تفســير آية
"وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ۖ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"(سورة إبراهيم،الآيات 20-22)


إعداد د/ فتحى زغـروت



الشـــرح والتفسـير:-


لقد انتقلت الرواية.. رواية الدعوة والدعاة، والمكذبين والطغاة.. انتقلت منمسرح الدنيا إلى مسرح الآخرة:






وبرزوا لله جميعا ..





الطغاة المكذبون وأتباعهم من الضعفاء المستذلين. ومعهم الشيطان.. ثم الذينآمنوا بالرسل وعملوا الصالحات.. برزوا "جميعا" مكشوفين. وهم مكشوفون للهدائما. ولكنهم الساعة يعلمون ويحسون أنهم مكشوفون [ ص: 2096 ] لا يحجبهم حجاب، ولايسترهم ساتر، ولا يقيهم واق.. برزوا وامتلأت الساحة ورفع الستار، وبدأ الحوار:





فقال الضعفاء للذين استكبروا: إنا كنا لكم تبعا. فهل أنتم مغنون عنا منعذاب الله من شيء؟ ..





والضعفاء هم الضعفاء. هم الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسان الكريم علىالله حين تنازلوا عن حريتهم الشخصية في التفكير والاعتقاد والاتجاه; وجعلوا أنفسهمتبعا للمستكبرين والطغاة. ودانوا لغير الله من عبيده واختاروها على الدينونة لله.والضعف ليس عذرا، بل هو الجريمة; فما يريد الله لأحد أن يكون ضعيفا، وهو يدعوالناس كلهم إلى حماه يعتزون به والعزة لله. وما يريد الله لأحد أن ينزل طائعا عننصيبه في الحرية - التي هي ميزته ومناط تكريمه - أو أن ينزل كارها. والقوة المادية- كائنة ما كانت - لا تملك أن تستعبد إنسانا يريد الحرية، ويستمسك بكرامتهالآدمية. فقصارى ما تملكه تلك القوة أن تملك الجسد، تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه.أما الضمير. أما الروح. أما العقل. فلا يملك أحد حبسها ولا استذلالها، إلا أنيسلمها صاحبها للحبس والإذلال!





من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعا للمستكبرين في العقيدة، وفيالتفكير، وفي السلوك؟ من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء يدينون لغير الله،والله هو خالقهم ورازقهم وكافلهم دون سواه؟ لا أحد. لا أحد إلا أنفسهم الضعيفة.فهم ضعفاء لا لأنهم أقل قوة مادية من الطغاة، ولا لأنهم أقل جاها أو مالا أو منصباأو مقاما.. كلا، إن هذه كلها أعراض خارجية لا تعد بذاتها ضعفا يلحق صفة الضعفبالضعفاء. إنما هم ضعفاء لأن الضعف في أرواحهم وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهمبأخص خصائص الإنسان!





إن المستضعفين كثرة، والطواغيت قلة. فمن ذا الذي يخضع الكثرة للقلة؟ وماذاالذي يخضعها؟ إنما يخضعها ضعف الروح، وسقوط الهمة، وقلة النخوة، والتنازل الداخليعن الكرامة التي وهبها الله لبني الإنسان!





إن الطغاة لا يملكون أن يستذلوا الجماهير إلا برغبة هذه الجماهير. فهيدائما قادرة على الوقوف لهم لو أرادت. فالإرادة هي التي تنقص هذه القطعان!





إن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء.. وهذه القابلية هيوحدها التي يعتمد عليها الطغاة!!





والأذلاء هنا على مسرح الآخرة في ضعفهم وتبعيتهم للذين استكبروا يسألونهم:





إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ؟ ..





وقد اتبعناكم فانتهينا إلى هذا المصير الأليم؟!





أم لعلهم وقد رأوا العذاب يهمون بتأنيب المستكبرين على قيادتهم لهم هذهالقيادة، وتعريضهم إياهم للعذاب؟ إن السياق يحكي قولهم وعليه طابع الذلة على كلحال!





ويرد الذين استكبروا على ذلك السؤال:





قالوا: لو هدانا الله لهديناكم! سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا منمحيص! ..





وهو رد يبدو فيه البرم والضيق:





لو هدانا الله لهديناكم ..





فعلام تلوموننا ونحن وإياكم في طريق واحد إلى مصير واحد؟ إننا لم نهتدونضللكم. ولو هدانا الله لقدناكم [ ص: 2097 ] إلى الهدى معنا، كما قدناكم حينضللنا إلى الضلال! وهم ينسبون هداهم وضلالهم إلى الله. فيعترفون الساعة بقدرتهوكانوا من قبل ينكرونه وينكرونها، ويستطيلون على الضعفاء استطالة من لا يحسب حسابالقدرة القاهر الجبار. وهم إنما يتهربون من تبعة الضلال والإضلال برجع الأمر لله..والله لا يأمر بالضلال كما قال سبحانه: إن الله لا يأمر بالفحشاء .. ثم هم يؤنبونالضعفاء من طرف خفي، فيعلنونهم بأن لا جدوى من الجزع كما أنه لا فائدة من الصبر.فقد حق العذاب، ولا راد له من صبر أو جزع، وفات الأوان الذي كان الجزع فيه منالعذاب يجدي فيرد الضالين إلى الهدى; وكان الصبر فيه على الشدة يجدي فتدركهم رحمةالله. لقد انتهى كل شيء، ولم يعد هنالك مفر ولا محيص:





سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص !





لقد قضي الأمر، وانتهى الجدل، وسكت الحوار.. وهنا نرى على المسرح عجبا. نرىالشيطان.. هاتف الغواية، وحادي الغواة.. نراه الساعة يلبس مسوح الكهان، أو مسوحالشيطان! ويتشيطن على الضعفاء والمستكبرين سواء، بكلام ربما كان أقسى عليهم منالعذاب:





وقال الشيطان - لما قضي الأمر - إن الله وعدكم وعد الحق، ووعدتكم فأخلفتكم.وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي. فلا تلوموني ولوموا أنفسكم.ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي. إني كفرت بما أشركتمون من قبل. إن الظالمين لهمعذاب أليم .





الله! الله! أما إن الشيطان حقا لشيطان! وإن شخصيته لتبدو هنا على أتمهاكما بدت شخصية الضعفاء وشخصية المستكبرين في هذا الحوار..





إنه الشيطان الذي وسوس في الصدور، وأغرى بالعصيان، وزين الكفر، وصدهم عناستماع الدعوة.. هو هو الذي يقول لهم وهو يطعنهم طعنة أليمة نافذة، حيث لا يملكونأن يردوها عليه - وقد قضي الأمر - هو الذي يقول الآن، وبعد فوات الأوان:





إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ! ثم يخزهم وخزة أخرى بتعبيرهمبالاستجابة له، وليس له عليهم من سلطان، سوى أنهم تخلوا عن شخصياتهم، ونسوا مابينهم وبين الشيطان من عداء قديم، فاستجابوا لدعوته الباطلة وتركوا دعوة الحق منالله:


وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ! ثم يؤنبهم، ويدعوهملتأنيب أنفسهم. يؤنبهم على أن أطاعوه!:





فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ! ثم يخلي بهم، وينفض يده منهم، وهو الذي وعدهممن قبل ومناهم، ووسوس لهم أن لا غالب لهم; فأما الساعة فما هو بملبيهم إذا صرخوا،كما أنهم لن ينجدوه إذا صرخ:





ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ..





وما بيننا من صلة ولا ولاء!





ثم يبرأ من إشراكهم به ويكفر بهذا الإشراك:





إني كفرت بما أشركتمون من قبل !





ثم ينهي خطبته الشيطانية بالقاصمة يصبها على أوليائه:





[ ص: 2098 ] إن الظالمين لهم عذاب أليم ! فيا للشيطان! ويا لهم من وليهمالذي هتف بهم إلى الغواية فأطاعوه; ودعاهم الرسل إلى الله فكذبوهم وجحدوه!




,QfQvQ.E,h gAg~QiA [QlAduWh tQrQhgQ hgq~EuQtQhxE gAg~Q`AdkQ hsXjQ;XfQvE,h YAk~Qh ;Ek~Qh gQ;ElX jQfQu