأسس الفكرية التي يستند عليها.
    كان جدعان يري أن المعتزلة هم المتهمون حقيقة بهذه المحنة، وكانوا في تواطؤ مع السلطة، وهنا نجد جدعان يقول: لقد رد البحث المعاصر إلى المعتزلة قدراً عظيما من " الاعتبار" الذي يليق بهم. لا بل إن بعض الكتاب المفعمين بروح " العقلانية" قد أسرفوا في إسباغ الثناء والمديح عليهم حتى لقد تصور بعضهم ان النكبة التي لحقت بهم قريبا من منتصف القرن الثالث الهجري، وبعد ذلك، إنما كانت نكبة للإسلام نفسه آذنت بأفول العصر الذهبي له..
    وأنا أؤيد ما قاله فهمي جدعان؛ لا سيما وأن للمعتزلة لهم أصول خمسة، وهي التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. فأصل التوحيد لا شيء يشبه الله، فالله لا نظير له وهو الواحد الأحد بلا نظير ولا شريك.. والذين يقولون إن القرآن قديم والقرآن غير مخلوق.. هذا يعني أن القرآن يشترك مع الله في صفة معينة، وهي صفة القدم، فعندما تقول إن القرآن قديم، فقد أشركت بالله، والإشراك بالله عند المعتزلة معناه الكفر؛ وهنا نجد فهمي جدعان يقول:" ومن الثابت أن القول بالقرآن مخلوق يرجع إلى عهد بعيد جدا عن مبدأ "الامتحان" الذي شهره المأمون في عام 218 هـ، وأن القضية في مبدئها قضية " جهمية"، تجد أصداء قوية لها في بعض الأقوال المنسوبة إلي الإمام الشيعي جعفر الصادق (ت 148/765م) الذي يعزي إليه أنه أجاب عن السؤال: القرآن خالق أم مخلوق؟ بالقول ليس خالقا ولا مخلوقا، بل هو كلام
    أما إعلان تبرئة المعتزلة من صنع المحنة، فقد تكفل به الكتاب حيث أزال الستارة عن وجه المحنة،
    يبدو أن محاولة عرض كتاب ما " لا يمكن أن تقوم مقام قراءته " ولهذا غالباً ما يكون عرض كتاب يشكل صعوبة لا يسهل تذليلها، وإذ قمت بقراءة كتاب المحنة للمرة الثانية للقيام بمهمة عرضه، والإشارة إلى مواضيعه، فإنني أعترف صراحة: أنَّ عرض كتاب المحنة يكاد يكون مستحيلاً، لتماسك مادته، وشدة كثافتها، وما تثيره مادة الكتاب من طلب للبحث والاستقصاء خارج الكتاب، فهذه القراءة هي مجرد محاولة للدخول إلى الكتاب..
    ويعلن الدكتور فهمي منذ البداية في المدخل (ص 12) أنه يسير تماماً في الاتجاه المعاكس لمجرى التيار
    حيث أنه قد أعلن منذ البداية انه غير معني ببحث الوجه العقدي في قضية خلق القرآن إلا أنه اضطر في المدخل الذي استغرق الصفحات من (11- 44) أن يتعرض للأقوال المتعددة في مسألة خلق القرآن متعرضاً للرأيين اللذين يستحيل التوفيق بينهما على وجه ما وعرض أربعة آراء أخرى تشكل مواقف متوسطة أساسية متوقفاً عند حدود العرض مما يجعل القارئ محتاراً لا يدري بعد أن ادخله الكتاب إلى صميم هذه المسألة ما رأي الدكتور في تلك المسألة ، ولقصور حيثيات المسائل المعروضة يبقى القارئ في حالة من الفراغ حول هذه المسألة، إلاَّ القارئ الذي له موقف مسبق في هذه المسألة.
    ويدخل الكتاب بعد تلك المقدمة والتعليق عليها وضرورة المراجعة الشاملة للمضمون السائد عن علاقة المعتزلة بالدولة العباسية حتى أن الدولة العباسية ، وصفت بأنها دولة معتزلة ويجعل الكتاب هذه المراجعة في ثلاثة أقسام يبحث في القسم الأول عن علاقة المعتزلة الأوائل واصل بن عطاء ( ت 131 هـ 748 م ) أي قبل قيام الدولة العباسية بسنة واحدة وعمرو بن عبيد ( ت 144 هـ 761 م ) والخلفاء الأوائل دون أن يذكر السفاح ( 132 – 136 هـ ) مبتدئا بالمنصور ( 136 – 158 هـ ) والمهدي ( 158 – 169 هـ ) ويهمل أمر الهادي ذاكراً الرشيد ( 170 – 193 هـ ) ولا يشير إلى الأمين ( 193 – 198 ) ويشير إلى رأيين مختلفين في علاقة العباسيين الأوائل مع المعتزلة وقد اتصفت سياستهم بالغموض والتعقيد بل والمرونة والتوفيق ـ هي وراء الظن بأن هناك علاقة بين المعتزلة والعباسيين الأوائل ـ ولا يري الدكتور فهمي في هذا القسم من الفصل الأول ضرورة للعودة إلى تفصيلات العلاقة أو تلك الصلة بينهما والحقيقة أن هذه بين العباسيين الأوائل والمعتزلة الأوائل لا زالت في حاجة إلى إعادة المراجعة ـ مع أن الدكتور محمد عمارة قد توصل في كتابه فلسفة الإسلام وأصول الحكم إلى إثبات تناقض العلاقة ، وأن السفاح وأخاه المنصور اللذين انضما إلى تنظيم المعتزلة وقفزا إلى الحكم من خلال سرقته اعتماداً على تأييد الجند الخراساني مما جعل كل منهم ـ أي المعتزلة والعباسيين يتربص بالآخر ـ ولا يهدأ بال المنصور حتى استطاع القضاء على محمد النفس الزكية ، وبعد ذلك قضى على أخيه إبراهيم ، وقبل ذلك كان قد قتل آل الحسن بن الحسن بطريقة تثير الاشمئزاز .
    إن كتاب المحنة يكشف هذه الخيوط التي تربط المعتزلة بآل الحسن ولكنه يجعلها مجرد موقف يخلو من الدلالات السياسة ويعطيه الدلالة الدينية فقط ، مع أن الكتاب يكشف أن المعتزلة تتطلع لنظام جديد بدلاً من نظام بني أمية حيث " يقول " ومع ذلك فأنه لا أحد يستطيع أن يدفع أن واصل بن عطاء كان غير راضٍ عن بني أمية الذين قضي واصل في آخر أيامهم " ويورد في نفس الفقرة ، ويبدو أن علينا أن نصدق ما يورده صاحب مقاتل الطالبين برغم هواه العلوي وتشيعه من القول إن واصل وعمرو بن عبيد قد نصرا محمد بن عبد الله بن الحسن حين دعا إلى نفسه عقب قتل الوليد بن يزيد في جمادي الآخر من سنة ( 126 هـ ) وهذا أمر يحتاج إلى تفسير .
    أن مفتاح علاقة العباسيين بالمعتزلة يكمن في أدراك علاقة عبد الله بن محمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب ( ت 99 هـ ) " أبو هاشم أستاذ واصل بن عطاء في محمد بن علي بن عبد الله عباس وولده إبراهيم الإمام إذ يزعم العباسيون كما يروي التاريخ أن أبا هاشم هو الذي أوصى لهم بالخلافة ، وهو الذي صرف الشيعة إليهم والشك يكتنف هذا الزعم ويظن انه كشف لهم التنظيم للاستمرار في قيادته الميدانية ، أما الزعامة الحقيقية فهي لا حد أفراد آل البيت ويظهر أنها لزيد بن علي ( ت 122 هـ ) ثم انتقلت بعد مقتلة لمحمد النفس الزكية وهذا ما كان يعلمه أبناء محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ( ت 125 هـ ) والظاهر أنهم بايعوا على ذلك . سواء إبراهيم المقتول في حبس مروان بن محمد سنة ( 131 هـ) أو أبو العباس عبد الله بن محمد السفاح أول خليفة عباسي ( ت 136 هـ ) أو أبو جعفر المنصور ( ت 158 هـ ) وبسبب من هذه البيعة ظل المنصور يترصد ويترقب محمداً النفس الزكية وأخاه إبراهيم " ولعدم تمكنه من إلقاء القبض عليهما قام بمعاقبة أهلهم على تلك الصورة البشعة مما جعل بشير الرّحال راهب المعتزلة حين سئل عن سبب تسرعه بالخروج على المنصور أن يقول " أنه أي المنصور أرسل أليّ بعد أخذه عبد الله بن الحسن فأتيته فأمرني بدخول بيته فدخلته فإذا فيه عبد الله بن الحسن " والد محمد النفس الزكية وإبراهيم " مقتولاً فسقطت مغشياً علىّ فلما أفقت أعطيت الله عهداً إلا يختلف في أمره سيفان إلا كنت مع الذي عليه منهما " المحنة ( ص 60 ) وفي مقولة بشير هذه من الدلالات ما يعلم منه علاقة المعتزلة بعبد الله بن الحسن بن الحسن وولديه محمد وإبراهيم فالمنصور تعمد أن يرى بشيراً عبد الله بن الحسن وهو مقتول ابتغاءً أمر أسره في نفسه ، وقد تحقق له ذلك بأن يجعل الثورة المعتزلة تقوم على عجل من أمرها ، وقد حدث ذلك ، وعلى كل فالعلاقة بين المعتزلة وأوائل بني العباس هي علاقة عداء بالتأكيد .
    لقد جعل القسم الثاني من الفصل الأول مختصاً بتفسير العلاقة بين المعتزلة والخلفاء العباسيين الثلاثة المأمون والمعتصم والواثق. والمعتزلة الذين ثبت اتصالهم بهؤلاء الخلفاء أو بالمأمون على وجه التخصيص هم أهل الطبقة السادسة والسابعة من المعتزلة يأتي علي رأس هؤلاء ثمامة بن الأشرس ( ت 213 هـ ) ويليه أبو الهذيل محمد العلاف ( ت 235 هـ ) ثم أبو أسحق إبراهيم بن سيار النظام ( ت 231 هـ ) وأبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم ( ت 225 هـ ) وكذلك أبو موسى عيسى بن صبيح المردار راهب المعتزلة ت ( 226 هـ ) وأستاذ الجعفرين :جعفر بن حرب وجعفر بن مبشر ولاستكمال صورة الروابط بين المعتزلة والمأمون لا بد من الإشارة إلى صلة هذا الخليفة بثلاثة رجال ينسبون كلهم ،أو بعضهم إلى المعتزلة هم الجاحظ ( ت 255 هـ ) وبشر المريسي ( ت 218 هـ ) وأحمد بن أبي دؤاد ( ت 240 هـ ) وكتاب طبقات المعتزلة جعل أحمد بن دؤاد والجاحظ من الطبقتين السادسة والسابعة باستثناء بشر المريسي فلا علاقة له بالمعتزلة يقينا مع أن الدكتور جدعان لم يشر إلى ذلك . وكتاب المحنة يبين علاقة هؤلاء بالتفصيل مع المأمون من ( ص 65- ص 98 ) من خلال العرض يتبين وخاصة العرض من خلال علاقة ثمامة والمأمون أن المأمون ليس معتزليا وهذا ما أكده الكتاب انظر ( ص 65 – 69 ) .
    أما القسم الثالث من الفصل الأول وهو آخر قسم في هذا الفصل فأنه مكرس لفحص علاقة أحمد بن أبي دؤاد في المحنة فأحمد بن دؤاد متقلدٌ أسمى مناصب الدولة منصب قاضي القضاة ومهام قاضي القضاة جسيمة أولها اختيار القضاة وعزلهم وبالتالي الإشراف على عملية فصل الخصومة سواء بين طرفين مشخصين أو بين طرف مشخص وآخر هو حق الطاعة أو حق الإسلام أو حق الأمة الإسلامية ولا بد من أن ينهض بأعباء وظيفة ولهذا كان لا بد من أن يكون المرجع في الامتحان، وإذ يقوم بذلك فإنما يقوم به حسب مذهبه.
    ويذهب الدكتور جدعان إلى أن ابن أبي دؤاد لم يكن متعطشاً للدم والسلطة والقسر ولا شك انه كان ذا عرق نبيل أبي النفس كريماً وليس أدل على ذلك من موقفه من أهل الكرخ حين رقق المعتصم حتى أطلق له مالاً قسمه على الناس فضلاً عن مال عنده ويخرج الدكتور جدعان في كتابه المحنة قائلاً " والمدقق في وقائع المحنة يتبين بوضوح أن أحمد بن أبي دؤاد كان يحاول دوماً التخفيف من حدتها والبحث عن الوسائل المجدية من أجل ذلك " وينفي الدكتور جدعان أية علاقة لأبي جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي ( ت 240 هـ ) والذي أعجب به المعتصم إعجابا شديداً فقدمه وأوسع عليه ، ومع هذا فلا علاقة له بالمحنة ومع رحيل المعتصم سنة ( 227 هـ ) وتولي الواثق ( 227- 232 هـ ) لا يشك الدكتور جدعان أن علاقة احمد بن أبي دؤاد بالواثق هي نفس علاقته بالمعتصم أي علاقة الوظيفة لا غير ، فلماذا يتحمل المعتزلة ولم يكونوا خلفاء الدولة بل أن أكثرهم على عدم ولاء للدولة إلى حد القطيعة ، والذين اتصلوا بخلفاء الدولة إنما اتصلوا بحكم الوظيفة ، أو بحكم الإعجاب بهم . أو بحكم حضور جلسات الجدال في أيام المأمون، ولم يكن ما أصاب ابن أبي دؤاد وأهله من محن على يدي المتوكل، راجع إلا لأنهم كلهم سواء بالاهتمام بالحفاظ على سلطتهم السياسية وفي سبيلها ولا جلها يكون ما يظهر من مواقف عقدية.
    ويعنون الدكتور فهمي الفصل الثاني ويستغرق الصفحات من (111- 187) وهو هنا يؤرخ للمحن كواقع تاريخي (المقصود بالمحنة امتحان الفقهاء والقضاء وأهل الحديث بل والشهود بمقولتهم في القرآن) ومن تعرض لمثل هذا الامتحان من الكثرة منهم من يذكر التاريخ ومنهم من لا يذكره فعلام ارتباط المحنة بأحمد بن حنبل دون غيره ؟ مع أن المصادر التاريخية تجمع على أنه لم يجلد أكثر من ( 68 ) سوطاً على ثلاث فترات لقد استطاع الأعلام الحنبلي الميكا فيلي أن يضخم صورة تلك المحنة بحيث ارتبطت بأحمد بن حنبل ، والقارئ للمحنة (كما جمعها ابن عمه وتلميذة حنبل بن اسحق) يدرك الفجوات الواضحة والكثير في سياق هذه المحنة ، وهذا وحده كاف كدعوة للدخول إلى دراسة دواعي المحنة ورجالها الفصل الثالث في كتاب المحنة الذي يستغرق الصفحات من ( 187 – 263 ) وهي دراسة تركز على رسائل المأمون في محاولة لاكتشاف الدواعي من خلال الوعي على المعطى التي تقدمه تلك الرسائل ولاكتمال الصورة ، وجه الكتاب النظر إلى الممتْحَنين من حيثُ واقعهم العقدي وواقعهم العملي ، ولقد ركز المأمون في رسائله على بيان الصور القاتمة في واقعهم العملي ، وقد بلغ عدد من توجهت الدراسة إليهم أربعون شخصاً يتوزعون على العراق والشام ومصر ويتوزعون من ناحية أخرى على أهل الحديث وأهل الرأي والفقهاء وواحد منهم هو عم الخليفة المدعو إبراهيم بن المهدي ليس من هؤلاء .
    وفي آخر الفصل الثالث يحاول الكتاب بناء صورة لفكر المأمون وعقيدته مع أن المادة المتيسرة لمثل هذه الدراسة قليلة ولا تفي بالغرض، ويتعرض من خلال الهامش ص (233- 235) لنظريات تفسر الدواعي التي أدت إلى قيام المأمون بجعل الإمام الثامن للشيعة الاثنا عشرية وليا لعهده، ويخرج الكتاب بصورة عقدية وفكرية وواقعية تخالف ما استقر في الأذهان عن المأمون وليس من وجاهة نقل صورة عن الممتحنين من مصادر تعد في موقع التحيز لهم .
    أما الفصل الرابع وهو أهم فصول الكتاب بل تعتبر الفصول السابقة مقدمة له والذي يعنونه الدكتور باسم تسويات لحساب التاريخ ص ( 267 – 290 ) فهو يكشف عن واقع دور المعتزلة في المحنة ، معلناً أن لا علاقة للمعتزلة في هذه المحنة ، ويكشف حقيقة أهل الحديث ـ وخاصة أبو مسهر الدمشقي وأحمد بن حنبل ـ وقيام سلطة لهم من خلال العامة موازية للسلطة ، بل والتهديد الفعلي لها ، وأنهم أصحاب هوى أموي ، وقد شارك أبو مسهر بالذات في الثورة مع السفياني ( 195- 198 هـ ) ورغم القضاء على ثورة السفياني ومرور عقدين عليها إلا أن المأمون يكشف عام ( 217 هـ ) أثناء زيارة لدمشق استمرار الهوى الأموي فيها مما جعله يدرك الخطر ، خطر أهل الحديث إدراكاً واقعياً ويشعر قارئ هذا الفصل بمقدار كبير من الإثارة .
    ويختم الكتاب في الفصل الخامس بعنوان جدلية الديني والسياسي ص (293 – 359) ليرى أن قضية المحنة محكومة بالصراع على سلطة، وهي هنا بالتأكيد الصراع بين الديني والسياسي، ولكن الدكتور لا يبين لنا الفروق الواضحة بين ما هو سياسي وبين ما هو ديني، وهل من الحكمة أن تتكون حدوداً فاصلة بين ما هو ديني وبين ما هو سياسي؟!!! إذ لا شك أن أحدهما يؤثر في الآخر على وجه ما ، وإذا كانت غاية الديني الآخرة من خلال الالتزام بالدين ، فإن غاية السياسي الإسلامي السلطوي الآخرة من خلال إحسان العمل السياسي ، طبعا المقصود السياسي الراشد ، لقد نقلنا الدكتور في كتابه القيم ضمن رحلة شيقة في التاريخ من خلال المراجعة للمحنة ومحاولة الوصول للأسباب المختفية وراءها وهذا ما يحاول الكتاب إبرازه وبيانه جلياً واضحاً لحساب التاريخ كما قرر الدكتور في مدخله.

  38. #38

    افتراضي

    الفصل الرابع
    مقتل الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب

    هذه القضية شائكة لأن معظم مصادرها كتبت بيد الروافض من الشيعة وطبقا لأهوائهم فزيفوا الحقائق وللأسف وجد هذا الزيف من الأيادي المغرضة من يتلقفها ويروج لها حتى أنك تجد لها صدى في أمهات الكتب والتي تحتوي على مثل ذلك الاتهام.
    فمن هو الإمام علي الرضا
    نسب الإمام علي الرضا ومولده:
    هو الإمام علي الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب، وسيدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء بنت سيدنا ومولانا وجدنا محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
    هذا وقد ولد الإمام علي الرضا بالمدينة المنورة عام 143 ه‍ (760 م) أو عام 148 ه‍ (765 م) أو عام 153 ه‍ (770 م)، وتوفي عام 203 ه‍ (818 م)، وفي رواية المسعودي: وكان مولد الرضا بالمدينة سنة ثلاث وخمسين ومائة للهجرة، وكان الخليفة العباسي " المأمون " (198 - 218 ه‍ / 813 - 833 م) قد زوج ابنته " أم حبيبة " للإمام علي الرضا، وزوج الأخرى لولده الإمام محمد الجواد (المسعودي: مروج الذهب 2 / 418.).
    ويذهب " ابن خلكان " (608 - 681 ه‍) إلى أن ولادة الإمام الرضا إنما كانت يوم الجمعة في بعض شهور سنة ثلاث وخمسين ومائة بالمدينة، وقيل:
    بل ولد سابع شوال، وقيل ثامنه، وقيل سادسه، سنة إحدى وخمسين ومائة، وتوفي في آخر يوم من صفر سنة اثنتين ومائتين، وقيل بل توفي خامس ذي الحجة، وقيل: ثالث عشر ذي القعدة سنة ثلاث ومائتين بمدينة " طوس "، وصلى عليه المأمون، ودفنه ملاصق قبر أبيه الرشيد، وكان سبب موته أنه أكل عنبا فأكثر منه، وقيل: بل كان مسموما، فاعتل منه ومات، رحمه الله تعالى (ابن خلكان: وفيات الأعيان 3 / 270.).
    وأما أم الإمام علي الرضا فهي أم ولد، يقال لها " أم البنين " واسمها " أزوى " وقيل " خيزران ". وكنية الإمام الرضا: أبو الحسن، وألقابه: الرضا - وهو أشهرها - والصابر والزكي والولي.
    أولاد الإمام الرضا: - روى الشيخ المفيد في " الإرشاد " و " ابن شهرآشوب " في " مناقب آل أبي طالب " و " الطبرسي " في " إعلام الورى بأعلام الهدى " أن الإمام علي الرضا، لم يترك ولدا، إلا " الإمام محمد الجواد " (فضائل الإمام علي ص ٢٣٤.).
    غير أن الخشاب، إنما يقول في كتابه " مواليد أهل البيت ": ولد الرضا خمسة بنين وابنة واحدة، وهم: محمد القانع والحسن وجعفر وإبراهيم والحسين، والبنت اسمها عائشة (نور الأبصار ص ١٦٠، وفي هامش رقم ٢ ص ٢٢٨ " من كتاب عمدة الطالبين "يقول: للإمام الرضا ثلاثة أولاد: موسى ومحمد وفاطمة.).

    الإمام الرضا والإمامة:
    شاع عن الإمام الرضا أنه كان يرفض الإمامة - بمعنى قيادة الأمة- في حين أن رأيه في ذلك الأمر منافٍ تماما لما قد أشيع عنه وإليك رأي الإمام الرضا فيها حيث يقول:
    " إن الإمام زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعز المؤمنين، إن الإمامة أس الإسلام النامي، وفرعه السامي، بالإمامة تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف ".
    " والإمام يحل حلال الله، ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذب عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة، والموعظة الحسنة، والحجة البالغة، الإمام كالشمس الطالعة المجللة بنورها العالم، وهي في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار، الإمام البدر المنير، والسراج الظاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي ".
    " الإمام المطهر من الذنوب، والمبرأ من العيوب، المخصوص بالعلم، الموسوم بالحلم، معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة، مخصوص بدعوة الرسول، ونسل المطهرة البتول، فهو معصوم مؤيد موفق مسدد، قد أمن من الخطأ والزلل والعثار، يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده، وشاهده على خلقه " (الكليني: أصول الكافي ص 96 - 97، عطية مصطفى مشرفة: نظم الحكم في مصر في عصر الفاطميين (358 - 567 ه‍ / 968 - 1171 م) - القاهرة 1948 ص 270.).
    يقول الإمام جعفر الصادق في الإمامة " الله عز وجل أعظم من أن يترك الأرض بغير عادل، إن زاد المسلمون شيئا ردهم، وإن نقصوا شيئا أتمه لهم، وهو حجة على عباده (أصول الكافي ص 84، 86).)
    هذا وقد وصف الإمامة أيضا فقال: " إن الإمامة أحد قدرا، وأعظم شأنا، وأعلى مكانا، وأمنع جانبا، وأبعد غورا، من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالونها بآرائهم، أو يقيموا إماما باختيارهم، إن الإمامة خص الله بها إبراهيم الخليل عليه السلام - بعد النبوة والخلة - مرتبة ثالثة، شرفه بها، وأشاد بها ذكره، فقال تعالى: (إني جاعلك للناس إماما) (سورة البقرة: آية ١٢٤)، فقال الخليل سرورا بها (ومن ذريتي) (سورة البقرة: آية ١٢٤) قال تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) (سورة البقرة: آية ١٢٤)، فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة، ثم أكرم الله خليله بأن جعلها في ذريته، أهل الصفوة والطهارة، فقال تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة، وكلا جعلنا من الصالحين، وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا، وأوحينا إليهم فعل الخيرات، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) (سورة الأنبياء: آية ٧٢.).
    وظلت في ذريته يرثها بعض عن بعض، حتى ورثها الله تعالى النبي العربي محمدا (صلى الله عليه وسلم)، فقال تعالى (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه، وهذا النبي، والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) (سورة آل عمران: آية ٦٨)، فكانت له خاصة، فقلدها عليا، عليه السلام، بأمر الله تعالى، على رسم ما فرض الله، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان، بقوله تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان، لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث) (سورة الروم: آية ٥٦) فهي في ولد الإمام علي بن أبي طالب خاصة إلى يوم القيامة، إذ لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وسلم) (الكليني : الكافي 1/ 199).
    ويقول الإمام الرضا في الإمامة أيضا: هي منزلة الأنبياء، وإرث الأصفياء، إن الإمامة خلافة الله، وخلافة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ومقام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وميراث الحسن والحسين، عليهم السلام(الكليني: الكافي 1 / ٢٠٠، نبيلة عبد المنعم داود: نشأة الشيعة الإمامية ص374 - ٢٧٥ (بغداد ١٩٦٨).).

    الإمام الرضا والمأمون:
    كان الخليفة المأمون (198 - 218 ه‍ / 813 - 823 م) مولعا بالسماع إلى العلماء، وجدالهم ونقاشهم، فكان يجمع له العلماء والفقهاء والمتكلمين، من جميع الأديان، فيسألونه، ويجيب الواحد تلو الآخر، حتى لم يبق أحد منهم، إلا اعتراف بالفضل، وأقر على نفسه بالقصور، حتى قيل أن أحد العلماء - وهو محمد بن عيسى اليقطيني - جمع من مسائل الإمام الرضا أمامه، وأجوبتها حوالي 18 ألف مسألة -.
    هذا وفي كتب الشيعة الكثير من هذه المسائل، ومنها:
    أن المأمون سأل الإمام الرضا فقال: يا ابن رسول الله، إن الناس يروون عن جدك (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: خلق الله آدم على صورته، فما رأيك؟.
    قال الإمام: إنهم حذفوا أول الحديث الذي يدل على آخره، وهذا هو الحديث كاملا: " مر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، برجلين يتسابان، ويقول أحدهما للآخر:
    قبح الله وجهك، ووجها يشبهك فقال النبي (صلى الله عليه وسلم)، للساب: لا تقل هذا، فإن الله خلق آدم على صورته، أي على صورة من تشتمه، وعليه يكون شتمك لخصمك هذا، شتم لآدم عليه السلام.
    ومنها: أنه سئل: أين كان الله؟ وكيف كان؟ وعلى أي شيء يعتمد؟.
    فقال: إن الله تعالى كيف الكيف، فهو بلا كيف، وأين الأين فهو بلا أين، وكان اعتماده على قدرته.
    ومعنى جواب الإمام: أن الله خلق الزمان، وخلق الأحوال، فلا زمان له ولا حال، وغني عن كل شيء، فلا يعتمد على شيء، غير ذاته بذاته.
    ومنها: أنه سئل: عن معنى إرادة الله، فقال: هو فعله لا غير، ذلك أن يقول للشيء: كن فيكون، بلا لفظ ولا نطق لسان، ولا همة ولا تفكر، ولا يكف كذلك، ولا كما.
    ومنها: أنه سئل عن معنى قول جده الإمام الصادق: " لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين " رغم أن الله فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه - أي الأئمة - فقد قال بالتفويض، والقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك، أما معنى " الأمر بين الأمرين ". فهو وجود السبيل إلى إتيان ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، أي أن الله سبحانه وتعالى، قدره على فعل الشر وتركه كما أقدره على الخير وتركه، وأمره بهذا، ونهاه عن ذاك.

  39. #39

    افتراضي

    ومنها: أنه سئل عن الإمامة، فقال: إن الله لم يقبض نبيه حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء، حيث قال عز من قال: " ما فرطنا في الكتاب من شيء) (سورة الأنعام: آية 38)، وأنزل في حجة الوداع، (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا) (سورة المائدة: آية 3).
    والإمامة من إكمال الدين، وإتمام النعمة، وقد أقام لهم الإمام علي علما وإماما، ومن زعم أن النبي (صلى الله عليه وسلم)، لم يكمل دينه - ببيان الإمام - فقد رد كتاب الله، ومن رد كتاب الله فهو كافر.
    إن الإمامة لا يعرف قدرها، إلا الله، فهي أجل قدرا، وأعظم شأنا، وأعلى مكانة من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالونها بآرائهم.
    إن الإمامة خلافة الله والرسول، وزمام الدين ونظام المسلمين، والإمام يحل ما أحل الله ويحرم ما حرم الله، ويقيم الحدود، ويذب عن الدين، والإمام أمين الله في أرضه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، وهو مطهر من الذنوب، مبرأ من العيوب، لا يدانيه أحد من خلقه، ولا يعادله عالم، ولا يوجد له بديل، ولا له مثيل، فأين للناس أن تستطيع اختيار مثل هذا (محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 240 - 242.).
    هذا وقد سئل الإمام الرضا عن العترة: أهم الآل أم غير الآل؟
    فقال: هم الآل، فقالت العلماء: فهو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: أمتي آلي، وهؤلاء الأصحاب يقولون: آل محمد هم أمته.
    فقال الإمام: أخبروني: فهل تحرم الصدقة على الآل؟ قالوا: نعم، قال:
    فتحرم على الأمة، قالوا: لا.
    قال: هذا فرق بين الآل والأمة، أما علمتم أنه وقعت الوراثة والطهارة على المصطفين المهتدين، دون سواهم، قالوا: ومن يا أبا الحسن، فقال: من قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) (سورة الحديد: آية ٢٦)، فصارت وراثة النبوة والكتاب للمهتدين، دون الفاسقين (أنظر: الصدوق: عيون الأخبار ١ / ٢٣٠، الطبري: بشارة المصطفى ص 282، نبيلة عبد المنعم داود: المرجع السابق ص 272.).
    وفي مناظرة جرت في مجلس المأمون بين الإمام الرضا والعلماء، وقد بين فيها الرضا فضل آل البيت، فلقد سأل المأمون عن معنى قول الله تعالى:
    (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) (سورة فاطر: آية 32.).
    فقالت العلماء: أراد الله بذلك الأمة كلها، فسأل المأمون الرضا عن ذلك.
    فقال الإمام الرضا: أراد الله العترة الطاهرة، لأنه لو أراد الأمة، لكانت جميعها في الجنة، يقول الله: (فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير) (سورة فاطر: آية 32)، ثم جمعهم كلهم في الجنة.
    فقال تعالى: (جنات عدن يدخلونها) (سورة النمل: آية ٣١) فصارت الوراثة للعترة الطاهرة، لا لغيرهم.
    فقال المأمون: من العترة الطاهرة؟.
    فقال الإمام الرضا: الذين وصفهم الله في كتابه فقال: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، ويطهركم تطهيرا) (سورة الأحزاب: آية ٣٣)، وهم الذين قال فيهم سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " إني مخلف فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي " (أنظر عن حديث الثقلين (صحيح مسلم ١٥ / ١٧٩، مسند الإمام أحمد ٣ / ١٧، ٤ / ٤٦٦، ٣٧١، ٥ / ١٨١،فضائل الصحابة للإمام أحمد ١ / ١٧١ - ١٧٢، ٢ / ٥٧٢، ٥٨٥، ٦٠٣، ٧٨٦،كنز الأعمال1 / ٤٥، ٤٧، ٤٨، ٩٦، ٩٧، ٦ / ٣٩٠، ٧ / ١٠٣، سنن البيهقي ٢ / ١٤٨، ٧ / ٣٠، مجمع الزوائد للبيهقي ٥ / ١٩٥، ٩ / ١٦٣ - ١٦٤، المستدرك للحاكم ٣ / ١٧، ١٠٩، ١٤٨،سنن الدرامي2 / 431، مشكل الآثار للطحاوي 4 / 368، صحيح الترمذي 2 / 308، أسد الغابة لابن الأثير 2 / 13، 3 / 147، حلية الأولياء لأبي نعيم 1 / 355، 9 / 64، ابن تيمية: رسالة فضل أهل البيت وحقوقهم 75، 9086، 117).).
    وهناك كذلك آية المباهلة: قال الله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) (سورة آل عمران: آية 61.).
    والذين اختارهم الله في هذه الآية، واصطفاهم للمباهلة، هم بالذات الذين اصطفاهم وعناهم في آية (ثم أورثنا الكتاب)، ولا يختلف اثنان في أن المراد بأنفسنا " على " وبأبنائنا " الحسن والحسين " ونسائنا " فاطمة " وهذه خاصة لا يتقدمهم فيها أحد، وفضل لا يلحقهم فيه بشر، وشرف لا يسبقهم إليه مخلوق) أنظر أدلة أخرى (محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 258 - 261).
    ومن المعروف أن آية التطهير، وحديث الثقلين، من أهم الأدلة - عند الشيعة الإمامية خاصة - في حصر الإمامة في سيدنا الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - وأولاده من بعده، وبهذا احتج الإمام الرضا على الخليفة المأمون، وأكد أن الوراثة فيهم، لا في غيرهم.
    وسأل المأمون الإمام الرضا فقال. يا أبا الحسن، إني فكرت في أمرنا وأمركم، ونسبنا ونسبكم، فوجدت الفضيلة فيه واحدة، ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك، محمولا على الهوى والعصبية؟.
    فقال الإمام الرضا: لو أن الله تعالى بعث محمدا (صلى الله عليه وسلم)، من وراء أكمة من هذه الأكمات، فخطب إليك ابنتك، أكنت تزوجه إياها؟.
    فقال المأمون: سبحان الله، وهل أحد يرغب عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال الرضا: أفتراه يحل له أن يخطب إلي؟.
    قال: فسكت المأمون، ثم قال: أنتم والله أمس برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، رحما (المفيد: الفصول المختارة من العيون والمحابس 1 / 15 - 16، نبيلة عبد المنعم داود: المرجع السابق ص 273 - 274.).
    وسأل المأمون الإمام الرضا يوما، فقال: ما يقول بنو أبيك في جدنا العباس بن عبد المطلب؟.
    فقال الإمام الرضا: ما يقولون في رجل فرض الله طاعة بنيه على خلقه، وفرض طاعته على بنيه فأمر له المأمون بألف درهم (ابن خلكان: وفيات الأعيان 3 / 271.).
    المأمون وولاية العهد للإمام الرضا:
    اختلفت الآراء بالنسبة لموقف المأمون بالنسبة للعلويين، فمن قائل: إنه كان شديد الميل إليهم - طبعا لا تكلفا - يقول السيوطي: وفي سنة إحدى ومائتين خلع المأمون أخاه المؤتمن من العهد، وجعل ولي العهد من بعده، " علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق "، حمله على ذلك إفراطه في التشيع، حتى قيل: إنه هم أن يخلع نفسه، ويفوض الأمر إليه، وهو الذي لقبه " الرضا "، وضرب الدراهم باسمه، وزوجه ابنته، وكتب إلى الآفاق بذلك، وأمر بترك السواد، ولبس الخضرة (السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 307 (القاهرة 1964).).
    هذا وكان الخليفة المأمون يحرص على حضور جنائز رؤساء العلويين، مثل " يحيى بن الحسين بن زيد " الذي صلى عليه بنفسه، ورأى الناس عليه من الحزن والكآبة ما تعجبوا منه، على حين أرسل أخاه " صالحا " لينوب عنه في جنازة أحد العباسيين الأقرباء، وقد مات بعد " يحيى " بقليل، فلما عزى صالح أم المتوفى - وهي زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، ابنة عم الخليفة المنصور - وكانت لها عند العباسيين هيبة ومنزلة عظيمة، واعتذر عن تخلفه عن الصلاة عليه، ظهر غضبها، وقالت لحفيدها: تقدم فصل على أبيك، وتمثلت بقول الشاعر:
    سبكناه ونحسبه لجينا * فأبدى الكير عن خبث الحديد
    ثم قالت لصالح: قل له يا ابن مراجل، أما لو كان يحيى بن الحسين بن زيد " لوضعت ذيلك على فيك، وعدوت خلف جنازته "..
    وحين مات " محمد بن جعفر " - وكان قد أرسل إلى خراسان بعد خروجه على المأمون - دخل المأمون بين عمودي السرير، فحمله حتى وضعه في لحده، وقال: هذه رحم مجوفة منذ مائتي سنة، وقضى دينه، وكان عليه نحو ثلاثين ألف دينار.
    ويرى بعض الباحثين أن المأمون - كما سنرى - إنما كان يفضل الإمام علي بن أبي طالب على غيره من الخلفاء الراشدين، ويرى أنه أحق بالخلافة منهم، ويرجعون هذا الاعتقاد إلى تأثير البيئة التي تربى فيها المأمون، فإنه كان في أول أمره في حجر " جعفر البرمكي " ثم انتقل إلى " الفضل بن سهل "، وكلاهما يضمر التشيع، فاختمرت عنده هذه الفكرة - على غير ما كان عليه آباؤه - ولهذا كان المأمون يعامل الطالبيين معاملة تناسب اعتقاده في فضل أبيهم، وظل على عقيدته هذه إلى آخر حياته (محمد مصطفى هدارة: المأمون - الخليفة العالم - القاهرة 1966 ص 70 - 71 (أعلام العرب رقم 95).).
    ويستدل هذا الفريق على صحة رأيه بما رواه الطبري في تاريخه، والذهبي في دول الإسلام، والسيوطي في تاريخ الخلفاء من أنه في سنة إحدى عشرة ومائتين أمر بأن ينادي: " برئت الذمة ممن ذكر معاوية بن أبي سفيان بخير، وأن أفضل الخلق - بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) - علي بن أبي طالب " (السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 308، تاريخ الطبري 10 / 243.).
    ويروي المسعودي: أنه في سنة اثنتي عشرة ومائتين نادى منادي المأمون:
    " برئت الذمة من أحد الناس ذكر معاوية بخير، أو قدمه على أحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وتكلم في شيء من التلاوة أنها مخلوقة، وغير ذلك، وتنازع الناس في السبب الذي من أجله أمر بالنداء في أمر معاوية، فقيل في ذلك أقاويل، منها أن بعض سماره حدث بحديث عن مطرق بن المغيرة بن شعبة الثقفي.
    وقد ذكر هذا الخبر " الزبير بن بكار " (172 ه‍ / 788 م - 256 ه‍ / 870 م) في كتاب " الموفقات " قال: سمعت المدائني يقول: قال مطرق بن المغيرة بن شعبة: وفدت مع أبي المغيرة إلى معاوية، فكان أبي يأتيه يتحدث عنده ثم ينصرف إلي فيذكر معاوية ويذكر عقله ويعجب مما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، فرأيته مغتما، فانتظرته ساعة، وظننت أنه لشيء حدث فينا أو في عملنا، فقلت له: ما لي أراك مغتما منذ الليلة.
    قال: يا بني إني جئت من عند أخبث الناس، قلت له: وما ذاك؟ قال:
    قلت له وقد خلوت به: إنك قد بلغت منا يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلا، وبسطت خيرا، فإنك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوانك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه.
    فقال لي: هيهات هيهات، ملك أخو " تيم " فعدل وفعل ما فعل، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلا أن يقول قائل: أبو بكر، ثم ملك أخو " عدي "، فاجتهد وشمر عشر سنين، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلا أن يقول قائل: عمر، ثم ملك أخونا عثمان، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، وذكر ما فعل به، وأن أخا هاشم (وفي رواية ابن أبي كبشة) يصرخ به في كل يوم خمس مرات: " أشهد أن محمدا رسول الله "، فأي عمل يبقى مع هذا؟ لا أم لك، والله إلا دفنا دفنا (المسعودي: مروج الذهب ٢ / ٤٢٩ - ٤٣٠ (بيروت ١٩٨٢)، ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 5// ١٢٩ - ١٣٠ (بيروت ١٩٦٥) (وانظر مخالفة معاوية للسنة في أمور عدة شرح نهج البلاغة 2/131).).
    وأن المأمون لما سمع هذا الخبر، بعثه ذلك على أن أمر بالنداء على حسب ما وضعنا، وأنشئت الكتب إلى الآفاق بلعنه على المنابر، فأعظم الناس ذلك وأكبروه، واضطربت العامة منه، فأشير عليه بترك ذلك، فأعرض عما كان هم به (المسعودي 2 / 430).
    هذا فضلا عن وصية المأمون (198 - 218 ه‍ / 813 - 833 م) لأخيه المعتصم (218 - 227 ه‍ / 833 - 842 م) والتي يقول فيها " وهؤلاء بنو عمك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأحسن صحبتهم وتجاوز عن سيئتهم، واقبل من محسنهم، وصلاتهم فلا تغفلها في كل سنة عند محلها، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى " (محمد مصطفى هدارة: المأمون ص ٧١ - ٧٢.).
    وفي الكامل: قال: " يا أبا إسحاق، عليك عهد الله وميثاقه، وذمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لتقومن بحق الله في عباده، ولتؤثرن طاعة الله على معصيته، إذ أنا نقلتها من غيرك إليك، قال: اللهم نعم، قال: هؤلاء بنو عمك من ولد أمير المؤمنين علي - صلوات الله عليه - فأحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، وأقبل من محسنهم، ولا تغفل صلاتهم في كل سنة عند محلها، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى " ابن الأثير الكامل في التاريخ 6 / 431، وانظر تاريخ الطبري 10 / 295.).
    ويمكن أن نفسر في ضوء هذا الاعتقاد، ما قاله المأمون للسيدة زينب بنت سليمان بن علي، التي كان العباسيون يعظمونها حين سألته عما دعاه من نقل الخلافة من بيته إلى بيت الإمام علي بن أبي طالب، قال: يا عمة، إني رأيت عليا حين ولي الخلافة أحسن إلى بني العباس، وما رأيت أحدا من أهل بيتي، حين أفضى الأمر إليهم، كافؤوه على فعله في ولده، فأحببت أن أكافئه على إحسانه (محمد مصطفى هدارة: المأمون ص 72).
    وأسند الصولي: أن بعض آل بيته (أي بيت المأمون) قال: إنك على بر أولاد علي بن أبي طالب، والأمر فيك، أقدر منك على برهم، والأمر فيهم، فقال: إنما فعلت ما فعلت، لأن أبا بكر لما ولي لم يول أحدا من بني هاشم شيئا، ثم عمر ثم عثمان كذلك، ثم ولي علي فولى عبد الله بن عباس البصرة، وعبيد الله اليمن، ومعبدا مكة، وقثم البحرين، وما ترك أحدا منهم حتى ولاه شيئا، فكانت هذه منة في أعناقنا، حتى كافأته في ولده بما فعلت (السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 308.).
    والمأمون حين قال ذلك، وحين كتب وصيته، وحين أخذ المواثيق على أخيه المعتصم - وهو يحتضر - كان بعيدا عن تأثير " الفضل بن سهل "، بعد أن قضى الأخير نحبه منذ زمن طويل، وإن كان اعتقاده - مع ذلك - لا يخلو من تأثير قديم، صحب نشأته.
    على أن هناك وجها آخر للنظر، يذهب أصحابه إلى أن التشيع إنما كان قد انتشر في عهد المأمون - فضلا عن عهد أبيه من قبله - حتى امتدت جذوره إلى البلاط الملكي، فكان الفضل بن سهل، ذو الرياستين، وزير المأمون شيعيا، وكذلك كان " طاهر بن الحسين الخزاعي " قائد المأمون، الذي فتح له بغداد، وقتل أخاه الأمين (193 - 198 ه‍ - / 808 - 813 م) وكثير سواهما، كانوا شيعة، حتى أن المأمون خشي عاقبة هذين الرجلين، فقتل الفضل، وولى طاهرا إمارة هرات - أي عزله عن قيادة الجيش إلى وظيفة أدنى - وكانت الطاهرية كلها تتشيع - كما قال ابن الأثير في حوادث عام 250 ه‍ (محمد الحسين المظفري: تاريخ الشيعة ص 50 (ط 1353 ه‍)، محمد جواد مغنية: الشيعة والحاكمون ص 164 - 165 الشيعة في الميزان ص 165 – 166).

  40. #40

    افتراضي

    وروي أن الخليفة المأمون اجتمع بالإمام علي الرضا، وقال له: رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك.
    قال الرضا: إن كانت الخلافة حقا لك، وأنت أهل لها، فلا يجوز أن تخلع نفسك منها، وإن لم يكن لك حق بها، فلا يجوز أن تعطيها لغيرك.
    قال المأمون: لا بد لك من قبول هذا الأمر.
    ويروي الحافظ ابن كثير القصة كالتالي: وبايع المأمون لعلي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب، أن يكون ولي العهد من بعده، وسماه " الرضا من آل محمد "، وطرح لبس السواد، وأمر بلبس الخضرة، فلبسها هو وجنده، وكتب بذلك إلى الآفاق، وكانت مبايعته له يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان، سنة إحدى ومائتين، وذلك أن المأمون رأى أن عليا الرضا خير أهل البيت، وليس في بني العباس مثله في عمله ودينه، فجعله ولي عهده من بعده (ابن كثير البداية والنهاية: 10/ / 247 القاهرة 1351 ه‍ / 1933 م).).
    ويروي الإمام الطبري (تاريخ الطبري 10 / 43، حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام السياسي 2 / 185 - 186. القاهرة 1964.)..
    على أن علي الرضا لما قدم " مرو " أحسن المأمون وفادته، وجمع رجال دولته وأخبرهم أنه قلب نظره في أولاد العباس، وأولاد علي بن أبي طالب، فلم يجد أحدا أفضل، ولا أورع ولا أعلم منه، لولاية عهده، ولقبه " الرضا من آل محمد " وأمر جنده بطرح السواد - شعار العباسيين - وكتب بذلك إلى الآفاق، وذلك لليلتين خلتا من رمضان عام 201 ه‍.
    وفي تاريخ اليعقوبي: وبايع المأمون للرضا علي بن موسى بن جعفر، بولاية العهد من بعده، وكان ذلك يوم الاثنين لسبع خلون من شهر رمضان سنة 201 ه‍، وألبس الناس الأخضر مكان السواد، وكتب بذلك إلى الآفاق، وأخذ البيعة للرضا، ودعا له على المنابر، وضربت الدنانير والدراهم باسمه) تاريخ اليعقوبي 2 / 448 (بيروت 1980)..
    ويقول المسعودي: ووصل إلى المأمون أبو الحسن علي بن موسى الرضا، وهو بمدينة " مرو " فأنزله المأمون أحسن إنزال، وأمر المأمون بجميع خواص الأولياء، وأخبرهم أنه نظر في ولد العباس، وولد علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، فلم يجد في وقته أحدا أفضل، ولا أحق بالأمر من " علي بن موسى الرضا "، فبايع له بولاية العهد، وضرب اسمه على الدنانير والدراهم، وزوج محمد بن علي بن موسى الرضا بابنته " أم الفضل ". وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام، وأظهر بدلا من ذلك الخضرة في اللباس والأعلام وغير ذلك، ونمى ذلك إلى من بالعراق من ولد العباس، فأعظموه، إذ علموا أن في ذلك خروج الأمر عنهم. (المسعودي: مروج الذهب 2 / 417.).
    وحج بالناس " إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق " - أخو الرضا بأمر المأمون - واجتمع من في مدينة السلام (بغداد) من ولد العباس ومواليهم وشيعتهم، على خلع المأمون، ومبايعة إبراهيم بن المهدي، المعروف " بابن شكلة " فبويع له يوم الخميس لخمس ليال خلون من المحرم، سنة اثنتين ومائتين وقيل: إن ذلك في سنة ثلاث ومائتين.
    وفي رواية ابن خلكان: كان المأمون قد زوج علي الرضا ابنته " أم حبيبة " في سنة اثنتين ومائتين، وجعله ولي عهده، وضرب اسمه على الدينار والدرهم، وكان السبب في ذلك أنه استحضر أولاد العباس - الرجال منهم والنساء - وهو بمدينة " مرو " من بلاد خراسان، وكان عددهم ثلاثة وثلاثين ألفا، ما بين الكبار والصغار، واستدعى علي الرضا، فأنزله أحسن منزلة، وجمع خواص الأولياء وأخبرهم: أنه نظر في أولاد العباس، وأولاد علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، فلم يجد في وقته أحدا أفضل، ولا أحق بالأمر، من علي الرضا، فبايعه، وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام، ونمى الخبر إلى من بالعراق من أولاد العباس، فعلموا أن في ذلك خروج الأمر عنهم، فخلعوا المأمون، وبايعوا إبراهيم المهدي - وهو عم المأمون - وذلك يوم الخميس لخمس خلون من المحرم سنة اثنتين ومائتين، وقيل: سنة ثلاث ومائتين (ابن خلكان: وفيات الأعيان 3 / 269 - 270.).

    على أن هناك اتجاها يذهب إلى أن " الفضل بن سهل " إنما هو الذي كان من وراء تولية المأمون للرضا ولاية العهد، ذلك أن المأمون عندما بلغه موت أبيه الرشيد، ورجوع رجاله إلى أخيه " الأمين " بالأموال والأحمال، وقد نكثوا عهده، خاف على نفسه فجمع خاصته في " مرو " وشاورهم في الأمر، وأظهر لهم ضعفه، وأنه لا يقوى على أخيه، فنشطوه ووعدوه خيرا، وقال له الفضل بن سهل: أنت نازل في أخوالك، وبيعتك في أعناقهم، اصبر، وأنا أضمن لك الخلافة، فاطمأن خاطر المأمون بهذا الوعد الصريح وقال له: صبرت: وجعلت الأمر لك، فقم به " وسماه ذا الرياستين " - أي رياسة السيف والقلم - وجهز الفضل الجيوش بقيادة " طاهر بن الحسين "، وانتهت الحرب بفتح بغداد، وقتل الأمين عام 198 ه‍، وأصبح الفضل صاحب الكلمة النافذة في الدولة، وولى أخاه " الحسن بن سهل " كور الجبال والعراق وفارس والأهواز والحجاز واليمن، على أن يكون مقامه في بغداد.
    وبذل الفضل كل جهده في تحريض المأمون على بيعة الإمام علي الرضا بولاية العهد من بعده، وربما كانت تلك البيعة شرطا لمساعدته في استرجاع الخلافة له، وربما حسن الفضل له ذلك، وإن لم يشترطه، فأجابه المأمون إلى ذلك، إما وفاء لوعده، أو مجاراة له للمكر به، أو أنه فعله عن حسن ظن في العلويين، وقد رضع حب الشيعة منذ طفولته، وكان يظهر التشيع، فبايع لعلي الرضا سنة 201 ه‍، وجعله الخليفة من بعده، ولقبه " الرضا من آل محمد "، وأمر جنده بطرح السواد، ولبس الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق (جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي 3 / 438 - 439 (بيروت 1967).).
    هذا وتذهب رواية إلى أن " الفضل بن سهل " لم يفعل ذلك حبا للإمام علي الرضا، يروي الجهشياري أن كلاما دار بين الفضل وبين " نعيم بن أبي حازم " - بحضرة المأمون - فقال له نعيم: إنك تريد أن تزيل الملك عن بني العباس إلى ولد علي، ثم تحتال لتجعل الملك كسرويا، ولولا أنك أردت ذلك، لما عدلت عن لبسه إلى علي وولده وهي البياض إلى الخضرة، وهي لباس كسرى والمجوس (الجهشياري: الوزراء والكتاب ص 312 - 313 (القاهرة 1938).)، هذا فضلا عن الخلاف الذي حدث بين الإمام الرضا والفضل بن سهل بعد البيعة.
    هذا ويذهب " ابن طباطبا " إلى أن الفضل بن سهل، وزير المأمون، هو القائم بهذا الأمر (أي بيعة الإمام الرضا) والمحسن له (ابن طباطبا: الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية ص 217 (بيروت 1960).).ولسوف يتضح لك أن هذا كله وهم وأنه ليس للفضل أي فضل على الإمام ذلك حينما نعرض لهذا الأمر في حينه.
    ابن طباطبا: أبو محمد عبد الله بن أحمد بن علي بن الحسن بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين، الحجازي الأصل، المصري الدار والوفاة، كان طاهرا فاضلا كريما، واسع الثراء، ولد عام 286 ه‍، وتوفي في الرابع من رجب عام 348 ه‍، ودفن بقرافة مصر، وقبره مشهور بإجابة الدعاء، روي أن رجلا حج وفاته أن يزور النبي (صلى الله عليه وسلم)، فضاق صدره لذلك، فرأى النبي (صلى الله عليه وسلم) في نومه فقال له: إذا فاتتك الزيارة، فزر قبر عبد الله بن أحمد بن طباطبا (وفيات الأعيان 3 / 81 - 83).
    وأما قصة اختيار الإمام الرضا وليا لعهد المأمون - عند أبي الفرج الأصفهاني - فيرويها كالتالي:
    " وجه المأمون إلى جماعة من آل أبي طالب، فحملوا إليه من المدينة، وفيهم علي بن موسى الرضا، فلما قدموا على المأمون، أنزلهم دارا، وأنزل علي بن موسى الرضا دارا، ووجه إلى الفضل بن سهل، فأعلمه أنه يريد العقد له، وأمره بالاجتماع مع أخيه الحسن بن سهل على ذلك، ففعل واجتمعا بحضرته، فجعل الحسن يعظم ذلك عليه ويعرفه ما فيه إخراج الأمر من أهله عليه، فقال له: إن عاهدت الله أن أخرجها إلى أفضل آل أبي طالب، إن ظفرت بالمخلوع، وما أعلم أحدا أفضل من هذا الرجل، فاجتمعا معه على ما أراد.". أبو الفرج الأصفهاني: هو علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الله بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي، صاحب " الأغاني " و "مقاتل الطالبيين " كان عالما بالأنساب والسير وأيام الناس، ولد عام ٢٨٤ ه‍، وتوفي يوم الأربعاء رابع عشر ذي الحجة عام ٣٥٦ ه‍، ببغداد (وفيات الأعيان ٣ / ٣٠٧ - ٣٠٩، شذرات الذهب ٣ / ١٩ - ٢٠، ميزان الاعتدال 3 / ١٢٣، معجم الأدباء ١٣ / ٩٤، تاريخ بغداد 11 / 398).
    فأرسلهما إلى علي بن موسى الرضا، فعرضا ذلك عليه فأبى، فتهدداه وتهدده المأمون حتى قبل، وحين أجلسه للبيعة جعل ابنه العباس أول المبايعين "(أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبين ص 368 - 370.).
    ومن الواضح من هذا النص أن المأمون كانت له رغبة حقيقية في اختيار ولي عهده من آل أبي طالب، وأن فكره قد اتجه إلى " علي الرضا " فأنزله في دار مستقلة، وأن معارضة الحسن بن سهل ربما كانت من تدبير أخيه الفضل حتى يبعدا عن نفسيهما تهمة التأثير على المأمون في هذا الأمر الخطير، وربما كانت فكرة اختيار أحد العلويين فكرتهما في الأصل، وأن اختيار الإمام الرضا إنما كان اختيار المأمون وحده، ومن المعروف أن هناك ودا غير متبادل بين الإمام الرضا وبين الفضل والحسن ابني سهل، وقد نجح الإمام الرضا في إزالة الغشاوة عن عيني المأمون من ناحيتهما، وتبصيره بما كان يحاول الفضل إخفاءه عنه من أحوال البلاد المضطربة حتى أنهم بايعوا عمه " إبراهيم بن المهدي " خليفة بدله، وبدا المأمون وكأنه يسمع ذلك لأول مرة، حتى رد على الإمام الرضا قائلا: " إنهم لم يبايعوا له بالخلافة، وإنما صيروه أميرا يقوم بأمرهم "، بل وأخبر الإمام الرضا عن الحرب التي تدور رحاها بين إبراهيم و " الحسن بن سهيل "، وأن الناس تكره مقام الفضل وأخيه من المأمون (محمد مصطفى هدارة: المأمون ص 75 - 76.).
    ولنقدم الآن صورة مختصرة من كتاب العهد الذي كتبه المأمون بخطه للإمام علي الرضا - كما جاء في كتاب الفصول المهمة:
    " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد، لعلي بن موسى بن جعفر، ولي عهده، أما بعد، فإن الله عز وجل، اصطفى الإسلام دينا، واختار له من عباده رسلا، دالين عليه، هادين إليه، يبشر أولهم بآخرهم، ويصدق تاليهم ماضيهم، حتى انتهت نبوة الله تعالى إلى محمد (صلى الله عليه وسلم)،على فترة من الرسل، ودروس من العلم، وانقطاع من الوحي، واقتراب من الساعة، فختم الله به النبيين، وجعله شاهدا عليهم، ومهيمنا، وأنزل عليه كتابه العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فلما انقضت النبوة، وختم الله بمحمد (صلى الله عليه وسلم)، الرسالة، جعل قوام الدين، ونظام المسلمين في الخلاقة ونظامها، والقيام بشرائعها وأحكامها ".
    " ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة، وحمل مشاقها، وخبر مرارة طعمها، وذاقها مسهرا لعينيه، منصبا لبدنه، مطيلا لفكره، فيما فيه عز الدين، وقمع المشركين، وصلاح الأمة، وجمع الكلمة، ونشر العدل، وإقامة الكتاب والسنة، منعه ذلك من الخفض والدعة، ومهنأ العيش، محبة أن يلقى الله سبحانه وتعالى، مناصحا له في دينه، وعباده، ومختارا لولاية عهده، ورعاية الأمة من بعده، أفضل من يقدر عليه، في دينه وورعه وعلمه، وأرجاهم للقيام في أمر الله وحقه، مناجيا لله تعالى، بالاستخارة في ذلك، ومسألته الهامة، ما فيه رضاه وطاعته، في آناء ليله ونهاره، معملا فكره ونظره في طلبه والتماسه، في أهل بيته من ولد عبد الله بن العباس، وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، مقتصرا ممن علم حاله ومذهبه منهم على علمه، وبالغا في المسألة ممن خفي عليه أمره، جهده وطاقته، حتى استقصى أمورهم معرفة، وابتلى أخبارهم مشاهدة، واستبرأ أحوالهم معاينة، وكشف ما عندهم مسألة ".
    وكانت خبرته - بعد استخارة الله تعالى - وإجهاده نفسه في قضاء حقه في عباده وبلاده في الفئتين جميعا: علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، لما رأى من فضله البارع، وعلمه الذائع، وورعه الظاهر والشائع، وزهده الخالص النافع، وتخليه عن الدنيا، وتفرده عن الناس، وقد استبان له منذ لم تزل الأخبار عليه منطبقة، والألسنة عليه متفقة، والكلمة فيه جامعة، والأخبار واسعة، ولما لم يزل يعرف به من الفضل، يافعا وناشئا، وحدثا وكهلا، فلذلك عقد له بالعهد والخلافة من بعده، واثقا بخيرة الله في ذلك، إذ علم الله أنه فعله إيثارا للدين، ونظرا للإسلام والمسلمين، وطلبا للسلامة، وثبات الحجة، والنجاة في اليوم الذي تقوم فيه الناس لرب العالمين ".
    " ودعا أمير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصته وقواده وخدمه، فبايعه الكل مطيعين مسارعين، عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيره ممن هو أشبك رحما، وأقرب قرابة، وسماه " الرضا "، إذ كان مرضيا عند الله تعالى، وعند الناس، وقد آثر طاعة الله تعالى، والنظر لنفسه وللمسلمين، والحمد لله رب العالمين ".
    " كتبه بيده في يوم الاثنين لسبع خلون من شهر رمضان المعظم، سنة إحدى ومائتين " (نور الأبصار ص 156 - 157.).
    ولنقدم الآن صورة ما على ظهر العهد، بخط الإمام علي بن موسى الرضا:
    " بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الفعال لما يشاء، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وصلاته على نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم)، خاتم النبيين، وآله الطيبين الطاهرين، أقول، وأنا علي بن موسى بن جعفر، أن أمير المؤمنين، عضده الله بالسداد، ووفقه للرشاد، عرف من حقنا ما جهله غيره، فوصل أرحاما قطعت، وأمن نفوسا فزعت، بل أحياها، بعد أن كانت من الحياة أيست، فأغناها بعد فقرها، وعرفها بعد نكرها، متبعا بذلك رضا رب العالمين، لا يريد جزءا من غيره، وسيجزي الله الشاكرين، ولا يضيع أجر المحسنين ".
    " وإنه جعل إلي عهده، والإمرة الكبرى، إن بقيت بعده، فمن حل عقدة أمر الله بشدها، أو فصم عروة أحب الله اتساقها، فقد أباح حريمه، وأحل محرمه، إذ كان بذلك زاريا على الإمام، منتهكا حرمة الإسلام ".
    " وخوفا من شتات الدين، واضطراب أمر المسلمين، وحذر فرصة تنتهز، وعلقة تبتدر، جعلت لله تعالى على نفسي عهدا، أن استرعاني أمر المسلمين، وقلدني خلافة العمل فيهم عامة، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة، أن أعمل فيهم بطاعة الله، وطاعة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولا أسفك دما، ولا أبيح فرجا، ولا مالا، إلا ما سفكته حدوده، وأباحته فرائضه، وأن أتحرى الكفاءة جهدي وطاقتي ".
    " وجعلت بذلك على نفسي عهدا مؤكدا، يسألني الله عنه، فإنه عز وجل يقول: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا، وإن أحدثت أو غيرت أو بدلت، كنت للعزل مستحقا، وللنكال متعرضا، وأعوذ بالله من سخطه، وإليه أرغب في التوفيق لطاعته، والحول بيني وبين معصيته في عافية، وللمسلمين، والجامعة والجفر، يدلان على ضد ذلك، وما أدري ما يفعل الله بي ولا بكم، إن الحكم إلا لله يقص الحق، وهو خير الفاصلين، لكني امتثلت أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه، والله يعصمني وإياه، وأشهدت الله تعالى على نفسي بذلك، وكفى بالله شهيدا ".
    " وكتبت بخطي بحضرة أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، والحاضرين من أولياء نعمته، وخواص دولته، هم: الفضل بن سهل، وسهل بن الفضل، والقاضي يحيى بن أكثم، وعبد الله بن طاهر، وثمامة بن الأشرس، وبشر بن المعتمر، وحماد بن النعمان، وذلك في شهر رمضان، سنة إحدى ومائتين " (نور الأبصار ص 175.).
    ثم بعد ذلك صورة لشهادة الشهود: القاضي يحيى بن أكثم وعبد الله بن طاهر وحماد بن النعمان وبشر بن المعتمر والفضل بن سهل.
    ثم أمر أمير المؤمنين بقراءة هذه الصحيفة - التي هي صحيفة العهد والميثاق - ظهرا وبطنا، بحرم سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، بين الروضة والمنبر، على رؤوس الأشهاد، بمرأى ومسمع من وجوه بني هاشم، وسائر الأولياء، والأجناد، بعد أخذ البيعة عليهم، واستيفاء شروطها، بما أوجبه أمير المؤمنين من العهد لعلي بن موسى الرضا، لتقوم به الحجة على جميع المسلمين، ولتبطل الشبهة التي كانت اعترضت لآراء الجاهلين، وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه (نور الأبصار ص 157 - 158.).
    هذا وقد كتب الخليفة المأمون إلى " عبد الجبار بن سعد المساحقي " - عامله على المدينة - أن أخطب الناس، وأدعهم إلى بيعة " الرضا علي بن موسى " فقام خطيبا فقال:
    " يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا " علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب "، ستة آباء، هم ما هم، من خير، من يشرب صوب الغمام " (ابن عبد ربه: العقد الفريد 5 / 359 (بيروت 1983).).

صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. الشيخ عبدالقادر الجيلاني المفترى عليه بين أهل السنة و الصوفية
    بواسطة أبو مروان في المنتدى موسوعة الفرق و المذاهب ( الملل والنحل )
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 28-05-2018, 03:14 PM
  2. مفهوم الصراحة المفترى عليه
    بواسطة مهندس الانساب في المنتدى مجلس السلالات العام
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 21-09-2016, 06:11 AM
  3. الخليفة العباسى ..... المأمون
    بواسطة حسن جبريل العباسي في المنتدى مجلس الاشراف العباسيين العام
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 06-09-2014, 01:04 PM
  4. هارون الرشيد الخليفة المفترى عليه ......شخصيات مهمة في التاريخ..ثقافه تاريخية.
    بواسطة القلقشندي في المنتدى موسوعة التراجم الكبرى
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-12-2012, 09:14 PM
  5. الوالي الاموي قرة بن شريك المفتري عليه
    بواسطة ابن خلدون في المنتدى موسوعة التراجم الكبرى
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 09-12-2012, 04:37 PM

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
MidPostAds By Yankee Fashion Forum