الوجيز فى النظم السياسية



الدكتور /نعمان أحمد الخطيب



وعلى هذا الأساسنستطيع القول، بأنه مهما تعددت تعريفات الدولة واختلفت، فإنها تمثل ظاهرة عالميةتجسد "مجموعة من الافراد يقطنون إقليماً جغرافيا معيناً بصفة دائمة ومستقرةويخضعون فى تنظيم شؤونهم لسلطة سياسية تستقل فى أساسها عن أشخاص من يمارسها .

(15)


المبحث الثاني



أركان الدولة:ـ


1_الجماعة البشرية"الشعب.


2_الإقليم.


3_السلطةالسياسية.

(16)



المطلب الأول


الجماعة البشرية(الشعب)


وجود الجماعةالبشرية ركن أساسى لا بد منه لقيام الدولة، وإن كان عدد هذه الجماعة غير مشروط بحدأدنى لعدد هذه الجماعة. ومع ذلك يجب أن يكون هذا العدد معقولاً حتى تستطيع الدولةأن تنشأ.


إن زيادة عددالأفراد فى الدولة الحديثة تلعب دورا هاما _فى أغلب الاحيان_ فى قوتها ومركزهاالخارجى، وهذا هو ما يميز دولا كبيرة كالصين والاتحاد السوفييتى _سابقا_ وروسياالاتحادية والهند والولايات المتحدة الأمريكية، والذى يتجاوز عدد أفراد شعوبهامئات الملايين ، عن تلك الدول الصغرى التى لا يتجاوز عدد سكانها الألف مثلالفاتيكان، أو عشرات الألوف مثل سانمارينو.


والغالب أن يسودبين أفراد الشعب الانسجام المعنوى القائم على الجنس واللغة والدين، أو غيرها منالعوامل، ولكن هذا ليس شرطا أساسيا؛ لأن الدولة يمكن أن تحتوى على عناصر لا تنسجممع سائر المجموعة فى الاصل أو اللغة أو الدين أو التقاليد، الامر الذى يثير الآنمشكلة الأقليات.


وعلى كل حال سواءوجدت الرابطة المعنوية أم لم توجد، فسائر أفراد الشعب يرتبطون برابطة سياسية وقانونية، وهى الجنسية أو الرعوية. وهى العلاقةالتى تربط الرعايا بدولتهم، وعلى هذا فالرابطة المعنوية، هى التى تميز الشعب عن الأمة.

(17)



فالشعب لا يعنىأكثر من مجموع الافراد الذين يقيمون على إقليم معين بصفة دائمة ومستقرة، ويخضعونلنظامها السياسى بعد أن يتمتعوا بجنسيتها.


أما الأمة فهى مجموعة الافراد، الذين يستقرونعلى إقليم معين ، وتجمعهم الرغبة فى العيش معاً، بسبب الروابط المختلفة كالدين ،او اللغة، او الجنس، أو التاريخ المشترك.


لهذا فالشعب قديتكون من أمة واحدة، وتكون الدولة فى هذه الحالة أقوى ما تكون عليه الدول. وقديتكون الشعب من عدة قوميات وانتماءات تاريخية، أو عرقية، أو اقتصادية ، أو دينية،وفى هذه الحالة يبدو بناء الدولة ضعيفا مزعزعاً. إلا إذا تمكنت الدولة فى الحالةالثانية أن تصهر هذا الشعب فى صورة جديدة،يشد بعضه بعضاً بمجموعة روابط جديدة تخلق فيه روح أمة جديدة(1).


لهذا فإن كانت الدولة تجسد العلاقة السياسىةوالقانونية بين الفرد والمجموع، فإن الأمة تجسد العلاقة الاجتماعية والمعنويةبينها(2). وأقوى الدول من تتمكن من دمج هذه العلاقات بعضها ببعض، وإيجاد الانسجامالكامل بينها، وإلا تعرضت إلى الانهيار الحتمى، كما حدث للاتحاد السوفياتى فىالعقد الأخير من القرن العشرين، فى عهد رئيسه الأخير ميخائيل غور باتشوف.


الشعب واسكان:


إذا كان الشعب فىمعناه العام، يشير إلى مجموع الأفراد الذين يستقرون على إقليم دولة معينة.وينتسبون إليها بالجنسية ، وهم الذين يطلق عليهم اصطلاح رعايا أو مواطنين، فإن لفظالسكان يتسع ليشمل كل من يقيم على أرض الدولة سواء كان

(18)



مواطناً أوأجنبياً، أى سواء كان يحمل جنسيتها أو لا يحمل(1).


وللشعب مدلولان:المدلول الاجتماعى والمدلول السياسى:


الشعب بمدلولهالاجتماعى، يعنى كافة الأفراد الذين يقيمون على أرض الدولة ويتمتعون بجنسيتها،سواء كانوا رجالأ أم نساء، شيوخا أم أطفالا ، عقلاء أم مجانين.


أما الشعب بمدلولهالسياسى، فلا يعنى أكثر من اؤلئك الذين يتمتعون بالحقوق السياسية، أى الذين تدرجأسماؤهم فى جداول الانتخابات، ويطلق عليهم جمهور الناخبين(2).


وعلى هذا يبقى الشعب بمعناه الاجتماعى، أوسعنطاقا من الشعب بمفهومه السياسى الذى يستبعد فئات متعددة من أفراد الشعب، بحكممركزهم القانونى، سواء تعلق الأمر بالناحية الذاتية كفاقدى الأهلية، أو الناحيةالجنائية كمرتكبى بعض الجرائم. إلا أن أهم عامل يقرب أو يبعد مفهومى الشعب منبعضهما البعض هو النظام الدستورى.


فحيث يأخذ النظام الدستورى بنظام الاقتراع العاميقرب الشعب بمفهومه السياسى من الشعب بمفهومه الاجتماعى؛ لأنه لا يشترط فى مواطنىالدولة إلا بعض الشروط التنظيمية، كالتى تتعلق بالجنسية ، أو السن ، أو الأهلية.


أما عندما يأخذالنظام الدستورى بالاقتراع المقيد، فإنه يشترط بالاضافة إلى هذه الشروط التنظيمية،شروطا أخرى فى الناخب كتوافر قسط من المال، أو التعليم، أو الانتماء إلى طبقة، أوفئة معينة(3).


أخذ الدستور الأردنى 1925 والمعمول به حالياً،بنظام الاقتراع العام بالسبة لا نتخاب أعضاء مجلس النواب، حيث نصت المادة/ 67 منهعلى أنه "يتألف مجلس

(19)



النواب من أعضاءمنتخبين انتخابا عاما سريا ومباشرا وفقا لقانون الانتخاب .(1)


غير أن قانونالإنتخاب لمجلس النواب رقم22 لعام 1986 المعدل بقانون مؤقت رقم 14 لسنة 1989 (2)،وقبله قانون 24 لعام 1964 قد حرما العسكريين من ممارسة حقهم الانتخابى، حيث نصتالمادة الخامسة من هذا القانون على أن "يوقف استعمال حق الانتخاب عن العاملينفى القوات المسلحة الأردنية، والدفاع المدنى، والأمن العام وذلك طليلة وجودهم فىالخدمة الفعلية" (3).


الشعب والأمة:


الشعب كما ذكرنايعنى مجموعة الأفراد الذين يقيمون على إقليم الدولة، وينتمون إليها بجنسيتهم. هذاالشعب إماً أن يكون كلاً منسجماً لعدة عوامل، ويسمى أمة، أو أن لا يكون ذلك.


ففى الحالة الأولى، تكون الدولة قوية متماسكة،أما فى الحالة الثانية، فتكون مزعزعة . لذلك فالذى يقوى من كيان الدولة، ليس مجردوجود الشعب على إقليمها، بل هو قوة الروابط التى تشد الجماعة، وتدعوها إلى الرغبةالمشتركة فى العيش معاً.

(20)



(السبت 14 /9)

المطلب الثالث


السلطة السياسية



لا يكفى قيامالدولة ونشأتها توافر مجموعة أفراد يقطنون "إقليماً معيناً" بصفة دائمةومستقرة. وإنما يجب علاوة على ذلك وجود هيئة حاكمة، أو سلطة سياسية على الأفرادالذين يخضعون لها.


والسلطة السياسية، أو الهيئة الحاكمة هى أهمعناصر تكوين الدولة، الأمر الذى دفع بعض الفقه إلى تعريف الدولة بها. وبالتالىقوله بأن "الدولة تنظيم لسلطة القهر، وهى عنوان السلطة المطلقة" .


ولا يكفى مجرد وجود سلطة عامة يخضع لها الأفرادللقول بوجود الدولة، بل يلزم أن تحصل هذه السلطة على اعتراف الأفراد بها وقبولهم. وبالتالى فأى سلطةلا تستند إلى ادارة الجماعة التى تحكمها تكون سلطة فعلية لا تسمح كما يرى الفقهالدستورى _ بقيام الدولة بالمعنى الحديث _ وبالتالى فقيام الدولة أو تأسيس السلطةمرتبط برضاء الأفراد .

(27)



إلا أن إرضاءالأفراد لا يعنى أن سلطة الدولة يجب أن لا تستند إلى القوة ، لأن هذه القوة لازمةوضرورة لا بد منها لممارسة سلطانها. وبالتالى فتخلف القوة يعنى فناء الدولة لأنهيعطى القوة المنافسة القدرة على الظهور وفرض وجودها على الإقليم .(الدكتور ابراهيم شيحا: مبادئ الأنظمةالسياسية(المرجع السابق)ص22)


إن فهم السلطة السياسية كعنصر ثالث للدولة ،يحتاج للتمييز بين صاحب السلطة، وبين من يمارسها.


صاحب السلطة السياسية، هى الدولة المكونة منالحكام والمحكومين. أما الحاكم أو الفئة الحاكمة، فهى ليست أكثر من ممارسة لهذه السلطة.(2).


لقد ارتبطت السلطة السياسية بفكرة الحاكم فترةطويلة، وهى الفترة التى سادت فيها ما سميت بشخصية السلطة، على اعتبار شخص الحاكمهو أصل وأساس السلطة.


إلا أنه وبتقدم الجماعات، بدأ هذا الارتباط بينالسلطة السياسية والحاكم فى الانهيار، وظهور فكرة السلطة المجردة عن شخصية الحاكم،الأمر الذى أدى إلى الفصل بين الأساس وهو السلطة والممارس وهو الحاكم.(لمزيد من التفصيل راجع: الدكتور محسن خليل:النظم السياسية (المرجع السابق)،ص23)


وتمتاز السلطة كعنصر من عناصر الدولة بأنها أصلية، لا تنبع من سلطات أخرى، وإنما السلطاتالأخرى هى التى تنبع منها، كذلك فإن هذه السلطة هى سلطة ذات اختصاص عام، يشمل كافة جوانب الحياة داخل الدولة، بخلافبقية السلطات الأخرى، التى تنظم جانباًمعيناً من حياة الأشخاص.

(28)



وإذا كانت السلطةتمثل العنصر الثالث للدولة، فإنها هى أهم ما يميزها عن الأمة، التى لا يشترطلقيامها اقرارها لسلطة سياسية عليها، بينما ذلك أمر سياسى لا بد منه لقيام الدولة.




البابا الكاثوليكىو الفاتيكان:


مارس البابا سيادة روحية على العالم الكاثوليكى،وسيادة مادية زمنية بصفته ملكاً على مدينة روما، وبعض المناطق المحيطة بها.


وبعد أن دخلت الجيوش الإيطالية روما عام 1870،فقد البابا سيطرته الزمنية واحتفظفقط بسلطانه الروحية كرئيس للكنيسةالكاثوليكية. بل عد بهذه الصفة شخصاً من أشخاص القانون الدولى العام.(انظر الدكتور محمد حافظ غانم:مبادئ القانونالدولى العام(المرجع السابق)،ص318) وهو بهذه الصفةأصبح قادرأ على التعبير عن إرادة خاصة فى ميدان العلاقات الدولية، وممارسة بعضالاختصاصات التى يحكمها القانون الدولى العام.


لهذا فإن البابا لا يستمد صلاحياته واختصاصاتهويتحدد مركزه من دستور أو تشريع داخلى، وإنما تستند هذه الاختصاصات والصلاحيات إلىالعرف الدولى، الذى رتب له بعض الحقوق مثل تبادل المبعوثين الدبلوماسيين، وعقدالمعاهدات الخاصة برعاية المصالح الدينية للكاثوليك فى العالم. وبالتالى فليسللبابا الاشتراك فى المؤتمرات التى تناقش فيها أمور مادية فقط، لأنه ليس رئيساللدولة. وهذا الامر لم يتغير حتى بعد معاهدة "لاتران" ، التى تنازلتبمقتضاها الحكومة الايطالية للبابا عن مدينة الفاتيكان وأخضعتها لسلطاته منذ عام1929.


فالبابا ليس رئيساً لدولة، والفاتيكان ليستبدولة؛ لأنه لا يمكن اعتبارها كذلك.

(29)



حيث مساحتها التىلا تزيد على (1كم) ، وسكانها لا يزيدون على المائة من الذكور فقط(1)، ومرافقها التى تدار من الحكومة الايطالية.



الفصل الثانى


خصائص الدولة



إذا توافرتالأركان الثلاثة (الشعب، والاقليم، والسلطة) قامت الدولة. وبقيام الدولة، بإنهاتتميز بخصيصتين:


_الخصيصة الأولى :الشخصية المعنوية.


_الخصيصة الثانية: السيادة.



المبحث الأول


الشخصية المعنوية



يذهب أغلب الفقه إلى الاعتراف للدولة بالشخصية القانونية،التى تؤهلها لاكتساب الحقوق ، وتحمل الالتزامات، شأنها فى ذلك شأن الأفرادالطبيعيين المكونين لها، وإن ظلت مستقلة عنهم. لذلك توصف بالشخصية المعنوية(لمزيدمن التفاصيل راجع:الدكتور عبد المنعم فرج الصدة:أصول القانون،دار النهضة العربيةبيروت،1978،ص468.الدكتور محسن خليل:النظم السياسية(المرجع السابق)،ص43.

(30)



الحقوق والالتزاملصيقة بالشخص المعنوى، ومتميزة عن حقوق والتزامات الأفراد الطبيعيين المكونين لهوهم الشعب .


لقد اتى اعتراف الفقه القانونى بالشخصيةالمعنوية، من خلال إدراك حاجة الأفراد إلى توحيد الجهود الجماعية من ناحية، وضمانالعمل واستمرارية النتيجة الإيجابية لتضافر جهود الجماعة رغم فناء الأفراد منناحية أخرى.


لقد كانت الدولة أعلى وأرقى التجمعات، التىاستطاعت تجسيد هذا الهدف. لذلك يعرف بعض الفقه الدولة بأنها تشخيص قانونى للأمة.


(لمزيد منالتفصيل:الدكتور ثروت بدوي)المرجع السابق)ص 40،الدكتور محمد كاملليلة(المرجع السابق)ص37)




ويترتب على الإعتراف للدولة بالشخصية القانونيةإضافة إلى القدرة على التمتع بالحقوق وتحمل الإلتزامات، الفصل بين السلطة ومنيمارسها(الحاكم).


فالإعتراف للدولة بالشخصية المعنوية يعنى فىمجمله كما ذكرنا، وحدة الدولة واستقلاليتها. هذه الإستقلالية ليست فقط عن الأفرادالمحكومين، بل أيضا الحكام. وبالتالى زوال فكرة شخصية السلطة، وظهور السلطةالمجردة النظامية.(لمزيد من التفصيل راجع: الدكتور محسن خليل: النظمالسياسية(المرجع السابق).ص13.

(31)



وإن تطور الأنظمةالسياسية، وما يصاحبها من تغيير فى القائمين على السلطة، أو تعددهم لا يغير منوحدة شخصية الدولة، التى تفسر فى النهاية استمرارها وبقائها ككائن مستقل.




نتائج الشخصيةالمعنوية للدولة :


1_ تعتبر الدولةوحدة قانونية مستقلة ومتميزة عن الأفراد المكونين لها، سواء كانوا حكاماً أومحكومين. وبالتالى فالسلطة التى يتناولها الحكام نيابة عن أفراد الشعب، إنما تتمبإسم الجماعة ولمصلحتها ، وليس للمصلحة الخاصة، سواء للحكام أو للمحكومين.


2_ إن المعاهداتوالاتفاقيات التى أبرمتها الدولة، تبقى نافذة مهما تغير شكل الدولة، أو نظام الحكمفيها.


3_ لايترتب علىتغيير شكل الدولة، أو نظام الحكم فيها، أو القائمين عليها، تغيير القوانين، أوتعطيل نفاذها. وإنما تبقى التشريعات سارية، مالم تلغ أو تعدل.


4_ إن الالتزاماتالمالية التى تترتب على الدولة تظل قائمة واجبة النفاذ، وذلك بصرف النظر عما يلحقشكلها، وممثليها من تغيير.


5_ حقوق الدولةوالتزاماتها تظل قائمة طالما ظلت الدولة، باقية بغض النظر عن أى تغيير قد يلحقبشكلها، أو نظام الحكم فيها، أو أشخاص الحكام.


وإذا كان أغلب الفقه قد قرر الاعتراف للدولةبالشخصية المعنوية، فإن هناك جانباً من الفقه قد أنكر على الدولة هذه الشخصية.


العميد ديجى duguit كان على رأسمن تنكر لفكرة الشخصية المعنوية للدولة_ ليس لأننا كما يذكر بعض الفقه بغير حاجةلها_ وإنما لأنه ربط بين فكرة الشخصية والسيادة. وبالتالى فالدولة إذا ما وصفناهابالسيادة_ كما يقول ديجى_ وجعلناها

(32)



خصيصة من خصائصهاامتنع اخضاعها لأى قاعدة أو حكم .


إن الربط بين الشخصية والسيادة غير صحيح.فالشخصية المعنوية خصيصة من خصائص الدولة، أما السيادة فهى خصيصة من خصائص السلطة كركن من أركان الدولة .وبالتالى فهناك دول لها شخصية معنوية، ومع ذلك قد تكون ناقصة السيادة .


هذا وقد جاء اعتراف قانونى صريح للدولة بالشخصيةالمعنوية (الحكيمة) فى القانون المدنى الأردنى الحالى، حيث جاء فى المادة (50)منه: "الأشخاص الحكمية هى:

1_ الدولة والبلديات بالشروط التى يحددها القانون، والمؤسسات العامة وغيرهامن المنشآت التى يمنحها القانون شخصية حكيمة". (33)


المطلب الثانى


نظرية سيادة الأمة



ذهب بعض الفقهاءإلى تقريب مفهوم سيادة الأمة من مفهوم الديمقراطية بل واعتبارهما تعبيرين عن فكرةواحدة ولكن من ناحيتين.


فالديمقراطية هى تغبير عن الشكل السياسى (أىنظام الحكم فى الدولة) أما مبدأ سيادة الأمة، فهو على حد تعبير هذا الفقه عبارة عنالتعبير القانونى.(الدكتور عبد الحميد متولى: الإسلام ومبادئ نظام الحكم(المرجعالسابق)ص108)


واتساقا مع هذا الراى، فإن فكرة السيادة أول ماظهرت على لسان القانونيين الذين كانوا يدافعون عن سلطات الملك فى فرنسا، ضد الباباوالإمبراطور فى العصور الوسطى، مؤكدين أنه يتمتع بالسادة الكاملة فى مملكته، وأنهذه السلطة العليا لا ينافسه عليها أحد فى الدولة.


وكان لجون بودان الفضل الكبير فى إبراز هذا المفهوم، كعنصر مميزللدولة عن سائر المجتمعات الإنسانية.


ومع قيام الثورة الفرنسية، وتأكيد الفصل بينالملك، والسلطة، والسلطة السياسية، ظلت فكرة السيادة قائمة بما لها من صفة الاطلاقوالسمو والاصالة. ولكنها انتقلت من الملك إلى الأمة، لتصبح بذلك إرادة الأمة هىالسلطة العليا التى لا تنافس.


وأيا كان التطور التاريخى لهذا المبدأ، فإنهنظرية فرنسية تنسب إلى جان جاك روسو، الذى كان لكتاباته وأفكاره الفضل الكبير فىالتأكيد على بعض المعانى التى استند عليها أنصار هذا المذهب.(انظر:الدكتور رمزى الشاعر:الأيديولوجيات(المرجع السابق)،ص192) .

(39)



والأخذ بمبدأسيادة الأمة، يعنى الصفة الآمرة العليا فى الدولة لا تراجع إلى فرد، أو أفرادمعينين بذواتهم، أو إلى هيئة، أو هيئات معينة، بل إلى وحدة مجردة ترمز إلى جميعالأفراد. هذه الوحدة التى تمثل المجموع بأفراده وهيئاته، لا يمكن تجزئتها وهىمستقلة تماماً عن الأفراد الذين تمثلهم وترمز إليهم.(1) .


ولما كانت السيادة للأمة ذاتها، باعتبارها وحدةواحدة ومستقلة عن الأفراد المكونين لها، فلا سيادة لفرد، أو جماعة، بل أن الصفةالآمرة العليا لمجموع الأفراد، على اعتبارأن هذا الشخص الجماعى يمثل وحدة واحدة لا تتجزأ، مستقلة عن أفراده ألا وهى الأمة.لذلك قيل، بأن السيادة وحدة واحدة غير قابلة للتجزئة، أو للتنازل، أو للتصرف فيها،أو للتملك، فهى ملك للأمة وحدها.(الدكتور عبد الحميد متولى وآخرون:(المرجع السابقص33.)


ولقد نصت وثيقة اعلان حقوق الانسان التي أقرتهاالجمعيه الوطنيه في فرنسا عام 1789 علي مبدأ سياده الامة ،حيث قررت في المادةالثالثة منها علي أن "الامة هي مصدر كل سيادة، ولا يجوز لأي فرد، أوهيئهممارسة السلطه إلا علي اعتبار أنها صادرة منها "، كذلك تبني الدستور الفرنسيالصادر في 3 سبتمبر 1791 هذا المعني، حيث ورد في الباب الثالث منه فى فقرتيهالاولي والثانيه علي ان "السيادة وحدة واحدة غير قابلة للانقسام ولا للتنازلعنها ولا للتملك بالتقادم، وهى ملك للأمة" وبأن "الأمة هى مصدر جميعالسلطات" .(الدكتور طعيمة الجرف: نظرية الدولة(المرجع السابق)،ص251)

(40)



هذا وقد ساد مبدأسيادة الأمة فى كثير من دساتير الدول العربية. لقد تبناه الدستور المصرى 1923،وكذلك دستور 1930، إذ قضيا فى المادة 23 من كل منهما بأن "جميع السلطاتمصدرها الأمة"، ثم جاء دستور 1956 المصرى، ونص فى المادة الثانية منه على أن"السيادة للأمة".


كذلك تنص المادة /24 من دستور المملكة الأردنيةالهاشمية الحالى (1952) الفقرة الأولى "الأمة مصدر السلطات". أما الفقرةالثانية، فقد نصت على "تمارس الأمة سلطاتها على الوجه المبين فىالدستور". كما نصت المادة السادسة من دستور الكويت (1962) على أن"السيادة للأمة مصدر السلطات جميعاً"، وينص دستور المملكة المغربية(1972) على أن "السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبصفة غير مباشرةبواسطة المؤسسات الدستورية".(الموسوعة العربية للدساتير العالمية ومجلسالأمة،1966)


النتائج المترتبةعلى مبدأ سيادة الأمة :


السيادة طبقاً لمبدأ سيادة الأمة عبارة عن وحدةواحدة غير قابلة للتجزئة، أو للتنازل عنها، أو للتصرف فيها، أو للتملك_ فهى ملكللأمة وحدها. هذا المعنى للسيادة يترتب عليها نتائج عديدة أهمها :


1_النظام النيابىالتقليدى : (الاحد 15 / 9 )


لقد ترتب على اعتناق الديمقراطية التقليديةلنظرية سيادة الأمة، أن أخذت أنظمة الحكم بالنظام الديمقراطى النيابى.


فالأمة هى التى تعبر عن إرادتها، وليست بحاجةإلى أشخاص طبيعية أو معنوية تتحدث بأسمها وتعبر عنها. لأن فى مخالفة ذلك معناه،تجزئة هذه الإرادة، وهذا يتعارض مع مبدأ سيادة الأمة .


لذا قيل بأن مبدأ سيادة الأمة لا يتناسب معالديمقراطية المباشرة، حيث يقوم الأفراد بأنفسهم دون وساطة أحد بممارسة شؤونالسلطة السياسية، ولا مع الديمقراطية شبه المباشرةالذى يعطى الشعب حق ممارسة بعضمظاهر هذه السلطة عن طريق الاستفتاء الشعبى، أو اقتراح القوانين، أو الاعتراضعليها.

(41)



فالنظام النيابى"الديمقراطية النيابية" تقوم على اختيار الشعب لممثليه الذين يمارسونالسلطة نيابة عنه لفترة محدودة دون حق هذا الشعب فى ممارسة شؤون السلطة، أو المشاركةفيها. فدوره إذن يقتصر على مجرد اختيار بعض النواب الذين يستقلون تماما عن الشعبفى مباشرة السلطة الآمرة .(1)


هذا ويلاحظ أن مبدأ سيادة الأمة وإن كان يتناسبمع النظام النيابى التقليدى فلا يتحتم وجود النظام الجمهوري، بل يمكن أن يسود كذلكفى النظام الملكى.


2_الانتخاب وظيفةوليس حقا :


إذا كانت السلطةالآمرة العليا فى الدولة للشخص الجماعى الواحد ولا يجوز تجزئتها على الأفراد، فإنهيستحيل على أفراد الشعب ممارسة شؤون السلطة، أو الإدعاد بوجود حق لهم فى ذلك. وعلىهذا، فاختيار النواب الممثلين لهذا المجموع لا يعد حقاً للأفراد بقدر ما هو وظيفةوواجب يحتمان اختيار الأصلح لممارسة شؤونهم.(لمزيد من التفصيل راجع: الدكتور ثروتبدوى: النظام الدستوري العربى(المرجع السابق)، ص172.)


3_الأخذ بالاقتراعالمقيد :


ما دام الاختيار طبقاً لسيادة الأمة مجرد وظيفةوواجب الاختيار للأصلح، فإن للأمة أن تحدد الشروط اللازم توافرها فى هيئة الناخبين،لضمان حسن الاختيار لمن سيقومون بممارسة السلطة هذه .


لذلك قيل أنه ليسمن اللازم تقرير نظام الاقتراع العام فى الانتخابات، وإنما

(42)



يجوز تبعاً لمبدأسيادة الأمة الأخذ بنظام الاقتراع المقيد الذى يشترط فى الناخب، أو المرشح نصاباًمالياً معيناً، أو حداً أدنى من التعليم، أو شرط الانتماء إلى طبقة معينة منالطبقات .(الدكتور محمد كامل ليلة:النظم السياسية(المرجع السابق)،ص212).


4_النائب ممثل للأمة:


النائب طبقاًلنظرية سيادة الأمة يكون ممثلاً للأمة بكاملها، ولا يقتصر تمثيله لدائرة انتخابيةمعينة. فهو وكيل عن الأمة وليس وكيلاً عن دائرته التى انتخبته. لذلك فالنوابيعملون وبصفة دائمة من أجل الأمة، والصالحالعام، وليس من أجل من انتخبهم أو الصالح الخاص. هذا ما عبر عنه روسو بأن الإرادةالعامة هى إرادة الأغلبية، وهى دائماً صحيحة يجب على الأقلية ألا تعارضها لأنهادائماً مخطئة وتعبر عن مصالح محدودة، بينما الإرادة العامة هى مصلحة المجموع لكلالمجموع.(الدكتور عصمت سيف الدولة:الأحزاب ومشكلة الديمقراطية فى مصر، بيروت 1977،ص43).


5_التنكرلمفهوم الوكالة الإلزامية :


إذا كان مبدأ سيادة الأمة لا يتناسب إلا معالنظام النيابى التقليدى، كما ذهب إليه بعض الفقه، فإنه من مقتضى ذلك، تحرير إرادةالنواب الذين يقع عليهم وحدهم ممارسة السلطة، عن إرادة ناخبيهم على نحو تام. وهذامعناه أنه لا يمكن للناخبين حق إملاء إرادتهم على النواب، أو اخضاعهم لآرائهمومعتقداتهم، أو الزامهم بأى نوع من أنواع الوكالة.(3)

(43)



لقد عبر عن ذلكإعلان الحقوق الفرنسى لعام1789 ، ودستور 1791 ، حيث جاء فيهما أنه "لا يجوزللنائب قبول أى وكالة". كما تبنى هذا الاتجاه الدستور المصرى لعام 1923 ،حيثنص فى المادة 91 على أنه "عضو البرلمان ينوب عن الأمة كلها ولا يجوز لناخبيهولا للسلطة التى تعينه توكيله بأمر على سبيل الالتزام"، والمادة /86 من دستور1930، حيث نصت على "عضو البرلمان ينوب عن الأمة ولا يجوز أن يوكل بأمر علىسبيل الالزام" .


وكذلك نصت المادة /27 من الدستور اللبنانى لعام1926 المعدل عام 1946 "عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء ولا يجوز أن تربطوكالته بقيد، أو شرط من قبل منتخبيه.(الدكتور الشافعى أبو راس:التنظيمات السياسةالشعبية، عالم الكتب، 1974،ص174)


ولما كان هدفالمشرع الدستورى من إلغاء الوكالة الالزامية، هو منح ممثلى الأمة الحرية التامة فىالتعبير عن مصالح الشعب بمجموعه، فإن من مقتضى ذلك أيضا عدم تسليمه بوجود الأحزابالسياسية، لإجبارهم على العمل ضمن برنامج يخص مصلحة محددة، لمجموعة معينة من أفرادالشعب، وإلا تعرضوا لجزاءات تأديبية متعددة، وبالتالى لا يتحقق ما ينشده مبدأسيادة الأمة من إلغاء الوكالة الالزامية، والحفاظ على استقلالية أعضاء البرلمانوتمثيلهم العام.(الموسوعة العربية للدساتير العالمية،1966، وانظر كذلك).


6_الأخذ بنظامالمجلسين:


تقوم نظرية سيادة الأمة على اعتبار أن الأمةوحدة دائمة مجردة ومستقلة عن أفراها. وهى بهذا المعنى لا تقتصر على جيل معين، أوفترة زمنية معينة، وإنما يمتد ليعبر عن هذا المجموع عن ماضيه وحاضره ومستقبله. هذاالمعنى ليس نظرياً فحسب،

(44)



بل يظهر فى الواقعفى بعض الأنظمة السياسية والدستورية التى تأخذ فى تشكيلها للبرلمان بنظام المجلسين. مجلس تمثيل فيهالاتجاهات المحافظة، والثانى الاتجاهات المندفعة أو المجددة.(1)


7_القانون تعبير عن إرادة الأمة :


ينظر إلى القانونطبقاً لمبدأ سيادة الأمة على أنه تعبير عن هذه السيادة المطلقة والإرادة العلياللأمة وليس مجرد تعبير عن إرادة النواب، أو إرادة ناخبيهم(2). وهو بهذا المعنى عنوان للحق والعدل، ولا يجوز أن يكون موضوع نفاش من فرد،أو هيئة بعد استيفائه الاجراءات الدستورية لسنه وإصداره.(3)


7_القانون تعبيرعن إرادة الأمة :


ينظر إلى القانون طبقاً لمبدأ سيادة الأمة علىأنه تعبير عن هذه السيادة المطلقة والإرادة العليا للأمة وليس مجرد تعبير عن إرادةالنواب، أو إرادة ناخبيهم. وهو بهذا المعنى عنوان للحق والعدل، ولا يجوز أن يكونموضوع نقاش من فرد، أو هيئة بعد استيفائه الاجراءات الدستورية لسنة وإصداره(3).


(45)



المطلب الثانى


المبادئ الأساسية لنظام الحكم فى الإسلام



يتميز الإسلامكنظام سياسى، بقيامه على مبادئ فيها من العمومية والمرونة ما يجعلها صالحة للتطبيقفى كل زمان ومكان.


هذه الصفة، ضرورةتتطلبها طبيعة هذه الشريعة من الشمول والخلود من ناحية، ورفع الحرج عن المسلمين منناحية أخرى.


لهذا فقد أرسىالإسلام دعائماً ثابتة لنظام الحكمالإسلامى أهمها الشورى والحرية والعدالة والمساواة . أما عدا هذه الأسس فقد سكتعنها ليترك لأولى الأمر أن ينظموا شؤونهم السياسية والدستورية بما يتفق ومصالحهم،غير متجاوزين هذه الأسس والمبادئ الدستورية العامة.



الشــــــــــــورى



يعتبر مبدأ الشورىمن أهم المبادئ الأساسية التى أرستها الشريعة الإسلامية وحرصت على تأكيدها والدعوةإليها وإلزام المسلمين العمل بها ، وذلك لما فى هذا المبدأ من معانى التعاونوالترابط لأفراد الأمة الإسلامية(راجع باب الشورى فى الإسلام، الدكتور مصطفىأبو زيد فى مؤلفه القيم:مبادئ الأنظمة السياسية،1984،ص 451 وما بعدها).


ومبدأ الشورى سبيللمعرفة الرأى الراجح، وطريق لاستخراج الرأى الصحيح. الذى يجب اتباعه، ومنهج لاستجلاء الحقيقة التى تلتزم بها الأمة، حتىتهتدى إلى الحق وتصل إلى الصواب وتحقق لنفسها التقدم والرقى. يقول إبن العربى"الشورى ألفة للجماعة ومسبار للعقول وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم قط إلاهدوا"(الدكتور مصطفى كمال وصفى: مصنفة النظم السياسية، مكتبة وهبة،الطبعةالأولى 1977 .ص447.)


إننا ومع ما تسمح به دراستنا فى هذا المقامسنتعرض للتعريف بالشورى، ثم لدلالتها وحجيتها، ومدى وجوبها، ثم نبين الشورى،وأخيراً الموضوعات التى يجب المشورة فيها.


1_التعريف بالشورى:


الشورى بمعناهاالإصطلاحى هى استطلاع لرأى الأمة، أو من ينوب عنها فى

(145)



الأمور العامةالمتعلقة بها، وذلك عن طريق المشاركة العامة فى شؤون الحكم(انظر:الدكتور عبد الحميد الأنصارى: الشورىوأثرها فى الديمقراطية،المطبعة العصرية، بيروت، 1980، ص4).هذا ولم يضع القرآن ولا السنة نظاماً خاصاللشورى على إعتبار أنه نظام فطرى يجمع فيه النبى أو الخليفة من بعده أصحابه، ويطرحعليهم المسألة ليبدوا رأيهم فيها. ومتى أجمعوا على رأى عن طريق الأغلبية، أخذ بهوتقيد عند البعض، أو كان له الخيار عند البعض الآخر(الإمام الشيخ محمود شتلوت : الإسلام عقيدةوشريعة(المرجع السابق)،ص 640، ومؤلفه من توجيهات الإسلام، دار الشروق، 1982، ص65).


ومبدأ الشورى كما قلنا شأنه كافة المبادئالدستورية الإسلامية، لم يوضع له نظام خاص، حتى تسمح مرونته لكل جيل أن يطبقهبأساليبه التى لا يجد من ورائها حرجاً فيساير التطور الزمنى والتقدم البشرى(الشيخ عبد الوهاب خلاف: السياسة الشرعيةأو(نظام الدولة الإسلامية).1977، ص29. انظر كذلك)


والشورى بهذا المعنى تستهدف مراجعة أهل العلم والتعريفعلى وجهة كل واحد منهم فى المسألة التى تعرض عليهم، ثم معرفة مدى مشروعيتها.وبالتالى فهى تمر بمرحلتين: مرحلة الملاءمة، ثم مرحلة المشروعية.


أما مرحلةالملاءمة ، فهى سؤال الخبراء والمختصين فيما يعرفونه ويختصون به. قال تعالى"فأسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"(سورة الأنبياء:آية 7). والسؤال والاستفسار هنا ليس معناه الجهلوعدم العلم، وإنما للإستنارة وإرادة التعريف على وجهات النظر الأخرى.


أما المرحلة الثانية وهى مرحلة المشروعية، فهىقياس ما ينتهى إليه الخبراء والمختصون على أحكام الشريعة الإسلامية. وبالتالىفالنتيجة النهائية التى تتمخض

(146)



عن المشاورة ليستمطلقة، بل يجب أن تكون مفيدة بأحكام الشريعة الإسلامية والتى يمكن أن تستنبط منالأدلة التى أشرنا إليها سابقاً(الدكتور إسماعيل البدوى: مبدأ الشورى فىالشريعة الإسلامية، بحث منشور فى مجلة العلوم الإدارية،(مشار إليه سابقاً)،ص75).


أما أدلة حجية الشورى، فمنها ما جاء فى القرآنالكريم، ومنها ما جاء فى السنة الشريفة.


قال تعالى "والذين استجابوا لربهم وأقامواالصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون" (سورة الشورى: آية 38). وقال "فأعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فالأمر" (سورة آل عمران: آية 519).


أما ما جاء منها فى السنة، فقوله صلى الله عليه وسلم "ماندم من استشار ولا خاب من استخار" (انظر المقاصد الحسنة للسخاوي،ص663. وقولهعليه السلام "ما استغنى مستبد برأيه وما هلك أحد من مشورة" (المقاصدالحسنة، ص322)


وروي عن أبى هريرة رضى الله عنه، أنه قال: لميكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا بالإضافة إلىالسنن الفعلية التى تدل على مشاورة رسول الله لأصحابه، منها مشورته لأصحابه فى بدروالخندق ويوم الحديبية(الشيخ محمود شلتوت:من توجيهات الإسلام(المرجع السابق)،ص265)انظر كذلك: الدكتور عبد الحميد متولى:مبادئ نظام الحكم فى الإسلام(المرجع السابق)،ص142).


2_الوصف الشرعىللشورى :


اختلف الفقه فى حكم الشورى بالنسبة للحاكم منحيث الوجوب أو الندب. هل تعتبر فرضاً محتوماً عليه، أم تعد مندوبة فحسب؟


ذهب البعض إلى أن الشورى واجبة، يلزم الحاكمالأخذ بها. أما الرأى الثانى، فقد

(147)



ذهب إلى أن الشورىليست واجبة بل مندوبة، وبالتالى لا يلزم الحاكم الأخذ بها وإن كان الأخذ بها يعدأمراً مستحسناً.


أ_الرأى الأول :الشورى واجبة :


ويستند هذا الرأى إلى ما يلى:


1_اقتران الشورىبالصلاة، وذلك بقولة تعالى "والدين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورىبينهم ومما رزقناهم ينفقون" (سورة الشورى: الآية 38).

(الاثنين 16 /9)



فذكر الشورى بعدالصلاة، وذلك وقبل الزكاة وكلاهما من أركان الإسلام وفرائضه، يدل دلالة واضحة علىأن الشورى فريضة (استاذنا الدكتور محمد حلمى: نظام الحكم فى الإسلاممقارناً بالنظم المعاصرة، المرجع السابق، ص661).


2_خطاب اللهلرسوله فى مجال الشورى جاء بصيغة الأمر. فقوله تعالى "وشاورهم فىالأمر"(سورة آل عمران) جاء بصيغةالأمر ويفيد الوجوب.


3_قوله تعالى"ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر واؤلئكهم المفلحون" (سورة آل عمران)


ويذهب الإمام محمدعبده إلى أن هذه الآيه أقوى دلالة على الشورى من الآيتين اللتين أشرنا إليهماسابقاً. وذلك لما تفرضه هذه الآيه من الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عنالمنكر، وهو فرض على الجماعة كانوا حكاماً أو محكومين (الدكتور محمد موسى: الإسلام ومشكلاتناالحاضرة، المرجع السابق، ص311)


4_السنن القوليةوالسنن الفعلية :


روي عن رسول اللهصلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة يحث فيها على الشورى،منها قوله "لو كنت مستخلفاً أحداً من غيرمشورة، لاستخلفت ابن أم عبد" (ابن ماجة: الجزء الأول،ص49،رقم الحديث 317).


وقوله: "منأراد أمراً فشاور فيه وقضى، هدى لأرشد الأمور" (الجامع الصغير للسيوطى:ص261).


أما السنن الفعليةفى وجوب الشورى، فدلالتها هى كثيرة التجاء الرسول صلى الله عليه وسلم من استشارةاصحابه فى مسائل وأمور متعددة أهمها غزوة بدر، أحد، الخندق، صلح الحديبية، وحصارالطائف.


5_سنن الخلفاءالراشدين وسيرتهم:


سيرة الخلفاءالراشدين مليئة بالحوادث التى كان لحكم الشورى فيها الفيصل النهائى.


فاختيار أبى بكر،وخطبته بعد البيعة وتجهيز جيش أسامة وقتال أهل الردة، كلها وقائع تدل على الأخذبالشورى والالتزام بها.


كذلك الحال وجدناهفى عهد الفاروق عمر ابن الخطاب رضى الله عنه، الذى كثيراً ما تشاور فى إختيارالولاة وقواد الجيش، ومسألة أرض السواد، وطاعون عمواس.(أستاذنا العميد سليمان الطماوى: عمر بنالخطاب، المرجع السابق، ص131وما بعدها). مثله عثمان وعلى رضى الله عنهما.


ب_ الرأى الثانى :الشورى مندوبة:


كما بينا فإن هذا الرأى يرى أن مبدأ الشورى لميرد فى الفكر السياسى الإسلامى على سبيل الوجوب وإنما على سبيل الندب.


ويستدل أصحاب هذا الرأى بأن الرسولوالخلفاء لم يتشاوروا فى بعض المسائلولهذا فسننهم لم تكن على سبيل الوجوب وإنما على سبيل التطيب والعمل الصالح

(149)



المستحب،يستدلونعلى ذلك أيضاً من أن الماوردى لم يذكر الشورى من بين واجبات الحاكم، وهذا ما ينفىوجوب الشورى فى حق الإمام (لمزيد من التفصيل راجع: الدكتور عبد الحميد متولى :مبادئ نظام الحكم فى الإسلام (المرجع السابق) ، ص542 وما بعدها).


3_ حجية الشورى :


لم يثر موضوع من مواضيع الفكر السياسي الإسلاميفى مجال المبادئ الدستورية الجدل والنقاش بقدر ما أثاره موضوع قوة وحجية الشورى.هل يعد ما توصل إليه أهل الشورى ملزماً للحاكم أم لا يأخذ به.


اختلف أهل الفقه فى هذا:


فالبعض يرى أنالحاكم مخير فى قبول رأى أهل الشورى أو رفضه، لأن الشورى بالنسبة للحاكم ما هى إلاللأستنارة والتوضيح، فهى كما يقول "للإعلام لا للإلزام" (الدكتور عبدالحميد متولى: مبادئ نظام الحكم فى الإسلام(المرجع السابق)، ص542 وما بعدها).


ويدلل هذا الرأى على ذلك بعدم وجود نص يختم علىالحاكم الأخذ برأى أهل الشورى، فالآية الكريمة "وشاورهم فى الأمر"يعقبها "فإذا عزمت فتوكل على الله"، وهى تفيد أن الرأى الأخير للحاكم لالأهل الشورى.


هذا بالإضافة إلى الحوادث المتعددة التىيوردها هذا الرأى من تاريخ صدر الإسلام، ليشير بها على عدم التزام الحاكم برأى أهلالشورى. وأهمها عدم أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأى الصحابة فى أسرى موقعةبدر، وعدم أخذ أبو بكر برأى الصحابة فى قتال المرتدين وارسال أسامة بن زيد على رأسجيش إلى الشام، وعزم عمر بن


(150)


الخطاب فى مسألةأرض السواد فى العراق بما يخالف رأي من أشار علية من الصحابة.


أما الرأى الثانى،فيرى الزام الحاكم برأى أهل الشورى ووجوب العمل به، وإلا فإن عكس ذلك يفقد الشورىمضمونها وجدواها.


أما العزم فىالآية الكريمة "فإذا عزمت فتوكل على الله"، فإنها تفيد الأخذ برأىالأكثرية.


4_ أهل الشورى :


لم يتناول القرآن الكريم تحديد أهل الشورى،وإنما جاء الأمر الشورى عاماً وهذا ما يتفق كما أسلفنا مع المنهج القرآنى فى عدمذكر التفصيلات فيما يتعلق بالشئون الدستورية والإكتفاء بالمبادئ العامة. كما وإنهيتفق وصالح الجماعة الإسلامية؛ لتكون هذه المبادئ من المرونة بما يسمح لها منملاءمة كافة الظروف والبيئات .


وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستشير منصحابته الأكثر حضوراً معه والأوفر حكمة منهم، كأبى بكر وعمر وعلى وعثمان، بالإضافةإلى السابقين الأولين فى الإسلام والممتازين بخدماتهم وتضحياتهم وبصيرتهم. وعلىنهجه سار الخلفاء الراشدون.

(151)



وبدون الخوض فىتفاصيل لا يتسع لها هذا المقام من الدراسة، فإننا نرى أن أهل الشورى يتكونون منمجلسين (فئتين من الناس).


الفئة الأولى :وهم الخبراء والمختصون فى كل جانب من جوانب الحياة. وبالتالى فهم غير محددين وإنمايحددون طبقاً للمسألة المزمع عرضها لأخذ رأيهم من الناحية الفنية فقط. وهذهالمرحلة أسميناها سابقاً مرحلة الملاءمة.


أما الفئة الثانية: وهم أهل الحل والعقد،ووظيفتهم تقصير على فحص الشريعة فقط، وهم ثابتون ومحددون. أى أنهم منعقدون بصفةمستمرة لتعرض عليهم المسائل ويبدون رأيهم من الناحية الشرعية. ولذلك فإن ما يرفع للحاكم فى النهاية لما تمخضتعنه مشاورات كل من الفئتين بعد استكمال مرحلتى الشورى وهما الملاءمة والمشروعية.


5_ موضوع الشورى :


إذا كان إلتجاء الحاكم للشورى يمثل مبدأرئيسياً من المبادئ الدستورية فى الفكر السياسى الإسلامى، فما هى الموضوعات التىتدخل فى نطاق الشورى؟ هل هناك مجالات محددة يختص بها أهل الشورى، كما هو الحال فىالهيئات النيابية الممثلة للشعب فى الأنظمة الحديثة، أم أن هذه الموضوعات ليستمحددة؟

(152)



بمعنى آخر، إذاكانت للهيئات النيابية فى الوقت الحاضر إختصاصات واسعة، إلا أنها لا تشمل كل مايتعلق بشئون الحكم. فهل يتشابه هذا مع اختصاص مجلس الشورى (أهل الشورى) أم يختلف؟


ذهب البعض إلىالقول بأن الشورى واجبة فقط فى الأمورالهامة، بينما يرى البعض الآخر أنها واجبة فى كل شؤون المسلمين، مالم يرد نص يخالفذلك. وذلك لأن الشورى أصل عام من أصول الحكم.


وإننا نميل مع الأستاذ الدكتور عبد الحميدمتولى إلى أن عدم التحديد ليس معناه العمومية. وبالتالى هناك أمور ليست من الأهميةبما يستوجب على الحاكم الإستشارة فيها، وبالتالى له كما للسلطة التنفيذية فى الوقتالحاضر اتخاذ القرارات بدون الرجوع لأهل الشورى فيها.


الفرع الثانى


الحريات العامة


جاء الإسلام ليحررالإنسان من العبودية، عبودية الإنسان للأصنام، عبودية الإنسان لأخيه، عبوديةالإنسان للمادة. كل لذلك ليسمو به إلى مصاف الطهارة والخير، فكانت الحرية من أهمأهداف الإسلام وقيمه.


فالإسلام والتحكم أياً كانت صورة، نقيضان لايلتقيان. بل أن كل الحريات والمبادئ التى يضعها ويكفلها الدين الحنيف تدعو إلىإعلان الحرب على الإستبداد والتحكم.


فالحريات التى سعت وما زالت تسعى إليها كثير منالشعوب، جاء بها الإسلام

(153)



وكفلها للفرد،ليزيد من تكريمه والحفاظ على كافة الجوانب التى تهمه وتحيط به. ولعل أهمها الحريات الشخصية وحق الإعتقادوالتعبير، وهى الحريات المعنوية (1).


1_الحريات الشخصية:


إذا رجعنا إلى الفقه الدستورى الحديث، فإننانجد أن ما يطلق على الحريات الشخصية يشمل نواح ثلاث:


حرية التنقل (الغدو والروح)، حق الأمن، وحرمةالمسكن. أما فقهاء الشريعة الإسلامية فلم يتفقوا على معنى واحد فى هذا الشأن.(2)


وجرياً مع ما أخد به الفقه الدستورى. فإنناسنتكلم فى الحريات الشخصية عن ثلاث حرياتهى : حرية التنقل، حق الأمن، وحرمة المسكن.


حرية التنقل:


لقد كفل الإسلامحرية التنقل للفرد فى حدود ما يقتضيه الصالح العام. لذلك فقد منع عمر بن الخطابرضى الله عنه كبار الصحابة وأهل الرأى مغادرة المدينة إلا لولاية أو

(154)



لقيادة جيش، وذلكلما يقتضيه الصالح العام فى إمكانية الرجوع إليهم فيما يعرض عليه من مسائلليساعدوه فى إدارة شئون الدولة (الطبرى: تاريخ الأمم والملوك، الجزءالثالث،ص280)


حق الأمن:


وهذا الحق هام بالنسبة لعمل الفرد واستقراره.وليس المقصود بحق الأمن منه الفرد منالإعتداء على الفرد فحسب، وإنما منع السلطة من الإعتداء عليه كذلك.


فمثلاً قاعدة "لا جريمة ولا عقوبة بغيرنص"، قاعدة مقررة فى الإسلام قبل تقريرها فى فقه القانون الجنائى والعقابى فىالعصر الحديث. حيث أن الفقه الشرعي متفق على أن العقوبات فى الشريعة الإسلامية لاتثبت بالرأى والقياس، وإنما بالنص فقط.


وإذا كان الإسلام قد حرص على استتباب الأمنالداخلى، فقد حرص أيضاً على صفاء الجو الدولى واستتباب الأمن الخارجى. قال تعالى"فلا عدوان إلا على الظالمين" وقال " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليهبمثل ما اعتدى عليكم"


حرمة المسكن: حرصالإسلام على إحترام حرمة المسكن وكفالتها. قال تعالى "يأيها الذين آمنوا لاتدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها، ذلكم خير لكم لعلكمتذكرون، فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم، وإن قيل لكم ارجعوافارجعوا هو أذكى لكم، والله بما تعملون عليم"(سورة النور الآيتين 28،27)

(155)



2_الحرياتالمعنوية:


الحريات المعنوية،أو كما تسمى أحياناً بحريات الفكر المتعددة، فهى تشمل حرية العقيدة والديانة،وحرية الإجتماع والرأى وتأليف الجمعيات، وحرية الصحافة، وحرية التعليم والتعلم،وأخيراً حرية التقاضى (انظر فى ذلك:الدكتور ثروت بدوى: النظم السياسية(الجزءالأول) 1946، ص375)


ويبدو طبيعياًبأننا لن نتناول كل هذه الحريات بالدراسة، وإنما سنقتصر على أهمها وهى حريةالعقيدة وحرية الرأى.


حرية العقيدةوالعبادات:


إن أهم ما يميز الشريعة الإسلامية من بينالشرائع السماوية، هى أنها نادت بحرية العقيدة، بحيث تركت لكل إنسان الحريةالكاملة فى إعتناق ما يشاء من العقائد السماوية وإقامة شعائرها والمدافعة عنها فىحدود النظام العام. وفى هذا يقول سبحانه وتعالى "لا إكراه فى الدين" (سورة البقرة: آية 652. راجع تفسير ابن كثير،الجزء الأول، ص130). وقال "أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" (سورة يونس: آية99).


فالإسلام لا يرى صحة العقيدة إلا إذا جاءتوليدة تفكير حر وثمرة إقناع تام، لأنها كما يقول الإمام محمد عبده، "أصلالدين وجوهره، وهى عبارة عن إذعان النفس. ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلتزاموالإكراه، وإنما يكون بالبيان والبرهان".


وكثيراً ما كرر رسول الله صلى الله عليه وسلم،فى كتبه التى بعث بها إلى الأقوام وأهل الكتاب الذين عاهدهم "من كان علىيهوديته أو نصرانيته، فلا يفتتن عنها وعليهالجزية".

(165)



من خيرها ولا منصلبهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم (عن الدكتور محمود حملى: نظام الحكمالإسلامى(المرجع السابق)،ص176. ولمزيد من التفصيل راجع: العميد سليمان الطماوى:عمربن الخطاب(المرجع السابق).ص131 وما بعدها).


والإسلام وهو يقومعلى حرية العقيدة، إنما يدعو إلى تحرير العقل من الخرافات والأوهام وتحريره منالتقاليد والمحاكاة التى كانت تسيطر عليه قبل مجيئه. قال تعالى "وإذا قيل لهماتبعوا ما أنزل الله، قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لايعقلون شيئاً ولا يهتدون"(سورة البقرة: آية 170)، وقال أيضاً "بل قالوا إنا وجدنا آباءناعلى أمة وإنا على آثارهم مهتدون" (سورة الزخرف: آية 22).


حرية الرأى :


كفل الإسلام إبداءالرأى، بل إننا لنجده يدعو إليه ويوجبه أحياناً. قال تعالى "ولتكن منكم أمةيدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"(سورة آل عمران: آية104)


وقال عليه الصلاة والسلام "من رأى منكممنكراً فيغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفالإيمان".


والإسلام لم يدع إلى إبداء الرأى والتعبير بدونضوابط ومسؤوليات، وإنما أوجد له الحدود ورتب عليه الالتزامات. كل ذلك حتى لا تسودالفوضى وتقع الشحناء ويعم البلاء، وهذا لا يتلاءم مع فلسفة الحكم الإسلامى، ولايتلاءم مع المصلحة العامة. (الإمام محمود شلتوت: من توجيهات الإسلام 1982(المرجعالسابق)ص565).

(157)



قال تعالى"ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتى هى أحسن" (سورة النحل: آية 521)


والدعوة بالحكمةمعناها الموضوعية والعلم. فلا ينبغى أن يتحدث شخص عن جهل بموضوع أو تعصب لفكرةضالة، قال تعالى "وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم" (سورة النحل: آية119)، وقال "ومن الناس من يجادل فى الله بغيرعلم ولا هدى ولا كتاب منير"(سورة الحج: آية8)،


وإبداء الرأى فىالإسلام يختلف حسبما إذا كان الرأى متعلقاً بأمر من الأمور الدنيوية، أو متعلقاًبأمر من الأمور الدينية.


ففي الأمور الدينية، فلكل مجتهد فى غير موضعالنص أن يجتهد برأيه في حدود الأسس العامة لهذه الشريعة. فقد جاء فى السنةالشريفة، أن كل مجتهد مأجور: إن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران. فالثواب علىالاجتهاد، سواء أدى إلى خطأ أو صواب إنما هو دليل على تقدير الإسلام للرأى وإقرارهبهذا الحق.(الشيخ عبد الوهاب خلاف: السياسة الشرعية(المرجع السابق)،ص38).


هذا وإذا كان التعريف على النظام الإسلامىللحكم لا يتم عن طريق مصادر التشريع الأصلية ألا وهى القرآن والسنة فقط، وإنماأيضاً فى أعمال الخلفاء الراشدين، فإن وقائع التاريخ الإسلامى فى ذلك متعددة كما بيناه ونؤكده دائما.(5).

(158)


الفرع الثالث


العــدالــة (الثلاثاء 17 /9 )



إذا كانت الشورىتعد فيما يرى علماء الفقه الإسلامى المبدأ الأول الذى يقوم عليه نظام الحكم فىالإسلام، فإن للعدالة فيما يرون، المكان الثانى (الدكتورعبد الحميد متولى(المرجعالسابق)،ص662).


فالشريعة الإسلامية مبناها وأساسها العدل، ولهذا فقد شمل القرآن الكريم منالآيات ما زاد الكثير عن الآيات التى تعرضت لمبدأ الشورى.


قال تعالى "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاتعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوي" (سورة المائدة: آية 8) وقال " وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذاقربى" (سورة الأنعام: آية251)، وقال "فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا" (سورة النساء: آية531)، وقال "إن الله يأمر بالعدل والإحسانوإيتاء ذى القربى" (سورة النحل: آية90)، وقال "إن الله يأمركم بأن تؤدواالأمانات إلى أهلها وإذا حكمتهم بين الناس أن تحكموا بالعدل" (سورة النساء:آية 58).


فكل هذه الأيات وغيرها تحض على العدالة.ليست عدالة القضاء فحسب، بل عدالة الحكم.وعدالة الحكم فيما يعرفها علماء الفقه الإسلامى هى: الأحكام والتصرفات التى تعنىباسعاد الأمة، وتعمل على تحقيق مصالحها وفقاً لمبادئ الشريعة الإسلامية وأصولهاالعامة. غير متأثرة بالأهواء والشهوات (الدكتور عبد الحميد متولى: مبادئ نظام الحكمفى الإسلام(المرجع السابق)،ص637)

(159)



فعدالة الحكم إذنليست شرطاً مرتبطاً بصلاحية الممارسة القيادية فحسب ، وإنما هى شرط أيضا للبقاءفيها فى جميع مراحلها. وهى ليست قاصرة على الحاكم، بل على من يختار هذا الحاكم ،ألا وهم أهل الحل والعقد، أو كما يسميهمالبعض بأهل الإختار(1).


ويذهب الدكتور عبد الحميد متولى إلى أن العدالةذات صبغة نسبية، وأن معاييرها تختلف بإختلاف ظروف كل زمان ومكان، وإن ما يعد صبغةنسبية، وأن معاييرها تختلف بإ ختلاف ظروف كل زمان ومكان، وإن ما يعد موافقاً للعدلفى زمان، قد يعد مخالفاً له فى زمان آخر.(الدكتور عبد الحميد متولى(المرجعالسابق)،ص270)


فمفهوم العدالة فى ميدان القضاء يختلف عنمفهومه فى ميدان الحكم والإدارة. فهى فى الميدان الأول مطلقة، أما فى ميدان الحكموالإدارة، فهناك إعتبار هام ألا وهو المتصل بحسن سيرة أداة الحكم والإدارة، ممايجعل من مفهوم العدالة فيه أكثر نسبية (انظر عكس ذلك: الدكتور مصطفى كمال وصفى:مصنفة النظم السياسية(المرجع السابق،ص44).


وعلى أى حال، فإن الفكر السياسى الإسلامى ينظرإلى مبدأ العدالة على أنه جوهر نظام القيم السياسية. وهو حقيقة كلية تمثل النظامالسياسى الإسلامى، وتسيطر على سلوك الحاكم والمحكوم، مسلماً أكان الثانى أو غيرمسلم، معاهداً أو عدواً (راجع فى ذلك: الدكتور حامد ربيع: سلوك المالك فىتدبير الممالك المرجع السابق،ص651). قال

(160)



تعالى "ولايجرمنكم شتئان قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن اللهخبير بما تعملون" (سورة المائدة: آية8)، ويقول الرسول عليه السلام "من أذىذمياً فأنا خصمه يوم القيامة".

الفرع الرابع


المســاواة



يعتبر مبدأالمساواة من أسمى المبادئ الدستورية فى الفكر السياسى الإسلامى، بل أصل هام منأصول العلاقات الإنسانية بصفة عامة، فالناس جميعا متساوون فى الحقوق والواجبات، لافرق بين أبيض وأسود، ولا غنى ولا فقير،ولا حاكم ولا محكوم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلكم لآدم وآدم منتراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربى فضل على أعجمى، ولا لأعجمى على عربى،ولا أحمر على أبيض، ولا أبيض على أحمر إلا بالتقوى".


ويقول سبحانه وتعالى "يا أيها الناس إناخلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم"(سورة الحجرات: آية 31).


وتقرير الإسلام لمبدأ المساواة جاء مطلقاً. فهويشمل المساواة أمام القانون والقضاء، المساواة فى الحقوق والواجبات، كما يتناولالمساواة أمام الله. (الدكتور فؤاد العطار:النظم السياسية والقانونالدستورى(المرجع السابق).ص97).

(161)



ولكن المساواة بينالأفراد لا تعنى المساواة المطلقة المجردة. فهى لا تعنى وحدة المعاملة بقدر ماتعنى تنظيماً للفرض. ولهذا إذا كان هناك أمور تخرج عن معنى وحدة المعاملة، فليسمعناه إخلالاً بمبدأ المساواة (الدكتور نعيم عطية: مبادئ الحريات العامة، 1978،ص63).


يقول تعالى"أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا، لا يستون"(سورة السجدة:آية18).


هذا وبقيام نظام الحكم فى الإسلام على تلكالمبادئ الأساسية تتضح معالم هذا الدين العالمى وأهداف الدولة الإسلامية وواجباتالحاكم من خلالها وعلى ضوئها ووسائل ضمان تنفيذها.

(162)



الفرع الثالث


توفير التعليموتطوره وتنظيمه


اهتم الإسلامبالعلم والتعليم اهتماماً ملحوظاً، وأولاها عناية فائقة. وأكبر دليل على ذلك أنالآية الأولى التى أنزلت من القرآن الكريم على النبى صلى الله عليه وسلم كانتمتضمنة الدعوة إلى القراءة. قال تعالى "إقرأ باسم ربك الذى خلق، خلق الإنسانمن علق، إقرأ وربك الأكرم، الذى علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم" (سورة العلق)


هذا وقد أوجب الإسلام على الدولة دعم التعليم،وتسهيل السبل والوسائل الكفيلة بانتفاع الجميع منه، بل جعله إلزامياً على الأفرادوحقاً لهم فى مواجهة الدولة،

(167)



لا فرق بين أحدوآخر، ولا بين رجل وإمرأة، أو بين حر وعبد، أو كبير وصغير. يقول عليه الصلاةوالسلام "طلب العلم فريضة على كل مسلم" ، لذلك على الدولة الإسلامية أنتتولى نشر الثقافة والعلوم المختلفة التى تؤدى إلى ازدهار الحضارة وزيارة العمران.


وحيث أن الإسلام يتميز بأنه دين ودولة، فإن ربطالتعليم بالحضارة، وبقاء الدولة، وزيادة قوتها مرتبط بحفظ هذا الدين وضمان العملبأحكامه (الدكتور محمد كامل ليله: النظم السياسية (المرجع السابق).ص294).


وتحقيقاً للسياسة العلمية أقامت الدولة الإسلامية فى شتئ عصورها مراكز ومدارسللثقافة والعلوم تأكيداً لالتزامها بكفالة حق العلم (انظر الدكتور حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام،الجزء الرابع،ص224).


والتعليم يرتبط بالمعرفة التى دعا الإسلام إلىالأخذ بها وتمكين الافراد من تحصيلها فىشتى صورها أياً كان مصدرها، لا فرق فى ذلك بين مسلم أو غير مسلم، أو بلد، أو بينثقافة وأخرى. وفى ذلك يقول النبى صلى الله عليه وسلم "الحكمة ضالة المسلمفيحث وجدها فهو أحق بها". ويقول "تعلموا العلم ولو فى الصين"(3)


وإذا كان على الدولة الإسلامية الاهتمام بالعلموالتعليم وفتح باب المعرفة للجميع دون استثناء وتوفير السبل الكفيلة بتحقيق ذلك،فإن للدولة تنظيم هذا التعليم. وتنظيم التعليم ليس معناه الانتقاص منه، بل اختيار الأصلح وإعطائه الأولويةواستبعاد المحظورات والعلوم المذمومة (4).

(168)


الفرع الرابع


إقامة العدل ورد المظالم



يتولى السلطةالقضائية فى الإسلام رجال القضاء. وقد الوظيفة مكانة هامة فى التاريخ الإسلامىبسبب المهمة الدقيقة الملقاة على من يتولاها من ناحية وخصائص القضاة المميزين فى تاريخ القضاءالإسلامى نظراً لروح العدالة التى إشرأبت بها نفوسهم فأرسوا أعمق مبادئ العدالةوالنزاهة والحيدة من ناحية آخرى.


وقد عبر رسول الله صلي الله عليه وسلم عن مدىدقة وخطورة هذه الوظيفة فى أحاديث متعددة، منها قوله عليه السلام "القضاةثلاثة، واحد فى الجنة، واثنان فى النار،فأما الذى فى الجنة فرحل عرف الحق فقضى به، وأما الرجل الذى عرف الحق فجار به فىالحكم فهو فى النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو فى النار"(رواه أبو داودوالترمذى). وقوله صلى الله عليه وسلم "من جعل قاضياً بين الناس فقد ذبح بغيرسكين" (رواه الترمذى)


والقضاء فى الإسلام من الولايات العامة التى لايصلح لمباشرتها إلا من استوفى. شروطاًمعينة ذكرها الماوردى فى سبعة:


1_الذكورةوالبلوغ: أما الذكورة فلقوله تعال "الرجال قوامون على النساء"، أماالبلوغ فلأن غير البالغ لا يؤخذ بقوله على نفسه، ومن باب أولى لا يؤخذ بحكمه علىغيره.


2_التمييز والفطنةلا يتطلب القضاء ممن يتولاه التمييز فقط بل يجب أن يتسم بالفطنة والذكاء ليستطيعإيضاح ما يشكل وفصل ما يعضل.


3_الحرية.


4_الإسلام.


5_العدالة.


6_سلامة الجسموالحواس بالقدر الذى يمكنه من أداء وظيفته.

(169)



7_الاجتهاد بشروطهالمعروفة، لأن القاضى مضطر للاجتهاد حتى يستطيع أن يفصل فيما يعرض عليه من أمور.ومع ذلك ونظراً لأنه يصعب كثيراً أن تتوافرفى المرشحين شروط الاجتهاد فقد أجاز البعض تولى من لا تتوافر فيه شروط الاجتهادلولاية القضاء ومنهم الإمام الغزالى (1)


لقد روعى فى الحكومات الدستورية المعاصرة أنيكون رجال القضاء غير رجال التشريع تطبيقاً لمبدأ الفصل بين السلطات. إلا أن هذاالمبدا لم يكن معمولاً به فى صدر الإسلام، حيث كانت السلطة التشريعية والسلطةالقضائية مناطة بالخليفة، أو من يعهد له الخليفة بوظيفة القضاء، حيث كان رجالالقضاء من المجتهدين الذين لهم السلطة التشريعية وكان دستورهم هو كتاب الله والسنةالصحيحة. والقاضى فى الإسلام هو قاض عام النظر خاص العمل فى منطقة وفترة معينة (الشيخ عبد الوهاب خلاف: السياسة الشرعية(المرجع السابق)، ص49)


فعمل القاضى العام لا يقتصر على الفصل فىالمنازعات بين الخصوم وإنما يشمل عمله إثبات الولاية على معدومى الإرادة وناقصيها،والحجر على من يرى الحجر عليه لسفه أو إفلاس، والنظر فى الأوقات لحمايتها وإستثمارهاوتنفيذ الوصايا والنظر فى مسائل الزواج والطلاق والنسب وإقامة الحدود بطلب منالغير إذا كان الحق المعتدى عليه من حقوق العباد ومن غير طلب إذا كان من حقوق الله(لمزيد من التفصيل راجع: الدكتور سليمان الطماوى: السلطات الثلاث (المرجعالسابق)،ص440).


وإلى جانب القضاء العادى فى الإسلام، نشأ قضاءمميز حظى بأهمية كبيرة بسبب طبيعة المنازعات والمسائل الذى تمتد ولايته إليها ألا وهو قضاء المظالم.


وقضاء المظالم فى الإسلام لم يتميز بطبيعتهالمزدوجة، التى تجمع بين القضاء والتنفيذ فحسب، بل أن أهم ما تميز به هذا النظامبسط سلطان القانون على كبار الولاة ورجال الدولة ممن قد يعجر القضاء العادى عنإخضاعهم لحكم القانون. لهذا

(170)



فإن نظام المظالمفى الدولة الإسلامية، وكما يقول أستاذنا العميد الطماوى _قريب الشبه إلى حد كبيرمن نظام القضاء الادارى بمدلوله الحديث (الدكتور سليمان الطماوى: السلطات الثلاث(المرجع السابق). ،ص447)



الفرع الخامس


الأمن الداخلى والتكامل الإجتماعى



السياسة العادلةلأى أمة هى تدبير شؤنها الداخلية والخارجية بالقوانين والأنظمة التى تكفل لأفرادهاوجماعاتها الأمن والاستقرار والمساواة بينهم لتحقيق مصالحها ومصالحهم على نحومتكامل.


والدولة إذاً تقوم على مبادئ رئيسية أرساهاالقرآن الكريم، وفصلها ووضحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك الأحكام الشرعيةالتى تستقى من المصادر الشرعية المتفق عليها، إنما توفر لكل فرد فيها الحياةالإنسانية الكريمة الآمنة.


والأمن الذى تتكفل به الدولة الإسلامية ذوأبعاد مختلفة.


_أمن جماعى مضمونهالاستقرار والمساواة والعدالة بين الناس...قال تعالى "وإذا حكمتهم بين الناسأن تحكموا بالعدل"(سورة النساء: الآية58)، وقال "إنما المؤمنون إخوة" (سورة الحجرات: الآية 10).


_وأمن اقتصادىمرتكزاته إباحة ما يقتضيه تبادل الحاجات بين الأفراد ودفع الضرورات. فأحل البيعوالإجارة والرهن وغيرها من العقود. قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلواأموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم" (سورة النساء: الآية 29).


ودعا الإسلامرعاياه إلى المساهمة بقسط معين من أموالهم مقابل تمتعهم بحقين: أحدهما أمانهم علىأنفسهم وأموالهم، وثانيهما تمتعهم باستغلال مرافق


(171)


الدولة فى سبيلتزكية هذه الأموال وتنميتها والمحافظة عليها. قال تعالى "خذ من أموالهم صدقةتطهرهم وتزكيهم بها"(سورة التوبة: الآية103). ،وقال "والذين فى أموالهم حق معلومللسائل والمحروم"(سورة الذاريات:الآيه 19)


وحيث تلتزم الدولةبضمان الأمن الإجتماعى والأمن الاقتصادى بجوانبها المتعددة، إنما تقيم نظاماًاجتماعياً متكاملاً ومتكافلاً يحقق العدالة الاجتماعية بين الناس. تلك العدالةالتى أشار إليه المفكرون فى معرض الحديث عن اشتراكية الإسلام.(الدكتور مصطفى السباعى: إشتراكية الإسلام،القاهرة،1959)


يتبين لنا مما سبق ايجازه عن بعض الوظائفالأساسية للدولة الإسلامية أن حدود التزام هذه الدولة وواجباتها تجاه الأفراد منناحية أولى، والدول الأخري من ناحية ثانية، لا يفسرها مذهب فردى أو اشتراكى وإنماالذى يفسرها هو طبيعة الإسلام ومبادؤه وأهدافه على النحو الذى سبق بيانه فى هذاالمبحث..

(172)



(يوم الاربعاء 18 /9 )

الفصل السادس


الدولية القانونية



توصف الدولةبالقانونية ما دامت تخضع للقانون بغض النظر عن شكلها الدستورى، وتبقى كذلك إلى أنيهدر مبدأ الشرعية لتتحول إلى دولة بوليسية التى لا ضمان لبقائها إلا البطشواستمرار استسلام الشعب المحكوم (راجع الدكتور سليمان الطماوى: القضاءالادارى، الكتاب الاول،دار الفكر العربى، القاهرة،1976،ص32)


ويقضى مبدأ الشرعية(المشروعية) سيادة القانونوخضوع الحاكم والمحكوم له، ليرد أى منهما إلى جادة الصواب كلما خرج عن حدوده عمداًأو تقصيراً.


هذا المبدأ بطبيعته مع ما يرتبه من آثار يختلفعن مشروعيةالسلطة التى يكفى لتحقيقها أن تسند السلطة إلى رضاء المحكومين وقبولهمإياها، سواء كان مصدر هذا القبول التصور الآلهى وفقاً للنظريات الثيوقراطية، أمإرادة الجماعة تبعاً لمنطق النظريات الديمقراطية (الدكتور محمود حافظ: القضاء الادارى،دراسةمقارنة، لجنة التأليف والنشر، القاهرة،1966،ص19).


وعلى هذا لا يوجد هناك تلازم بين مشروعيةالدولة_الدولة القانونية_

(173)



ومشروعية السلطة،خاصة فى حالة ممارسة الحاكم لسلطته، مستنداً إلى المصدر الآلهى الثيوقراطى كماعرضناه سابقاً، وبدت سلطته مطلقة وبلا حدود واختفى مبدأ الشرعية أو نظام الدولةالقانونية .


أما حيث تقوم السلطة على أساس قبول المحكومين،ورضاهم مع تقيد الهيئات الحاكمة فى الدولة بالقانون، فإننا نكون أمام مشروعيةالسلطة والدولة معاً (لمزيد من التفصيل انظر: الدكتور ثروت بدوى: النظمالسياسية (المرجع السابق،ص110).


ولإلقاء الضوء على هذا الموضوع، سوف نعرضللنظريات التى تفسر خضوع الدولة للقانون فى مبحث أول، ثم مقومات الدولة القانونيةفى مبحث ثانٍ.

المبحث الأول


النظريات المفسرة لخضوع الدولة للقانون



يتفق أغلبية فقهاءالقانون والسياسة على ضرورة خضوع الدولة للقانون، ليتقيد به الحاكم مثلما يتقيد بهالمحكوم. إلا أن هذا الإتفاق يقابله خلاففى تفسير وتبرير هذا الخضوع. هذا الخلاف تحمله لنا نظريات ثلاث: نظرية الحقوقالفردية، ونظرية التحديد الذاتى، ونظرية التضامن الإجتماعى.

المطلب الأول


نظرية الحقوق الفردية



تقوم نظرية الحقوقالفردية على تمجيد الفرد وإعتباره أساس ومحور النظام السياسى. وبالتالى فالسلطة ماهى إلا إداة لخدمته وتحقيق وضمان حرياته . فالرد بحقوقه وحرياته الطبيعية هوالغاية من كل نظام سياسي؛ لأن الحقوق أصلية وسابقة على الدولة.

(174)



أما إذا أرادتالدولة أن تنظم الفرد وتحد من حرياته فيجب ألا تتوسع فى ذلك، وإلا فقد مبرراتوجودها وهى حماية الفرد والحفاظ على حرياته.


لقد وجدت هذه النظرية صدى واسعاً لدى كل من رجالالثورة الأمريكية والفرنسية فضمنوها إعلاناتهم.


لقد تضمنها إعلان استقلال الولايات المتحدةالأمريكية الصادر فى عام 1776 عقب مؤتمر فيلا دلفيا، ثم صيغت فى دستور الولاياتالمتحدة الصادر عام 1787. لقد تقرر فى الإعلان أن "من الحقائق الثابتة أن كلالناس خلقوا متساوين، لهم منذ ميلادهم حقوق لا تسلب مثل الحق فى الحياة، والحق فىأن يكونوا أحرارأ، والحق فى التطلع إلى السيادة، ولم توجد الحكومات إلا لضمانممارسة هذه الحقوق".


أما الإعلان الفرنسى لحقوق الإنسان الصادر عام1789، فقد ردد نفس المعنى ليؤكد أن هدف النظام السياسى هو المحافظة على حقوقالأفراد الطبيعية والثابتة.


فالدولة لا تخلق الحقوق الفردية لأنها حقوقطبيعية، ولصيقة بالفرد بحكم أدميته، وقيامالجماعة السياسية كان فقط لحماية الحقوق والمحافظة عليها.


لقد جاء فى المادة الأولى من الإعلان الفرنسىلحقوق الإنسان بأن "الأفراد يولدون أحرارأ ومتساوين فى الحقوق" ، وفى المادةالثانية أن "هدف كل جماعة سياسية هو صون حقوق الإنسان الطبيعية وغير القابلةللتقادم، وهى الحرية، والملكية، ومقاومة الإضطهاد".













الطاغية


دراسة فلسفية لصور من الإستبداد السياسي


تأليف أ. د / إمام عبد الفتاح إمام





أولاً: الحكمالثيوقراطي..


من الأفضل أننستخدم تعبير "الحكم الثيوقراطي" بدلا من الحكم الديني، ذلك لأننا نظلمالدين كثيرا عندما ننسب إليه مثل هذا الحكم المطلق المتعسف الذى يأخذ برقاب الناسباسم الإرادة الإلهية!.. فليس ثمة دين منالديانات السماوية الكبرى يذهب إليه أو يتمسك به. وإنما ظهرت فى كل عصر مجموعة منأتباع هذا الدين أو ذاك تلجأ إلى تأويل بعض النصوص الدينية، وتقدم اجتهادات شخصيةوتفسيرات ذاتية تمكنها من الوصول إلى السلطة، فتكون لها مقاليد الأمور،وهى تستخدمفى الأعلم الأغلب أحط السبل: كالدسائس، والقتل، والرشوة، واستمالة الأشخاص بالمالأو الإرهاب، والنفاق والكذب على الله!. وسوف نسوق نماذج كثيرة من هذا القبيل طوال البحث.


والواقع أن الحكم الثيوقراطى ينشأ عندما ينقسمالمجتمع السياسى، كما رأينا من قبل، إلى فئتين متمايزتين، حاكمة ومحكومة ويظهرسؤال: من أين جاء هذا التمايز: وإذا كان الحكام بشرا كالمحكومين فكيف تكون إرادتهمحرة تحدد نفسها

(21)



بنفسها، بينماإرادات المحكومين تخضع لهم وتتقيد وتتحدد وفقا لمشيئتهم؟.. كيف نتصور إراداتين من طبيعة بشرية واحدة ليستاعلى درجة واحدة، بل إحداهما تعلو على الأخري؟.


أبسط وأسرع إجابة هى: لابد أن تكون الحكام منطبيعة غير طبيعية البشر، هكذا تصور القدماء الحاكم من طبيعة إلهية، فهو إلة علىالأرض أو هو ابن الإله!. ومن هنا جاء سمو إرادته، فهى سامية لأنها إرادة إلهيةعليا، ثم تدرج الأمر بعد ذلك إلى أن الله يختار الحاكم اختيارا مباشرا ليمارسالسلطة باسمه على الأرض.


وعلى ذلك فإننانستطيع أن نقول إن التفكير قد اتجه أولا إلى تاسيس السلطة على أساس إلهي، فقيل إنالسلطة مصدرها الله يختار من يشاء لممارستها، ومادام الحاكم يستمد سلطته من مصدرعلوي فهو يسمو على الطبيعة البشرية وبالتالى تسموا إرادته على إرادة المحكومين إذهو منفذ للمشيئة الإلهية.


ولقد لعبت هذه الفكرة دورا كبيرا فى التاريخ،وقامت عليها السلطة فى معظم الحضارات القديمة، وأقرتها المسيحية فى أول عهدها، وإنحاربتها فيما بعد. ثم استند إليها الملوك فى أوروبا فى القرنين السادس عشر والسابععشر لتبرير سلطاتهم المطلقة واختصاصاتهم غير المقيدة.


على أن هذه الفكرة قد تطورت واتخذت ثلاث صورمتتابعة هى:


1_في الأصل كانالحاكم يعد من طبيعة إلهية، فهو لم يكن مختارا من الإله، بل كان الله نفسه. وقدقامت الحضارات القديمة عموما فى مصر، وفى فارس، وفى الهند، وفى الصين، على أساسهذه النظرية، وكان الملوك والأباطرة ينظر إليهم باعتبارهم آلة. وقد وجدت الفكرةكذلك عند الرومان الذين كانوا يقدسون الإمبراطور ويعدونه إلها. وإن كان الشرق هوأصلها ومنبعها.


2_تطورت النظرية مع ظهور المسيحية، ولم يعدالحاكم إلها أو من طبيعة إلهية ولكنه يستمد سلطته من الله. فالحاكم إنسان يصطفيهالله ويودعه السلطة. وفى هذه المرحلة تسمىالنظرية "نظرية الحق الإلهى المباشر" لأن الحاكم يستمد سلطته من اللهمباشرة دون تدخل إرادة أخري فى اختياره. ومن ثم فهو يحكم بمقتضى الحق الإلهيالمباشر.

(22) (يوم الخميس 19 /9)



3_منذ العصور الوسطى، وأثناء الصراع بينالكنيسة والإمبراطور، قامت فكرة جديدة مقتضاها أن الله لا يختار الحاكم بطريقة مباشرة، وأن السلطة وإن كان مصدرهاالله، فمان اختيار الشخص الذى يمارسها يكون للشعب. وبعبارة أخرى ظهر الفصل بينالسلطة والحاكم الذي يمارسها: فالسلطة في ذاتها من عند الله، ولكن الله لا يتدخلمباشرة فى اختيار الحاكم. وإن كان من الممكن أن يرشد الأفراد إلى الطريق الذى يؤديبهم إلى اختيار حاكم معين. ومن ثم فالله يختار الحاكم بطريقة غير مباشرة. ويكونالحاكم قد تولى السلطة عن طريق الشعب بتوجيه من الإرادة الإلهية، أو بمقتضى الحقالإلهي غير المباشر (نظرية الحق الإلهى غير المباشر). سوف نعرض فيما يلى لنماذج من الحكم الثيوقراطىفى الشرق القديم، لنرى كيف بدأ نظام الحكم عندنا بتاليه الحاكم فارتدى الاستبدادمنذ البداية زيا دينيا، ثم انتهي فى العصرالحديث إلى تأليه الحاكم أيضا حتى لقد أصبح لدينا الاستعداد للركوع أمام الطاغية،على تنوع مجالات الركوع واختلاف أغراضها، دون أن نجد فى السجود شيئا غريبا غيرمألوف على نحو ما وجد اليونانيون عندما طلب منهم الإسكندر الأكبر تقليد الشرقيين،وانتهوا معه إلى اتفاق "أن تقتصر هذه العادة الآسيوية على الآسيويين فقط!!".




ثانياً: تأليهالحاكم فى مصر القديمة


كان الملك فى مصر الفرعونية إلها منذ بداية النظامالملكي فيها، ولم تكن هذه الألوهيه رمزية أو مجازية تشير فقط الحد سلطته المطلقة،ومكانته السامية، بل هى تعبر حرفيا عن عقيدة كانت إحدى السمات التى تميزت بها مصرالفرعونية وهى عقيدة تطورت على مر السنين،لكنها لم تفقد شيئا من قدرتها وتأثيرها.


فالملك هو قبل كل شيء الإله حورس أو الإلهالصقر وهوأحيانا إله الشمس "رع" ويصبح حورس تابعا له، ويصبح الملك فىهذه الحالة هو "حورس ـ رع" أو يصبح فيما بعد "ابن الإله رع".وهو فى جميع الحالات إله بين الآلهة، ويمثل البلاد بين الآلهة وتتجسد فيه مصرويمثلها فى مجمع الآلة، وهو من ناحية أخرىالوسيط الرسمي الوحيد بين الشعب والآلهة،

(23)



والكاهن الأوحدالمعترف به للآلهة كلها.


بل إننا نجد نصوصا فى تمجيد الملك تصفه بأنه فىوقت واحد مجموعة من الآلة وليس مجرد إله بين الآلة، فهو "سيا" إلهالإدراك، وهو "رع" إله الشمس، وهو "خنوم" خالق البشر علىدولاب الخزاف، وهو "باسنث" الآلهة الحامية و "سخمت" إلهةالعقاب. ومعنى ذلك أن "الفهم" والإدراك، والحكم الأعلى، وإكثار السكان،والحماية والعقاب هى كلها من خواص الملك، والملك هو كل واحد منها، "فالملك هوكل هذه الآلهة!" .


وكثيرا ما يقال إن الإله الأعلى"رع" هو الذى نصب ابنه ملكا على أرض مصر. ولهذا اتخذ فرعون منذ المملكةالقديمة لقبا هو "ابن رع" فهو الابن الجسدي الذى جاء من صلب إله الشمس"رع". ولم يكن أحد ينكر ميلاده فى هذه الدنيا من امرأة معينة، لكن أباه،مع ذلك، إله، ذلك لأن من واجب "رع" الإله الأكبر أن يضمن لأرض مصر حكماإلهيا، ونظرا لاهتمامه بمستقبل البلاد، فانه كان يتردد على الأرض لينسل لها حكامها!.أما الأب الأرضي، فلم يكن مشكلة عند المصريين، إذ يزعمون أن الإله الأكبر حين ينشدالنسل، فإنه يتخذ شكل الملك الحى، ويهب له المني الذى سيصبح فيما بعد "ابنرع". لقد كانت حتشبسوت ابنة تحتمس الأول، إلا أن قصة ميلادها الإلهى الذىأتاح لها أن تغدو فرعونا لمصر، تدل دلالة واضحة على حصول الاستبدال هنا، وعلى أنالإله الأكبر آمون رع هو أبوها الفعلي. فقد وقع اختيار الآلهة على الملكة أمها،وأوصوا "أمون" بزيارتها وفرعون فى أوج شبابه، فاتخذ أمون هيئة تحتمسالأول وذهب إليها وضاجعها ثم أوصاها بأن: "اسم ابنتي التى وضعتها فى جسدك هوحتشبسوت وهى التى ستقوم بوظيفة الملك!" . وعندما يعتلى فرعون العرش كان علىالناس أن يفرحوا ويبتهجوا لأن أحد الأربابأقيم رئيسا على كل البلاد، إذ سوف ترتفع المياه فى النيل ولا يهبط منسوبها، ويرافق اسم الملك شارات ترمز إلى"الحياة والصحة والقوة" .

(24)



وحتى بعد الوفاةيبقى فرعون يحدب على مصر ويعطف عليها، ولهذا حق له أكثر من أي إنسان آخر، أن يخلدذكره ويبقى حيا إلى الأبد.


ولا يصبح الملك ملكا إلا بعد حفلة التتويج وهىحفلة تتم مراسمها، عادة، في مدينة منف بسلسلة من الطقوس الرمزية والأدعية التقليديةالتى يتم فيها تذكير الناس بتوحيد المملكتين فى شخص الملك فيدخل بين مصاف الآلهةويصبح مساويا لهم، ويتسلم خلال التتويج "الصولجان والسوط" . وبعد ذلكينتصب ناهضا وعلى هامته تاح الجنوب الأبيض والشمال الأحمر. ثم البشنت الذي يجمعبينهما، ويجلس على العرش فوق البردي واللوتس، ويدور حول الجدار الأبيض رمزا لتوليهالدفاع عن مصر أسوة بالشمس التى تقوم بدورة حول الأرض.


غير أن فرعون الذى هو الملك الإله طوال حياته،يتحول أيضا إلى إله بعد وفاته، ومن هنا فإنه يستحق مناسك العبادة والتكريم الواجبةللملك المتوفى. إنه يصعد إلى السماء ليتحد بقرص الشمس ويندمج مع أبيه"رع". ويصف "برستد" الملك وهو يسبح في السماء، بعد الموت،ليسكن مع والده إلى الأبد، في صفحات طويلة رائعة وممتعة حتى يستقر في تلك المملكةالعتيدة التى مقرها السماء.


وهذا التأليه في الدارين، الفانية والباقية، ليس من نزوات ملك عات مستبد أوجب على رعاياهالخانعين الأخذ بها، وإنما هو عقيدة تنبع عن إيمان ثابت وأكيد بأنه إله، وإله عظيمدائم الاتصال بالآلهة الكبار، وأن له القدرة على الطبيعة فهو يستطيع السيطرة علىظواهرها ويسخرها لما فيه الخير العام والصالح لمصر، ولهذا يقول أحد الوزراء:"إن الملك إله تساعدنا أعماله على الحياة"، أو يقول أحد الفراعنةالمتوفين "كنت ملكا أقوم بتأمين نمو الشعير!" .


ولهذا فإن علينا ألا نعجب إذا عرفنا أن الملكبموجب ألقابه الرسمية "سيد المصريين" أو "ربهم"، وهو أيضا"السيدتان" أي ملتقى الإلهتين الحاميتين اللتين تحميان الشمال والجنوب.أما اللقب الموازي فهو "السيدان" ويعبر عن هذه العقيدة بأن الإلهين المتنافسينلمصر العليا والسفلي "حورس" و"ست" يقيمان جسديا ويصطلحان فيشخص الملك.


ولهذا كله فإن الملك فى مصر يتسم بالسماتالآتية:

(25)



1_ شخصية إلهيةمقدسة، وبالتالي فهو أقدس من أن يخاطبه أحد مباشرة، فمن كان بشرا عاديا فهو لايستطيع أن يتكلم "مع" الملك وإنما هو يمكن أن يتحدث في حضرة الملك ! بلإن كل ما هو جزء من شخص الملك، كظله مثلا ، مترع بالقداسة، فلا يقوي البشر عليالدنو منه.


2_ هذه الشخصيةالإلهية تتمتع بعلم إلهي أيضا فلا تخفي عليه خافية. يقول أحد الوزراء "إنجلالته عليم بكل شيء بما حدث وبما يقع، وليس هناك في هذه الدنيا شيء لا يعلمه، إنهتوت إله الحكمة في كل شئ، وما من معرفة إلا وقد أحاط بها".


3_ إن كل ما يتفوه به صاحب الجلالة يجب أن ينفذ، بل لابد أن يتحقق فورا، ذلك لأن مشيئة الملك وإرادته هى القانون، ولها ماللعقيدة الدينية من قوة وشكيمة فهو يعمل ما يجب أن يعمل، ولا يرتكب قط إثما أو مايثير بغضا أو حقدا، وهكذا لا يسع المواطن المصري العادي إلا التسليم والخضوعلأوامره ونواهيه.


4_ ترتب علي شخصيةالملك الأسطورية هذه نتيجة مهمة أيضا هي أنه لم تكن هناك قواعد قانونية مكتوبة أومفصلة، إذ لم تكن هناك حاجة إليها ما دامت كلها متمثلة في شخص الإله الذي كاندائما علي استعداد لإصدار الاوامر اللازمة لما يجب أن تكون عليه نظم الدولة وطرقالتعامل فيها، وربما كان من أسباب عدم وجود قواعد قانونية: الخوف من أن تقيد سلطةالملك الشخصية.


5_ كان القضاة يحكمون حسب العادات والتقاليدالمحلية التي يرون أنها توافق الإرادة الملكية التي يمكن أن تتغير إذا اقتضت رغبتهذلك.


6_ كان الملك هوهمزة الوصل الوحيدة بين الناس والآلهة، فهو الكاهن الأكبر وهو الذي يعين الكهنةلمساعدته، ومن هنا فهو وحده الذي كان يستطيع تفسير ما تريده ماعت إلهة العدالة،ويقوم بتطبيقه في مملكته. ولهذا كان من المفاهيم الأساسية التي يسلم بها الجميع إنالإرادة الملكية لا يمكن أن تهدف إلا لسعادة مصر ورخائها .


7_ معني ذلك كله أن فرعون في مصر هو المشروعوالمنفذ، وهو الذي يحكم القضاء باسمه، وهو الذي يعرف رغبات الآلهة ويحققها، وكثيراما كان يقول في أوامره لابنه أو لوزيره: "إن الآلهة ترغب في إحقاق الحق،


(26)


وهي تكره أشدالكراهية الأخذ بالوجوه والتحيز! " فها هنا الناموس! فرعون هو المرجع الأعلي،والموئل الأسمي. إليه وحده ترفع طلبات الاسترحام ولا يمنع منها أحد من رعايا فرعونمهما اتضع قدره وانحط شأنه. وبذلك تتاح لهفرصة مراقبة أعمال عماله المتصرفين في شؤون مملكته الشاسعة والضرب بشدة علي أيديالعابثين بأمورها والخارجين علي إرادته.


ثالثا: الطاغيةالبابلية:


كانت السلطة السياسية في بلاد ما بين النهرينتستند باستمرار إلي مصدر إلهي، فلقد هبط النظام الملكي من السماء، والملك هو"حاكم المدينة" وهو "الكاهن الأعظم" وهو نائب الآلهةومندوبها.


ويفاخر الملوك بالأصل الملكي الذي ينتسبونإليه، لكنهم مع ذلك لا بفتأون في الوقت ذاته، يذكرون الناس باختيار الآلهة لهم!وإذا ما اختار الملك ابنا ليتولى الحكم بعده حرص علي أن يعرض هذا الاختيار عليالآلهة لتقره.


وبعد المصادقة على الاختيار يقسم الابن يمينالولاء والخضوع والاحترام لأبيه. ويدخل "المختار" إلي بيت الوراثة حيثيدرب علي مهام منصبه المقبل، ويوم ارتقائه العرش تجرى احتفالات دينية يمنح أثناءهاالابن المختار اسمه الملكي، ويقلد الشعارات رمز السلطة الإلهية.


ولم يكن ملك بابل من الوجهة القانونية إلاوكيلا لإله المدنية، ومن أجل هذا كانت الضرائب تفرض باسم الإله. وكان الملك أثناءتتويجه يقام له حفل كبير تخلع عليه الكهنة سلطته الملكية ويأخذ بيد"بعل" ويخترق شوارع المدينة فى موكب مهيب ممسكا بصورة"مردوخ".


وكان الملك في هذه الاحتفالات يرتدي زي الكاهن،وكان هذا رمزا لاتحاد الدين والدولة. ولعله كان أيضا يرمز إلى الأصل الكهنوتيللسلطة الملكية. وكانت تحيط بعرشه جميعمظاهر خوارق الطبيعة، ومن شأن هذه كلها أن تجعل الخروج عليه كفرا ليس مثله كفر، لايجزي من يجرؤ عليه بضياع رقبته فحسب، بل يجزي أيضا بخسران روحه. وحتى حمورابيالعظيم نفسه تلقي قوانينه من الإله. ولقدكانت الفضيلة الكبري فى بلاد ما بين النهرين عموما، وبابل (27)


بصفة خاصة، هى الطاعة التامة .


فالدولة تقوم أساسا على الطاعة والخضوعللسلطة، فلا عجب أن نري إذن أن "الحياة الفاضلة" في أرض الرافدين كانتهى الحياة المطيعة حيث كان الفرد يقف في مركز مجموعة من الدوائر المتلاحقة منالسلطة تحد من حرية عمله ونشاطه. وكان الأمر في الماضي السحيق علي نحو ما هو عليهفي يومنا الراهن، تبدأ دوائر السلطة، أو الطاعة لا فرق، من دائرة الأسرة حيث يوصيالعراقي القديم بهذه العبارة: "اسمع كلمة أمك، كما تسمع كلمة إلهك، واسمعكلمة أخيك الأكبر كما تسمع كلمة أبيك".


وتنتهي هذه الدوائر بالدولة والمجتمع، فهناكالمراقب والمحاسب، والمشرف في الزراعة وفي التجارة، ثم هناك الملك وهو فوقهمجميعا، والكل يطلب الطاعة من المواطن، بل الاستسلام والخضوع المطلق. وكان العراقي القديم، كالعراقي الحديث، ينظر إلي الجمهور الذي لا قائد لهنظرة الاستياء والشفقة والخوف أيضا "الجنود بلا ملك غنم بلا راع"! (لاحظتعبير الغنم، وهم حتي فى حالة وجود الراعي لا بد أن يكونوا غنما !إلخ)


و "العمالبلا مراقب كالمياه بلا مفتش ري"، و "الفلاحون بلا مشرف كحقل بلاحارث" .


وهكذا نجد أنه يستحيل وجود عالم ونظم ما لمتفرض عليه سلطة عليا إرادتها. والفرد هنا يشعر بأن السلطة دائما علي حق، كما كانالمصريون يعتقدون أن فرعون لا يمكن أن يرتكب خطأ أو يقترف إثما، أوامر القصر،كأوامر "آنو" لا تتبدل.


كلمة الملك حق، ونطقه كنطق الإله لا يغيره شئ،والعصر الذهبي القادم هو "عصر الطاعة" كما تنبأ "الشعراء في نشيديصف المستقبل".


وفي بلاد ما بين النهرين عموما كان دور الملكالرسمي أنه ممثل الآلهة علي الأرض أو أنه ينوب عنها، فقد منحته الآلهة السلطة لكييتصرف نيابة عنها، وهي تتوقع منه أن يعامل الناس بالعدل وبلا محاباة، بحيث يدافععن الضعيف أمام القوي، وأن نصيرا لليتامي والأرامل، وقد كان يوجه الاعتباراتالأخلاقية لما تجلبه من رضا الآلهة وبركاتها وما يمنع

(28)



ولقد تداولتالأجيال طرائق الحياة والحكم السليمة وأيدتها بالنصوص التي تقدم التعليماتوالنصائح. لقد كانوا يعتقدون أن سلامة الملك تقوم عليها سلامة الجماعة ولهذا تتخذإجراءات صارمة لضمان ذلك، وما زالت تتخذ هذه الإجراءات الصارمة لضمان سلامة"ولي النعم" .


رابعا: فارس


كان الفرس يطلقون على الإمبراطور لقب"ملك الملوك". وهو صاحب السلطة المطلقة في طول البلاد وعرضها، فكانتالكلمة التي تصدر من فيه كافية لإعدام من يشاء من غير محاكمة ولا بيان للأسبابتماما كما يحدث عند الطغاة اليوم ! وكان في بعض الأحيان يمنح أمه أو كبيرة زوجاتهحق القتل القائم علي النزوات والأهواء، وقلما كان أحد من الأهالي، ومنهم كباروأعيان، يجرؤ علي انتقاد الملك أو لومه. كما كان الرأي العام ضعيفا عاجزا عجزامصدره الحيطة والحذر. لدرجة أن كان كل ما يفعله من يري الملك يقتل ابنه البرئ أمامعينيه رميا بالسهام أن يثني علي مهارة الملك العظيمة في الرماية. وكان المذنبونالذين تلهب السياط أجسادهم بأمر الملك يشكرون له تفضله بأنه لم يغفل عنذكرهم. وعندما غزا الإسكندر فارس وجدالقوم يسجدون للإمبراطور ويؤلهونه فابتدع سياسته الخاصة بالمزج وإدماج العناصرالمقدونية بالفارسية في إمبراطوريته، واتخذ في المناسبات العامة الزي الفارسي،ومراسم البلاط الفارسى. وإذ ذاك أزمع علي اقتباس تلك العادة الفارسية: عادة السجودللملك. وهي التي كان يتعين بمقتضاها علي جميع من يقتربون من الملك السجود له. وهوإجراء تقتضيه بالنسبة للفرس الشعائر الرسمية ! ولكنه كان في نظر اليونانيينالمقدونيين، ينطوي علي عبادة حقيقية للحاكم، وما كان الإنسان ليسجد إلا للآلهة،وكان الإسكندر علي بينة من موقف اليونان، ومعني ذلك أنه كان ينوي محاكاة الشرقيينفي تأليه الحاكم، أعني أنه كان يريد أن يصبح بصفة رسمية الإله في إمبراطوريته علينحو ما سنبين بعد قليل.


خامسا: الصين


كان التنظيم السياسى في الصين القديمة يقوم عليأساس أن الإمبراطور (29) (السبت 21 9)


يستمد سلطته منالسماء، فهو يحكم وفقا للحق الإلهي الذي يخوله سلطة مطلقة، وكانت عبارة مقبول منالسماء عن طريق الشعائر "هي رخصة الملك والسيادة، وهي التي تزوده بالنفوذالسياسي القوي الذي يلزم رعاياه بالولاء له"، فهو "ابن السماء وممثلالكائن الأعلي، ومن أجل ذلك فإن مملكته كانت تسمي أحيانا تيان، شان أي التي تحكمهاالسماء، وقد ترجم الأوروبيون هذه العبارة بالمملكة السماوية.


وبفضل سلطات الإمبراطور الإلهي كانت له السيطرةعلي الفضول، كما هي العادة في الحاكم الإلهي! ، وكان يأمر الناس أن يوفقوا بينأعمالهم وبين النظام السماوي المسيطر علي العالم. وكانت حكمته هي القانون وأحكامههي القضاء الذي لا مرد له، فهو المدبر لشؤون الدولة، ورئيس ديانتها يعين جميعموظفيها، ويمتحن المتسابقين لأعلي المناصب ويختار من يخلفه علي العرش.


ويعاون الإمبراطور في تصريف وإدارة شؤونالإمبراطورية مجلسان أحدهما مجلس الأعيان ويختار أعضاؤه من الأفراد الأرستقراطيين.وثانيهما مجلس الوزراء وأعضاؤه ستة يختارون من خيرة رجال الدولة.


كما كان محاطا بحلقة قوية من المستشارينوالمبعوثين من مصلحة أن يعمل بمشورتهم، وإذا ظلم أو فسد حكمه خسر بحكم العاداتالمرعية، وباتفاق أهل الدولة، "تفويض السماء" وأمكن خلعه دون أن يعد ذلكخروجا علي العادات والدين أو الأخلاق! فقد كانت السماء تبدي غضبها بأن تقلب الجوفي غير أوانه أو ترسل علامات أخري كالصواعق وهي اضطرابات في ظواهر الطبيعة.


وينبغي علينا ألا نخلط فنظن أن وجود المجالس الاستشارية يعني أن هناكلونا من الرقابة الشعبية علي الملك، فهذا أمر لا أثر له: إن الملك يستشير إذا شاءتإرادته الملكية، ومن حقه ألا يستشير فلا شئ يلزمه بقبول المشورة، أو الالتزام برأيالآخرين، فليس ثمة سوي الإرادة الملكية التي هي إرادة السماء، أما الشعب فلا وجودله. وإذا كان الأمبراطور يتحدث إلي الشعب باستمرار بجلال وبرقة وعطف أبوي، فإنالشعب ليس لديه عن نفسه إلا أسوأ مشاعر الذاتية، فهو يعتقد أنه لم يولد إلا ليجرمركبة الإمبراطور، فذلك هو قدره المحتوم، ولا يبدو لهم أمر مزعجا أن

(30)



يبيعوا أنفسهمكعبيد، وأن يأكلوا خبر العبودية المر !! علي ما يقول هيجل.


سادسا: الإسكندريؤله نفسه في الشرق!


وقعت المدن اليونانية، لما يقرب من قرن ونصف،تحت سيطرة الطغاة فيما يسمي عادة عصر طغاةالإغريق، ابتداء من طاغية كورنثه وانتهاء بطاعية أثينا وأبنائه_ وهي حقبة ذاق فيهاالمواطن الكثير من الظلم والاضطهاد والمعاناة_لكن لم يحدث أن طلب أحد الطغاة منالشعب أن يسجد له عندما يشرف واحد منهم بالمثول بين يديه. صحيح أن المدن اليونانيةتقلبت عليها الأنظمة وعرفت، من بين ما عرفت، النظام الملكي، لكنه لم يكن بقسوةالنظام الشرقي، وتبعا لذلك يظل من الصواب أن نقول أن المدينة اليونانية كانتجمهورية في مقابل النظام الملكي في الشرق. ولهذا فإنه يقال عادة إنه بعد غزوالإسكندر للشرق انهزمت المدينة اليونانية الجمهورية وانتصر النظام الملكي. فقدقامت دولة واسعة الأرجاء كثيرة السكان علي أنقاض مقاطعات صغيرة، وانتقل مركز الثقلفي العالم اليوناني نحو الشرق. وأصبح تطور النظام اليوناني أمرا محتوما، لكن في أياتجاه يسير هذا التطور؟.


لقد ظل الرجلاليوناني يخضع للقانون الذي يصنعه البشر، ولم يخطر بباله أن يكون الحاكم إلها، أوأنه يمثل الإله علي الأرض، ففكرة تأليه الملك أو الإمبراطور صناعة شرقية محليةفحسب!. ولهذا شهد الشرق أسوأ أنواع الطغيان، وكان النموذج الأعلى للطغيان إن صحالتعبير.


كيف سار التطوربعد أن التحم الشرق بالغرب بعد غزو الإسكندرية؟. إن النظام الملكي الشرقي لا يقبلبمبدأ الحرية السياسية الذي كان سائدا في المدن اليونانية لا سيما في أثينا، فقدأصبح المواطن الآن تابعا، وحل القصر محل الحمعية الشعبية أو "الجمعية الوطنية"،وكانت النتيجة أن أصبحت السلطة الملكية مطلقة، وأصبح الملك هو الشريعة الحية لايقيده شئ، ولا يخضع لأية فإرادته إرادة مطلقة. وظهرت عبارات تؤيد ذلك مثل "إنما يقره الملك هو عادل أبدا"


ونقل الإسكندرفكرة "التاج" من فارس حتي أصبحت مرادفة للملك،


وكذلك لفظ العرش،واستخدمه كل خلفائه من بعده. والمقصود بالتاج عصبة

(31)



بيضاء، وأحيانايضاف اللون الأرجواني، تحيط بالرأس وتجمع الشعر وتعقد إلى الوراء.


أصبح الملك، في المرحلة الهلنستية، غير مقيد،فهو المشروع الوحيد للبلاد، وهو القائد الأعلي للجيش، وهو الذي يعلم كل شئ ويصدرأوامره في شتي الموضوعات، ويوجه الكتب الدورية إلى الموظفين، ويجيب عن أسئلتهم وهوأعلى سلطة قضائية.


وبعد غزو الإسكندرية لفارس أطلق علي نفسه"سيد آسيا"، وكانت آسيا تعني الإمبراطورية الفارسية. وكان قبل ذلك قدأطلق علي نفسه "ليث فارس الهصور"، ثم تسمي باسم الملك، وهو لقب لميستعمله إطلاقا علي العملة التي سكها في مقدونيا، وقد أخذت هذه الألقاب في الظهورعلي بعض العملات الآسيوية التي كان يصدرها.


وبدأ الإسكندر يأخذ بعادات الشرق وثيابهم،ويتزوج منهم، إلي أن وصل إلي أعلى عادة وهي تأليه الحاكم فأراد أن يعترف به الشعبالآسيوي_بل واليوناني أيضا_ابنا"لزيوس_آمون"!، ويرى ديورانت أن الإسكندر لو أنه تخلي عن فكرة "ابنالإله آمون" لكان من المحتمل أن يغضب المصريون لخروجه هذا الخروج العنيف عنالسوابق المقررة عندهم. ولقد أكد الكهنة في سيوة وبابل_وهم الذين يعتقد الناس فيهمأن لديهم مصادر خاضة_ أنه من نسل الآلة! وبدأت القصص الأسطورية تروي عن ارتباط هذهالشخصية المقدسة بظواهر الطبيعة. فلقد تعرفت الأمواج نفسها علي الإسكندر، وهو يسيربمحاذاة الشاطئ، فتأكدت أنه سيدها.. وراحت تسبح بحمده، وقدمت له الولاء بوصفهإلها.! فيما يروي و . و . تارن


وشيئا فشيئا بدأ الإسكندر يعتقد أنه إله حقاوبأكثر من المعني المجازي لهذا اللفظ!، وهكذا ابتداء من ربيع عام327(ق.م) بدأتسياسته الخاصة بالمزج وإدماج العناصر المقدونية بالفارسية تأخذ منحى جديدا عندماأزمع علي اقتباس عادة فارسية هي السجود التي كان يتعين بمقتضاها علي جميع منيقتربون من الملك أن يؤدوها! غير أن هذا الأمر كان يعني في نظر اليونانينوالمقدونيين عبادة حقة للإمبراطور وهو أمر لم يألفوه من قبل.


لقد كان الإسكندرعلي بينة من الموقف، وذلك لا يعني سوي شئ واحد هو أنه أراد تأليه نفسه، أراد أنيصبح إلها بالفعل.

(32)



ثانيا: الاستبداد


كلمة المستبد مشتقة من كلمة اليونانية ديسبوتيسالتي تعني رب الأسرة، أو سيد المنزل، أو السيد علي عبيده. ثم خرجت من هذا النطاقالأسري، إلي عالم السياسة لكي تطلق علي نمط من أنماط الحكم الملكي المطلق الذيتكون فيه سلطة الملك علي رعاياه ممثلة لسلطة الأب علي أبنائه في الأسرة، أو السيدعلي عبيده.


وهذا الخلط بين وظيفة الأب في الأسرة التي هيمفهوم أخلاقي، ووظيفة الملك الذي هو مركز سياسي يؤدي في الحال إلي الاستبداد،ولهذا يستخدمه الحكام عندنا في الشرق للضحك علي السذج، فالحاكم "أب"للجميع أو هو "كبير العائلة"، وهذا يعني في الحال أن من حقه أن يحكمحكما استبداديا، لأن الأب لا يجوز_أخلاقيا _معارضته، ولا الاعتراض علي أمره،فقراره مطاع واحترامه واجب مفروض علي الجميع... الخ. فينقل هذا التصور الأخلاقيإلي مجال السياسة، ويتحول إلي كبت للمعارضة أيا كان نوعها! ! وتصبح الانتقاداتالتي يمكن أن توجه إليه "عيبا"، فنحن


(44)


ننتقل من الأخلاقإلي السياسة، ونعود مرة أخري من السياسة إلي الأخلاق، وذلك كله محاولة لتبريرالحكم الاستبدادى.


والواقع أن الحاكم الذي يبرر حكمه"بأبوته" للمواطنين، يعاملهم كما يعامل الأب أطفاله، علي أنهم قصر غيربالغين أو قادرين علي أن يحكموا أنفسهم، ومن هنا كان من حقه توجيههم، بل عقابهمإذا انحرفوا لأنهم لا يعرفون مصلحتهم الحقيقية.


وها هنا يفرق "جون لوك" تفرقة واضحةللغاية فيقول إن سلطة الأب ليست سلطة سياسية، وإنما هي أخلاقية بالدرجة الأوليبمقدار ما يكون الأب ولي أمر أطفاله، ومن ثم فعندما يغفل العناية بهم يفقد سلطانهعليهم، فهي تقترن بإطعامهم، وتربيتهم، ورعايتهم. ولهذا كانت من حق الرجل الذييتولي أمر طفل لقيط أو طفل يتبناه، كما هي من حق الأب الطبيعي. وإنجاب الأب لبنيهلا يسبغ عليه السلطة بالنسبة لهم إذاانتهت عنايته بهم عند حد الإنجاب فحسب.. ومن هنا فإن سلطة الأب تتصل إلي الأم إذاتوفي الأب وكان الأولاد لا يزالون صغارا.. ولهذا ينبغي عليهم طاعة الأم ما داموافي سن القصور، لكن لا الأب ولا الأم بمثابة السلطة التشريعية علي الأبناء. فإذابلغوا سن الرشد، انتهت سلطة الأب عليهم، فلا يحق له أن يتصرف في شؤون ابنه، كما لايحق له أن يتصرف في شؤون أي شخص غريب. وهكذا يستقل الابن ويبدأ، مثله مثل أبيه، فيالخضوع لسلطة القانون السياسي في البلاد. غير أن هذا الاستقلال لا يعفي الابن منإكرام الوالدين الذي تحتمه الأخلاق.


وها هنا أيضا لا ينبغي أن نخلط بين مجاليالأخلاق والسياسة، فاحترام الوالدين وإكرامهما واجب تفرضه الأخلاق علي كل ابن حتيولو كان "هو الملك الجالس علي العرش"، علي حد تبير لوك". لكن هذاالواجب لا يحد من سلطته، بمعني أنه لا ينبغي له أن يخضع في تصريفه لشؤون الدولةلسلطة الوالدين. ومن ثم فطاعة الوالدين هنا تختلف أتم الاختلاف عن طاعة القانون،فطاعة الوالد أخلاقية، واحترامه واجب أخلاقي، وسوف يظل هذا الاحترام قائما حتي بعدأن يبلغ الابن سن الرشد، وينتهي جون لوك من هذا كله إلي القول إن "السلطةالسياسية وسلطة الأب تختلفان أتم الاختلاف، وتتمايزان أشد تمايز،لأنهما تقومان عليأسس مختلفة كل

(45)



الاختلاف، وتهدفإلي أغراض مختلفة، حتي أن كل ملك مازال والداه علي قيد الحياة مدين لهما بالواجبولطاعة_شأنه في ذلك شأن أحط أفراد رعيته تجاه أبويه_دون أن يشمل ذلك أي درجة منتلك السلطة التي يمارسها الملك أو الحاكم علي". ولقد ظهر هذا المصطلح"المستبد" لأول مرة إبان الحرب الفارسية الهيلينية في القرن الخامس ق .م . وكان أرسطو هو الذي طوره وقابل بينه وبين الطغيان، وقال إنهما ضربان من الحكميعاملان الرعايا علي أنهم عبيد. أما الاستبداد_ وهو النظام الملكي عند"البرابرة" علي ما يقول أرسطو_ فهو ينسم بسمة آسيوية هي خضوع المواطنينللحاكم بإرادتهم، لأنهم عبيد بالطبيعة! فالحاكم الآسيوي المطلق هووحده الحر، وهذهالأمبراطوريات الآسيوية الاستبدادية معمرة مستقرة، وممتدة أي طويلة الأجل، لأنهاتعتمد علي قبول ورضاء ضمني من الرعايا الذين يحكمون بوساطة القانون، ويتبعون مبادئوراثية في الحكم.. وأصبح مصطلح المستبد يعني عند أرسطو )أ) رب الأسرة (ب) السيد عل عبيده (جـ) ملكالبرابرة الذي يحكم رعاياه كالعبيد". ولهذا السبب كمان الاستبداد عاديا عندالآسيويين، وحالة مرضية شاذة عند اليونانيين!".


والاستبداد يشبه الطغيان في جانب، ويختلف عنهفي جانب آخر، فأرسطو يقصر استخدام مصطلح "الطغيان" علي اغتصاب السلطة فيالمدينة، وهي عملية يوم بها فرد يستخدم الخداع أو القوة لكي يقفز إلي الحكم،وكثيرا ما يحدث ذلك عن طريق استخدام مجموعة من الجنود المرتزقة، ولقد جرت العادة،كما سبق أن ذكرنا، أن يحكم الطغاة لمصلحتهم الخاصة، وأن ينغمسوا في إشباع شهواتهم،دون اكتراث بالقانون أو العرف، وأن يقيموا سلطتهم علي القهر، فليس أسهل عندهم منسفك الدماء.

(46)



ويعتقد أرسطو أنحكم الطغاة غير مستقر بسبب الكراهية التي يبثها الحكم التعسفي. ولقد ظل مفهومالطغيان أكثر أهمية في الفكر السياسي الغربي من العصر الروماني حتي القرن الثانيعشر، وظهرت نظريات تبرر مقاومة الطغاة بل حتي قتلهم.


وكان الأباطرة البيزنطيون هم أول من أدخلمصطلح "الاستبداد" (أو المستبد) في قاموس السياسة . إذ كانوا يطلقون لقب"المستبد" كلقب شرف يخلعه الإمبراطور علي ابنه أو زوج ابنته عند تعيينهحاكما لإحدي المقاطعات.


وكان الكسيوس الثالث (إنجيلوس) (حكم من 1195إلي 1205) هو أول من أدخل هذا اللقب، وجعله أعلي الألقاب السياسية مرتبة بعد لقبالإمبراطور..


ومع ذلك فقد ظل مصطلح "الطغيان"طوال العصور الوسطي أكثر المصطلحات استخداما وأوسعها انتشارا لوصف الحاكم الشريرأو المغتصب، ثم بدأ مصطلح "الاستبداد" يظهر نتيجة لترجمة مؤلفات أرسطو،لاسيما كتابه "السيادة". وأدت الظروف السياسية التي سادت القرن السادسعشر سواء داخل أوروبا أو خارجها إلي أن احتل مصطلح الاستبداد مركز الصدارة كمفهومسياسي، فالزعم بالتفوق الأوروبي، من ناحية، وجد تطبيقات جديدة ارتبطت أحيانابالقول إن المسيحية رسالة حضارية. كذلك إحياء الأرسطية من ناحية أخري، ثم ما دارمن نقاش بين الغزاة الأسبان حول عدالة استرتاق الهنود من ناحية ثالثة، وكثيرا ماكان الرحالة الأوروبيون يحملون معهم تصنيفات أرسطو، واتجاهاته الفرية البغيضةوالمثيرة للاستياء في رحلاتهم الاستكشافية عن: السيادة، والرق، والغزو الاستعماريالذي بررته نظريات الاستبداد التي قال بها في صور مختلفة بودان وجروتيوس وبوفندروف ... إلخ.

(47)



ثالثا:الدكتاتورية


مصطلح "الدكتاتور" روماني الأصل،فقد ظهر لأول مرة في عصر الجمهورية الرومانية، كمنصب لحاكم يرشحه أحد القنصلينبتزكية من مجلس الشيوخ، ويتمتع هذا الحاكم بسلطات استثنائية، وتخضع له الدولة،والقوات المسلحة بكاملها في أوقات الأزمات المدنية أو العسكرية، ولفترة محدودة لاتزيد عادة علي ستة أشهر أو سنة علي أكثر تقدير. ولقد كان ذلك إجراء دستوريا، وإنكان يؤدي إلي وقف العمل بالدستور مؤقتا في فترات الطوارئ البالغة الخطورة. وهناكأمران لابد أن ننتبه إليهما بوضوح: الأول أن هذا المنصب بمفهومه الروماني يختلفاختلافا تاما عن مفهوم "الدكتاتور" في العصر الحديث، وأقرب مثل عندناالآن يقربنا من وظيفة الدكتاتور الروماني، هي وظيفة "الحاكم العسكريالعام" الذي يعين في أوقات عصبية تمر بها البلاد لاتخاذ إجراءات سريعةوحاسمة، ولفترة محددة فقط.


أما الأمر الثاني فهو أن طبيعة نظام دولةالمدينة في روما كانت تقتضي اتخاذ مثل هذه التدابير الاستثنائية، لأن هذا النظاملم يكن يساعد علي مواجهة الطورئ المفاجئة: كالغزوات، والكوارث، والمؤامرات... الخ.فالسلطة موزعة بين قنصلين متساويين، ومجموعة من المواظفين، ومجلس شيوخ، وثلاثةأنواع من المجالس العامة، ولذلك نص الدستور منذ أن وضع علي أن يكون للحكومة الحقفي أوقات الطوارئ أن توقف سلطات كل هؤلاء الحكام

(51)



وأن تسلم الحكملشخص واحد، جرت العادة أن يكون قائدا عسكريا،


"فيصبح هذاالقائد الدكتاتور، القيم علي الدولة وقت الأزمة، وتنتهي سلطته الاستثنائية بانتهاء الأزمة، ويؤدي عندئذ الحساب عما قامبه..".


ولقد كان "الدكتاتور" يختار في جميعالحالات، إلا حالة واحدة، من طبقة الأشراف، لكن إنصافا لهذه الطبقة لابد من القولإنها قلما كانت تسئ استخدام هذا المنصب. وقد يتقيد الدكتاتور الروماني بالمدةالمحددة (ستة أشهر أو سنة علي الأكثر). ولعل خير الأمثلة علي ذلك هو"سنسناتس" (نحو 465 ق. م) وهو قائد عسكري ورجل دولة، عين دكتاتورا نحوعام 458 ق. م، عندما كان الجيش الروماني في خطر، فترك مزرعته، وجمع فرقا منالجنود، وقام بمساعدة الجيش حتي انتصر ثم تقاعد، وذلك كله في ستة عشر يوم. ثماستدعي مرة أخري وعين "دكتاتورا" عام 439 ق. م، ولقد أدى مهمته أيضا ثمعاد إلي مزرعته. أما الاستثناء فهو سلا الذي عين عام 82 ق.م دكتاتورا لمدة غيرمحدودة، وظل في منصب الدكتاتورية" في الاستخدام الحديث الذي يعني النظامالحكرمي الذي يتولي فيه شخص واحد جميع السلطات (وفي الأعم الأغلب بطريقة غيرمشروعة)، ويملي أوامره وقراراته السياسية، ولا يكون أمام بقية المواطنين سويالخضوع والطاعة. هذا المصطلح لا يكاد يتميز عن مصطلح الاستبداد، وكما قيل إنه يمكنأن يكون هناك "مستبد عادل أو مستنير"، فإنه يمكن أن يكون هناك"دكتاتور مستنير". وهذا هو بالضبط التصور الروماني للوظيفة التي تحملهذا الاسم (وسوف نعود إلي مناقشة هذا التصور فيا بعد). فالدكتاتور يمكن أن يوجدعلي نحو مشروع أو قانوني كما كان عند الرومان، أو يمكن أن يوجد كأمر واقع تفرضهتطورات معينة علي نحو ما يوجد في صورته الحديثة، التي اعتبرها الفقيه الفرنسيالمعاصر موريس دوفرجيه "مرضا" بالنسبة لنظم الحكم، فإذا لاحظنا أنهاتشكل النظام السياسي والعادي والطبيعي لبعض البلدان، فهي في هذه الحالة أشبهبالمرض المزمن "أو الأمراض المتوطنة!".

(52)



وإن كانت عارضة فيبلد فهي كالمرض الطارئ_لكنها في الحالتين قد تكون معدية "كالأوبئةالمعدنية"_فهذا الشر ظهر قديما في آسيا الصغري، ومنها امتد وانتشر في جميعأرجاء العالم الهيلليني. كما أن الطغاة يستفيد بعضهم من بعض فيما يلجأون إليه منطرق وأساليب، ومن هنا كانت "العدوي" وارادة في الطغيان أيضا. أما الوباءالكبير لانتشار النظم الدكتاتورية فقد ولد مع الثورة الفرنسية عام1789) ولا تزالامتداداته حتي اليوم.


وكما أن الطغيان قد يكون لفرد أو جماعة،فالدكتاتور قد يكون فردا علي نحو ما ضربنا من أمثلة، أوقد يكون جماعة فيما سميباسم "دكتاتورية البروليتاريا" (الطبقة العاملة)، وهو مصطلح استخدمهماركس وتبناه لوي بلانكي (1805_1881) الذيكتب عن حاجتنا إلي "دكتاتورية ثورية". ولم يوضح ماركس قط ما الذي يعينهبهذا المصطلح، فهو أحيانا يتحدث فقط عن "حكم البروليتاريا". ثم اتخذالمصطلح فيما بعد دلالات واسعة في الفكر الماركسي ليدل علي طبيعة ومشروعية سلطاتالدولة خلال فترة التحول من الثورة إلي المجتمع الشيوعي.




رابعا: الشمولية


الشمولية، أو مذهب السلطة الجامعة: شكل منأشكال التنظيم السياسي يقوم علي إذابة جميع الأفراد والمؤسسات والجماعات في الكلالاجتماعي (المجتمع، أو الشعب، أو الآفة، أو الدولة) عن طريق العنف والإرهاب،ويمثل هذا الكل قائد واحد يجمع في يديه كل السلطات. وهو في الغالب شخصية كريزميةله قوة سحرية علي جذب الجماهير، ولهذا يلقبونها "بالزعيم"، ويطيعونهطاعة مطلقة. والأنظمة الشمولية مصطلح جديد يستخدم في القلرن العشرين (الواقع أنهلم يستخدم علي وجة الدقة إلا في أواخر الثلاثينات من هذا القرن) وهو يتميز عنمصطلح السلطة المطلقة والأوتقراطية . ويشار بهذا المصطلح إلي عدد من الأنظمةتتفاوت خصائصها، إلا أنها تشترك في خواص أساسية هي السيطرة الكاملة للدولة عليجميع وسائل الإعلام مع وجود أيديولوجية

(53)



معينة توجهها،وقائد يجمع في يده جميع السلطات والأمثلة كثيرة: إيطاليا في عهد موسوليني، وألمنيافي عهد هلتر، واسبانيا في عهد فرانكو، والبرتغال في عهد سالازار... الخ. ولقد عبرموسوليني (1945_1883) تعبيرا جيدا عن هذا المذهب في خطاب ألقاه في 28 أكتوبر عام1925 بقوله: "الكل في الدولة، ولا قيمة لشيء إنساني أو روحي خارج الدولة،فالفاشية شمولية، والدولة الفاشية تشمل جميع القيم وتوحدها، وهي التي تؤول هذهالقيم وتفسرها، إنها تعيد صياغة حياة الشعب كلها"


وعلي ذلك فالدولة الشمولية كتلة واحدة لاتقبل بمبدأ فصل السلطات أو بأي شكل من أشكال الديمقراطية التي عرفها الغرب. وكلمعارضة لهذا الكل تحطم بالقوة، فلا رأي، ولا تنظيم، ولا تكتل خارج سلطة الدولة.وفي مقال نشره الفيلسوف الإيطالي جيوفاني جنتيلي بالإنجليزية عام 1928 بعنوان"الأسس الفلسفية للفاشية" استعمل صفة بمعني الإحاطة والشمول واحتواء كلشيء، في وصفه للنظام الفاشي. لكن اللفظ لم يشع استعماله كمصطلح يطلق علي أنظمة حكممعينة، إلا في أواخر الثلاثينات من القرن العشرين، وفي مرحلة ما بين الحربينالعالميتين استعملت هذه الكلمة من قبل أعدائها وأعوانها علي حد سواء.


ويمكن أن نلخص أبرز خصائص الشمولية فيما يأتي:


1_ضرب من ضروب الحكم التسلطية يختلف ويتميز عن شتيأنواع الاستبداد والتسلط السابقة (كالفاشية في إيطاليا وألمانيا والاتحادالسوفييتي تحت حكم ستالين). وهي تتمسك بالمظهر الديمقراطي لتسويغ سلطتها وإعطاءنظام حكمها طابع الشرعية، فإذا كان الأوتوقراطيون التقليديون يفرضون سلطاتهم دونادعاء أساس شعبي، فإن الشمولية تلتزم في الظاهر بالمبدأ القائل إن الأساس الوحيدالمقبول لشرعية الحكم هو قبول المحكوم بالحاكم وموافقته عليه.


2_الترجمةالحقيقية للديمقراطية في المذهب الشمولي هي أن إرادة القائد أو الزعيم هي إرادةالشعب، أو كما ذهب بعض المنظرين عندنا في العهد الناصري هي "ديمقراطيةالتحسس!" بمعني أن القائد الزعيم الملهم يتحسس "مطالب الجماهير"ويصدر بها قرارات وقوانتين . ولما كان الشعب

(54)



دائما علي حق، فإنالزعيم المعبر عن إرادة الشعب هو أيضا دائما علي حق!، ولكي يثبت القادة الشموليونأن إرادتهم هي إرادة الشعب فإنهم يلجأون إلي أسلوب الاستفتاء العام، والتصويت"التهليلي"، وبهذه الطريقة يستخرج الزعيم الملهم، والقائد الساحر، منقبعة الدكتاتورية أرنبا اسمه الديمقراطية.


3_ القائد يعبر عنإرادة الشعب، لكن كيف تتكون إرادة الشعب؟، وكيف تتحدد؟ ها هنا يكمن ضعفالديمقراطية: مظاهرة التلاعب بمشاعر الجماهير والسيطرة علي الشعب باسم الشعب وباسمالديمقراطية، ظاهرة قديمة قدم الديمقراطية نفسها. وهذا التخوف جعل أفلاطون فيالقرن الرابع يرفض الديمقراطية_كما سوف نري بعد قليل_ويعتقد أنه يسهل جدا تحولهاإلي فوضي، كما جعل جون استيورات مل والكس دي توكفيل في القرن التاسع عشر يتحدثانعن "طغيان الأغلبية!". إذ يري "مل" مثلا أن "طغيانالأغلبية" أصبح الآن يندرج، بصفة عامة، بين الشرور التي ينبغي علي المجتمع أنيحترس منها.. فهذا الضرب "من الطغيان أدهي وأمر من كثير من ضروب الاضطهادالسياسي". ثم يقول "ومن ثم فإنه لا يكفي حماية الفرد من طغيان الحاكموإنما الحاجة ماسة إلي حمايته من طغيان الرأي العام، والشعور السائد، وميل المجتمعلفرض الآراء والمشاعر علي الفرد الذي يرفض قبولها.. والواقع أن "مل" يصفسيكولوجية الأغلبية وتصرفاتها بأنها "لا معقولة"، وهو ما سيعبر عنه علم النفسفيما بعد باسم "غريزة القطيع". ولقد أدرك السياسيون الشموليون هذهالحقيقة، فاتجهوا إلي مشاعر الناس، لا إلي عقولهم، واكتسبوا التأييد من خلال تعطيل"العقل"، وإلهام المشاعر، وإثارة الحماس بالخطب واللافتات، والشعاراتالكبري، إذ يسهل جذب الجماهير عن طريق العواطف والمشاعر لأن طريق المناقشاتالعقلية أو طرح الأفكار قد تثير جدلا، وبالتالي خلافا في الرأي، والخلاف في الرأيغير مسموح به، لأنه يتعارض مع الرؤية الشمولية التي توحد المجتمع في كل واحد.


4_الاستفادة منتحديث وسائل الإعلام، والاتصال، والإثارة، والترغيب والترهيب للتأثير علي جماهيرالناس، وتحقيق التطابق المنشود بين إرادة

(55)



الشعب وإرادةالقائد. ومن عجب أن تستخدم التقنية الحديثة التي هي ثمرة الحضارة من قبلالدكتاتوريات الحديثة لتزييف مبدأ حكم القانون، وليستبدل به مبدأ الخضوع لإرادةالقائد، واعتبار هذه الإرادة معيارا مطلقا ونهائيا للخير والشر، وللحق والباطل..وهكذا نصل إلي مفارقة غريبة، هي أن حركات الشعوب التي كانت تستهدف الإطاحةبالطغيان، تخلق هي نفسها طغيانا من نوع جديد هو طغيان الجماهير..!




خامسا: السلطةالمطلقة


مصطلح يعني الحكومة المطلقة، نظريا وعلميا،أو الحكومة التي لا يحدها حد من داخلها. وينبغي التفرقة بين الحكومة المطلقةوالسلطة المطلقة. فالسلطة متضمنة في الدولة باستمرار، وقد تحدها سلطات أخري.والحكومة يمكن أن تكون مطلقة حتي دون استيلائها علي السلطة المطلقة: وهي تكون كذلكعندما لا تكون هناك كوابح دستورية، فلا يخضع أي تصرف لها للنقد أو المعارضة باسمالحكومة. والحد الأساسي للحكومة هو القانون. والمدافعون عن السلطة المطلقة منأمثال توماس هوبز ، اسير روبرت فيلمر في إنجلترا. وجان بودان والأب جاك بوسيه في فرنسا، كانت محركهمباستمرار فكرة أن أي حكومة تحتاج إلي سيادة، "أي إصدار القرارات دون مساءلة.ومادامت السيادة نفسها تمارس عن طريق القانون: كان السيد الحاكم يمكن نقده هو نفسهعن طريق القانون، رغم أن القانون من صنعه!".


والواقع أنه لم يعد لهذا اللفظ معني محدد الآن،فهو يستخدم، علي نحو فضفاض، ليدل علي حكومات تمارس السلطة بلا مؤسسات نيابية أوكوابح دستورية. وهو كعضو في "عائلة الطغيان" المشؤومة قد تم التحاقهبالأسرة إبان القرن التاسع عشر بوساطة البونابرتية أو القيصرية، وفي القرن العشرينبوساطة المذهب الشمولي، رغم الفروق الدقيقة بين هذه المذاهب. فهو يتميز عن الشموليةبانه لا توجد فيه رقابة شاملة علي كل وظائف المجتمع، وإنما يعبر عن سلطة للحكومةلا تتقيد بقيد.


(56) (الاحد 33،،9)


ولقد ظهر هذاالمصطلح في فرنسا لأول مرة نحو عام 1796، وفي إنجلترا، وألمانيا نحو عام 1830. وهومثل مصطلح "الاستبداد المستنير" مصطلح أعاد المؤرخون صياغته من جديد بعداختفاء الظاهرة التي كان يشير إليها. وقد كان يستخدم في القرن التاسع عشر، فيالأعم الأغلب، علي سبيل الازدراء والتحقير. وإن كان مؤرخو النظرية السياسية لايزالون يستخدمونه، كذلك المهتمون ببناء الدولة من القرن السادس حتي القرن الثالثعشر، حيث يعاود الظهور أثناء المناقشات التي تدور حول السيادة والدستورية، والحقوقوالمقاومة والملكية الخاصة... الخ.


وإذا كان جان بودان هو أعظم منظر لفكرة"السيادة"، فان الاضطرابات التي حدثت في فرنسا في عصره_تماماكالاضطرابات التي عاصرها هوبز في إنجلترا_جعلته يذهب الحد أن هناك حاجة ماسة إليتركيز السلطة في دولة، وجود سلطة أو سيادة عليا غير محدودة في صلاحيتها، ودائمة فيممارستها للسلطة. ولا تعني "السيادة" عند "بودان" سلطة غيرمحدودة علي الأشخاص والممتلكات الخاصة للمواطنين، وإنما هي تخضع لحدود يفرضهاالقانون الطبيعي، وقانون العرف. لكن لا القانون الطبيعي، ولا قانون العرف يمكنفرضهما علي الجماعة، فالسيد الحاكم لا يقاوم، ولا يخلع من الناحية القانونية، لأنالسيادة مطلقة ولا يمكن أن تنقسم، فأما أن يكون أمير الدولة المستقلة حاكما مطلقا،وإما أن يخضع لسلطة أخري هي التي تكون "السيد" عندئذ.


ولقد عرض الأسقف "بوسيه" المعاصرللملك لويس الرابع عشر صورة لاهوتية من مذهب السلطة المطلقة، جمع فيها عناصرتقليدية من الكتاب المقدس،وتصورات مجازية وتشريعية جديدة، وحججا مستمدة من"توماس هوبز". وهكذا ذهب "بوسية" إلي أن الله هو الذي يعينالملك، ويضعه علي العرش لكي يعمل علي ازدهار المصلحة العامة، وكذلك لحمايةالتواضعين من الرعايا.


وعلي الرغم من أن مصطلح "مذهب السلطةالمطلقة" قد تمت صياغته في إنجلترا في القرن التاسع عشر. فإن لفظ"المطلق" سبق أن نوقش مناقشات حادة في القرنين السادس عشر والسابع عشرمن

(57)



خلال المناقشاتالسياسية والقانونية للنظام الملكي المطلق. وكان سير توماس سميث (1513_1577) هوالذي استخدم كلمة "المطلق" بمعني فيه قدح في آن معا علي ما في ذلك منمفارقة، فهو يلوم لويس الحادي عشر لأنه حول فرنسا من نظام قانوني مشروع إلي"حكومة طغيان وسلطة مطلقة". وفي الوقت نفسه يعزو"سميث" إليالبرلمان "أعظم وأعلي سلطة مطلقة في المملكة".


ولقد أدي الغموض في استخدام كلمة"المطلق" في القرن السابع عشر إلي منازعات انفجرت في النهاية في"حرب أهلية" في إنجلترا بين الملك شارل والبرلمان، ووحد الكتاب الذينآزروا البرلمان بين "السلطة المطلقة" وبين "الطغيان" مرة،و"الاستبداد الشرقي" مرة آخري! ورفضوا تماما أن يكون للملك أي حق مطلقعلي المواطنين في طاعته. وذهب بعضهم إلي أن "النظام الملكي المطلق غير المحدود...هو أسوأ أشكال الحكم".


وأقوي منظرين للسلطة المطلقة في إنجلترا هما:روبرت فيلمر وتوماس هوبز.


أما "فيلمر" فهو مؤلف كتاب"الحكم الأبوي" الشهير الذي ظهر عام 1680 (بعد وفاة مؤلفه بأكثر منعشرين عاما) الذي يدافع فيه عن سلطة الحاكم المطلقة بردها إلي "الحقالإلهي". فالمملكة الكاملة_كما يقول_هي التي يحكم فيها الملك كل شيء حسبإرادته الخالصة، ويستحيل أن تجد قوانين العرف أو القوانتين الوضعية من تلك السلطةالمطلقة التي يتمتع فيها الملك "بحق الأبوة"، وهو يردها إلي آدم."فقد كان آدم أبا، وملكا، وسيدا علي أسرته، وكان الابن والمحكوم والخادموالعبد شيئا واحد في البدء، وكان للأب حق التصرف في أولاده وخدمه وبيعهم، ولقدأراد الله أن تحل السلطة المطلقة في آدم، ثم يرثها الملوك من بعده. ومعني ذلك أنالبشر ليسوا أحرارا بالطبع، بل إنهم بفتحون أعينهم علي الحياة والعبودية في آنمعا" إلي آخر هذه النظرية العجيبة التي أفرد لها جون لوك بحثا من"البحثين الشهيرين عن الحكومة" جعل عنوانه "في بعض المبادئ الفاسدةعن الحكم" خصصه للرد علي السير روبرت فيلمر ودحض حججه.


أما توماس هوبز فقد كتب "التتين"محاولا أن يبني المجتمع المستقر الذي لا تطحنه الحروب الأهلية، وجعل العقد تنازلامن جانب المواطنين

(58)



للعاهل، يقول:"السيد الحاكم هو المشروع، وهو حر في أن يصدر أو لا يصدر ما يشاء من قراراتوقوانين مادام يعتقد أنها في صالح الجماعة، وليس لإنسان الحق في الادعاء أنه كانضحية للظلم علي يد السيد الحاكم، لأنه سبق أن فوض هذا السيد الحاكم في إصدار مايشاء من قرارات. ومن ثم فسوف تكون الضحية هي نفسها صانعة الظلم الذي لحق بها.وبالمثل ليس لأحد من المواطنين معاقبة السيد الحاكم بطريقة قانونية مشروعة لأنهسيكون في هذه الحالة، قد عاقب الحاكم علي فعل قد خوله هو نفسه أن يقوم به".


غير أن لفظ الحاكم المطلق قد أصبح خاليا منالمعني السيسمي أو التطبيق العملي في إنجلترا بعد عام 1689. أما في أمريكاالشمالية فقد كان هناك توحيد بين الحكم المطلق، والطغيان والاستبداد علي نحو ماظهر في إعلان الاستقلال في 4 يوليو 1776.


وعلي الرغم من أن هذا المصطلح أصبح الآن في ذمةالتاريخ، بمعني أنة لم يعد أحد يناقشه في العالم المتقدم سوي المؤرخين، فإنه لايزال جديرا بالدراسة الفاحصة في دول العالم الثالث التي تتقلب عليها أشكال مختلفةمن الحكم المطلق في صور متنوعة.




سادسا:الأوتوقراطية


تعني الحاكم الفرد الذي يجمع السلطة في يدهويمارسها علي نحو تعسفي، وقد يكون هناك دستور، وقد تكون هناك قوانين تبدو فيالظاهر أنها تحد سلطة الحاكم أو ترشده، غير أن الواقع أنه يقدر أن يبطلها إذا شاء،أو يحطمها بإرادته. ومعظم المنظرين يعتقدون أن الحكم الأوتوقراطي يتطلب تركيزالسلطة في يد شخص واحد لا في يد جماعة أو حزب أو مؤتمر.


والواقع أن الأوتوقراطية يمكن بهذا المعني أنتطلق علي حكومات فردية متعددة ومتنوعة، حيث يتمثل الاستبداد في إطلاق سلطاتالحاكم الفرد وفي استعماله إياها في بعضالأحيان، لتحقيق مآربه الشخصية.


فحكم الطغيان الذي صادفناه من قبل يمكن أنيوصف بأنه أوتوقراطي، كذلك حكم أباطرة الرومان، ولاسيما في العهد البيزنطي، كمانجد تطبيقا

(59)



للنزعةالأوتوقراطية في المعتقدات القديمة المتعلقة بالطبيعة الإلهية للحاكم أو لحقالملوك الإلهي.


بل يمكن أن توصف بها أنظمة متعارضة أتمالتعارض: فحكم قيصر روسيا قبل الثورة كان حكما أوتوقراطيا، وبالمثل كان حكمستالين!.


سابعا: المستبد المستنير أو العادل


بقي أن نختم عائلةالطغيان الكريهة بمناقشة هذا المصطلح "المحبب" عند البعض، وأعني بهمصطلح "المستبد العادل" أو المستنير أو الطاغية الخير أو الصالح، أوالدكتاتور العادل... الخ.


ولقد ظهر هذا المصطلح في القرن الماضي فيالفكر السياسي الأوروبي واستخدمه في البداية المؤرخون الألمان للدلالة علي نظاممعين في الحكم في تاريخ أوروبا الحديث. والمفروض أنه عند مصطلح "الاستبدادالمستتير" بشكل عام تلتقي مفاهيم الملكية المطلقة التي كانت معروفة فيأوروبا، ومفاهيم عصر التنوير، الذي يعبر عنه فلسفيا بكلمات خمس (هي:الفرد_العقل_الطبيعة_التقدم_السعادة). ومن هذا التحالف بين الفلسفة والسلطةالمطلقة تخرج سعادة الشعوب. ومن أوروبا انتقلت إلي الشرف، فيما يبدو، عدوي"المستبد العادل"، فالحل الحقيقي الذي ارتآه جمال الدين الأفغانيلمشكلات الشرق إنما هو "المستبد العادل" الذي يحكم بالشوري. فهو فيالعروة الوثقي يرد علي القائلين إن طريق الشرق إلي القوة هو نشر المعارف بين جميعالأفراد، وإنه: "متي عمت المعارف كملت الأخلاق واتحدت الكلمة، واجتمعتالقوة". ويقول ردا علي هؤلاء: "وما أبعد ما يظنون، فإن هذا العملالعظيم، إنما يقوم به سلطان قوي قاهر يحمل الأمة علي ما تكره أزمانا، حتي تذوقلذته وتجني ثمرته.." ، وكذلك يقول في كتاب الخاطرات: "لا تحيا مصر، ولايحيا الشرق بدوله، وإماراته، إلا إذا أتاح الله لكل منهم رجلا قويا عادلا يحكمهبأهله علي غير التفرد بالقوة والسلطان" .


والملك المستبد المستنير يكون مستنيرا بقدرما يعتمد في حكمه لا علي حق الملوك الإلهي، بل علي مفهوم العقد الاجتماعي ، عقدتبادل المنافع بين الحكام والمحكومين. ويكاد المؤرخون يجمعون علي اعتبار فردريكالثاني أو

(60)



فريدريك الكبيرملك بروسيا (من 1740 إلي1786) هو النموذج الأول للملك المستنير، إذ كان يعتبر نفسه الخادم الأول للدولة، ويتصرف وكأن عليه تقديم حساب عن عمله أمام مواطنيه، فيتسامح في الدين، ويهتم بالإصلاحالقضائي، وبإصلاح التعليم، وتحسين أوضاع الفلاحين.. فهو ملك مستنير من هذهالزاوية. لكنه مستبد من زاويةأخري هي أنه ما من شخص أو هيئة لها صلاحية أو حقمراقبة اعمال. وثمة ملوك مستنيرون آخرون، ولكن بنسب أقل، من أمثال كاترين الثانيةملكة روسيا (1796_1762) وجوزف الثاني إمبراطور النمسا (1790_1785) وجوستاف الثالثملك السويد، وشارل الثالث ملك إسبانيا... الخ، ولقد لخص جاك شيفالييه هذه الألوانمن الاستبداد والاستنارة في شكلين: أما الشكل الأول: فهو المستبد المستنير كمايمثله فردريك الثاني الذي يقول: "لقد اختار الناس من بينهم من اعتقدوه أكثرعدالة لحكمهم، وأفضل من يخدمهم كأب". ولهذا فهو لا يريد إلا خير الدولة، وإذاكان سيدا مطلقا، فمن أجل أن يحسن الاهتمام بمصالح الجميع. ومعني ذلك أن الملك هورئيس العائلة أو "كبير العائلة" أو أب لشعبه. ولقد أبدي في بداية عهدهعلي الأقل اهتماما كبيرا بالأخلاق كما يتضح من كتابه "ضد مكيافللي" الذيهاجم فيه أساليب الفيلسوف الإيطالي وأفكاره.


لكنالواقع أن فردريك الأكبر (والتسمية لفولتير) كانت له ظروفه الخاصة. فهو بطبيعته لميكن ميالا إلي الصيد والفروسية، وإنما اهتم بالموسيقي والآداب، وكان هو نفسه ينظمالشعر، ويعرف علي "الفلوت"، مما أثار المشاكل مع والده الذي كان يراهطريا رخوا لن يصلح للملك، حتي أنه سجنه أكثر من مرة بل كاد أن يقتله!. إلي جانبذلك فهناك صلته "بفولتير" والرسائل المتبادلة بينهما التي استمرت طوالاثنين وأربعين عاما هي التي جعلت فولتير يلقبه بالملك الفيلسوف.


لكن ذلك كله لم يمنع هذا الملك من أن يقول:"لقد انتهيت أنا وشعبي إلي اتفاق يرضينا جميعا، يقولون ما يشتهون، وأفعل ماأشتهي". لكن هذه الحرية لم تكن كاملة قط، فكلما ارتقي فردريك الأكبر في مدارجالعظمة حظر النقد العلني لتدابيره الحربية أو مراسيمه الضرائبية، وكان ملكا مطلقالسلطة، وإن حاول أن يجعل تدابيره متسقة مع القوانين. ولما

(61)



مات إمبراطورالنمسا جهز فردريك جيشه للعدوان عليالنمسا، وكتب إلي فولتير يقول: "إن موت الإمبراطور يغير كل أفكاري السلمية،وأظن أن الأمور تنحو في شهر يونيو نحو المدافع والبارود، والجنود والخنادق، بدلامن الممثلات والمراقص والمسارح، بحيث أراني مضطرا إلي إلغاء الاتفاق الذي كنا عليوشك إبرامه". ويقول فردريك لأحد مستشاريه مبررا العدوان: "حل لي هذهالمسألة: إذا أتيحت لإنسان ميزة فهل ينتفع بها أو لا ينتفع؟. إنني مستعد بجيشيوبكل شيء آخر. فإذا لم أستعمله الآن كنت أملك في يدي أداة عديمة الجدوي رغم قوتها.وإذا استعملت جيشي قيل الملك "العادل" عدوانه علي جارته بأنه يملك جيشاقويا كان قوامه مائة ألف رجل! وعندما اعترض مستشاره بقوله: "لكن هذا العملسيعتبر عملا غير أخلاقي "ردفردريك" ومتي كانت الفضيلة معوقا للملوك؟".


أما في الداخل فقد كان فردريك يري "أنالإنسان بطبيعته شرير" وكان يقول لمفتش التعليم: "إنك لا تعرف هذا النوعالإنساني اللعين الذي تحركه أنانية خالصة ويجري وراء مصالحه إن لم يكبحه الخوف منالشرطة"!!.


ويقول ديورانت إنهكان يستطيع أن ينافش الفلسفة مع مساعديه وهو "يرقب في هدوء جنوده وهم يعانونآلام الجلد" وكان له لسا لاذع يجرح أصدقاءه أحيانا.. وانتهي الأمر بأن سجنفولتيرنفسه، كما فعل ديونسيوس مع أفلاطون.


والواقع أننا لا نريد أن نناقش هذا الموضوعالمهم من زاوية شخصية فلان أو علان، وإنما علينا أن نناقش الفكرة نفسها.


وإذا بدأنا بمصطلح "الطاغية الصالح أوالخير" فأظن أن علينا رفضه منذ البداية، إذا كانت هناك فكرة واحدة في النظريةالسياسية لا خلاف عليها فهي أن الطغيان هو أسوأ أنواع الحكم وأكثرها فساد، لأنهنظام يستخدم السلطة استخداما فاسدا، كما يسيء استخدام العنف ضد الموجودات البشريةالتي تخضع له.. ، ولقد لاحظ أرسطو بحق أنه "لا يوجد رجل حر قادر علي تحمل مثلهذا الضرب من الحكم، إذا كان في استطاعته أن يهرب منه!" ، فالإنسان الحر لايتحمل مثل هذه الأشكال التعسفية من الحكم إلا مرغما، أعني إذا سدت أمامه كل أبوابالانعتاق

(62)



من هذه الحكومات،ولهذا فان عبارة أرسطو تعبر بدقة عن أولئك الذين يعشقون الحرية، ويمقتون العبودية،وينظرون إلي الطغيان علي أنه تدمير للإنسان، لأنه يحيل البشر إلي عظام نخرة.


ولهذا فإنه يندر جدا أن يذكر الطغيان بطريقةفيها مدح، إذا ما كان يمكن أن يذكر علي هذا النحو علي الإطلاق. وهكذا تبدو عبارة"الطاغية الصالح" أو "الطاغية الخير" بالغة الغرابة! والشيءنفسه بالنسبة "للمستبد العادل "! الواقع أنها تناقض في الألفاظ. فإذاكانت كلمة "الطاغية" أو "المستبد" تعني لا سيما في المصطلحالحديث الحاكم الظالم أو الحاكم الجائر القاسي. وإذا كانت الطغاة في نظر البعضوحوشا بشرية ظهرت في التاريخ، وحكمت شعوبها بالحديد والنار، وإذا كان البعض الآخريذهب إلي أنهم أمراض أو "انحرافات"، أو أوبئة، علي حد تعبير الفقيهالفرنسي موريس دوفرجيه، فكيف يمكن أن يوصف المستبد بأنه عادل أو الطاغية بأنه صالحأو الدكتاتور بأنه خير أو مستنير.. الخ؟!. الواقع أن هذه تعبيرات أقرب إلي تعبير"الدائرة المربعة" . لأنه إذا كان من صفات المستبد أن يكون ظالما جباراكما يقول الكواكبي بحق، فكيف يمكن في حكم العقل أن يكون المستبد عادلا؟! وكيف يمكنأن يكون "مستنيرا" من يرضى أن تكون رعيته كالأغنام؟!"فالمستبد يرغبأن تكون رعيته كالغنم دورا وطاعة، وكالكلاب تذللا وتملقا.." . لا شك أنالاستبداد يهدم إنسانية الإنسان، والطغيان يحيل البشر إلي عبيد، وإذا تحول الناسإلي عبيد أو حيوانات فقدوا قيمهم، فلا إخلاص، ولا أمانة ولا صدق، ولا شجاعة... الخبل كذب، ونفاق، وتملق ورياء، وتذلل ومداهنة.. ومحاولة الوصول إلي الأغراض من أحطالسبل!، وهكذا يتحول المجتمع في عهد الطغيان إلي عيون وجواسيس يراقب بعضها بعضا،ويرشد بعضها عن بعض، وليس بخاف ما نراه من أخ يرشد عن أخيه، وجار يكتب تقارير عنجاره، ومرؤوس يكتب زيفاا عن رئيسه... الخ. ونحن نعرف أن الطغاة،و"المستبدين" كانوا طوال التاريخ موضوعا للكراهية والخوف، ولم يكونواأبدا موضوعا للحب أوالإعجاب، وهم في عرف المفكرين السياسيين، قدماء ومحدثين عليالسواء، بدائيون من الناحية السياسية. ومهما أنجز الطاغية من أعمال، ومهما أقام منبناء ورقي جميل في ظاهره، فلا قيمة لأعماله، إذ يكفيه أنه دمر

(63)



الإنسان: وماذاأقادت أعمال هتلر وموسوليني؟! وماذا كانت النتيجة سوي خراب الدولتين؟ ولولا أنإيطاليا أفاقت مبكرا من غيبوبتها لأصبحتدولة محتلة من أربع دول كما أصبحت ألمانيا بعد هتلر.


ويجدر بنا أن نتساءل، من الناحية الفلسفيةالخالصة: أيجوز لمستبد، بالغا ما بلغ عدله واستتارته، أن يفرض علي الآخرين آراءهوأفكاره بدعوي أنها في صالحهم؟!. وبعبارة أخري، أيجوز لنا أن نفرض علي فرد ما أداءعمل معين أو الامتناع عن عمل آخر بحجة أن هذا الأداء أو هذا الامتناع لصالحه؟!.ألسنا نعامل الناس في هذه الحالة علي أنهم قصر لم يبلغوا سن الرشد بعد؟. لقد طرحجون استيورات مل (1806_1873)هذه الأسئلة في بحثه "عن الحرية"، وأجابعنها بالنفي القاطع: "لا يجوز إجبار الفرد علي أداء عمل ما أو الامتناع عنعمل آخر بدعوي أن هذا الأداء أو الامتناع يحافظ علي مصلحته، أو يجلب له نفعا، أويعود عليه بالخير والسعدة، بل حتي لو كان ذلك في نظر الناس جميعا هو عين الصوابوصميم الحق!".


بل إن الإيماننفسه لا يجوز فرضه علي الناس وإجبارهم عليه: "(أفأنت تكره الناس حتي يكونوامؤمنين..؟!" (آية99يونس). ويري "مل" أن الأفكار التي يتصور البعضأنها في صالح المجتمع عليهم بطرحها للنقاش، لكن "صحتها" أو صلاحيتها فينظرهم لا تبرر إكراه الآخرين علي الأخذ بها إن هم أصروا علي رفضها. فلو توصل حاكمإلي أفكار متقدمة ورائعة فإن ذلك لا يبرر له فرضها علي الناس بالقوة (وهذا هو معنيالاستبداد) بل عليه أن يعرضها عليهم وأن يقنعهم بها" لأن القهر والجبروالإكراه من جانب السلطة أو تدخلها في سلوك الفرد، أمر غير جائز علي الإطلاق، فيمايري "مل"، إلا في حالة واحدة فقط هي إذا كان تصرف هذا الفرد فيه مساسبالغير أو إلحاق للإذي بالآخرين. ولا يفوت"مل" أن يذكرنا أن هذا المبدأ إنما يراد تطبيقه علي البالغين الراشديندون الأطفال والمراهقين الذين لم يبلغوا سن الرشد، لأن من "يحتاج إلي عنايةالغير وحمايته خليق بأن نحميه من أن يؤدذي نفسه بنفسه".


ومن ناحية أخريفإنه لما كان الطغاة وحوشا آدمية، كما وصفهم البعض بحق، يدمرون الإنسان ولا يتركونأثرا صالحا، فقد ظهرت مشكلة منذ العهود القديمة وهي "جواز اغتيالهم"،وظهر مصطلح خاص بذلك هو

(64) (الاثنين 23، 9)



"اغتيالالطاغية" نادت به بعض النظريات السياسية الإغريقية والرومانية كرد فعل عليسوء استعمال الطغاة لسلطتهم.


والمصطلح بذاتهيدل علي عملية اغتيال الطاغية أو الحاكم المستبد علي يد مواطن ما دون أن تكون هناكإجراءات أو أصول محددة ومعينة لتنفيذ هذه العملية. وقد يدل هذا المصطلح أحيانا عليقاتل الطاغية فحسب.


ولقد ظهر التساؤلحول اغتيال الطاغية في التاريخ اليوناني القديم كنتيجة نهائية لما عانته أثينا منهذا الشكل السياسي الذي كانت عليه بعض دولة المدينة في اليونان. وقد اعتبر في بعضالأحيان ضرورة أو واجبا، ليس وطنيا فقط، بل إلهيا أيضا. ففي أثينا ورث"هيباس" و "هيباركوس" ابنا بيزستراتوس طاغية أثينا الشهيرالحكم من بعده، وشعر الأثينيون أن الطغيان حرمهم من الحرية، فدبر"أرستوجيتون" وصديقه الفتي "هرمديوس" مؤامرة لاغتيالهما، وقتلهيباركوس بالفعل، لكن هيباس أفلت منهما، ودبر قتلهما، فأصبحا شهيدين من شهداءالحرية!. وكتب كبار فلاسفة الإغريق (زينوفون وأفلاطون، وأرسطو) في تبرير اغتياللطاغية، أما ديموستين (384_322) ق . م أعظم خطباء اليونان فقد جعل من اغتيالالطاعية عملا بطوليا يحمل كل معاني التفاني والديمقراطية. وفي روما كان هناك قانونمقدس يجيز لأي مواطن قتل الطاغية.


ولقد نوقشت مشكلةجواز اغتيال الطاغية كثيرا طوال العصور الوسطي، كما نوقشت أيضا خلال القرن السادسعشر. فعلي الرغم من أن قتل الطاغية. يتعارض مع الوصية الثانية "لاتقتل"، فإن النزاعات التي كانت قائمة في القرن الثاني عشر بين الكنيسةوالإمبراطورية الجرمانية، أجازت ذلك لصالح الكنيسة علي اعتبار أن الطاغية"هرطيق"! أما يوحنا السالسبوري (توفي 1180م) الذي فرق بين المستبدالمغتصب، أي المستبد الذي يستولي علي السلطة بالقوة، والمستبد الشرعي الذي يحكم ضدمصلحة المجتمع ولمصلحته فقط، فقد أجاز اغتيال المستبد في الحالتين، وهو أول مندافع بصراحة عن مبدأ قتل الحاكم المستبد :"إن من يغتصب السيف خليق أن يموتبه". أما القديس توما الأكويني(1225_1275) فقد أعلن عدم جواز اغتيال المستبد،لأن العقوبة

(65)



الفردية ضدالمستبد عمل غير شرعي، فالسلطة الإلهية وحدها هي التي تعلو عليه، وهي وحدها التييمكنها أن تعاقبه، فعلي المواطن طاعة الحاكم بغض النظر عن طغيانه، اعتمادا علي تلكالتفرقة الغربية بين خضوع الجسد وخضوع الروح.


وإذا كان من حقالشعب اختيار الحاكم فمن حقه أيضا أن يثور عليه باسم المجتمع ككل وأن يخلعه منمنصبه وبالقوة إن اقتضي الأمر. وقادت الملكية المطلقة الفقهاء والمشرعين للوقوف فيوجه اللاهوتيين الذين ينادون بجواز اغتيال المستبد. وتبنت نظرية حول الاستبدادواغتيال المستبد، لا تنطبق إلا علي المستبد المغتصب فقط أي عدو السلطة الملكيةالمطلقة، وليس الملك الشرعي غير العادل.


ثم عادت نظرياتالقديس توما الأكويني إلي الظهور مع بعض التعديلات والتبريرات المأخوذة من العهدالقديم أثناء الحروب الدينية في أوروبا، واستند إلي هذه النظريات بشكل خاص الرهبانالدومينكان أو اليسوعيون في صراعهم ضد الملكية المطلقة.


أما في العالمالإسلامي فقد انقسم العلماء فيما بينهم إلي فريقين: الأول يري وجوب الصبر والنصحوالتقويم للخليفة الظالم أو الذي صار مستحقا للعزل. والثاني يري وجوب الخروج عليهبالقوة واستبدال غيره به.


واعتمد كل فريق علي تأويل مجموعة من الأحاديثالشريفة: "إنه سيكون هناك هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهيجميع فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان". واستخدم الأمويون هذا الحديث فيتبرير مقتل الحسين مؤولين عبارة "كائنا من كان" علي أنها إشارة إليمكانة الحسين. وسوف نكتفي هنا بمثالين أحدهما قديم والآخر حديث:


فقد ذهب ابن كثيرمثلا إلي أن يزيد بن معاوية كان "إماما فاسقا"، لكنه يقول مع ذلك إن"الإمام إذا فسق لا يعزل بمجرد فسقه علي أصح قولي العلماء، بل ولا يجوزالخروج عليه لما في ذلك من إثارة الفتنة، ووقوع الهرج، وسفك الدماء الحرام، ونهبالأموال، وفعل الفواحش مع النساء وغيرهن. وغير ذلك مما كل واحدة فيها من الفسادأضاف فسقه كما جري مما تقدم إلي يومنا هذا..".


ويؤكد ابن كثير أنيزيد عندما جاءته "أنباء الحرة"، فرح بذلك فرحا

(66)



شديدا فإنه كانيري أنه الإمام، وقد خرجوا عن طاعته فله قتالهم حتي يرجعوا إلي الطاعة ولزومالجماعة. ثم يعقب بذكر الحديث النبوي السابق!. كما ذهب علماء معاصرون إلي أن"الحسين أخطأ خطأ عظيما في خروجه الذي جر علي الأمة وبال الفرقة والاختلاف...الخ" فقد يكون الإمام عادلا، وقد يكون غير عادل، وليس لنا إزالته حتي وإن كانفاسقا، وهكذا أنكروا الخروج علي السلطان. وذهب فريق آخر إلي أن "السمعوالطاعة" للسلطة الزمنية له حدود، واعتمدوا أيضا علي مجموعة من الأحاديث:"لا طاعة في معصية، وإنما الطاعة في المعروف"، "ولا طاعة لمن لميطع الله"، و"أفضل الجهاد من قال كلمة حق عند سلطان جائر".


وهناك رأي "وسط" يري أنه إذا ما وقفالحاكم موقفا يعتبر "كفرا بواحا"، الأمر الذي يستوجب نزع السلطة من يدهوإسقاطة، فإن ذلك ينبغي ألا يتم عن طريق ثورة مسلحة من جانب أقلية من المجتمع، لأنرسول الله قد حذرنا من اللجوء لهذه الوسيلة فقال: "من حمل علينا السلاح فليسمنا"، وقال: "من سل علينا السيف فليس منا". ويتضح من ذلك أن الرسولقد أمر المسلمين بأن يرفضوا تنفيذ أوامر الحكومة التي تتنافي مع نصوص الشريعة،وإذا أرادوا أن يخلعوا الحكومة إذا بلغ عملها درجة الكفر..


فإن مثل هذا الحكملا يمكن أن يصدر إلا عن المجتمع كله أو من ممثليه الشرعيين.." أي أن هذاالرأي الوسط ينادي "بالمقاومة السلبية"، والاكتفاء بالامتناع عن تنفيذأوامر الحاكم الجائر إن تنافت مع نصوص الشريعة إلي أن تجتمع الأمة علي رأي.


(67)





نظام الخلافة في الفكر الإسلامي


د/ محمد حلمي


اعتلال الخلافة الإسلامية في العصر الحديث



تمهيد:


آن لنا في ختامبحثنا أن نتوقف برهة، بعد أن قطعنا شوطاًطويلا في الحديث عن الخلافة، كنظام حكم إسلامي منذ خلافة أبي بكر الصديق رضي اللهعنه، عاش في ظله المسلمون طوال نحو أربعة عشر قرناً من الزمان، أصابه الوهن فيفترات، وتعاقب عليه صنوف متعددة من الرجال، ساسوا الأمة تارة بطريق الحكمة،وانحرفوا أحياناً عن طريق الجادة (وحيثما اتجه نظرنا في عالم الإسلام إلي مطلعالعصر الحديث وجدنا أن الجماعة هي الأساس، وأن النظام السياسي، سواء أكان سلطنة أومملكة أو نحوها، لم يكن سوي إطار لهذه الجماعة وقد يكون غير صالح فيؤذي مصالحها،ولكنا نلاحظ أنه في غالب الأمر كان إطاراً وسطاً.


ولكن يكفي أن نذكر من محاسن هذا أمراً واحداًلكي تري ضرورته والحاجة إليه، ذلك أن الأمة الإسلامية كانت في ظله تحس أنها كيانواحد متماسك، لا بد لها من خليفة يسوسها بشريعة الله.


ولأول مرة في تاريخ هذه الأمة منذ خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، يخلع عنهاثوب الخلافة، ويطرد الخليفة بعد أن نزعت عنه السلطة، وأصبح مجرد شخصية (روحية) أورمزية كما أراد له الكماليون، كما سنعرف فيما بعد فكيف حدث هذا؟.


ينبغي بادئ ذي بدء أن ننبه إلي ضرورة تخلصنامن الأحكام السابقة التي تأثرنا بها عند نظرتنا إلي الخلافة العثمانية بوجهة النظرالغربية التي كانت ومازالت تحمل لها الكراهية والحقد بسبب الحروب العديدة التيخاضتها معها، وكان من آثارها تلك الحملة المنظمة المدروسة المستهدفة للإساءةإليها، مستعملة بعض الأخطاء لتسوية سمعتهاوطمس دورها في أذهان الأجيال الجديدة المسلمة التي لا تعرف تاريخ أمتها عادة إلا عن طريق البتر، أوالتشويه، وحشو الكتب بالأكاذيب والأغلاط.


فمن مزايا الخلافة العثمانية أنها مكثت أكثرمن خمسمائة عام وهي تحمل لواء

(439)



الإسلام وتذود عنالمقدسات وتحمي الديار وتحفظها، وتحارب الاستعمار وتصد غاراته، فكانت رغم علاقتهارمز قوة الإسلام وشوكته إذ امتدت أطرافها حتي شملت ثلاث قارات من الأرض آسيا،وأفريقيا، وجزءاً من أوروبا.


ولا يخفي علينا الأصوات التي ترفع بين حين وآخرفتصف الخلافة العثمانية بعديد من الصفات المستقاة من التصورات الغربية فهي دولةاستعمارية أخضعت الشعوب بالقسر والقوة، وكبتت الحريات، واستخدمت الأساليبالدكتاتورية في خنق أصوات المعارضة، إليغير ذلك من المساوئ التي يعددها البعض إما انسياقاً وراء كتاب الأعداء.


ونحن نعترف بكثير من المساوئ التي ترددت ولكنمن وجهة أخري ينبغي الاعتراف بدورها في صد الحملات العسكرية الأوروبية، وحمايتهاللأمة الإسلامية من الدول الأستعمارية الغربية التي ظلت تكيل الضربات للخلافةالعثمانية في شكل موجات متتالية، فرادي ومجتمعة، وكأنها صممت علي استئناف الحروبالصليبية التي اقترنت في الأذهان بالحقد والكراهية للإسلام وأهله.


وليقرأ المعارضون أوصاف كتاب الغرب وأدبائهوشعرائه وصحفييه لهذه الحملات. وهل ننسي عبارة اللنبي أمام قبر صلاح الدين: (الآنانتهت الحروب الصليبية)؟ أو كلمة القائد الفرنسي فورو أيضا أمام نفس القبر حيثقال: (إننا قد جئنا ثانية ولن نعود؟!) فأراد أن يربط بين حركته والحركة الصليبيةويجعل حركته حلقة من حلقات حروبها.


إلغاء الخلافة:


ألغيت الخلافة في مارس عام 1924م، وتحققتتوقعات المعارضين لقرار الإلغاء إذ استتبع ذلك خطوات متتالية في الاتجاه نحو الفصلبين الإسلام والحكم، وتحول الدولة إلي علمانية لا دينية، فقد ألغيت علي إثر إلغاءالخلافة الشريعة الإسلامية من الحاكم، ورفع التعليم الديني من الكتاتيب والمدارس،وإجبار النساء علي السفور وخلط الإناث والذكور

(440)



في دور العلم ولبسالقبعة والكتابة بالحروف اللاتينية، كل ذلك بعد أن حذف من دستور تركيا المادة التيفيها (إن الإسلام هو دين الجمهورية التركية).


وكأن إلغاء الخلافة كان إشارة البدء لتحولاتعميقة الجذور في كيان الأمة الإسلامية كلها، إذ انتقلت العدوي رويداً رويداً من تركيا إلي سائر البلاد، واقتفت أثرها فيمعظم هذه القرارات، إن لم تكن بقرارات رسمية، فقد تمت عن طريق التقليد والمحاكاة.


والآن بعد نحو خمسين عاماً من صدور هذا القرار،واتخاذ الإجراءات التابعة له، نري أنفسنا في موقف يفرض علينا تحليل دوافعه وأسبابهمع معرفة ما نجم عنه من آثار ونتائج ذات بال علي المجتمع الإسلامي في العالمبأسره.


وأول ما يراه الدارس من أسباب ودوافع هوالأصابع اليهودية التي ظلت تعمل في الخفاء منذ عصر النبوة، ثم ظهرت سافرة عندماتمكنت بوسائلها المتعددة من السيطرة وامتلاك أسباب القوة.


ونبدأ بأول الخيط، إذ تقدم ثلاثة أشخاصللسلطان عبد الحميد بصك التنازل وكان أحدهم يهودياً وهو قره صوه في أعقاب الثورةالتي دبرها جمعية الاتحاد والترقي الهدامة، والتي كانت تسيرها اليهود والماسونيةوالتي بمعاولها هدمت الخلافة العثمانية.


وكان السلطان عبد الحميد شوكة في حلقهم، منعهمالحصول منه علي قرار إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، فكادوا له في الخفاء قاموابهذه الحركة الثورية التي نظمتها الخلايا السرية في جمعية الاتحاد والترقي استمرتفي نشاطها منذ ذلك الحين للقضاء التام علي الخلافة الأسلامية علي يد مصطفي كمالأتاتورك، الذي أجمعت المصادر علي أنه كان يهودياً من طائفة الدونما.

(441)



وفيما يلي نصالوثيقة التي نشرها الأستاذ سعيد الأفغاني، وهي رسالة وجهها السلطان عبد الحميدإلي شيخة، يوضح فيها أسباب تنازله (مجلة العربي، ص 150، وما بعدها، العدد 169 شوال1392 ديسمبر سنة 1972:

الوثيقة


بسم الله الرحمن الرحيم



الحمد لله ربالعالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم علي سيدنا محمد رسول رب العالمين وعلي آلهوصحبه أجمعين والتابعين إلي يوم الدين.


أرفععريضي هذه إلي شيخ الطريقة العلية الشاذلية، إلي مفيض الروح والحياة، إلي شيخ أهلعصره الشيخ محمود أفندي أبي الشامات، وأقبل يديه المباركتين راجياً دعواتهالصالحة.


بعد تقديم احترامي أعراض أنني تلقيت كتابكمالمؤرخ في 22 مارس من السنة الحالية وحمدت المولي وشكرته أنكم بصحة وسلامةدائمتين.


سيدي.... إنني بتوفيق الله تعالي مداوم عليقراءة الأوراد الشاذلية ليلاً ونهاراً، وأعرض أنني مازلت محتاجاً لدعواتكم القلبيةبصورة دائمة.


بعد هذه المقدمة أعرض لرشادتكم وإلي أمثالكمأصحاب السماحة والعقول

(442)



السليمة المسألةالمهمة الآتية كأمانة في ذمة التاريخ.


إنني لم أتخل عن الخلافة الإسلامية لسبب ما،سوي أنني بسبب المضايقة من رؤساء جمعية الاتحاد والترقي باسم (جون تورك) وتهديدهماضررت وأجبرت علي ترك الخلافة.


إن هؤلاءالاتحاديين قد أصروا وأصروا علي بأن أصادق علي تأسيس وطن قومي لليهود في الأرضالمقدسة (فلسطين) ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وأخيراً وعدوابتقديم (150) مائة وخمسين مليون ليرة انكليزية ذهباً، فرفضت هذا التكليف بصورةقطعية أيضاً وأجبتهم بهذا الجواب القطعي الآتي:


(إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهباً فضلاً عن(150) مائة وخمسين مليون ليرة انكليزية ذهباً فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي.لقد خدمت الملة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة فلم أسود صحائفالمسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين، لهذا لن أقبل بتكليفكمهذا بوجه قطعي أيضا.


وبعد جوابي القطعي اتفقوا علي خلعي، وأبلغونيأنهم سيبعدوني إلي (سلانيك) فقلت بهذا التكليف الأخير.


هذا وحمدت المولي وأحمده أنني لم أقبل بأنألطخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهمبإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة: فلسطين وقد كان بعد ذلك ما كان، ولذا فإنيأكرر الحمد والثناء علي الله المتعال. وأعتقد أن ما عرضته كاف في هذا الموضوعالهام، وبه أختم رسالتي هذه.


ألثم يديكم المباركتين، وأرجو وأسترحم أنتتفضلوا بقبول احترامي بسلامي إلي جميع الإخوة والأصدقاء يا أستاذي العظيم. لقدأطلت عليكم التحية، ولكن دفعني بهذه الإطالة أن تحيط سماحتكم علماً، وتحيط جماعتكم بذلك علماً أيضاً . والسلامعليكم ورحمة الله وبركاته...


في 22 أيلون 1329 خادم المسلمين: عبد الحميد بن عبد المجيد وعلينا إذن تحليل الاتجاهات السائدة في تركياحينذاك، والأشخاص الذين اتخذوا القرارات ونفذوها، فقد بدئت رسم الخطط في المحافلالماسونية كالآتي:


( رأي المجلس الكوني من مصلحة اليهود تدميرأمن تركيا، ليحضر إلي ديارهم يهوداً من روسيا، وليساعد أعداء تركيا الذين يستغلوناضطراباتها الداخلية.

(443)



رأي هذا فبلغالمهمة للشرق العثماني، وهذا جزاؤها. فألقي تبعه إشاعة الأراجيف علي عاتق بعضأبنائه، وتبعة نقل السلاح علي عاتق بعض، وتنفيذ الاغتيالات علي عائق آخرين).


ويذهب البعض إلي أن فضل الدين عن الدولة نفسهقرار يهودي إذ ورد ضمن قرارات هرتزل_ وهو مؤسس الصهيونية الذي كتب شهوديهوه لدرجةالمرسلين من الله وتدعوه المبارك من الله_ قال:


(نعترف بجميع الأديان، ثم نضع عليها إشاراتاستفهام، فإذا تزعزع معتنقوها عدنا وقلنا: لا خالد إلا نوميس موسي، ولاختصارالطريق، ندخل أديان الناس، ونحفظ إسرائيل في قلوبنا، لإحالة تلك الأديان فرقاًومذاهب وطوائف، إذ من فوائد تعدادها انتطاحها واقتتالها لأن الناس خراف ترعيبأرضها، وما علينا كي نوقعها بجوزتنا، ونأكل لحمها وننتزع أرضها، إلا أن نؤجج بيهانار العداوة، ليسهل إبادتها بأيدينا).


ووراء هذه الخطة تكمن حقيقة الفرق المتطرفةالتي نقرأ عنها في كتب الملل والنحل منذ عبد الله بن سبأ، وتشير الدراسات الحديثةإلي طائفة (الدونمة) ودورها في انقلاب الدولة العثمانية الذي قام علي عائق جمعية(الاتحاد والترقي) فقد استطاع يهود الدونة في هذه الجمعية القضاء علي السلطان عبدالحميد الذي لم يقبل التنازل عن شيء من فلسطين لليهود رغم الإغراء الشديد، وأخيراًاستطاعوا القضاء علي الخلافة الإسلامية وتفتيت قوي المسلمين.


ولم يعد هناك شك الآن في طبيعة الدونمةوحقيقتها اليهودية، فقد اعترف إسحاق

(444)



الثلاثاء 24 /9


برزقي_الرئيسللدولة اليهودية_ بهذه الحقيقة، قال:


(هناك طوائف دينية لا تزال تعتبر نفسهاجزءاً من بني إسرائيل، وأعضاء هذه الطوائف رغم اختلاف أسلوبهم عن مجموعة الشعباليهودي استمروا علي إقامة شعائر الدين اليهودي، ومن هؤلاء طائفة السامريين الذينيعتنقون صرامة الدين الموسوي، ومنهم طائفة هامة أخري هي طائفة الدونمة، وهي مسلمةفي الظاهر إلا أنها تقيم سراً الشعائر اليهودية) .


وقد قامت علي أكتافهم حركة الانقلاب في تركياوإلغاء الخلافة الإسلامية لإحلال النظام اللاديني محلها وسلخ تركيا من صلتهابالعالم الإسلامي تماماً حتي يسهل تفتيت هذا العالم وتجزئته ليسهل الانقضاض عليهبغية تحقيق حلم الصهيونية في إنشاء دولة إسرائيل. وكانت طريقتهم هي إنشاء حزب(تركيا الفتاة) ليدفعوا العرب لتأسيس (العربية الفتاة) لشطر الأمة توطئة للقضاءعليها أو إضعاف شوكتها، ومن المعروف أن مصطفي كمال أتاتورك كان منهم، ووصفه ابنبرزفي السالف الذكر بأنه (قائد الثورة الثقافية التي اجتاحت تركيا وأثمرت استبدالالحروف العربية باللاتينية، وفرضت إصلاحات جذرية).


وفعلاً لا يمكن تصديق الضراوة التي تمت بهاحركة إلغاء الخلافة واجتثات الإسلام من قلب الشعب التركي إلا إذا عرفنا الأصابعاليهودية وراءها. لقد كشف الاتحاديون والكماليون النقاب عن وجوههم فظهرت سافرةًتهدم بقسوة كل ما له صلة بالإسلام، وربما ظل تأثيرهم قائماً حتي يومنا هذا.


وآية ذلك أن الحركة الإسلامية الآخذة فيالنمو هناك منذ عام 1970، لا يسمح لها بإعلان خطتها الإسلامية علي الملأ، وإلاعرضت نفسها للحل، وأعضاءها للمحاكمة والزج بهم في السجون بحجة مخالفتهم للنصالدستوري الذي يحدد شكل الدولة بأنها (لا دينية)، ولذلك فقد اضطروا تحت هذاالتهديد الرهيب إلي استبدال كلمة

(445)



الإسلام بنصوصأخري، كالأخلاق، والقيم السلوكية والاهتمام بتراث الأمة.. إلخ.


الفصل بين الخلافةوالسلطنة:


كان المخططون لإلغاء الخلافة يعرفون جيداًالنتائج المتوقعة لمثل هذا القرار الذي يتخذ لأول مرة في تاريخ الإسلام، ولكن عنطريق الدهاء وجمع الأنصار وتزييف الانتخابات لتكوين المجلس الوطني، وتحت التهديدوالوعيد الذي نفذه مصطفي كمال أتاتورك الذي كان بمثابة المخلب الذي نفذ المؤامرةالآثمة وصلت اليهودية العالمية إلي تنفيذ مآربها.


ويصف لنا أرمسترونج الواقعة بقوله: (وأدركمصطفي كمال أنه سواء كان الوقت المناسب حان أو لم يحن ينبغي له أن يضرب ضربتهفوراً، وقد يستطيع إقناع النواب بخلع وحيد الدين، وبإلغاء السلطة، لكنه لا يجرؤعلي مهاجمة الخلافة، فذلك من شأنه أن يمس الشعور الديني للشعب جميعه. ثم اقترح أنيفصل بين السلطة والخلافة، فتلغي السلطة ويخلع وحيد الدين، وعندما تنبه النوابلخطر القرار وبدأوا في مناقشته، طالب مصطفي كمال يؤيده ثمانون من أتباعه بأخذالرأي علي الاقتراح فوراً، لكن المجلس أحال الاقتراح إلي لجنة الشئون القانونية كيتبحثه.


وأخيراً، صدر القرار تحت ضغط مصطفي كمالوتهديده ووعيده إذ أنه عندما تأكد لديه أن المعارضين للاقتراح يمثلون الأغلبية،وأنهم يدعمون موقفهم بأسانيد شرعية بنصوص القرآن والسنة ومئات الأمثلة المستمدة مناجتهادات علماء الإسلام هنا تدخل لفرض الاقتراح بالقوة، فأعلن لهم أن السلطة يجبأن تفصل عن الخلافة وتلغي... وسواء وافقتم أو لم توافقوا فسوف يحدث هذا.... كل مافي الأمر أن بعض رؤوسكم سوف تسقط في غضون ذلك.

(446)



قام المجلس الوطنيالتركي بإصدار قرار يتضمن الفصل بين الخلافة والسلطنة أي جعل الخليفة مجرداً منالسلطات، واعتباره صاحب منصب ديني وشخصية روحية فحسب، مخولاً سلطة تصريف أمورتركيا السياسية والإدارية للوزراء.


ويلاحظ عند دراسة حيثيات هذا القرار أنه يتضمن عرضاً مستفيضاً لتطورات الخلافة الإسلامية منذ نشأتها حتي آخرمراحلها، محاولا الاستناد إلي آراء الفقهاء والمتكلمين مستعرضاً الأحداث التيتعرضت لها الخلافة في أدوارها المتعاقبة. ويبدو أن الأصوات المعارضة كانت كثيرة إذقامت تعارض قرار المجلس مما دعاه إلي تدعيم القرار بتفسيرات أصول وقواعد مستمدة منالإحكام الشرعية، فجاء القرار أشبة بدراسة متخصصة في موضوع الخلافة


يقول عبد الغني سني_وهو الذي ترجم القرار إلياللغة العربية_: (ولكن المجلس الكبير لم يعبأ بكل هذه الأقاويل وأصر علي قرارهونشر مبادئه التي ارتكن عليها وخطب رجاله وفي مقدمتهم الغازي مصطفي كمال باشاموضحين الأساسات التي بنوا عليها دعائم هذا المنظر إلخ). بينما استندت الآراء المعارضة إلي دراسات فقهيةوكلامية أيضاً،فقد ارتفع صوت السيد رشيد رضا مؤيداً نهضة الشعب التركي لقضائه عليالسلطة العثمانية ولكنه_في الوقت نفسه_ ظل يطالب بإحياء المدينة الإسلامية وتجديدحكومة الخلافة (علي القواعد المقررة في الكتب الكلامية والفقهية).


وينقسم البيان الذي أصدره المجلس الوطني التركيإلي أربعة فصول، يبدؤها بمقدمة عامة ثم الفصل الأول خاص بتعريف للخلافة وتوضيحشروطها والثاني بكيفية اكتسابها، والثالث يتعلق بتقسيم الخلافة إلي حقيقية وصورتة،والرابع بعنوان: تقييد حقوق الخلافة أو تفريق السلطة عن الخلافة ليصل إلي النتيجةالتي يرمي إليها من البيان.


ونعرض بإيجاز لمضمون القرار:


إنه يبدأ بتعريف الخلافة وإيضاح المفهومالسني له كأحد المسائل الفرعية الفقهية

(447)



المتعلقة بالمصالحالعامة للأمة وليس مرتبطاً بالعقيدة، ويرجع بحث مفكري الإسلام في الخلافة بكتبالعقائد لا يعني كونها منها وإنما للرد علي ما أحاط بها من أفكار لا تربط بها.فالخلافة هي مسألة دنيوية سياسية أكثر منها دينية، ولهذا السبب خلت النصوص الشرعيةمن إيضاحها بالتفصيل، بل إن الرسول صلي الله عليه وسلم لم يبينها مع حرصة صلي اللهعليه وسلم علي بيان وصاياه بالنسبة لأبسط الآداب والعادات، فهو دليل يستند عليةالقرار لربط الخلافة بالأمور الدنيوية فالرسول صلي الله عليه وسلم ترك أمرهاللأمة.


وتعرض البيان إلي الأصوات التي ارتفعت تعارضالقرار، وهو ما يدل علي قوتها، فيذكر في إحدى عباراته (وحيث أننا نلاقي أفكاراًباطلة وتعصباً لا مبرر له في شأن مسألة الخلافة في زماننا، كما هو الحال في كثيرمن الأحكام الشرعية سواها شرعنا إلي تحرير هذه الرسالة، وغرضنا منها تصحيح الأفكاروتنوير الأذهان بتفهيم حقيقة هذه المسألة الشرعية، وبيان الأحكام المترتبة عليها).ولكن الأصوات المعارضة بالرغم من قوة حجتها لم تستطع أن تتغلب علي مؤيدى حزب مصطفيكمال في المجلس، فالحقيقة التي يشير إليها السيد رشيد رضا هو أن قرار المجلس لايمثل رأي الأمة التركية التي لو استفتيت استفتاء حراً (لخالفت هذا الحزب في هذهالمسألة).


أما في فصل (تعريف الخلافة وإيضاحها) فيقرنالمجلس كلمة الخلافة بالإمامة فهي مرادفة لها، ولكنه يحصر الخلافة_ وهي الإمامةبالمعني الأخص، كما يذكر البيان_ بالخلفاء الراشدين وحدهم مصداقاً للحديث (الخلافةبعدي ثلاثون عاماً ثم تصير ملكاً عضوضاً).


فالخلفاء بعدهم لم يكونوا في حقيقة الأمر سوي(رؤساء جمهور المسلمين) لأن ولايتهم سياسية إدارية وليست روحية، فالخلافة تختلفاختلافاً جذرياً عن منصب البابا في الدين الكاثوليكي الذي يعد وكيلاً للسيد المسيحعليه السلام أما الإسلام فلا يعطي حقاً أو صلاحية لأحد بعد النبي صلي الله عليهوسلم (لا للخليفة ولا لشيخ الإسلام ولا للمفتي حتي ولا لكبار المجتهدين من مؤسسى المذهب).

(448)



وتنتقل حيثياتالقرار بعد هذا إلي عرض لما تطلق عليه اسم (الخلافة الحقيقية والخلافة الصورية أوالحكيمة). فالأولي هي الكاملة الجامعة للصفات والشروط والتي تمت عن طريق الانتخاببواسطة الأمة، بخلاف الثانية وهي العارية عن هذه الشروط لأنها تمت بالتغلب والاستيلاء، فهي ملك وليستخلافة من جهة، كما أن صاحبها لا تتوافرفيه الشروط اللازمة لها من ناحية أخري، شأن خلفاء الأمويين والعباسيين، ما عدا عمربن عبد العزيز (101هـ_719م) الذي اقتفي أثر النبي صلي الله عليه وسلم فألحقه البعض بالخلفاء الراشدين.


فالخلافة الحقيقية التامة لا بد أن يتوفرفيها عنصران جامعان: أحدهما أن يحرزها صاحبها بتوافر شروطها كاملة في شخصه، وعنطريق بيعة الأمة له.


والثاني: أن يسلك سلوك النبي صلي الله عليهوسلم في كل أعماله وتصرفاته حيال المسلمين، أما شرط القرشية الذي قصد به الارتباطبقبيلة قريش لكونها أشرف القبائل وأقواها نفوذاً، فقد أصبح لا حكم له بعد زوالشوكتها ويستند البيان علي نص لصاحب (المواقف) يقول فيه: (إن وجوب نصب الإمام عليالمسلمين إذا وجد شخص مستجمع شروط الإمامة، وإلا فلا يجب) فيخرج هذا النص تخريجاًيبعد عن مقصده، ويذهب البيان في تحليله إلي أن المعني الذي يهدف إليه الإيجي هو(نصب شخص وتأسيس حكومة، ولكن لا يقال لهذا خلافة ولا لرئيسها خليفة بمعني الإمام،ولا إثم علي الأمة الإسلامية لهذا).


وفي فضل كيفية اكتساب الخلافة وبيان كونها مننوع عقد الوكالة، ذهب واضعو القرار إلي أن الخليفة لا يصح تلقائياً كذلك متي تفردبالشرط دون سائر المسلمين، فإن مفكري أهل السنة اتفقوا علي عدم تخويل أحد سلطةالتصرف في شئون المسلمين إلا برضائهم وبتخويلهم إياه هذه الصلاحية، واعتبر الفقهاءالبيعة كنوع من أنواع العقود بين الأمة الإسلامية والخليفة.


ويصل البيان من هذا إلي أن الخليفة يعد من جهةنائباً عن النبي صلي الله عليه وسلم ومن ناحية أخري نائباً عن الأمة الإسلامية حيثتتضح في الشق الثاني صفة الوكالة فيحق للأمة أن تعزله (ولأن الموكل له حق عزلوكيله إذا أساء التصرف في وظيفته حسب القاعدة يجوز شرعاً عزل الأمة للخليفة إذاأساء العمل في وظيفة ولو لم يكن الخليفة وكيل الأمة لما

(449)



جاز خلعه شرعاً)


أما فيما يتعلق بتقييد حقوق الخلافةوواجباتها، أو بمعني أدق: مدى جواز نزع السلطة عن الخليفة، فإن الكتب الكلاميةوالفقهية جاءت خلواً منها ولهذا فإن البيان يستند فيها إلي ما يسميه (القواعدالعمومية) فيعود إلي التقسيم الذي وضعه للخلافة، الكاملة الحقيقية والصورية،والحكمية، ليضع نتيجة البحث في ضوء هذا التقسيم، الخلافة بالمعني الأول لا يجوزتقييدها لأنها خلافة نبوة، بخلاف الشكل الثاني لها وهي الخلافة الصورية، فإنه يجوزتقييدها، كما كان كذلك بوجه عام أيام الخلفاء الراشدين. فإن عبدالرحمن بن عوفاستشار الصحابة الستة الذين اختارهم عمر بن الخطاب لكي تنحصر الخلافة بينهم،وقيدهم بضرورة العمل بالكتاب والسنة والصاحبين (وإذا جاز تقييد خلافة هؤلاء الربانيينوهم رجال الله المخلصين، ألا يجوز أيضاً تقييد الخلافة الصورية في الأزمنة الأخيرةتقييداً أشد وعلي الوجه المطلوب؟).


فالنتيجة المباشرة لكل هذه المقدمات التيساقها البيان هو أن الخلافة بعد أن أصبحت مرادفة للملك والسلطة لم تعد إلا منالمسائل السياسية، لهذا يضعها المجلس بحيث (لا تضر فيها الأمة والبلاد بتصرفاتهاالاستبدادية وأبقي السلطة في يد الأمة التي هي صاجبتها الحقيقية).


النظرية المعارضة:


أصد المجلس الوطني قراره فأحدث دوياً كبيراً في العالم الإسلاميبين مؤيدين ومعارضين فقد هلل له (المتفرنجون) الذين يعتقدون أن الدين لا يتفق معالعصر، وأنه يمنع الدولة إذا تمسكت به من أن تساير الأمم المتحضرة، وأكثر هؤلاءممن تعلموا في أوروبا أو بالمدارس الأجنبية في بلادهم وتشربوا بالعلوم العصرية،ويرون إلغاء منصب الخلافة الإسلامية، واستبدال الرابطة الجنسية أو الوطنيةبالرابطة الدينية الإسلامية.

(450)



أما المعارضةفجاءت من جانب جميع علماء الدين وعامة المسلمين في أنحاء الأرض_اللهم إلا الشيخعلي عبد الرازق بكتابه (الإسلام وأصول الحكم)_ لم يعف السيد رشيد رضا علماءالمسلمين من مسئولية التقصير في بيان حقيقة الإسلام والدفاع عنه بما تقتضيه حالةالعصر، وعاب عليهم عجزهم عن إظهار كفاية الشريعة وفقدانهم للإنصاف بما اشترطه أئمةالشرع في أهل الحل والعقد.


وبالاختصار فهم مصابون بعدوي جمود التقليدوعصبية المذاهب فانحصر الإسلام بين الجاحدين والجامدين، فالأولون ينادون بإخراجالمسلمين والشرقيين بوجه عام من مقومات شخصياتهم وتحويلهم إلي غربيين ونسيان تراثالسلف (ويجعلهم أشبه بالجزء الكيماوي الذي يدخل في تركيب جسم آخر كان بعيداً فيذوبفيه ويفقد هويته)، وأما الجامدون فهم العاجزون عن الاجتهاد في المسائل الشرعية بمايتفق والحاجات المتجددة للمسلمين.


ومن رأي السيد رشيد رضا أن حضارة الإسلاموحكومة الخلافة وسط بين الجمود وبين حضارة أوروبا المادية.


ومن المعارضين للقرار من اعتبره بمثابة فتح(حصن الدين من داخله) فتم بذلك إلغاء حكم الدين في شئون الدنيا التي تعد السياسةشأناً من شئونها، وأن التفرقة بين الخليفة والسلطة لم تكن إلا خطوة نحو إعلانالحكومة اللادينية) وأنه كان من الضروري الاكتفاء بمعالجة المساوئ التي أشار إليهاالقرار بدلاً من هدم نظام الخلافة، مما يدل علي أن المؤيدين له تذرعوا بحجة الدفاععن الإسلام ومبادئه وتعاليمه، ولم يكشفوا النقاب عن حقيقة نواياهم اللادينية إلابعد ما بلغوا المراد وأصابوا المرمي.


ويتضح ذلك جلياً من الخطاب الذي ألقاه مصطفيكمال في البرلمان حينما قدم إليه مشروع تحويل الدولة علمانية، قال: (إنالإمبراطورية العثمانية قامت علي أسس

(451)



الإسلام، إنالإسلام بطبيعته ووضعه عربي وتطوراته عربية، وهو ينظم الحياة_من ولادة الإنسان إليوفاته_ ويصوغها صياغة خاصة، ويخنق الطموح في نفوس أتباعه، ويقيد فيهم روح المغامرةوالاقتحام، والدولة لا تزال في خطر مادام الإسلام دينها الرسمي) ص 70.


وربما ينم هذا الرأي عن تعمد المغالطة قبلدلالته علي الجهل بالإسلام ومبادئه وغاياته، وإن صح صدقه فما ذلك إلا تعبيراً عنشخصية قائلة فإنه في تحليل المؤرخ الانجليزي أرمسترنج.


وعلي أية حال، فقد مضي قدماً في تنفيذ مأربهبالرغم من شعوره بصعوبة ذلك، فقد قال مرة: (انتصرت علي العدو وفتحت البلاد، هلأستطيع أن أنتصر علي الشعب؟) وقدم في 3 مارس 1924م مشروعاً تحولت به الدولةالتركية دولة علمانية.


وسنعرض إجمالاً فيما يلي لأهم الأسس التياستند عليها فكر العلماء من أهل السنة، في معارضة القرار:


أولاً : قد يفهم البعض تحت تأثير ما جاءبقرار فصل السلطة عن الخلافة، أن هذه الخطوة لا تعني الانصراف عن تطبيق أحكامالشريعة، وأنها لا تخرج عن كونها خطوة لوضع سلطة الأمة في يدها استئصالاً لنفوذشيخ الإسلام وصحبه الذين يستخدمون نفوذهم الديني علي الخليفة مآرب خاصة، وهذا خطأفإن كان الغرض هو إصلاح حال الخلافة ومراعاة صالح البلاد لكان الأجدر تبديل شخصالخليفة وشيخ الإسلام وحدهما دون هز قاعدة الخلافة التي حرص الشرع علي مدها بسلطةالحكم، ولم يفرق بينها وبينه وهل غفل الشرع عندما أسس بنيان الخلافة علي الحكومةوالسلطة عن مصالح بلاد المسلمين، ثم انتبه الكماليون لما غفل عنه الشرع؟).


فالخطوة التي أقدموا عليها هي في حقيقتهاإبعاد للدين عن التطبيق في شئون الحكم، وما الخلافة في الواقع إلا الحكومة الدينيةنائبة عن حكومة الرسول صلي الله عليه وسلم (وإذا كانت الحكومة هي القوة العاملةوالخلافة عبارة عن اتصاف تلك الحكومة بصفة دينية، فلا جرم صار إخراج الحكومة عنالخلافة إخراج الحكومة عن الدين) ؛ لأن الأصل هو أن يجتمع

(452)



في يد الخليفةالقوة لإقامة الحدود وتنفيذ أحكام القضاء، وصيانة الجماعة الإسلامية، ومن الخطأتشبيه سلطته بسلطة الكنيسة البابوية لأن الخليفة ليس له أي سلطان إلهي وليسمعصوماً ولا يستأثر وحده بتفسير الكتاب والسنة، مع اشتراط كونه مجتهداً،فهو مطاع مادام قائم في الحكم بتطبيق هذا المنهج، وللأمة حق خلعه متي رأت في ذلكمصلحتها.


وقد طرأ الفساد علي نظام الخلافة منذ أنجعلت وراثية فخضع أصحابها لعصبية الدموالقوة لا لأهل الحل والعقد الممثلين للأمة الإسلامية، فبعدت بذلك عن تطبيقالقواعد التي سنها الكتاب والسنة، فالخلافة أصلاً هي (مناط الوحدة ومصدر الاشتراعوسلك النظام وكفالة تنفيذ الاحكام). وليس الخليفة كما فهم أصحاب القرار مجرد خليفةروحاني، وهو ما يرمي إليه الذين يقدمون السياسة علي الدين.. والعلاج الصحيح لهذاالخطأ الذي تردي فيه القائمون بفصل الدين عن الدولة هو (إحياء منصب الإمامة وإقامةالحق المستجمع للشروط الشرعية، الذي يقوم مع أهل الحل والعقد بأعباء الخلافةالنبوية).


ثانياً: إن ما يكشف النقاب عن النواياالمختبئة وراء القرار_أي قطع تدخل الدين في أمور الدنيا_ ما كتبته الجرائد التركيةفى ذلك الوقت حيث تتفق جميعها في أن القصد هو تأسيس دولة عصرية لا دينية مقلدين مافعلته الثورة الفرنسية بالفصل بين الحكومة والكنيسة. ولكن الخطأ الكبير في هذاالعمل يعود أول ما يعود إلي ما سبق أن أوردناه من التصور للاختلاف بين الخلافةوالبابوية_أو الرياسة الروحية_لأن دور الخليفة مستمد من التعريف الكامل للإسلامكتشريع واجب التطبيق.


ونضيف إلي هذا أن الحكومة اللادينية ستقومبدلاً من حكم الخلافة علي قوانين مقتبسة من أوروبا، وهنا الانحراف بل والانقياد الأعميلما يراه أهل أوروبا واعتقاد صحته وسلامته.


والمثال الذي أمامنا هو ما قام به اللوردكرومر حين طعن في الشريعة الإسلامية

(453)



علي إثر المحاولةالتي جرت لإصلاح المحاكم الشرعية، وكان إتجاهاً عربياً ، عارضه المسلمون، ولكناللورد وقف يدافع عن المحاولة بمثل قوله: (ولكنني أعلم أن هذه المقاومات_أي لإصلاحالمحاكم_ أمور (أكليركيه) أي تقاليد لرجال الدين الإسلامي كتقاليد الكنيسة عندالنصاري) مما أغضب السيد رشيد رضا فكتب له مستفسراً عن مفصده وبين له أن هناكفرقاً بين الشريعة التي عمرها أكثر من ألف عام وقوامها الكتاب والسنة، وبين علمالفقه الذي وضعه الفقهاء أي من صنع البشر.


فالأول: يتضمن قواعد عامة تتفق مع مصلحةالبشر في كل زمان ومكان، أمام الثاني فقد مزجت فيه آراء الفقهاء بما يأخذونه منالكتاب والسنة فوقع بعضهم في الخطأ، وهو ما قام به دعاة الإصلاح في كل مذهب. وقدتراجع اللورد وأجاب السيد رشيد رضا بأنه كان يقصد المعني الثاني. ولكن هناك غربياًأخر _هو لورد كتشنر_ قد اعترف بالحقيقة وعد اقتباس القوانين الغربية منهجاًخاطئاً لا ينبغي علي المسلمين اتباعهفيقول: (ونحن ما وصلت لنا هذه القوانين إلا بعد تربية تدريجية في عدة قرون كنا نغير فيها ونبذل بحسب اختلاف الأحوالوأن عندكم_ أي المسلمين_ شريعة عادلة موافقة لعقائدكم ولأحوالكم الاجتماعية).


ويذهب السيد رشيد رضا إلي أن ما قررتهالحكومة التركية من إقامة الحكم علي القوانين والتقاليد الأوروبية باطل بدليل وجودالانشقاق بين صفوف الشعب التركي بين المؤيدين والمعارضين. ولن يفيد العالمالإسلامي إلا إقامة خلافة النبوة. وليست إقامة الحكومة اللادينية إلا من فعلالمقلدين لأوروبا الذي يسعون لإماتة الدين فاتخذوا الوسائل التي توصلهم إلي تحقيقغرضهم ومنها بث دعوي الإلحاد في المدارس الرسمية وخاصة العسكرية بصفة خاصة، وتأليفالكتب التي تدعو إلي إحلال العصبية الجنسية محل الوجدان الديني، ووضع الرجالالمفسدين المخربين مثلاً أعلي للأمة بدلاً من رجال الإسلام الأوائل من السلفالصالح. كما يسلكون أيضاً سبيلاً ثانياً في محور كل أثر

(454)



إسلامي من أعمالالحكومة ونزع سلطة المشيخة الإسلامية من رياستها علي المحاكم الشرعية، مع وضعقانون للأحكام الشخصية، هذا إلي جانب التقليل من عدد المتخرجين من المدارس الدينيةإلي غير ذلك من الوسائل التي تضعف من شأن الأخلاق الإسلامية وتحل العادات الأجنبيةمحلها.


ثالثاً: إن البحث لا ينبغي أن يتجه نحو مدىكفاية شخص معين أو عدم صلاحيته للخلافة حتي تنتقل السلطة منه إلي جماعة، أو المجلسالوطني، وإنما يجب أن يكون موضوع البحث والدراسة هو مدي صحة الخطوة التي اتخذتلتجريد الخلافة عن السلطة، وهي التي أدت إلي انسلاخ الحكومة عن الصفة الدينيةوجردت الخلافة عن السلطة فأصبح عاطلاً عن العمل.


فإذا افتقدت الدولتان الأموية والعباسيةأركان الخلافة الصحيحة، فإن خلافة ملوكهم قامت علي التعهد بفعل الخلفاء من إقامةالأحكام الشرعية (وكانت خلافة هؤلاء الملوك أقرب إلي الصحة من خلافة الخلفاءالفارغين عن العمل أو بمعني أدق جعل الخلافة (مظهراً مؤقتاً لا أمر لصاحبه ولانهي، ولكن يستفاد من اسمه في تنفيذ ما لا يقبله الجمهور من غيره). فوقع الاضطرابالكبير بين صفوف المسلمين لأن نزع السلطة عن الخليفة أضعف الثقة في إمكان إقامةحكومة إسلامية، ولما كانت تركيا هي أقوي

(455)



الحكوماتالإسلامية في ذلك الوقت فإن زوال الحكم من يد الخليفة يخشي معه أن يزول الحكمالإسلامي من علي ظهر الأرض فالمسلمون يعتقدون أنه: (لا بقاء للإسلام بدونها_ أيالسلطة الإسلامية_ والحرص علي بقائها ممزوج بدم كل مسلم وعصبه، فهو لا يري دينهباقياً إلا بوجود دولة إسلامية مستقلة قوية قادرة بذاتها علي تنفيذ أحكام شرعه.


رابعاً: أتاحت عملية فصل السلطة عن الخلافةالفرصة لأعداء الإسلام للتلاعب بنظام الخلافة حتي يمكنهم السيطرة علي العالمالإسلامي، فقامت انجلترا حينئذ بالدعوة إلي مشروع (الخلافة العربية) لهدم الخلافةالإسلامية ونقلها إلي (أيدي رجل يكون تحت وصاية الانجليز وبمثابة آلة في أيديهم)فكانت تبغي وقوع الشقاق بين المسلمين حول راية الخلافة الإسلامية ليسهل لها تحقيقأغراضها في هدم الخلافة ثم امتلاك السلطة والنفوذ في سائر أنحاء البلاد عن طريقالخليفة المصطنع. ولهذا اهتم الإنجليز بتشجيع الثائرين ضد السلطان، وقدموا لهمالمساعدة.


ومن النصوص التي أوردها مصطفي كامل ما يستحقوقفة طويلة لإمكان النظر في المشاريع التياتبعتها إحدي دول الغرب، وما زلنا نرقبهاعن كثب من خلال الأحداث السياسية الماصرة، فإن زعيمنا الشاب كشف النقاب وفتئذ عنالخطط التي دبرها الإنجليز للسيطرة علي العالم الإسلامي بأسره مستخدمين فكرةالخلافة لتحقيق مآربهم.


وقد شرح هذا المشروع بتفاصيله أحد الكتابالإنجليز الذي قدم لنا مصطفي كامل بعض عباراته.


يقول هذا الكاتب في إحدي عباراته: (إن مركزالخلافة الإسلامية يجب أن يكون مكة وأن الخليفة في المستقبل يجب أن يكون رئيساًدينياً لا ملكاً دنيوياً). وتخفي هذه

(456)



العبارة مغزيخطيراً وتشير دون خفاء إلي ما تحقق فعلاً علي يد مصطفي كمال حين قام بنزع السلطةمن الخليفة توطئة لإعلان سقوط الخلافة وجاء تعقيب المستر (بلانت) هذا ليوضح لنابشكل سافر الهدف الحقيقي من التلاعب بنظرية الخلافة الإسلامية بعد فصلها عنسلطاتها واتخاذها رمزاً فحسب، فيقول: (إن خليفة كهذا يكون بالطبع محتاجاً لحليف ينصره ويساعده وما ذلك إلا انجلترا).


خامساً: لقيت نظرية فصل الخلافة عن السلطةمقاومة من المعارضين للحكم العثماني أنفسهم، إذ أنه مع التسليم بالاضطهاد الذي وقععلي العرب في ظل الخلافة العثمانية، فإن الجمعيات السرية التي أسسها العرب لم يكنضمن أغراضها إزالة الخلافة كنظام للحكم، وإنما كان من أهدافها إصلاح مفاسدها كماأسلفنا، وكانت الآراء التي نشأت في هذا الصدد ترمي إما إلي إحلال الخلافة العربيةبدلاً من العثمانية، وينسب هذا الرأي إلي العرب المثقفين ثقافة إسلامية ، والرأيالثاني يهدف إلي بقاء الخلافة في آل عثمان مع تدعيم الوحدة الإسلامية. أما الرأيالثالث _الذي يعد متطرفا في ذلك الوقت_ وتتبناه القلة المتغربة فكان يرمي إليتخليص البلاد العربية من أي شكل من أشكال الحكم الأجنبي ولو كان تركيا أو ربطالبلاد العربية بنظام لا مركزي مع الدولة العلية.

(457)



نظام الخلافة فيالفكر الإسلامي

مقدمـــــة



إن الحمد لله،نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد اللهفلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.


أما بعد: فإن الحديث عن نظام الخلافة فيالإسلام حديث متشعب، ممتد الأطراف متعدد الجوانب، إذ يشمل مكانة الخلافة من الشرع،وصلتها بأحداث التاريخ ومكانتها في الفكر السياسي، ودورها في الحفاظ علي وحدةالمسلمين، وتفردها بخصائص تتميز بها عن سائر أنظمة الحكم الأخري، وهناك أبحاثودراسات ومؤلفات، عنيت ببعض هذه الجوانب أو معظمها، شغلت علماء المسلمين وغيرهممنذ خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلي أن استطاع اليهود_بواسطة مصطفي كمالأتاتورك_ إلغاءها، فاختفي النظام إلي حين.


ووقفت أقلب صفحات هذا التراث الضخم من كتبالتاريخ، ومؤلفات الفقهاء والمتكلمين وعلماء أهل السنة والجماعة قديماً وحديثاًلأتساءل: كيف أبدأ، وماذا أقدم من جديد؟


وتحددت خطة الكتاب منذ البداية لنقد آراءالشيعة وتقديم نظرية أهل السنة والجماعة، وإذا بالمسائل تتفتق، والحقائق تظهر،ويتطرق البحث إلي فروع أخري تتصل بالخلافة من قريب، ولعل أولها وأهمها، محاولةالإجابة علي هذا السؤال:


كيف نسيت هذه الأمة تاريخها؟


إن النسيان للفرد يعد نعمة؛ لأنه يخفف من وقعمصائبه، ويعيد حياته إلي سيرتها الأولي؛ أما النسيان بالنسبة للأمم فهو آفة منآفاتها، فإذا نسيت تاريخها، فلن تقدر علي النهوض من كبوتها بغير دراسة لاستخلاصالعظات والعبر، وعلاج أسباب النكبات والكوارث.


والظاهر أن الأمة الإسلامية قد نسيت مفهومالخلافة كنظام للحكم القائم علي تنفيذ التشريع الإلهي، وتحقيق المناخ الاجتماعيالذي تتحقق فيه العدالة، ويعم الأمن، ويحقق كرامة الإنسان، ويوفر له طرق الحياةوفقاً لتعاليم الشرع، فإن الغاية الجوهرية من

(3)



قيام الدولةالإسلامية هي إيجاد الجهاز السياسي الذي يحقق وحدة الأمة الإسلامية وتعاونأفرادها.


يقول الله عز وجل: "واعتصموا بحبل اللهجميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتمبنعمة الله إخواناً وكنتم علي شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكمآياته لعلكم تهتدون* ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعرف وينهون عنالمنكر وأولئك هم المفلحون"}آل عمران:104،103{.


ويتضح من هاتين الآيتين أن المجتمعالإسلامي ليس في ذاته غاية، ولكنه وسيلة إلي غاية. أما الغاية فهي إيجاد أمة تقفنفسها علي الخير والعدل، تحق الحق، وتبطل الباطل، أمة تعمل _بمعني آخر_ علي خلقبيئة اجتماعية تتيح لأكبر عدد ممكن من أفرادها أن يعيشوا روحياً ومادياً في توافقالقانون الفطري الذي جاء من الله وهو الإسلام.


ولكن الأمة شغلت بعد تقسيمها إلي دولودويلات بأيديولوجيات مختلفة، فأخذت تتناحر ويناصب بعضها البعض العداء، ونسيت أن(الإسلام) وحده _وليس غيره من النظريات والأفكار والمذاهب_ كان وسيظل الرباطالجامع بينها.


قال تعالي: "وأن هذه أمتكم أمةً واحدةًوأنا ربكم فاعبدون" }الأنبياء:92{، فاقتضت وحدة الأمة أن يجمعها نظام واحد وهوالخلافة دام نحو أربعة عشر قرناً من الزمان، أي منذ تولي أبو بكر الصديق رضي اللهعنه ، وهذا النظام _أي نظام الخلافة فضلاً عن كونه يجسد وحدة الأمة فإنه ينفرد عنباقي أنظمة السياسة والحكم في العالم كله بأنه (خلافة النبوة)، ولكي تظل هذه الأمة_في مجموعها_ حاملة رسالتها: "وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء علي الناس"}البقرة: 143{.


ويتصل بالإجابة علي السؤال السابق، محاولةتشخيص أحوال أمتنا بعد انفراط عقد وحدتها ممثلاً في الخلافة، فيظهر غرض ثان للكتابفيما يأتي بحيث نعالج من خلاله تشخيص داء رئيسي من أدواء المسلمين:


يظنالبعض أن الحديث عن الخلافة انقضي زمنه ومحيت آثاره فهو ذو صبغة

(4)



تاريخية فحسب،ونحن نخالف هذا الرأي إجمالاً وتفصيلاً، فنري أن تناول هذه القضية يعد من صميمالعلاج لما يعتبر قطب الرحي لمشاكلنا الحالية أي احتلال فلسطين منذ عام 1948م بشكلعام، واحتلال القدس عام 1967م بشكل خاص، إذ لم يعد هناك شك في أننا أمام صراععقائدي، وخصومنا من اليهود لا يخفون دوافعهم الدينية. فإن تصريحاتهم وبياناتهمتعضد تصرفاتهم في احتلال القدس ونحن نعيش الآن في ضوء تفسير الآية: "إنتمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها" }أل عمران: 150{.


قال أحد المفسرين: إن تحصلوا علي تقدم أوانتصارات يسؤهم ذلك، وإن تصابوا بمصيبة يفرحوا ويرقصوا كما فعل الغرب كله حين خرجالناس يرقصون في شوارع العواصم كلها عندما انهزمنا عام 1967، ووقف ابن تشرشل يقول:وافرحتاه، لقد سقطت القدس ولن تعود إلي المسلمين أبداً. واجتمع اليهود والنصاريلأول مرة في التاريخ في صلاة واحدة في ألمانيا الغربية فرحاً بهزيمتنا.


كذلك لا نجد صعوبة في إثبات أن إسرائيل هيالتجسيد الحي والغاية النهائية (مع الأخذ في الاعتبار تنفيذ خريطة إسرائيل الكبري)التي تحققت من وراء المؤثرات السرية والعلنية ضد الإسلام ووحدة المسلمين ومازالتتقوم بدورها اليقظ في مقاومة أي بادرة تري منها بداية لحركة توحيد جهود الأمة؛لأنها تعلم أن القوة المنبثقة من الوحدة ستوجه تيار المقاومة التوجيه الصحيح وستجدإسرائيل نفسها حينئذ أمام قوة بشرية عسكرية واقتصادية وسياسية لا قبل لها بها.وآية ذلك أنه بعد حرب عام 1967 التي حققت لها نتائج لم تكن تحلم بها إذ أوقعت بناهزيمة عسكرية لم يسبق لها مثيل في تاريخ الحروب لم تغفل في ذروة انتصارها عنمراقبة القوي التي ربما تصبح في المستقبل ذات خطر عليها، وها هو بن جوريون أحد قادتهاالمعاصرين يحذر من صيحة الانتقام التي ارتفعت من أصوات المسلمين بالباكستان عليإثر احتلالهم للمسجد الأقصي نتيجة لهذه الحروب، فوقف في جامعة السوربون بباريسيقول بالحرف الواحد:


((علي الصهيونية العالمية أن لا يساورها أدنيشك بالنسبة إلي باكستان، من أنها في الواقع خصمنا الحقيقي والأصل من الوجهةالأيديولوجية. أن إرث باكستان الفكري

(5)



والقومي (يريدالإسلام) وقوتها العسكرية وظروفها قد تصبح سبب شقائنا في أي وقت من الأوقات،وعلينا أن نفكر بإيجاد حل)).


ثم يكمل حديثه مقترحاً هذا الحل (إن صداقتناللهند ليست فقط مهمة لنا بل بالأحري يجب أن نستفيد من هذا العداء التاريخي الذييكنه الهندوس لباكستان وشعبها المسلم، إن هذا العداء التاريخي المستحكم هورأسمالنا).


ولا يحتاج الباحث إلي كثير عناء ليستخلص مدىتنفيذ الصهيونية العالمية لمشورة أحد أقطابها بافتعال حرب 1972م باسم حركةالاستقلال البنغالية، حيث فصل الجناح الشرقي من باكستان عنها.


علي أننا لا نغفل أيضاً المغزي المستفاد منهذه الكلمة تفيدنا فيما نحن بصدده، منها:


أ_ فهم الأعداء لخطورة وحدة المسلمينوشعورهم بأنهم أمة واحدة ينبغي أن تتألم كلها إذا أصاب بعض أجزاءها المرض، كما ورد في الحديث، ومن هنا كان حرص الاستعمارعلي تفتيت كيان الأمة الإسلامية وحرص القضاء علي الشكل الذي أبقاها طوال أربعة عشرقرناً من الزمان، ونعني به الخلافة.


ب_ اعتماد اليهود للعناصر المناوئة للإسلامواستخدامها، فهي بمثابة رأس مال للأستثمار بلا عناء في تكوينه منذ البداية.


ج_ لفت النظر إلي أن الخصومة أيديولوجية_أي عقائدية_ وتأتي العوامل السياسية والاقتصادية في المرتبة التالية. فما أبعدالباكستان عن إسرائيل؟ فليس النـــزاع إذن حول حدود مختلف عليها أو مشكلة لاجئين،كما يزعمون في تصريحاتهم المعلنة، ولكن الأساس عقائديي.


ومن هذه التصريحاتأيضاً قول ديان عقب حرب يونيو حيث أرجع (الانتصار)

(6)



اليهودي إلي ماأسماه بمحاربة اليهود للعرب بنفسه هي (مزيج من الحب والإيمان والوطنية) وإلي (تمسكاليهود بالعقيدة التي صهرتها آلاف السنين من التشرد والاضطهاد).


وإذا نادينا بضرورة إعادة نظام الخلافة، فلايظن البعض بنا التحليق في الخيال، فقد تعلمنا من سيرة الرسول صلي الله عليه وسلمكيف نتفاءل ونواجه الأزمات بروح مشرقة آملين في تحقيق نصر الله عز وجل بعد الأخذبأسبابه.


يروي الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود رضيالله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: "لا يبقي علي وجهالأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام يعز عزيزاً ويذل ذليلاً، إما يعزهمالله فيجعلهم من أهلها، وإما يذلهم فيدينون لها".


ومهما كانت الأحوال مثبطة للعزائم؛ فإنها لاتصل إلي الظروف التي بشر فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم سراقة بحلي كسرى، وقدتحققت النبوءة في خلافة عمر رضي الله عنه عندما سقطت فارس في أيدي المسلمين واستدعيسراقة ليحلي بها معصمه.


إننا نقول مع الأمير شكيب أرسلان_رحمهالله_:((ولقد سار الشرق الإسلامي في مدة وجيزة عقبات جياداً واجتاز أزمات شداداً،وهو ماض في سيرة إلي الأمام، لا سبيل بعد اليوم إلي تعويقه، ولا حاجز يمكن أن يقففي طريقه بدسائس تلقي ومبالغ سرية تنفق، وأخلاق تفسد، وذمم تشري، وأشراك تبث،وأسياف تسل، ولا المحلقات في الجو تقدر علي كم الأفواه، ولا الغازات السامة تقويعلي إطفاء نور الله، وما تزيد هذه الوسائل تلك الأمم المستضعفة إلا شوقاً إليالحرية، ونداء إلي الثارات، وإصرارا علي الضغائن، ومهما يكن من حيل العباد، فللكونسنن هو سائره ولله أمر هو بالغه).


أما هؤلاء الذين لا يكتفون بالشواهد والأدلةالمستمدة من عقيدتنا وتاريخنا فنسوق إليهم خيالات أمثال: هرتزل وجولدمان وحاييموايزمن وبن جوريون في إنشاء


(7)


إسرائيل، معالفارق الكبير بين وصفهم الكتاب بالإفساد في الأرض وبين معرفتنا المؤكدة لأحدالسنن الإلهية في قوله تعالي: "والعاقبة للمتقين".


إننا لا نحلق مع أوهام فلاسفة اليوتوبياكأفلاطون والفارابي وتوماس مور، الذين أجهدوا أنفسهم وأقاموا في خيالاتهم صروح دولوأنظمة حكم، بينما تحققت الوحدة الإسلامية في ظل الخلافة قروناً طويلة، إن أصابهاالوهن أحياناً فقد أثبتت ضرورتها وأهميتها، لا سيما بعد أن أصابنا ما أصابنا بفعلالاستعمار اليهودي والصليبي.


فما استطاع أبناء صهيون النفاذ إلي القدس إلاعلي أشلاء الخلافة العثمانية، كما أثبتت ذلك الوثائق التي نشرت حديثاً، وأهمهامذكرات عبد الحميد، السلطان المظلوم، وقد حرصنا علي إثبات إحدي هذه الوثائق في الفصلالأخير من الكتاب.


ويظهر لنا أن إحياء الخلافة من جديد أصبحضرورة ملحة لتجميع القوي المتفرقة للمسلمين توطئة لمجابهة التحديات التي تحيط بهممن كل جانب، هذه التحديات العقائدية والاقتصادية والسياسية والعسكرية.


قال مالك بن نبي: (ويجب من الآن أن نعمل عليظهور سلطة روحية تجمع الرأي وتوحد الصف بالنسبة للمسلمين في العالم كله، وإننا يجبمن الآن أن نعيد النظر في قضية الخلافة الإسلامية.. فقد باتت ضرورة عالميةوحيوية.. وليكن لها أي اسم، ولكن ليكن هدفها توحيد الصف الإسلامي والرأي الإسلاميفي كل مكان علي ظهر الأرض.. وإن كنت أتفاءل بكلمة (مجلس الخلافة) وليشترك فيها كلالعالم الإسلامي، ولكن لنبدأ في إعلان وجودها من الآن).


ولم نذهب بعيداً بينما تدل الأحداث المعاصرةعلي وحدة المسلمين وتضامنهم الوجداني بالرغم من التقسيم الظاهر لبلادهم؟ إنالأمثلة علي ذلك كثيرة: منها موقف المسلمين العدائى في الهند ضد بريطانيا في الحربالعالمية بعد احتلالها تركيا، فانفجرتالثورة وقوطعت بضائع الحكومة وأحرقت حمولات البواخر في الموانئ وأغلقت المحلات

(8)



التجارية، وقامتحركة الخلافة في الهند بعد إلغائها في تركيا.


وقام المسلمون في الهند أيضاً بمظاهرات عنيفةعندما احتلت إيطاليا ليبيا، وعندما حلت النكبة بفلسطين علت الأصوات تبغي الجهاد فيسبيل الله في كل مكان، وعندما انتصرت ثورة الجزائر بعد الكفاح الطويل للإمام عبدالحميد بن باديس_رحمه الله_ أحدثت البهجة في قلوب المسلمين. وتحمس الشباب فيالعالم الإسلامي للتطوع عندما اعتدت انجلترا وفرنسا واليهود علي مصر عام 1956موتكررت هذه المظاهرات عندما قام اليهود بإحراق المسجد الأقصي ولكن ستبقي هذهالجهود مشتتة ما لم تتجمع وتتحدد.


وقد يظن المعارض لنا أنه يستطيع إفحامنا،متخذاً من ظروف العصر وتشابك مشاكله، وظهور أنماط الحكم الجديدة في عالم اليوم،يتخذ من كل هذا ذريعة لإسكات الصوت الإسلامي المطالب بإحياء منصب الخلافة من جديد.


وأما هذه الحجة التي تبدو في مظاهرها وجيهة،لا تنقصنا الأدلة علي بطلانها من أساسها، وهي:


أ_ كانت الخلافة نظاماً حياً واقعاً لم يختفمن الحياة السياسية إلا منذ نحو نصف قرن فقط، وكان يضم شعوباً متعددة الأجناسوالألوان والألسنة والقوميات في عصور لم تتميز بما يمتاز به عصرنا الحاضر من وسائلالاتصال التي جعلت العالم كله وكأنه رقعة واحدة متصلة الأجزاء ولاأركان.


ب_ الإسلام نظام عالمي. قال تعالي: "وإنهذه أمتكم أمة واحد وأنا ربكم فاتقون" }المؤمنون:52{، وقد بدأكذلك وسيظل، فلا تؤثر فيه الانشقاقات التي حدثت.


وعلى العكس فإنالتدرج الحادث في بلدان العالم الآن يتجه به إلي ما يشبه النظام الإسلامي فيعالميته، فقد اتجه التدرج بالنظام السياسى من الوطنية إلي القومية إلي العالمية.


ويهذا المنطق، فإن حركة إلغاء الخلافة كانتمضادة للتصور الإسلامي ذاته، ومضادة في الوقت نفسه لحركة تطلع الشعوب إلي الوحدة،وها نحن نري أن أهل أوروبا قد لفظوا القومية وبدأوا في تجاوزها_إذ تسعي للوحدة فيخطوات تدريجية كالسوق

(9)



الأوروبيةالمشتركة والأحلاف السياسية والعسكرية، وأيضاً فإن فكرة العالمية بارزة في كلاالنظامين: الأمريكي والروسي.


فلم يراد لنا وحدنا أن ينفصل بعضنا عن بعضمتفرقين منعزلين؟


لا إجابة مقنعة إلا الرغبة في استعبادنا ثمالقضاء علينا فرادى!!


ومن أغراضنا أيضاً توضيح المنهج الإسلاميالذي اتبعه علماء المسلمين من أهل السنة والجماعة، فقد أغلقوا الباب في وجه مثيريالفتن ودعاة التجديد الزائف، الذين اتخذوا من تاريخنا مادة لخدمة أهداف مريبة كماسنري عند عرضنا لهذا المنهج في الصفحات القادمة.

(10)


منهج علماء أهل السنة في بحث موضوع الخلافة



إننا نري أنالمنهج الذي اتبعه علماء أهل السنة والجماعة لهذا الموضوع، اعتمدوا فيه علي تحليلوقائع التاريخ والمقارنة بين أجزائه، وربط الأسباب بالنتائج فكانوا بذلك أقرب إليمنهج فلاسفة التاريخ المحدثين حيث قاموا بتفسير الأحداث التاريخية الكبري المختلفحولها: كاجتماع السقيفة، وموقعة الجمل، وحرب صفين، وأسباب الانشقاقات التي ظهرت فيصفوف المسلمين.


ونتج عن كل هذا قواعد أساسية يمكن من خلالهاالنظر وتقويم الأحداث والإمساك بالموازين الصحيحة، بدلاً من الغرق في طوفان تفاصيلالمعارك التاريخية كالتساؤل: لم وقع النزاع؟ ومن المسئول عنه؟ وما الذي أسفر عنهمن نتائج؟ ثم الحكم علي أطراف النزاع؟


وهكذا أصبحت أبحاثهم واجتهاداتهم ذخيرة حيةللمهتمين بمباحث السياسة الشرعية للاستفادة منها في تكييف أوضاع الخلافة الإسلاميةوما يتعلق بها في كافة النواحي المتصلة بنظام الحكم في الإسلام. ومثل هذا التقويمالشامل أغلق الباب_وينبغي أن يظل كذلك في وجه مثيري الفتن علي صفحات الكتب بلامبرر إنه موضوع قد انتهي منه علماء أهل السنة_ وبقي علي المسلمين العمل علي إحياءالخلافة مع الاستفادة باجتهادات شيوخ السلف في الدراسات النظرية.


إن الاقتصار علي الحديث عن الخصومات والفتنوحدهما، وتجاهل المواقف الحاسمة لعلمائنا ومفكرينا من هذه القضايا_ حديث ذو نواياخبيثة في الغالب؛ لأنه يؤدي إلي إثارة أسباب الفرقة مرة أخري، وكأنه مشرط جراحيفتح جرحاً اندمل، فهو يؤدي إلي شغل الأمة بإثارة الجدل والخلافات بينها_ بينماجذورها التاريخية قد انتهت بانقضاء عوامل ظهورها_


كذلك يوقع في ظنالأجيال الجديدة أن التاريخ أمتها لم يكن إلا حروباً وقلاقل، فيلقي اليأسوالقنوط في القلوب الشابة المليئة بالأمل.


ثم إن هذا المنهج الجزئي الذي يقتطع جانباًواحداً من التاريخ فيعرضه بإفاضة ويعني بالدقائق ليضخمها وينفث فيها الأحقاد، إنهمنهج خبيث النية سيئ الطوية لا سيما إذا اعتمد علي الخيال وأفرغ الحوادث التاريخيةفي شكل أعمال أدبية، أو كان اقتباساً من

(11)



فكر أجنبي معاد،أو خضوعا لمفاهيم مدارس الاستشراق في نظرتها لتاريخ المسلمين، أو تكييف التاريخالإسلامي وإخضاعه لأنماط فلسفية معينة موضوعة مسبقاً.


فالأصوب إذن اتباع المنهج الشامل؛ لأن تاريخالمسلمين _كغيره من تاريخ الأمم والشعوب_ قد سارت فيه مظاهرات النهضة العلميةوالارتقاء الحضاري جنباً إلي جنب مع القلائل والسلبيات.


أما المتبعون لطريقة التجزئة والتقسيم، فهمكمن يستخدم آلة تصوير يصور بها زوايا جانبية يصوب إليها العدسة، ولا يسمح لعدسةالتصوير بالتقاط الصورة بأبعادها كلها.


وتزداد الصورة وضوحاً أمامنا إذا عرفنا أنه في الوقت الذي حدثت فيه الخلافات والفتن، كانت رقعة العالمالإسلامي قد بلغت أقصي اتساعها في العالم القديم، وكانت هناك جهود لمئات من علماء المسلمين في الفقهوالحديث وعلوم الدين والعلوم التجريبية، كالطب والعقاقير؛ والكمياء إلي جانبالرياضيات والطبيعة وغيرها مما يشكل إنتاجاً ضخماً من ألوف الكتب والرسائلوالمؤلفات التي تجل عن الحصر.


وأخيراً، تصل بنا فصول الكتاب إلي وقفة قصيرةأمام الخلافة العثمانية التي جرحتها بعض الأقلام، ونفث فيها أعداء الإسلام سمومالأحقاد المتوارثة منذ موقعة خيبر والحروب الصليبية.


الخلافة العثمانيةأمام خصومها: الخميس 26 /9




عندما ينتهيالقارئ من فصول الكتاب الحادي عشر، سيستخلص لنفسه تفاصيل كثيرة تتناول الخلافةكنظام للحكم لا سيما من الوجهتين:


الإسلامية المتصلة بالسياسة الشرعية.والتاريخية المجسدة لنظامها الحي خلالالقرون الطويلة، فكأنها مرآة يشاهد فيها الأمة


ولذا لا يصبح الحديث إذن عن الخلافة العثمانيةفي الفصل الأخير وكأنه خاتمة المطاف، ولكن بدافع إنارة الطريق أمام المسلمينلمعرفة حقيقة ما دار حولها واستبعاد التاريخ المزيف المصنوع بأيدي علماء الغرب.وجدير بنا أن نعتبر الحديث الدائر حول الخلافة في العصر الحاضر، حديثاً موصولاًلإثارة الحاجة لبعثها من جديد، تأكيداً للثقة في


(12)


النفس، وتحديداًللدماء التي جفت في العروق بعد تقطيع الأوصال، وتأصيلاً لكيان أمتنا.


أما تلقين النشء المعلومات التي ملأت صفحاتأغلب الكتب المدرسية والجامعية المتداولة، فهي في جوهرها ترديد لآراء المستشرقينمن اليهوم والنصاري موضوعة في قوالب مزورة للتاريخ ومشوهة لحقائقه، وهي تدل فيمجموعها علي خطأ علمي وتاريخي فاضح.


ومهما يكن من أمر، فإن مؤلفي هذه الكتبيتجاهلون _أو يجهلون_ وقائع بارزة تشكل معالم رئيسية لا بد أن تلفت نظر الباحث عنالحق بنــزاهة وتجرد، وهذه الوقائع هي:


1_ رفض السلطان عبد الحميد قبول الرشوة مناليهود مقابل السماح لهم بأرض فلسطين فكان جزاؤه التنحية والإقصاء عن الخلافةبحركة من الحركات(الثورية) التي صارت طابعاً لحركاتهم السياسية بعدها وصولاً إليأغراضهم، وستظل _كما يعترف أحد زعمائهم، وهو الدكتور أوسكار ليفي (نحن اليهود لانــزال هنا، فكلمتنا الأخيرة لم ننطق بها بعد، وعملنا الأخير لم يكمل بعد وثورتناالأخيرة لم تقم بعد).


ولم يكن عبد الحميد جاهلاً للأسباب الرئيسيةالتي أدت إلي خلعه، فقد واجه هرتزل برفضه الحاسم، قال: (لا أستطيع أبداً أن أعطيأحداً أي جزء منها _أي فلسطين بدون مقابل، إنما لن تقسم إلا جثثاً ولن أقبلبتشريحنا لأي غرض كان).


كان الغرض إذن مبيتاً، والنية متجهة_ كما صرحبعد ذلك حاييم وايزمن، أول رئيس للدولة اليهودية، بأن فتح أبواب الشرق لاستقراراليهود يتوقف بالدرجة الأولي علي تدمير الإمبراطورية العثمانية، وبتدميرها تزولالحواجز والعقبات التي تعترض المسيرة إلي أرض الميعاد.

(13)



وجاء تقرير آخرمؤيد لسياسة التكاتف علي تحقيق غرض مبيت عمل له الأعداء سراً وجهراً، إذ التحمتالنوايا بين اليهود والإنجليز لتفتيت الوحدة الإسلامية. وهذا التشبيه ورد بنصه بأحدالوثائق السرية التي سمح بنشرها حديثاً، فقد كتب لورنس في تقرير له بعنوان (سياساتقلة) مؤرخ كانون الثاني 1916م(يناير) فقال:


(أهدافنا الرئيسية تفتيت الوحدة الإسلاميةودحر الإمبراطورية العثمانية وتدميرها، وإذا عرفنا كيف نعامل العرب، وهم الأقلوعياً للاستقرار من الأتراك، فسيبقون في دوامة من الفوضي السياسية داخل دويلاتصغيرة حاقدة متنافرة، غير قابلة للتماسك، إلا أنها علي استعداد دائم لتشكيل قوةموحدة ضد أية قوة خارجية).


ويأتي فضح هذا السر المهم مفسراً للدوافعوراء الخطوات السياسية التي تبدو علي السطح متفرقة، بينما هي الحقيقة تنفذاستراتيجية ثابتة متفق عليها مسبقاً وراء الكواليس وفي أروقة وزارات الخارجيةللدول الاستعمارية.


وتبقى وثيقة لورنس مفتاحاً لفهم التغيرات التي انتابت عالمنا العربي والإسلامي في العصر الحديث، وحتىالآن!!


2_ خضوع مصطفي كمال لشروط كرزن (الوزيرالبريطاني) الأربعة وهي:


أ_ إلغاء الخلافة الإسلامية نهائياً من تركيا.


ب_ أن تقطع تركيا كل صلة مع الإسلام.


ج_ أن تضمن تركيا تجميد وشل حركة جميع العناصرالإسلامية الباقية في تركيا.


د_ أن يستبدلوا الدستور العثماني القائم عليالإسلام بدستور مدني بحت. وكان أتاتورك مخلصاً في تنفيذ هذه الشروط، بل ذهب إليأبعد منها، كما يظهر للقارئ في حديثنا عنه في الفصل الأخير من الكتاب.


ولم لا؟ فقد ثبتأنه كان من يهود الدونمة الذين اعتمدت عليهم الماسونية في

(14)



تحقيق مآربها للنيلمن خلافة المسلمين لكسر شوكتهم توطئة لاقتحام أراضيهم والنفاذ منها إلي القدس!!


3_ لا تكتمل الرؤية الصحيحة للخلافةالعثمانية إلا بمنظاري الإيجاب والسلب، إننا نسلم _إقراراً للواقع_ بحدوث سلبياتعانت منها الشعوب الإسلامية في ظل هذه الخلافة، كانتشار الرشوة، وشيوع المفاسد فيالقصور، وفساد الجيش ونظار الانكشارية فيه وترف السلاطين، وإكثارهم من الزواج منغربيات، والصور العديدة من المظالم والاغتيالات والمؤامرات التي هدت كيان الدولة،إلي غير ذلك من عوامل سطرتها صفحات التاريخ مما لا يمكن إنكاره.


نحن نسلم بها ونبحث _في الوقت نفسه_ عمنيدلنا علي دولة مشابهة لها في المساحة الشاسعة ومدد السكان وما تعرضت له منمؤامرات داخلية وخارجية وطال بها العمر فبلغ عدد قرون ثم يثبت لنا بعد ذلك خلوهامما عرفناه عنها من سلبيات.


لقد واجهت الخلافة العثمانية أزمات متعددةتسبب في إيجادها خصومها، فيها الأزمات المالية والارتباك الإداري وكثير منالاضطرابات التي عملت الماسونية العالمية علي توسيع رقعتها. كما واجهت صراعاتقومية في الداخل، وعلي الأخص من نصارى الشام والشريف حسين والي الحجاز الذي شجعهالإنجليز ليحارب الخليفة، ودخل لورنس الجاسوس البريطاني المعروف ليحرك الثورةالعربية خدمة لبلاده.


ولكننا لا نريد مشاركة الساخرين سخريتهمعندما يتساءلون: وهل خلت دولة معاصرة _صغرت أم كبرت_ من بعض أو كل هذه المظاهر؟


إننا نقرأ الكثير _لا سيما في السنواتالأخيرة_ عن فضائح سياسية ومالية وأخلاقية في دول عالم اليوم الكبري، فهل أصبحتذريعة للمطالبة بحلها وزوالها؟


الأقرب إلي بديهة العقول تبديل الأشخاصوإصلاح المفاسد لا اجتثاث النظام كله، وهذا ما طالب به بالفعل غالبية شبابالمسلمين الراغبين في الإبقاء علي نظام الخلافة حينذاك، مع معالجة مساوئها لأنهم علي علم بمآثر العثمانيين المسلمين الذيقاموا أكثر من ستة قرون في تاريخ الإسلام بمهمة الجهاد في سبيل الله، وكان أعظمملوك أوروبا يتقدم

(15)



صاغراً يطلب ودالخليفة.


فإنالمسلمين الآن في موازين القوي السياسية الدولية بعد تفككهم وزوال مظهر قوتهمومنعتهم بعد أن خلعوا ثوب الوحدة؟


لقد قطعت أوصال بلادهم إرباً إرباً، فاحتلتانجلترا مصر والسودان، فضلاً عن الهند وبلدان أخري في أفريقيا وآسيا، واحتلت فرنساتونس والجزائر ومراكش، واستولت إيطاليا علي ليبيا والحبشة، وافترست روسيا المسلمينبعد الثورة الماركسية ونكلت بهم وشردتهم ومزقتهم كل ممزق، بعد أن خدعتهم فيالبداية لتضمن تأيدهم، فكان جزاؤهم جزاء سنمار!!


وكم من المآسى حدثت في ظل القوات العسكريةالمحتلة لأراضي المسلمين؟


وكم من المشانق نصبت، وكم من الأحرار عذبواوشردوا واستشهدوا؟


وأمام آلاف الصفحات المخضبة بدماء الشهداء،نجتزئ سطوراً من رسالة لأحد مسلمي سوريا يصف فيها ما عاناه الناس هناك علي أيديسلطات الاحتلال الفرنسية، وهي مثال لما عاناه المسلمون في كل البلاد:


((ثرنا علي الترك من سنة 1914 إلي 1918 فكانموقفنا والحالة هذه موقف الثوار لأن بلادنا كانت جزءاً من أجزاء السلطنةالعثمانية. ومع ذلك لم يشنق الترك منا إلا بضع عشرات، وقد كانوا قادرين أنينــزلوا أشد العقوبة بالألوف، أما فرنسا فنحن لسنا من رعاياها، وقد كان مقضياًعليها أن تكون ملاذنا، ومع ذلك قتلت ولا تزال تقتل من سنة 1919 ألوفاً من ذويناابتغاء توطيد أركان سيادتها فمن من الاثنين أشد همجية من الىخر؟! لنرجع إلي التمرسبالترك)).


وبعد: فإن أصل هذا الكتاب كان رسالة جامعيةلنيل درجة الماجستير في الآداب من جامعة الإسكندرية (1386_1387هـ، 1966_ 1967م)تحت عنوان: (نظرية الإمامة عند أهل السنة والجماعة)، ثم أدخلت عليها بعض التعديلاتمنها:

(16)



أ_ المقدمةلتتناسب مع كتاب صادر لعامة القراء وليست متعلقة برسالة جامعية لا يقرأها إلاالمتخصصون. كذلك رأيت من الأنسب تعديل العنوان حتي لا يلتبس علي القراء مفهوم(الإمامة) في الصلاة مع نظرية (الإمامة الكبري) أي الخلافة، وهي موضوعها الرئيسىكنظام الحكم في الإسلام.


ب_ حذفت بعض النصوص المتعلقة بموضوع الخوارج إذلا تهم القارئ من غير المتخصصين.. وقد صدر كتاب منفصل باسم (الخوارج) فيسلسلة(..ولا تتبعوا السبيل).


ج_ أجريت تعديلات علي الفصل الأخير (الخلافةالعثمانية) إذ ظهرت بعض الوثائق التي لم تكن تحت يدي وقت كتابة الرسالة.


كما ينبغي الإشارة إلي الكتب التي صدرت فينفس الموضوع في مجالات الدراسات الدستورية والفقه الإسلامي، فمن الأبحاثالفقهية دراسة الدكتور محمد رأفت عثمان عن(الإمامة العظمي في الفقه الإسلامي)، وكانت بدورها موضوعاً لرسالة للحصول علي درجةالدكتوراه من جامعة الأزهر، كما ظهرت دراسة أخرى بنفس الجامعة وهي رسالة الدكتورفؤاد النادي عن (رئيس الدولة في الفقه الإسلامي).


وفيحقل الدراسات الدستورية المقارنة بالشريعة الإسلامية ظهر كتاب (الخليفة: توليتهوعزله) ليعالج الموضوع في النظرية الدستورية الإسلامية مع دراسة مقارنة بالنظمالدستورية الغربية، للدكتور صلاح دبوس، وكان موضوعاً لرسالة للحصول علي درجةالدكتوراه من كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية.


كما ظهرت عدة رسائل أخري لم تعرض للموضوع نفسهمباشرة وإن اتصلت ببعض مباحثه الرئيسية: منها رسالة الدكتور فؤاد عبد المنعم عن(المساواة في الإسلام)، ورسالة الدكتور يعقوب المليجي في (مبدأ الشوري فيالإسلام). وكذلك رسالة الدكتور فتحي أحمد عبد الكريم عن (مبدأ السيادة في الفقهالإسلامي)، ورسالة الدكتور عبد الحكيم البعلي عن (الحريات العامة في الفقهالإسلامي)، وكذلك ظهر كتاب للدكتور محمد سليم العوا عن (النظام السياسي فيالإسلام).


ولا ينبغي أن نغفل بصفة خاصة كتاب الدكتورمحمد ضياء الدين الريس، الجديد (الخلافة الإسلامية في العصر الحديث) نقد كتابالإسلام وأصول الحكم، حيث أضاف إلي بيان الأخطاء الفادحة التي وقع فيها السيخ عليعبد الرازق أضاف أدلة أخرى تثبت

(17)



صلة أفكار الكتاببمصدر أجنبي، وبذلك لم يعد هناك فرصة أخرى لنفخ الروح في الكتاب المنبوذ،وهيالمحاولة التي قام بها البعض لأغراض معروفة.


ويسعدني أن أسجل هنا تقديرى وشكري إلي كل من:أستاذي الدكتور علي سامي النشار الذي أشرف علي الرسالة واختار موضوعها وخط لي منهجها،وأستاذي الدكتور محمد علي أبو ريانالذي شارك في مناقشتها.


وأدعو الله تعالي بالرحمة والمغفرة للأستاذالدكتور محمود قاسم وكان أحد أعضاء لجنة المناقشة.


كما أسجل شكري لكل من أعانني في إخراج هذاالكتاب إلي الوجود وأخص بالذكر الأستاذ محمد عبد الحكيم خيال الذي أشرف علي طبعهومراجعة بروفاته فتجشم بذلك العناء الشديد. جزاه الله عني خيرا، ولا يمكن أن أنسيمعاونة الأستاذ محمد رشاد غانم الذي وضع مكتبتة العامرة تحت تصرفي ولم يبخل عليبكتاب من كتبها النادرة الثمينة.


وأدعو الله عز وجل أن يوفقني في العودة لبحثموضوع (الخلافة العثمانية) بتوسع أثناء إعادة الدراسة لكتاب الشيخ مصطفي صبري(النكير علي منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة) وأوصي علماء المسلمين أن تحتلحركة الانقلاب اليهودية ضد هذه الخلافة مكانها في أبحاثهم ودراساتهم لتعرف الأجيالالجديدة ما أريد بأسلافها.


إن مسئوليتنا كبيرة لتوضيح الحقائق أمام أجيالالمسلمين وهذا عملنا، فإن قصرنا في تنفيذ عمل آخر مثمر لتحقيق عودة الخلافةالإسلامية، فلا أقل من أن نخدم التاريخ الحقيقي بأمانة لكي نضمن أن تظل شعلة الحقمضيئة لا تنطفئ، لتنير الطريق أمام أبنائنا القادمين، فعسى أن يحققوا كل أو بعض ماعجزنا نحن عن تحقيقه.


اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد.... وآخردعوانا أن الحمد لله رب العالمين!!

(18)


الفصل الأول


نظام الحكم في عصر النبوة



تـمهيـد:


إن النظريات السياسية التي صاغها مفكروالإسلام تدور حول موضوع الإمامة، وقد اتجه أهل السنة والشيعة علي السواء إلي حكمالرسول صلي الله عليه وسلم لكي يستمدوا من تجربة الماضي نظرياتهم.


وتتفق الفرقتان علي أن النبي صلي الله عليهوسلم جمع بين السلطتين الدينية والسياسية، وبهذا أرسيت قواعد الحكومة الإسلامية،فالإسلام دين جامع للدنيا والدين، أو بعبارة آخرى، إنه جامعة كبري تنظم علاقةالفرد بمجتمعه وتربطة بخالقه في آن واحد، فالحياة الدنيا دار انتقال يعيش فيهاالمؤمن وقتاً محدداً ينتقل بعدها إلي الحياة الآخرة وهي دار البقاء والخلود حيثالحساب والجزاء، ولا يتصور والأمر كذلك أن يترك نظام الحياة الأولى سدى وإنما أرسلالله تعالي الكتب وكلف الأنبياء والرسل لإبلاغ بني الإنسان التكاليف والعباداتلربط صلتهم بخالقهم، كما بين لهم أيضاً أحكام معاملاتهم. وتدرجت الرسالات السماويةحتي اكتملت بواسطة خاتم النبيين محمد صلي الله عليه وسلم.


وقد أصبح رسول الله صلي الله عليه وسلم بهذانبيا مبلغا لرسالة ربه مؤسسا لدولة يتصرف في الدين بمقتضي التكاليف الشرعية التيأمره الله بتبليغها ويصرف سياسة الدنيا بمقتضى رعايته لمصالح الناس في العمرانالبشري علي حد تعبير ابن خلدون.


هذا هو الاتجاه الذي ينعقد عليه الإجماع


أما ما نادى به الشيخ علي عبد الرازق وأعلنه فيكتابه (الإسلام وأصول الحكم 1344هــ_1925م) فقد أثار ضجة كبيرة لدي المسلمين بسببخروجه علي هذا

(20)



مسلم فضلاً عنعالم وشيخ من خريجي الازهر، وقاض يحكم بهذا الشرع الذي صار ينكره، كما ينكر القضاءكله، ويريد أن يشوه طبيعة الإسلام فيبطل جانبه العملي، فلا يكون له أثر في تحقيقمصالح الناس أو في نظم المجتمع. بل إن الشيخ أكثر من ذلك مس مقام الرسول صلي اللهعليه وسلم فظل يتساءل: هل كان النبي رسولا أم كان رسولا وملكا، وادعي أن جهاده لميكن جزءا من رسالته، ونحو ذلك مما لا ينبغي أن يقال في حق الرسول وما هو مضادللحقائق، ووجه طعنا إلي الصحابة وإلي خليفتي الرسول صلي الله عليه وسلم: أبي بكروعمر_ وهم المثل العليا للمسلمين_ بأن ادعي بأنهم كانوا يعملون من أجل الدنياوالفتح والاستعمار_ لا من أجل الدين، وأن أبا بكر كان أول ملك في الإسلام، ثم تبعهالخلفاء بل الملوك، فهم جميعا كانوا يخدعون الناس باسم الدين_ كما طعن في التاريخالإسلامي كله، فقال: إنه لم يكن إلا قهرا وغلبة واستبدادا وحكما بالسيف، وكان شراوفسادا ونكبة علي الإسلام والمسلمين).


ثم يمضى الدكتور الريس متسائلا: (كيف يقولالشيخ علي عبد الرازق هذه الآراء، أو كيف يقولها مسلم؟؟


إن هذه الأقوال _بل المطاعن_ لا يمكن أنيقولها إلا رجل يكره الإسلام.. فما تفسير هذا التناقض أو اللغز؟ وما حمل الشيخ عليأن يذهب إلي هذه الآراء ويعرضها في حماس، ويطعن في دينه وقومه، وتاريخه؟!).


ثم يقدم لناالإجابة: (فحيث كانت الغاية النهائية لهذه الآراء أو للكتاب كله هي مهاجمهالخلافة، ومحاولة إثبات عدم وجودها في الإسلام، والدعوة إلي هدمها، وقد أثبتنا منبعض نصوص في الكتاب نفسه أنه وضع في أثناء الحرب العالمية الأولي، والحرب مشتعلةبين بريطانيا من جهة وتركيا أو دولة الخلافة من جهة أخري، وكان الشيخ علي عبد الرازقوأسرته ينتمون إلي حزب الأمة الذي كان مواليا للإنجليز، وكان متفقا معهم في مبدأكراهية الخلافة وتركيا، الحملة عليها. فإن دعوة الشيخ إذن كانت منسجمة مع هذاالمبدأ وتنفيذاً له، وكان هناك تطابق بين هذه الدعوة وسياسة بريطانيا، التي كانتتعمل لهدم الخلافة والقضاء علي تركيا).


ثم يعود محققناإلي التساؤل.. (إن التعصب لمبادئ حزب الأمة أو الولاء للإنجليز لم يكن كافيا وحدهلأن يدفع إلي هذا التطرف، إلي حد تجاوز دائرة المعقول والخروج عن الحدود المصرحبها في الإسلام.


وأخيرا فإنالأسلوب الذي صيغ فيه الكتاب عنيف، واللهجة عدائية ضد الإسلام، بحيث لا يتصور أنهاتصدر عن مسلم، بل لأقرب المعقول أن تصدر عن خصم يحمل ضغنا أو حقدا علي الإسلام،فما الإجابة عن هذه الأسئلة أو الاعتراضات كلها؟).


وتأتي الإجابة فيصفحة (237) من كتاب (حقيقة الإسلام وأصول الحكم) للشيخ محمد نجيب الذي كان مفتيالديار المصرية، والذي رد به علي الشيخ علي عبد الرازق، يقول المفتي في هذه

(21)



الإجماع، إذ نزععن رسول الله صلي الله عليه وسلم قيامة بتأسيس دولة. ونفى عنه أداء هذا الدور بمثلقوله: (وإنما كانت ولاية محمد صلي الله عليه وسلم علي المؤمنين ولاية الرسالة غيرمشوبة بشيء من الحكم)، أو بعبارة أدق (جعل من الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضةلا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في الدنيا) وهي نفس العبارة الواردة في صيغة الحكمالذي أصدرته هيئة كبار علماء الأزهر فى ذلك الوقت.


واستند المعارضون في نقد الشيخ علي عبد الرازقعلي آيات من القرآن الكريم، وهي تنص صراحة علي أمر الحكم بما جاء بالكتاب. سنختارمنها الآيات البينة بذاتها علي المعني، يقول تعالي: "إنا أنــزلنا إليكالكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله"، و "ونــزلنا عليك الكتابتبيانا لكل شيء" وآيات أخري، منها قوله عز وجل: "يا أيها الذين آمنواأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" وبقية الآية تحض علي العمل بماجاء به الرسول صلي الله عليه وسلم بأمر الله "فإن تنازعتم في شيء فردوه إليالله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً.(النساء: 59).

(22)



وآيات أخرى كثيرةظاهرة الدلالة علي قيام رسول الله صلي الله عليه وسلم بإرشاد المسلمين إلي ما فيهصلاح دينهم ودنياهم، وأدائه لدور الرياسة المدنية في نواحيها العديدة من معاملاتفردية واجتماعية وإقامة الحدود والعقوبات وقتال الأعداء وتحديد الموارد المالية،إلي غير ذلك من المهام التي أداها وقام بها كأحسن ما يقوم بها رجل الدولة (فمظاهرالدولة كلها متوفرة في نظام الشريعة الإسلامية وأعظمها الحرب والصلح والعهد والأسروبيت المال والإمارة والقضاء وسن القوانين والعقوبات).


وقد أقر المستشرقون في دراساتهم للإسلام بهذهالحقيقة فذهب أرنولد إلي أن الإسلام قد سن نظاما سياسيا بقدر ما هو نظام ديني.


ولا خلاف بين فرقتى الإسلام الكبيرتين كماقدمنا: أهل السنة والشيعة، علي إعطاء الإسلام هذه الصفة الجامعة لحياتي الدنياوالآخرة. ولكن المشكلة تبدأ بين هاتين الفرقتين الكبيرتين عند تناول موضوعالخلافة_ إذا تكلمنا بلغة أهل السنة_ أو الإمامة، إذا استعرنا اصطلاح الشيعة.


ويعتقد أهل السنة والجماعة أن الرسالةالمحمدية أبلغت أهل الأرض كافة علي يد محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم عن طريقالوحي المنــزل الذي يضمه كتاب الإسلام إجمالا، وفصله بأقواله وأفعاله صلوات اللهعليه. وهو ما اصطلح عليه تعريفه بالسنة، مصداقاً لقول الله تعالي: "اليومأكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" (المائدة:3).


يقول الشاطبي (790هــ_ 1388م): وثبت أن النبيصلي الله عليه وسلم لم يمت حتي أتي ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدينوالدنيا، وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة.


ولكن الشيعة الإثنى عشرية _وهي أكبر فرقهمالمعاصرة_ تعتقد أنه لا بد من النص علي الإمام بواسطة النبي صلي الله عليه وسلمليخلفه ويكون حجة الله علي الأرض بعده، وجعلوا منصب

(23)



الإمام قريبا من مكانة النبوة ولكن الفرق بينهما أن اللهتعالي يختار النبي ويوحي إليه بينما الإمام يبلغ عن النبي، فالإمامة (منصب إلهيكالنبوة فكما أن الله سبحانه يختار منيشاء من عباده للنبوة والرسالة ويؤيده بالمعجزة التي هي كنص من الله عليه، فكذلكيختار للإمامة من يشاء ويأمر نبيه بالنصعليه وأن ينصه إماماً للناس من بعده للقيام بالوظائف التي كان يقوم بها).


ويعتبرالكليني _وهو أحد مصنفي كتب الحديث عند الشيعة_ (228 أو 229هــ_ 939 أو 940م) أنالفرق بين الرسول والنبي والإمام هو أن الأول يتلقي الوحي عن طريق جبريل فيراهويسمع كلامه، وربما سمع النبي الكلام ورأي الشخص ولم يسمعه، أما الإمام فهو الذيلا يري الشخص ولكنه يسمع الكلام، أي الوحي. والأئمة عنده لا يفعلوا شيئاً إلا بأمرمن الله لا يتجاوزونه.


ويستمد الشيعة هذا التصور من الاعتقاد بأنالله لا يخلي الأرض من حجة علي الناس من نبي أو وصي. لهذا تبرز معالم نظرية الحقالإلهي لمحاولة تطبيقها علي عصر رسول الله صلي الله عليه وسلم الأمر الذي يستتبعالقول بتوارث الأئمة المنصوص عليهم لخلافته صلوات الله عليه في هذا المنصبالإلهي!!

السبت 28 / 9



ولقد حاول بعض الباحثين الغربيين نسبة نظامالحق الإلهي إلي عصر الرسول صلي الله عليه وسلم، وانقلابه إلي حكم مطلق (أتوقراطي)تنتقل فيه السلطة إلي قبضة الخلفاء تأسيساً علي المبدأ الديني القائل بأن الحكمهبة من الله، ويميل الشيعة إلي ترديد مثل هذا الرأي في كتاباتهم، كما يبرزها منتصدي لبحث نظرية الإمامة عندهم. يقول الأستاذ موسى جار الله: (لم تكن حكومةالإسلام أصلاً وأبداً لا في عصر الرسالة ولا في عصر الخلافة الراشدة حكومة ثيوقراطيةوإن توهم كثير من أهل العلم غربيون ومتغربون أنها ثيوقراطية).

(24)



وسنعرض لنظام الحقالإلهي كنظام من أنظمة الحكم علي بساط البحث، لنرى إلي أي مدى يصح معه القول بأنطبيعة الحكم وقت النبي صلي الله عليه وسلم كان كذلك.


مذاهب الحق الإلهيوحكم الرسول صلي الله عليه وسلم:


تعرف مذاهب الحق الإلهي _الثيوقراطية_اصطلاحاً بأنها: (المذاهب القائلة بأن السلطة مصدرها الله وأن الدولة إنما هي نظامإلهي أي نظام من صنع الله)، ويقول الأستاذ دوجي: أن هذه المذاهب تعمل علي تفسيروتبرير السلطة السياسية وذلك عن طريق تدخل سلطة سماوية.


وقد مرت فكرة الحق الإلهي بأدوار ثلاثة: الدورالأول وكان يدعي الحاكم صفة الألوهية وأنه إله على الأرض أو يشترك مع الإله فيألوهيته كما ادعي ملوك الفراعنة قديماً وما فعله أباطرة اليابان حتى العصورالحديثة، ثم ظهرت نظرية الحق الإلهي المباشر في القرنين السابع عشر والثامن عشر(يقابلها علي وجه التقريب القرنان العاشر والحادي عشر من الهجرة) في فرنسا وخاصةفي عصر لويس الرابع عشر، وظلت الفكرة باقية في ألمانيا حتي أوائل القرن العشرين،فقد جاء علي لسان غليوم الثاني امبراطور ألمانيا في عام 1910م (1328هــ) أنه يستمدسلطته من الله ولذلك لا يحفل بالرأي العام أو مشيئة البرلمان، ثم تطورت النظرية فيالدور الثالث لها في شكل نظام الحق الإلهي الغير مباشر، فالمنادون بالحكم في ظلها يدعون بأن الله قد هيأ لهم الظروفالملائمة لكي يتولوا الحكم.


ويتبين لنا من هذا التعريف أن النظرية فيصورها المختلفة _وخاصة في المرحلة الثانية لها_ اتخذت سلاحاً لتبرير السلطةالمطلقة للملوك وتدعيم العسف والاستبداد، وبالرغم من المسيحية كما صاغها (بولس)وقدمها لأوروبا فصلت ما بين الدين والدولةعملاً بقول المسيح: (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) إلا أنه قد نادى به البعض بعدانتشار المسيحية بعدة قرون.


فهو مذهب في حقيقته لا يستند إلي الدينالمسيحي (الخالص) أيضاً، بل يصح أن يعد ضد هذا الدين، فهل تنطبق هذه الظروف مع عهدرسول الله صلي الله عليه وسلم؟ وهل تتفق

(25)



أوصاف هؤلاءالملوك مع صفات النبي صلي الله عليه وسلم.


قبل الإجابة علي هذا السؤال يظهر للباحثلأول وهلة أنه من التعسف تطبيق مذهب نشأ في ظروف مغايرة وعصر له ملامحه وشخصياتهومقوماته وأحداثه،علي عصر آخر يختلف تماماً من كافة النواحي.


ويزداد الرأي القائل بتطبيق مذهب الحقالإلهي علي نظام حكم الرسول صلي الله عليه وسلم ضعفاً إذا ما ناقشناه في ضوءالاعتبارات الآتية:


أولاً: ابتدعت نظرية الحق الألهي المباشركأسلوب من أساليب الحكم في زمن متأخر جداً، أي يقرب من عشرة قرون بعد عصر الرسولصلي الله عليه وسلم، ويختلف كل الاختلاف كما قدمنا. ونضيف بأنه يكفي لرفض هذهالنظرية من جذورها أن نقول بأنها نشأت لتبرير حكم ملوك مسيحيين في أوروبا حتييتبين لنا مدي التعارض الشديد بين وجهي المطابقة.


ثانياً: تعارض فكرة فرض السلطة وتبريرها معصفات الرسول صلي الله عليه وسلم كمؤسس دولة، وهي صفات بعيدة عما عرف عن شخصيتهوطبيعته ومثاليته التي انعقد الإجماع علي الاعتراف بها بواسطة من لم يقر بنبوتهولمن آمن بها علي السواء. فمن رأي بندلي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قدتوافرت فيه الصفات الطيبة (كسرعة التأثر ولطف الطبيعة وبعد النظر وطيبة القلب،ومعرفة طبيعة الناس، وحسن السياسة، والاستعداد التام لتضحية مصالحه الشخصية بلروحه العزيزة في سبيل المصلحة العامة). ويذهب تولستوي إلي أن النبي صلي الله عليهوسلم هدى الوثنيين إلي معرفة الإله الواحد وأعلن تساوى جميع الناس أمام اللهتعالي، ومع هذا لم يدع لنفسه النبوة وحده وإنما اعتقد أيضاً بنبوة موسى والمسيحعليهما السلام ولم يكره اليهود والنصارى علي ترك دينهم، فهو إن لم يدع الانفرادبالنبوة فكيف يقال أنه فرض نفسه حاكماً؟، ولا يغيب عن ذهن الباحث في هذا الصدد أنمن أغراض رسالة النبي صلي الله عليه وسلم محاربة مثل نظام الحق الإلهي الذي يتمثلفي تأليه الأشخاص في صوره المختلفة _ملوكاً كانوا أو أباطرة أو قساوسة، وأحباراًورهباناً، وتخليص البشر من

(26)



عبادة الأوثان،وتوجيه العقول إلي كشف أسرار الوجود وحقائقه للاهتداء إلي وجود الله الواحد الأحد.


ثالثاً: لم يرث الرسول صلي الله عليه وسلمحكماً أو ادعي لنفسه ملكاً، وإنما شق طريقه في سبيل نشر الرسالة بصعوبة بالغةوعاني من العذاب ألواناً. لقد كان النظام الجاهلي العتيد والعبادات المتوارثة فيقبائل العرب جيلاً عن جيل والمراكز المرموقة لرؤساء القبائل من الناحيتين السياسيةوالاقتصادية، كل هذه الظروف تكاتفت لتجعل من أداء الرسول صلي الله عليه وسلملمهمته أمراً شاقاً عسيراً. فالخطأ في القول بتطبيق مذهب الحق الإلهي علي الحكم فيعصره عليه السلام كالخطأ الذي وقع فيه أصحاب السلطة من رؤساء القبائل حيث عرضواعليه صلوات الله عليه الملك، فأطلق قوله الشهير: (والله لو وضعوا الشمس عن يمينيوالقمر عن يساري فلن أترك هذا الأمر حتي أهلك دونه). ولدينا من الوثائق أيضا مايؤيد رفضه صلي الله عليه وسلم لهذه الفكرة، فقد كتب إليه مسيلمة الكذاب يدعيالاشتراك معه في الأمر علي أن ينتصفا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض الثاني، فرد عليهبقوله صلي الله عليه وسلم: (السلام علي من اتبع الهدي، أما بعد: فإن الأرض للهيورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين).


رابعاً: يبدو أن إطلاق مذهب الحق الإلهيجزافاً علي عهد الرسول صلي الله عليه وسلم جاء نتيجة الخلط بين فكرة الحق الإلهيالمطلق _هذه النظرية التي وضعها فلاسفة السياسة_ وبين الوحي الإلهي، وهو مجردرسالة من الله للبشر عن طريق الأنبياء والرسل.


خامساً: إننا لا نعثر فيما بين أيدينا منمصادر تتناول سيرة الرسول صلي الله عليه وسلم مع كثرتها ودقتها علي قول واحدللرسول صلي الله عليه وسلم يدل علي ادعاء الملك بل العكس هو الصحيح، إنه كان يؤكدفي مناسبات شتى صفته كإنسان وعبد لله إلي جانب كونه نبياً، فمن أقواله الدالة عليأنه ليس ملكاً له أبهة الملك وخيلاؤه وكبرياؤه ما طمأن به رجلاً أصابته رعدة حينرآه فقال له ليطمئنه: (هون عليك، فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد)،كما عرف عنه أنه لم يكن يغضب لأذي يلحق بشخصه، فمن طبيعته


(27)


التسامح والعفووالحلم لأنه ليس ملكاً يدافع عن عرض متوارث يفرض سلطانه علي الناس بالقوة، وإنماينفذ أمر ربه القائل له: "ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهمبالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين"}النحل: 125{، وقد أصابتالسيدة عائشة حين وصفته بأنه ما نيل منهشيء فانتقمه من صاحبه إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقملغضبه شيء حتى ينتقم لله.


سادساً: هناك عامل جوهري علي من يطابق بيننظام الحكم أيام النبي صلي الله عليه وسلم ونظام الحق الإلهي، وهو أن رسالته لمتنقض بموته بل ما زال واجب الطاعة شأنه أثناء حياته، أنه لم يكلف لزمن معين ولالأمة خاصة من الأمم، وإنما كلف لجميع العصور وللأمم كافة، فالشريعة الإسلاميةواجبة التطبيق في كل زمان ومكان وهي قائمة علي كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليهوسلم. وبهذه العقيدة التي يعتنقها أهل السنة عارضوا الشيعة الذين يذهبون إلي ضرورةوجود الإمام لأنه حجة علي الخلق، وأن الزمن لا يخلو منه (ولذلك ارتكب بعضهم عندهذا الإلزام القول بإبطال التواتر.. وارتكب بعضهم إبطال الإجماع) . وقد تنبه ابنتيمية (728هــ_ 1327م) إلي هذا، وذهب إلي أن النبي صلي الله عليه وسلم لم تجبطاعته لكونه إماماً بل لأنه رسول الله إلي الناس فإن هذا المعني ثابت له حياًوميتاً، وهو في إصداره الأحكام في أعيان معينة لم يخصها بل إنها ثابتة في النظائروالأمثال حتي يوم القيامة، وهو السبب الذي من أجله كان يقول: (ليبلغ الشاهدالغائب). فالاختلاف بينه وبين الإمام أن الإمام إماً له أعوان وشوكة، أو تلقيالعهد ممن سبقه أو غيرها من الأسباب التي توجب طاعته، ولكن طاعة النبي صلي اللهعليه وسلم تختلف عن كل هذا فطاعته واجبة ولو كذبه الناس جميعاً، ولا تنقضي رسالتهبموته كما ينقضي حكم الأئمة بموتهم.


إنه إذاً نظام نبوة تفرد بأركانه وطبيعتهالخاصة عما سواه من أنظمة الحكم ومن الخطأ إخضاعه للتعريفات والمقاييس السياسيةالتي أسبغها فلاسفة السياسة لمد الملوك


(28)


بسلاح السيطرة عليشعوب لا تملك حق الشكوى. فشتان بين هذا وذاك.


نستطيع أن نستنتج أنه صلي الله عليه وسلم لميفرض السلطة ولم يستبد، وأن أصحاب فكرة الحق الإلهي الذين يحاولون تطبيقها علي حكمالرسول صلي الله عليه وسلم قد جانبوا الصواب وسبب هذا هو تأثرهم بفكرتهم السابقةعنها فحاولوا تطبيقها بحذافيرها مما لا يتفق مع المنهج العلمي. فالرسول صلي اللهعليه وسلم كما أسلفنا توضيحه لم يفرض سلطاناً بالقوة الغاشمة ولم يرث ملكاً أو يستخلفه عمن سبقه، وإنما شق طريق الرسالةوسط ظروف شديدة الصعوبة، ومضي في كفاحه حتي دخل الناس في دين الله أفواجاً لقدلاقت دعوي النبوة في البداية ولمدة سنين طويلة جحوداً وعناداً من الأكثرية الساحقةلسكان مكة وعلي رأسهم أشرف القبائل وأصحاب النفوذ فيها، ثم تمكن الرسول صلي اللهعليه وسلم في النهاية من الإطاحة بأصنام الوثنية وأطاح معها بنفوذ رؤساء البيوتالذين كانوا يتولون السلطات الدينية والمدنية، (وكان أصحاب مناصبها الرئيسيةيتولون مناصبهم إرثاً عائلياً حسب طريقة كانت جارية عندهم)، فكان من نتائج رسالةالنبي صلي الله عليه وسلم هدم هذه البيوت لا المحافظة عليها ووراثتها والمناداةبحقه الإلهي!! في حكمها، بحيث يمكن القول بأنه كان ضد نظام الحق الإلهي _لا العكس_لأن رسالته قضت علي كهنة الأصنام والمسيطرين علي مكة الذين استمدوا سلطتهم ونفوذهممن دعوي حمايات تلك الآلهة. وكانت طبيعتة البشرية صلوات الله عليه موضع دهشة العربكما سجلها القرآن الكريم في إحدي آيات سورة الفرقان إذ يقول تعالى: "وقالوامال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراًأو يلقي إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاًمسحوراً" الفرقان:7، 8{،وفي آية أخري يتأكد فيها بشرية الرسول صليالله عليه وسلم: "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد فمنكان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً"}الكهف:110{.


دعامتا حكم الرسولصلي الله عليه وسلم:


ولكي نتقدم خطوة أخري في البحث، ينبغي أن نشقطريقاً آخر، فنتعرف علي الطريقة التي تم الحكم في عهد رسول الله صلي الله عليهوسلم لنستكمل البرهان علي خطأ تطبيق

(29)



مذهب الحق الإلهي.فإن الملوك الذين حكموا وفق نظرية الحق الإلهي لم يلجأوا إلي شعوبهم لتلقي البيعة،وهم أيضاً لم يطلبوا المشورة من أحد وإلا لدحضوا بأنفسهمدعواهم في الحكم بالتفويض من السلطة الإلهية التي لا معقب لحكمها ولا رادلأوامرها، فهم في غني بها عن مشورة رعاياهم.


أما المنهج الذي انتهجه رسول الله فإنه يجعلالباحث يقف طويلاً أمام ركنين بارزين ودعامتين أساسيتين كانا لهما النصيب الأوفرفي طريقته في الدعوة الإسلامية. وهما: طلبه البيعة ممن اعتنقوا الدين الجديد،ومشورته للصحابة خاصة وللمسلمين عامة في المسائل التي لم ينــزل بها الوحي.


وسنعرض لهذين الركنين، وهما مرتبطان بشخصيةالرسول صلي الله عليه وسلم السياسية بصورة بارزة في شخصيته كصاحب دعوة ورسالة،لنتبين من خلالهما أيضاً مدى حرص الخلفاء الراشدين من بعده علي اقتفاء أثره صليالله عليه وسلم. ثم محاولة مفكري أهل السنة إقامة نظرياتهم السياسية قياساً عليأساليب الحكم التي سار عليها الأوائل، وخاصة فيما يتعلق منها بموضوع الإمامة.


البـيـعة:


يعرف ابن خلدون البيعة بأنها العهد علي الطاعة. ويشرح مضمونها بأن المبايع يفوض الأميربالنظر في أمره وأمور المسلمين، ويعاهده علي الطاعة فيما يكلفه به في المنشطوالمكره، ويشبه البيعة بعملية البيع والشراء حيث تتلاقى رغبة الطرفين، فيقول:(وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد فأشبهذلك فعل البائع والمشترى فسمي بيعة).


ويرى السير ت. أرنولد أن البيعة تعد بمثابةعقد أيضاً ولكنه يتضمن ثلاثة أطراف: الخليفة نفسه في طرف والقائمون بالبيعة فيالطرف الثاني ثم الطرف الثالث أو الركن الثالث، وهو تعهد الخليفة بتقيده بحدودالشريعة.


وقد تلقي رسول الله صلي الله عليه وسلم بيعتيالعقبة بعد الإقناع بالحسنى والموعظة الحسنة للدخول في الإسلام، فلما قبل المسلمونوأعلنوا الشهادة أخذ منهم البيعة وفق مبادئ محددة وهي: (30)




ألا نشرك باللهشيئاً ولا نسرق ولا نـــزني ولا نقتل أولادنا ببهتان نفتريه من بين أيدينا ولاأرجلنا؛ ولا نعصيه في معروف.


ويستحق الأمر وقفة عند معني (لا نعصيه فيمعروف) فإنه صلي الله عليه وسلم لم يشترط في البيعة عدم العصيان علي الإطلاق بلحدده فقط (في المعروف).


ونضيف إلي هذا أن البيعة لم تتم لشخصه صليالله عليه وسلم وإنما كان يدعوهم إلي الله ويؤكد لهم أنه ليس بمكافئهم شيئاً عليبيعتهم وإنما أمرهم إلي الله، فإنه يقول لهم: (فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتمشيئاً من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا، فهو كفارة له وإن سترتم عليه إلي يومالقيامة، فأمركم إلي الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم). ومع هذا فلم تتمالمبايعة كتفويض من المسلمين لرسول الله صلي الله عليه وسلم وإنما كان في الطرفالآخر المقابل تعهده بالوقوف في صفهم، فهي أشبه برباط يوثق به طرفان ينشىء حقوقاًوواجبات لكلا الطرفين.


نستنتج هذا الرباط الوثيق من رد النبي صليالله عليه وسلم عندما سأله أبو الهيثم مالك بن التيهان عن موقفه صلي الله عليهوسلم إذا ما قامت الحرب بين قومه من الخزرج وبين اليهود بالمدينة مستفسراً عما إذاكان سيبقى معهم أم هو تاركهم، فرد الرسول صلي الله عليه وسلم بقوله: (بل الدمبالدم، الهدم بالهدم، أنتم مني وأنا منكم، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم).


ويشبه الدكتور الريس بيعتي العقبة بالعقودالاجتماعية التي افترض بعض فلاسفة السياسة في العصور الحديثة حدوثها، بل إنه يرىأن (العقد الاجتماعي) لروسو لم يكن إلا مجرد وهم، فيقول: (أما العقد الذي حدثمرتين عند العقبة وقامت علي أساسه الدولة الإسلامية فهو عقد تاريخي تم فيه الاتفاقبين إرادات إنسانية حرة وأفكار واعية ناضجة من أجل تحقيق رسالة سامية) فالحقيقة أنفكرة العقد الاجتماعي لروسو كانت تبريراً _ميتافيزيقياً_ غيبياً لا نصيب له منالواقع لجأ أصحابها إليها لمحاربة سلطة الحاكم الفرد.


ولم يقتصر مبدأ البعة علي الرجال وحدهم، بلشمل النساء الراغبات في الإسلام

(31)



أيضاً، وهن اللاتيفررن من الوثنيين بعد صلح الحديبية، علي أساس نفس الأسس التي تقوم عليها بيعةالرجال مع اختلاف طفيف يتمثل في أن البيعة للرجال تتم بالمصافحة وبيعة النساءبالكلام.


الشــورى:


أمر الله الرسول صلي الله عليه وسلم بمشاورةالمسلمين بقوله تعالى: "وشاورهم في الامر"، كما تضمن الكتاب آيات كثيرةللدلالة علي ما لقاعدة الشوري في الحكم من ضرورة وأهمية.


ولهذا تنبه أهلالسنة إلي الحض علي الشوري، فكان الأمر باعثاً لتقليب هذا الركن من كافة وجوههللتوصل إلي أسبابه ومغزاه، فقد وضع الماوردي (450هــ_1058) شرط الشورى كأحد الشروطالواجب توافرها في الإمام، فينبغي عليه أن يشاور ذوي الرأي والحزم في المشاكلوالصعوبات التي تعترضه ليقترب من الصواب في كل خطواته، كما تعرض الماوردي لمااختلف فيه المفسرون عن الحكمة من أمر الله لنبيه صلي الله عليه وسلم بالمشاورة معما أمده به من التوفيق والتأييد، فأجمل أوجه الاختلاف في أربعة: أولها الأمربالمشاورة في الحرب للاهتداء إلي الرأي الصحيح ليعمل به وهو تفسير الحسن البصريبقوله: (ما شاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم). ويفسر قتادة هذا الأمر بأن اللهأمره بالمشاورة لتأليفهم، وتطيب نفوسهم. والوجه الثالث الذي قال به الضحاك للمناقعالتي تعود من اتباع المشاورة يرجع إلي حض المسلمين علي اتباع هذه الوسيله لأنالنبي كان في غني عن المشورة.


وقد ردد ابن الطقطقي (701هــ_1301م) نفس هذهالحجج، ويبدو أنه نقلها عن الماوردي فيقول: (واختلف المتكلمون في كون الله تعاليأمر رسوله بالاستشارة مع أنه أيده ووفقه) ثم أورد التفسيرات الآنف ذكرها:


أما بدر الدين بن جماعة (819هــ _1416) فقدأعطي لموضوع الشوري

(32)



إيضاحات أخري غيرالنفع والاهتداء إلي الصواب واجتماع الكلمة، فأضاف إليها بأن الشوري كانت أيضاً منعادة الأنبياء، وضرب مثلاً لذلك بإبراهيم الخليل عليه السلام حيث طلب الشوري منابنه عندما أمره الله تعالي بذبحه.


وقد تمسك المسلمونبهذا المبدأ بعد الرسول صلي الله عليه وسلم في المواقف الحاسمة، فعندما قتل عثمان بن عفان، طلب أهل البصرة والكوفة منوجوه الصحابة بالمدينة اختيار من يصلح للخلافة بقولهم: (أنتم أهل الشوري وحكمكمجائز علي الأمة فاعقدوا الإمامة ونحن لكمتبع). ولم يخرج المسلمون بهذا المنهج عن سالف عهدهم أيام الرسول صلي الله عليهوسلم؛ لأنهم فى ذلك الوقت كانوا يراجعونه صلي الله عليه وسلم في الاجتهاد في الأمور الدينية التي تتصل بمصالحهم، وربماسألوه للتثبت ومعرفة العلة.


فمن الوقائع التي استشار فيها رسول الله صليالله عليه وسلم، موقعة بدر، وهي أول حرب يخوضها المؤمنون إذ سأل حباب بن المنذرالرسول بقوله: (يا رسول الله أرايت هذا المنزل الذي نــزلته أهو منــزل أنــزلكهالله فليس لنا أن نتعداه؟ أم هو الرأيوالحرب والمكيدة؟)


فما أجابه النبيصلي الله عليه وسلم بالإيجاب، أشار عليه بتغيير المكان فقبل صلي الله عليه وسلموتحول إلي غيره.


كذلك لما عزم الرسول (مصالحة) قبيلة غطفان عامالخندق علي نصف تمر المدينة، فسأله سعد بن معاذ بصحبة طائفة من الأنصار (يا رسولالله بأبي أنت وأمي، هذا الذي تعطيهم أشيء من الله أمرك فسمع وطاعة لله ولرسوله،أم شيء من قبل رأيك؟)


فلما أجاب الرسولصلي الله عليه وسلم بتوضيح رأيه في المسألة، قدم سعد حججه التي وافقه عليها النبيصلي الله عليه وسلم فمزقت صحيفة الاتفاق.


ويستدل ابن تيمية من هاتين الواقعتين علي أنمراجعة المسلمين للنبي صلي الله عليه وسلم لم تكن تعدو وجهين ،


الأحد 29 / 9


أحدهما الأمورالسياسية التي يستساغ فيها الاجتهاد كما ظهر في هاتين الحادثتين. أما الوجهالثاني، فهو ما كان من قبيل الرأي والظن في الدنيا كقوله صلي الله عليه وسلم عندماسئل عن تلقيح النخل: (ما أظن يعني ذلك شيئاً إنما ظننت فلا تؤاخذوني بالظن،ولكن (33)


إذا حدثتكم عنالله بشيء فخذوا به، فإني لن أكذب علي الله)، أو حديث آخر نصه: (أنتم أعلم بأمردنياكم، فما كان من أمر دينكم فإلي) .


من كل هذا يتضح لنا أن مبدئى البيعة والشورىكانا حجرا الزاوية في عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم وهما في الوقت عينه يدلاندلالة واضحة علي تعارضهما مع طبيعة حكم الملوك والأباطرة الذين يرفضونمبدأ البيعة لأنهم يدعون أنهم يستمدون حقهم في الحكم من الله، فلا ضرورة والأمركذلك من وجهة نظرهم إلي طلب البيعة من الخاضعين لحكمهم. كذلك لم يطلبوا الشورى فيأمر من أمورهم، وإنما هو الحكم النافذ الذي لا شورى فيه ولا مشاورة.


ولئن كانت دعوى الحق الإلهى لا تتفق معواقع الحكم وطبيعته أيام رسول الله صلي الله عليه وسلم، فإن الفكرة المضادة التينادى بها الشيخ علي عبد الرازق قد جنحت به إلي الشطط والتعسف في الرأي، إذ يقولأنه: (ما كان إلا رسولاً كإخوانه الخالين من الرسل، وما كان ملكاً ولا مؤسس دولةولا داعياً إلي ملك).


أما النظرة الشاملة التي أصابت الحقيقةوتمثل رأي أهل السنة في طورها الأخير، فتلك التي دلنا عليها الدكتور الريس، إذ يريأن عصر النبوة كان الفترة المثالية التي تحققت فيها المثل العليا للإسلام بأكملمعانيها، وهي كذلك مرحلة (تأسيس) لأن الجماعة اعتنقت فيها مبادئ الإسلام _وتحققتبها الوحدة.


ثم يقرر بعد ذلك بأن (عصر الرسول انقضي بينالوحدة والعمل والتأسيس وأوجد الروح التي تسيطر علي الحياة السياسية وأقام النموذجللقدوة والقياس).


وهذا ما سنكتشف تحققه بصفة خاصة علي أيديالخلفاء الراشدين من بعده صلوات الله عليه.



العــــالم الإســـلامي في عصــــر العـــولمــة


الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري



العالم الإسلاميوالعولمة




أصبح من مظاهرالفكر الإسلامي التي تبلورت وسادت، منذ فجر اليقظة والانبعاث في أواخر القرنالتاسع عشر ومطالع القرن العشرين، وإلي اليوم، الجنوح إلي الرفض المطلق للفكرالغربي والإعراض عن الأخذ به والاستفادة منه والتكيف معه، وتوجس المفكرينوالمصلحين وأهل العلم وذوي الرأي خيفة من المذاهب والمدارس الفكرية والاتجاهاتوالتيارات الثقافية ومن النظم الاقتصادية والمناهج السياسية، واتخاذ مواقف إزاء كلما يرد من الغرب من أفكار ونظريات، تتسم في الغالب بالشك والريبة فيها وعدمالاكتراث بها والتقليل من قيمتها،وأحياناً تبلغ هذه المواقف حداً من الغلو يصل إلي إشهار الحرب ضد الفكر الغربي فيجميع مناحيه، جملة وتفصيلاُ.


ولقد نتج عن هذه المواقف التي تكاد تكونظاهرة عامة يصطبغ بها الفكر الإسلامي، أن أصبح مصطلح (الأفكار المستوردة)، أو(المذاهب المستوردة)، يستبطن معاداة لهذه الأفكار علي علاتها، ومجافاة لتلكالمذاهب برمتها، ويدل علي الرفض المطلق، أو في أحسن الأحوال، التردد المشوب بالشك،أو اللامبالاة التي تؤدي إلي تجاهل الفكر الغربي علي تعدد مدارسه وتنوع اتجاهاته،مما يترتب عليه ضياع العديد من الفرص التي يمكن أن تتاح للاستفادة من جوانبهالإيجابية، وللانتفاع بها، وللتعامل معها علي نحو من الأنحاء، ومن موقع التميزوالاعتزاز بالهوية، والتشبث بالخصوصيات الثقافية والحضارية.


ولقد سال حبر كثير، طيلة القرن العشرين، فيتصنيف الكتب وكتابة الدراسات والبحوث التي تقف من (الأفكار المستوردة)،أو (المذاهبالمستوردة) موقف الرد والتصدي والمواجهة الجادة والقطيعة والخصومة، وذلك من خلالرؤية ضيقة الأفق ينقصها البعد الإنساني العالمي، وبفكر محدود لا يدرك التطوراتالتي طرأت علي الفكر الإنساني في مناحيه المختلفة، مما أدي إلي بروز موقف متشددكان له، ولا يزال، التأثير القوي في النظر إلي مدارس الفكر الغربي، علي اختلافمشاربها وتباين منابعها.


وينطبق هذا الموقف الفكري علي العديد منالأفكار والنظريات والدعوات التي ظهرت في العصر، وخصوصاً في العقد الأخير من القرنالعشرين، ومنها

(13)



العولمة التي فرضتنفسها باعتبارها نظاماً أراد القائمون عليه أن يكتسب الصفة الدولية بقوة الهيمنةالتي يفرضونها علي العالم.


العولمــة:ماهيتها:


لقد اهتم الفكر العالمي اهتماماً بالغاًبدراسة العولمة، تعريفاً وتقديماً لمعانيها ودلالاتها، وتحليلاً وتفسيراًلمضامينها ومفاهيمها، بحيث يمكن القول إنما نشر عن العولمة خلال العشر سنوات الأخيرة، يفوق ما كتب عن المذاهب والنظموالإيديولوجيات والقوالب الفكرية التي عرفتها الإنسانية في العقود الخمسة الماضية.


فالعولمة من وجهة نظر قانونية واقتصاديةمعاصرة، تزيد من الاعتماد المتبادل بين سكان العالم بصورة تؤدي إلي تداخل المصالحالاقتصادية وتشابكها وتمتد بتأثيرها إلي باقي مجالات الحياة، فلا تقف عند الاقتصادفحسب، وإنما تتعداه إلي الثقافة والتربية والتعليم والإعلام والاتصال والعلوموالتكنولوجيا.


ويذهب دعاة العولمة إلي أنها تتيح فرصاًكثيرة لملايين البشر في شتي أنحاء العالم علي أساس أنها تسمح بتزايد معدلاتالتجارة وتبادل التكنولوجيا الجديدة وتوثيق الارتباط بين الشعوب عبر الانترنيت،فالعولمة من هذا المنظور لا تعرف حواجز أو قيوداً وتجتاح كل الحدود الجغرافيةوالوطنية وأحياناً الأخلاقية. وينبغي أن نعي جيداً مدلول هذا التعريف للعولمة،ونفهم مضامينه بعمق، بغض النظر عن موقفنا المبدئي والأخلاقى والوطني منه.


ولقد تعددت الشروح وتنوعت التفسيرات التيحاول بها مفكرو العصر من المشتغلين بالفكر السياسي في اتجاهاته الثقافيةوالاجتماعية، فهم العولمة وتفسيرها، ومع ذلك فإن أجمع شرح للعولمة وأعمق تفسيرلدلالاتها ومضامينها، لا يخرجان عن اعتبار العولمة _في دلالتها اللغوية أولاً_ هيجعل الشيء عالمياً، بما يعني ذلك من جعل العالم كله وكأنه في منظومة واحدةمتكاملة. وهذا هو المعني الذي حدده المفكرون باللغات الأوروبية للعولمة، فيالإنجليزية والألمانية، وعبروا عن ذلك بالفرنسية بمصطلح، ووضعت كلمة (العولمة) فياللغة العربية مقابلاً حديثاً للدلالة علي هذا المفهوم الجديد.


ومهما تعددت السياقات التي ترد فيها(العولمة)، فإن المفهوم الذي يعبر عنه الجميع، في جميع اللغات، هو الاتجاه نحوالسيطرة علي العالم وجعله في نسق

(14)



واحد. ومن هنا جاءقرار مجمع اللغة العربية بالقاهرة بإجازة استعمال العولمة بمعني جعل الشيءعالمياً.


وعرف المعجم العالمي الشهير (ويبسترز)،العولمة بأنها إكساب الشيء طابع العالمية، وبخاصة جعل نطاق الشيء، أو تطبيقه،عالمياً. لكن هذا المعني شديد البراءة بالغ الحيدة، لا ينسجم في عمقه مع دلالةاللفظ ومفهوم المصطلح، كما يشاع ويتردد في العالم اليوم. ولذلك فإن المفهومالسياسي والثقافي والاقتصادي للعولمة، لا يتحدد بالقدر اللازم، إلا إذا نظرنا إليهمن خلال رؤية عامة تدخل في نطاقها جميع المتغيرات السياسية والثقافية والاقتصاديةالتي يعيشها العالم منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين.


ولعل أبرز ملامح العولمة هي ما يتبدى لنا منخلال التطورات المدهشة التي تعرفها مجالات الاتصال والتواصل عبر الأقمار الصناعيةوالحاسوب والأنترنيت، وذلك علي النحو التالي:


_ عمق التأثير في الثقافات وفي السلوكالاجتماعي وفي أنماط المعيشة.


_ اتساع دائرة الخيارات الاقتصادية من خلالحركة الاستثمارات الدولية والأسواق المفتوحة، وتضييق دائرة الخيارات السياسية منحيث تضاؤل القدرة علي الإكتفاء الذاتي اقتصادياً، ومن حيث تزايد معطيات التداخلالاستقلالي سياسياً.


_ نمو ما أصبح يعرف باسم القطيع الإلكتروني منمؤسسات متعددة الجنسيات، وحتى من أفراد يبحثون عن الربح ويؤثرون في قرارات الدولوفي مصائر شعوبها.


_تسخير أدوات العولمة بكيفية تمكن منتجي هذهالأدوات من الطغيان علي المستهلكين والمتلقين بحيث تؤثر في تهميش لغاتهم الخاصةوفي إضعاف هوياتهم الوطنية.


وبذلك يكونللعولمة قدرات استثنائية للتغلغل وبالتالي للتأثير. ومن الشهادات التي تؤكد هيمنةالعولمة علي مقدرات الحكومة والشعوب، ما جاء في

(15)



كلمة للرئيسالفرنسي جاك شيراك، ألقاها بمناسبة اليوم الوطني الفرنسي (14يوليو2000)، حيث قال:"إن العولمة بحاجة إلي ضبط، لأنها تنتج شروخاً اجتماعية كبيرة، وهي وإن كانتعامل تقدم، فهي تثير أيضاً مخاطر جدية ينبغي التفكير فيها جيداً، ومن هذه المخاطرثلاثة :أولها أنها تزيد ظاهرة الإقصاء الاجتماعي، وثانيها أنها تنمي الجريمةالعالمية، وثالثها أنها تهدد أنظمتنا الاقتصادية.


والواقع أن العولمة جزء من نظام عالمي تخضعله الشعوب والحكومات، ولا يملك أحد منها أن يقف بمنأى عنه. ولذلك فإن العاملالنفسي هو الذي يجعلنا نتردد، ونرتاب، ونرتعب أيضاً، ونقف أمامة مشدوهين مبهورين.فإذا عالجنا الآثار النفسية المترتبة علي الموقف الذي نتخذه إزاء ما يعج به عالمنااليوم، بمنتهي الحكمة، وبقدر كبير من الرشد الحضاري والوعي الإنساني، أمكننا أننواجه الواقع كما هو في حقيقته وبطبيعته، لا كما نتوقعه، أو نتوهمه.


ومن المؤسف أننا كأمة إسلامية، وفي هذهالمرحلة التاريخية، لا نمتلك القدرات الكافية لكسر موجات العولمة، وللتحكم فياتجاهات الرياح التي تهب بها. ولا ينبغي أن يفت هذا الموقف الصادق في عضدنا، أو أنيقعدنا عن القيام بما يتعين علينا القيام به، من عمل دؤوب للتخفيف من وطأة آثارالعولمة، ولرد هجماتها، وللتقليل من الخسائر الناجمة عن هذا الغزو ما أمكننا ذلك،وما استطعنا أن نسلك من سبيل إلي القيام بما يستوجبه الموقف، لا بالمواجهةوالتصدي، وإنما بالفهم والاستيعاب والتكيف والاندماج. وهذا الموقف يتطلب منا أنننخرط في المعترك الثقافي العالمي، وأن ندفع بمجتمعاتنا في اتجاه التفاعل المتحركمع المتغيرات المتسارعة، حتي نفهم ما يجري حولنا، ونستوعب التحولات الكبري التيتعيشها الإنسانية في هذا العصر.


إن الهزيمة النفسية أمام العولمة تأتي مناعتبار ظاهرة العولمة حتمية. وهذا أمر مبالغ فيه، وهو لا يعبر عن حقيقة هذهالظاهرة، لأن اعتبار ظاهرة العولمة حتمية، قد لا يكون في الحقيقة أكثر من اعترافالمرء بأنه لم يعد لديه طاقة باقية للمقاومة، أي أنه قد نفد جهده، وأصبح مستعداًللتسليم. فإذا كان هذا هو اختيار بعضهم، فهو ليس ملزماً لغيرهم، ومن الظلم علي أيحال، أن يوصف

(16)



بالحتمية اختيارلا يعكس إلا نفاد الطاقة أو استعجال المكافأة. وهو موقف ظالم،لأنه يحمل عدة أجيالقادمة عبء فشل جيل بعينه، فاعتبار ظاهرة ما حتمية، يتوقف أيضاً علي المدي الزمنيالذي يأخذه المرء في اعتباره.


وقد أصبح من الواضح أن العولمة لا تمثل خطراًكاسحاً ومدمراً، إلا علي الشعوب والأمم التي تفتقر إلي ثوابت سياسية مستقرة وإليقواعد اجتماعية وثقافية راسخة، أما تلك التي تملك رصيداً ثقافياً وحضارياً غنياًوتستقر فيها أوضاعها العامة، فإنها قادرة علي الإحتفاظ بخصوصياتها والنجاة من مخاطر العولمة وتجاوزسلبياتها.


ومن الأساليب التي يستخدمها مهندسو العولمةومروجوها، تنمية الشعور بالهزيمة والاستعداد للاستسلام أما ما يريدون فرضه عليالشعوب والحكومات، من خلال إضعاف الإحساس بالذاتية، وبالتميز، وبالاعتزاز بكل مايمت إلي التراث الحضاري والرصيد الثقافي، بصلة.


ومن هنا نجد أن الرفض العالمي للعولمة يتناميباطراد، ولكن علي مستوي الجماعات الرافضة التي تحن إلي عصر الفكر الشمولي أو منينصاع مع الشعارات التي ترفعها، وإن كان هذا الرفض لا يملك أن يؤثر في صد هجماتالعولمة علي أمم الارض وشعوبها، علي الأقل في المدي المنظور، لأننا نعتقد جازمين،أن كل نظام ظالم للإنسان، أو عقيدة قاهرة للفطرة، أو منهج يفرض الهيمنة عليالإرادة الإنسانية ويتحكم في أشواق النفس البشرية الروحية وتطلعاتها الثقافيةوطموحها الحضاري، هو إلي انهيار وزوال، لأنه يصادم سنة الله في خلقه، ويتنافي معفطرة الله التي فطر الناس عليها.


إن الخطأ المنهجي الذي يقع فيه طائفة منالمفكرين من العالم الإسلامي الذين بحثوا ظاهرة العولمة، يكمن أساساً في أنهمبدلاً من أن يرسموا الخريطة الجديدة التي يتعين علي المجتمعات الإسلامية فهمهاوالعمل في حدودها، ويضيئوا أمام أصحاب القرار والنخب المثقفة والمفكرة، المصابيحلتسلط علي الحقائق كما هي، لا كما نتوهمها أو نتخيلها، راحو يسهبون إسهاباًمفرطاً، في تعداد مساوئ العولمة وأضرارها والمخاطر التي تتسبب فيها، فكانوابصنيعهم هذا، يقومون بشق من الواحب، ولا ينهضون بمسؤوليتهم كاملة.

(17)



ولا يجادل أحد منافي أن ثمة شواهد كثيرة تشير إلي أن قوي العولمة المعاصرة ليست سوي امتداد عضويوإيديولوجي لقوي الاستغلال والسيطرة والاحتواء وتعمل علي تكريس التبعية من جانبالدول الأقل نمواً لتلك الأكثر نمواً، وإن كانت آليات تكريس التبعية قد اختلفت فيظل العولمة، من الاستعمار التقليدي، إلي اللجوء لسياسة الضغط الاقتصادي. فهذهحقيقة لا سبيل إلي إنكارها. ولكن هل تقف مسؤوليتنا عند هذا الحد، وهو الجهر بهذهالحقيقة، أم أن المسؤولية تمتد وتتشعب وتتواصل؟.


إن المنهج في بحث ظاهرة العولمة، هو إليالوصف التحليلي والنقد السياسي من منطلق إيديولوجي، أقرب منه إلي المعالجة العلميةالمستنيرة المبرأة من كل هوى سياسي أو إيديولوجي. ولذلك كان من السلبيات التي وقعفيها معظم من عالج قضية العولمة من خلال هذا المنهج، العزوف عن الموضوعية المجردةتحت تأثير الفكر الشمولي الذي كان يسود في عهود القطبين الأكبرين في زمن الحربالباردة.




واقع العالمالإسلامي والعولمة:


لقد تحاشيت أن أقول إن العالم الإسلامي فيمواجهة العولمة، لأني رأيت في ذلك مجافاة لواقع الحال، ومخالفة لطبيعة الأشياء،علي اعتبار أن العولمة مفروض أمرها علي العالم أجمع، بحيث لا تمتلك دولة من دولةأن ترفضها، أو تتردد في التعامل معها والاندماج فيها.


وعلي مستوي العالم الإسلامي الذي لا يدخل فيمكنته رفض الواقع العالمي، فإن الأمر المطلوب للتكيف مع العولمة، هو تنسيق الموقفالإسلامي في إطار العمل الإسلامي المشترك، لامتلاك شروط التكيف مع المتغيرات الدولية.


ولابد قبل التطرق إلي بحث السبل الممهدةوالوسائل الكفيلة بتأسيس موقف إسلامي موحد تجاه نظام العولمة، من أن نعرض لتحليلواقع العالم الإسلامي وظروفه الحالية وأوضاعه العامة، خصوصاً ما يتعلق منها بمانصطلح عليه بالبناء الحضاري القائم علي أسس التربية والعلوم والثقافة.

(18)



إن الرؤى إلي واقعالعالم الإسلامي تتعدد حسب الزاوية التي ينظر منها إلي الأوضاع العامة. وربما كانالمنهج المقارن في الحكم علي الظواهر الاجتماعية وتطور الأمم والشعوب سياسياًوحضارياً، هو الأقوم للوقوف علي درجة التقدم ومستوي التغيير لأمة من الأمم.والمقارنة بين أوضاع العالم الإسلامي في مطلع القرن العشرين وبين أوضاعه في بدابةالقرن الحادي والعشرين، تفضي بنا إلي نتيجة بالغة الأهمية مفادها أن تقدماًملموساً قد تحقق، وأن الصورة قد تغيرت إلي ما هو أحسن، وأن واقع العالم الإسلامياليوم، علي الرغم من مظاهر التمزق والتشتت والاختلاف في الموقف والرؤية والرأي،وعلي الرغم أيضاً من التدني في مستويات التنمية والانخفاض في معدلات النتاج الوطنيفي معظم البلدان الإسلامية، علي الرغم من ذلك كله، فإن حاضر العالم الإسلامي لايكاد يقارن بماضيه من وجوه عدة يطول مجال الخوض فيها.


ويوجد العالم الإسلامي في قلب الصراعالعالمي المحتدم، مما يجعله مستهدفاً من النواحي كافة، ومعرضاً لمخاطر من جميعالأطراف التي تتصارع في الساحة الدولية. ولقد ترتب علي هذا كله، تفاقم التحدياتالتي تواجهها دول العالم الإسلامي، بصورة تؤثر بشكل عميق، في الحياة العامة،وتنعكس آثارها السلبية علي العملية التنموية برمتها.


ويمكن أن نحصر أهم هذه التحديات التي تطبعواقع العالم الإسلامي، فيما يلي، وقد رأيت أن أبدأ بالثقافة لأنها حجر الزاوية فيالبناء الحضاري للأمم والشعوب، ولأنها القاعدة الصلبة التي ننطلق منها للتعامل معتحديات العولمة لتحقيق مصالحنا:


_ تحديات ثقافية، علي مستوي التنظير،والتخطيط، والعمل الثقافي والفكري والأدبي والفني في حقوله المتعددة، وعلي مستويالمواجهة المتكافئة مع التيارات الثقافية العاتية الوافدة من الغرب والشرق معاً،والموجات الإعلامية والمعلوماتية الكاسحة.


_ تحديات اقتصادية، علي مستوي التنظير،والتخطيط، والعمل الثقافي والفكري والأدبي والفني في حقوله المتعددة، وعلي مستويالمواجهة المتكافئة مع التيارات الثقافية العاتية الوافدة من الغرب والشرق معاً،والموجات الإعلامية والمعلوماتية الكاسحة.


_ تحديات اقتصادية،علي مستوي الاختيارات،والإصطلاحات، والتطبيقات، والتكيف مع الأنظمة الاقتصادية الحديثة، والاندماج فيتيار العولمة واقتصاديات السوق، والتعامل مع المنافسة الدولية في هذه المجالاتجميعاً، والمضي قدماً في عملية الإصلاح الاقتصادي الشامل، بفكر جديد، وبرؤيةمتفتحة.

(19)



_ تحديات اجتماعة، علي مستوي محاربة الثالوثالخطير، الفقر والجهل والمرض، ومقارنة اليأس الذي يدفع بالشباب إلي الانهيار، وعليمستوي المواءمة بين النظم وأنماط السلوك الحديثة، وبين المحافظة علي الثوابتوالخصوصيات الثقافية والحضارية التي يقوم عليها النظام الاجتماعي.


_ تحديات سياسية، علي مستوي نظم الحكموالإدارة ومدي استجابتها لتطلبات الشعوب الإسلامية، والتزامها بالقيم الثابتةللحضارة العربية الإسلامية في هذا المجال، وفي المقدمة منها الشوري وتوسيع نطاقالمشاركة الشعبية في الإجراءات والممارسات السياسية، وعلي مستوي العلاقة بينالمواطنين والإدارة، وعلي مستوي تدبير الشأن العام، بصورة إجمالية.


_ تحديات تنموية، علي مستوي الجهود المبذولةللقضاء علي معوقات التنمية، وعلي مستوي بناء القواعد الثابتة للنهضة التنموية فيجميع الميادين، تحقيقاً للتنمية المستدامة التي تنطلق من تنمية الحاضر والحرص عليمد منافع التنمية وفوائدها إلي الأجيال القادمة.


إن الاستغراق فيتحليل أبعاد هذه التحديات والبحث عن السبل المؤدية إلي التعامل معها، يطول ويتسعمجاله. ولذلك فإن الرؤية الواقعية إلي طبيعة هذا العصر، تجلي لنا الحقيقة التالية،وهي أن بناء القاعدة العلمية في المجتمعات الحديثة، هي مفتاح التعامل مع تحدياتالعصر، مهما تفاقمت خطورتها؛ لأن بناء الإنسان هو الأصل في بناء الحضارة، ولأنالمجتمع القوي القادر علي الدفاع عن حقوقه ومصالحه، هو الذي تقوم فيه نهضة تربويةعلمية وثقافية شاملة.


من هذه الزاوية، رأيت أن أعرض لأكبر تحديواجه العالم الإسلامي في القرن الحادى والعشرين في ظل العولمة، وهو التحديالعلمي، ولكن بعد أن أتناول في تركيز شديد، التحدي التعليمي علي سبيل التمهيد،لأنه مكمن الخطر والمصدر الذي يأتي منه التهديد للخصوصيات الثقافية.


إن التعليم القوي الجيد والهادف، يشكلالمنطلق الأساس لمواجهة هذه التحديات جميعاً. ولكن في هذا المجال أيضاً تعاني دولالعالم الإسلامي تحديات كبري لابد من مواجهتها والتغلب عليها، وأهم هذه التحدياتثلاثة:

(20)


الأثنين 30 / 9



أولاً : التقدمالهائل في مجالات الاتصال والمعلومات والتكنولوجيا الرقمية، وقصور الإمكاناتالمادية والفنية والأكاديمية لدى الدول الإسلامية عن ملاحقة هذا التقدم والتكيفمعه.


ثانياً : مواءمةمخرجات التعليم مع حاجات سوق العمل المتنامية.


ثالثاً : حريةالتعليم التى تنحصر في الدور الذى يناط بالدولة، دون أن تتاح الفرص اللقطاع الخاصوللمؤسسات والمنظمات والجمعيات الأهلية لممارسة الحق في التفكير والاجتهاد لتطويرالتربية والتعليم، مما يعطل الطاقات، ويثبط الهمم، ويزرع اليأس من الإصلاح فيالنفوس، ومما يتعارض كليا مع روح الحضارة العربية الإسلامية والتراث العربيالإسلامي في هذا المجال،حيث كانت تقوم حلقات العلم الحرة في المساجد والجوامعتناقش فيها بحرية مختلف الأفكار والمذاهب الإسلامية، وتستنبط الحلول للمشكلاتوالمعضلات التي تواجه المجتمع.


ومهما يكن الحال،فإن هذه التحديات ليست مما لا سبيل إلي التغلب عليه، وتحويله من تحديات سلبية، إليتحديات إيجابية، تحفز إلي العمل وتشجع عليه، وتستنهض الهمم وتقوي العزائم. وللوصولإلي هذا المستوي من التفكير والتدبير والممارسة، لابد من انتهاج الأسلوب العلمي فيالتخطيط والتنفيذ، في إطار تعاون وتكامل وتنسيق وتضامن إسلامي حقيقي، لأن الأعباءأضخم من أن تنهض بها دولة واحدة من دول العالم الإسلامي.


إن مواقف الدول تعبر عادة عن اختياراتهاوتترجم سياساتها، وكل موقف تتخذه دولة من الدول، هو تعبير سياسي عن السيادةالوطنية. ولذلك فإن توحيد المواقف إزاء مسألة ما، لتصبح موقفا واحدا موحدا،بالمعني المباشر، وبالمدلول القانوني، أمر يقتضى إجراء دستوريا تتخذه الدول فيإطار ممارستها للسيادة.


وفي هذه الحالة، فإنه يتعذر الوصول إلي هذاالمستوي من توحيد المواقف، نظرا إلي طبيعة النظام الإسلامي الإقليمي المتمثل فيميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي.


من هذا المنظور، فإن الأقرب إلي الإمكان وممايدخل في المستطاع، هو (تنسيق المواقف) الذي يعني تعبئة الجهود وتضافرها، وحشدالقوي وتعزيزها، والسعي بكل الوسائل الممكنة لتعميق التضامن الإسلامي، ولتوسيعنطاق التعاون في كل شأن من الشؤون العامة التي تتصل بحياة الشعوب الإسلامية، دونما

(21)



استثناء، وذلكتفعيلا لأهداف منظمة المؤتمر الإسلامي، وتوظيفا للإمكانات التي يوفرها العملالإسلامي المشترك للتعاون والتكامل وللتنسيق علي جميع المستويات.




العولمة الثقافية: مخاطرها ووسائل التعايش معها :


إذا كان العالم الإسلامي يوجد تحت تأثير ظاهرةالعولمة الثقافية، بالنظر إلي أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافيةوالعلمية والإعلامية التي هي دون ما نطمح إليه، فكيف يتسني له أن يواجه مخاطر هذهالعولمة ويقاوم تأثيراتها ويتغلب علي ضغوطها؟.


إن المقومات الثقافية والقيم الحضارية التي تشكلرصيدنا التاريخي، لن تغني ولن تنفع بالقدر المطلوب والمؤثر والفاعل في مواجهةالعولمة الثقافية، مادامت أوضاع العالم الإسلامي علي ما هي عليه، في المستوي الذيلا يستجيب لطموح الأمة. ولا يحسن بنا أن نستنكف من ذكر هذه الحقيقة، لأن فيإخفائها والتستر عليها، من الخطر علي حاضر العالم الإسلامي ومستقبله، ما يزيد منتفاقم الأزمة المركبة التي تعيشها معظم البلدان الإسلامية علي المستويات السياسيةوالاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية.


فالشعوب الضعيفة اقتصاديا والمتخلفة تنمويا،لا تملك أن تقاوم الضغوط الثقافية أو تصمد أمام الإغراءات القوية لتحافظ علي نصاعةهوياتها وطهارة خصوصياتها. ولذلك كان خط الدفاع الأول علي جبهة مقاومة آثارالعولمة الثقافية، هو النهوض بالمجتمعات الإسلامية من النواحي كافة، انطلاقا منالدعم القوي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، في موازاة مع العمل من أجل تقويةالاستقرار وترسيخ قواعده علي جميع المستويات، وذلك من خلال القيام بالإصلاحاتالضرورية في المجالات ذات الصلة الوثيقة بحياة المواطنين، بحيث بنتقل العالمالإسلامي من مرحلة الضعف والتخلف، إلي مرحلة القوة والتقدم، في إطار القيمالإسلامية وبروح الأخوة والسماحة والتعاون علي البر والتقوي طبقاً للتوجيه القرآنيالرشيد.


وكما أن ظاهرة العولمة الثقافية تتركب منمنظومة متكاملة من النظم السياسية والاقتصادية والاعلامية والتكنولوجية، فكذلك هيالمواجهة المطلوبة لآثار هذه العولمة،لابد وأن تكون قائمة علي أسس قوية، ومستندة إلي مبادئ

(22)



سليمة. ومن هناتأتي الأهمية القصوي للعمل الإسلامي المشترك، علي شتى الأصعدة وفي جميع القنوات،من أجل تعزيز التضامن الإسلامي حتي يكون القاعدة المتينة للتعاون بين المجموعةالإسلامية في كل الميادين، وفي سبيل تطور التنمية الشاملة في العالم الإسلامي،للرفع من مستوي الحياة بمحاربة الظلم والفقر والجهل والمرض، وبإشاعة الوعيالاجتماعي والثقافي الراقي، من خلال الاستثمار العلمي للموارد الاقتصاديةوالطبيعية والبشرية التي تتوافر لدى الشعوب الإسلامية، والتوظيف المخطط والمدروسللإمكانات والقدرات، والاستغلال الجيد للفرص المتاحة وللآفاق المفتوحة أمام العالمالإسلامي لتحقيق نقلة حضارية حقيقية.


إن تقوية الكيان الإسلامي اقتصادياً وعلمياًوتكنولوجياً وثقافياً وتربوياً، هي الوسيلة الأجدي والأنفع والأكثر تأثيراً للتغلبعلي الآثار السلبية للعولمة الثقافية، وللاستفادة أيضاً، من آثارها الإيجابية فيالوقت نفسه، من خلال التكيف المنضبط مع المناخ الثقافي والإعلامي الذي تشكلهتيارات العولمة الثقافية، والتعامل الواعي مع مستجداتها ومتغيراتها وثأثيراتها.وبدون هذه الوسيلة، سنضيع في مهب رياح العولمة، وتكتسحنا تياراتها العاصفةالجارفة.


ومما لاشك فيه أن الإجراءات المطلوباتخاذها في المدي القريب، أو تفعيل ما اتخذ منها حتي الآن، هي التي تشكل الموقفالإسلامي (المتناسق) تجاه العولمة، بالمفهوم الذي ألمعنا إليه آنفاً، وهو المفهومالذي يقوم علي التنسيق في السياسات، والتكامل بين الاختيارات، والتعاون فيالتطبيقات.


إن العالم الإسلامي في وضع متأزم عليمختلف الأصعدة، وبصورة خاصة علي الصعيدين السياسي والاقتصادي، وعلي صعيد إدارةالشأن العام ومعالجة الأزمات التي تعترض مسيرة التنمية في بلدانه. وليس من العقلولا من الرشد السياسي، أن نتجاهل هذه الحقائق، وأن نصدر في تحركاتنا وتصرفاتناوقراراتنا جميعاً، عن منطلقات وهمية لا تمت بصلة إلي واقع الحال.


وتلك هي رسالة منظمة المؤتمر الإسلامي،والمنظمات العاملة في إطارها، وفي المقدمة منها، المنظمة الإسلامية للتربيةوالعلوم والثقافة _ إيسيسكو_ التي نهضت بمسؤولياتها، فوضعت استراتيجيات متكاملةتشكل إطاراً للعمل الإسلامي

(23)



المشترك في مجالاختصاصاتها، وهي التربية والعلوم والثقافة، وهو الأمر الذى يعد بكل المقاييس،إنجازاً حضارياً غير مسبوق، وفر للعالم الإسلامي وسائل فعالة لتنسيق المواقفولتكامل السياسات وللتعاون في تنفيذها، علي النحو الذي يحقق المصالح العليا للأمةالإسلامية، ويكسبها القوة والقدرة للتعامل مع نظام العولمة.


ومن أجل أن نفهم البعد الفلسفي للعولمة فكرةومنهجاً ونظاماً، لابد لنا من أن نتوقف قليلاً عند الفكرة المحورية التي تروج فيعصرنا، وأقصد بها فكرة (صراع الحضارات)، التي إن استوعبناها بعمق، ووقفنا عليمصادرها ومضامينها، وفهمنا أبعادها، تيسر لنا أن نستوعب العولمة في أبعادهاجميعاً، وأمكن لنا الاستفادة منها علي النحو الذي تتحقق به مصالحنا الحيوية.




صراع الحضارات، هلهو حتمية؟


يطرح عدد من المفكرين الغربيين، خاصةالأمريكيين منهم، فكرة صراع الحضارات أو صدامها باعتبارها حتمية، وهم هنا يقعونفيما وقعت فيه نظرية الحتمية التاريخية، التي تهافتت وأصبحت من مخلفات التاريخالفكري للبشرية في القرنين التاسع عشر والعشرين. ويأتي صامويل هنتنغتون في مقدمةهؤلاء المفكرين،حيث أصدر في عام 1996م كتابه الشهير "صدام الحضارات وإعادةصنع النظام العالمي"، وفرانسيس فوكوياما الذي أصدر كتابه الشهير أيضاً"نهاية التاريخ".


والقول بحتمية صراع الحضارات أو صدامها،يجافي سنة التاريخ ويتعارض مع طبيعة الحضارة، فالحضارة لا طابع عرقي لها، وهى لا ترتبط بجنس من الأجناس، ولا تنتمي إليشعب من الشعوب، علي الرغم من أن الحضارة قد

(24)



تنسب إلي أمة منالأمم، أو إلي منطقة جغرافية من مناطق العالم علي سبيل التعريف ليس إلا، بخلافالثقافة التي هي رمز للهوية، وعنوان علي الذاتية، وتعبير عن الخصوصيات التي تتميزبها أمة من الأمم، أو يتفرد بها شعب من الشعوب.


والحضارة هي وعاء لثقافات متنوعة تعددتأصولها ومشاربها ومصادرها، فامتزجت وتلاقحت، فشكلت خصائص الحضارة التي تعبر عنالروح الإنسانية في إشراقاتها وتجلياتها، وتعكس المبادئ العامة التي هي القاسمالمشترك بين الروافد والمصادر والمشارب جميعاً.


ولكل حضارة مبادئ عامة تقوم عليها، تنبع منعقيدة دينية، أو من فلسفة وضعية، حتي وإن تعددت العقائد والفلسفات، فإن الخصائصالمميزة للحضارة، تستمد من أقوي العقائد رسوخا وأشدها تمكنا في القلوب والعقول ومنأكثرها تأثيراً في الحياة العامة، بحيث تصطبغ الحضارة بصبغة هذه العقيدة، وتنسبإليها، فتكون النسبة صحيحة، لصحة المبادئ التي تستند إليها، ومثال ذلك الحضارةالإسلامية.


والحضارة الكبرى التي عرفها تاريخ البشريةتتفاوت فيما بينها في موقفها من المادية والروحية، فمنها ما يغلب عليه الجانبالمادي، ومنها ما يغلب عليه الجانب الروحى، ومنها ما يسوده التوازن بينهما. فهيإذن، سلسلة متعاقبة من الحضارات التي تخلى كل واحدة منها المجال لما سوف يتلوها منحضارة أخرى، مما جعل كثيراً من الباحثين في مجال دراسة الحضارات يذهبون إلي القولبوجود التماثل والتطابق بين الكثير من هذه الحضارات. والتماثل والتطابق لا يدعانمجالاً للصراع.


ولذلك، فإن الحضارات لا تتصارع، وإنما تتدافعوتتلاقح ويكمل بعضها بعضا، وتتعاقب وتتواصل، لأنها خلاصة الفكر البشري والإبداعالإنساني وحركة التاريخ التي هي، في المفهوم الإسلامي، سنة الله في الكون. فالصراعبين الحضارات، ليس وارداً، لأن دورات التاريخ تطرد وفق المشيئة الإلهية، ولأن

(25)



التاريخ هو منصنائع الله، والإنسان الذي يؤثر في مسار التاريخ ويصوغه ويبدع فيه، هو من أكرم خلقالله.


والتدافع الحضاري مفهوم قرآني، وهو جامعللمعاني والدلالات التي تؤكد بطلان نظرية صراع الحضارات من الأساس. يقول اللهتعالي: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"، ويقول عز منقائل : "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجديذكر فيها اسم الله كثيراً". ويأمر الله عباده بالدفع بالتي هي أحسن في جميعالأحوال، في قوله تعالي: "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةكأنه ولي حميم"، ويقول عز وجل : "ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلمبما يصفون".


ودفع الله الناس بعضهم ببعض يلغي الصراعويبطل زعمه، لأن هذا (الدفع) هو الذي يمنع فساد الأرض ويحول دونه. وينبغي أن نتنبهفي هذا السياق إلي الفرق الدقيق بين (فساد الأرض) و (الفساد في الأرض)، فالمعنيالأول الوارد في الآية القرآنية الواحدة والخمسين بعد المائتين من سورة البقرة،ينصرف إلي فساد الأرض باختلال النظام الذي وضعه الخالق سبحانه لحياة البشر فوقها،الذي إذا اختل واضطرب، فسدت الأرض. وهذا مظهر من مظاهر الصراع، وهو الوضع الذيينتج عن احتدام الصراع بين الحضارات والثقافات. أما المعني الثاني وهو (الفساد فيالأرض) فهو ينصرف إلي الفساد الذي ينتج عن أفعال البشر، وهو من طبائع الأشياء.


والحياة الإنسانية قائمة علي أساس (دفعالله الناس بعضهم ببعض)، فهذا هو القانون الأزلي للبشر فوق الأرض، وهو سنة اللهولن تجد لسنة الله تبديلاً. وبذلك تتهاوي مزاعم الصراع، وتسقط افتراضاته، وتتهافتحتمياته.


وعلي هذا الأساس، فإن مصير الحضارات لم يكنعبر التاريخ كله، صراعاً وصداماً، ولكنه، من حيث الجوهر والعمق تدافعاً، وكاندائماً وبصورة مطردة، يسير في الاتجاه الصاعد إلي ازدهار الحياة بتراكم العطاءالحضاري في مختلف

(26)



مجالاته، وإليالرقي بالإنسان الذي استخلفه في الأرض لعمارتها، بينما الصراع يتجه نحو الإفساد فيالأرض.


ونخلص من هذا إلي أن صراع الحضارات ليسحتمية من حتميات التاريخ علي غرار فكرة صراع الطبقات التي ادعتها النظريةالماركسية، وكما يدعي المنظرون المعاصرون الذين يرسمون معالم سياسية الهيمنة والغطرسةوالقوة لقهر إرادات شعوب العالم. وقياساً علي ذلك فإن العولمة ليست قدراً مقدوراً،وما هي بحقيقة من حقائق التاريخ الثابتة.


التفاعل الحضاري هو البديل للصراع:


لقد كان لحيوية الحضارة الإسلامية وقوتهاالذاتية الدافعة لها إلي التطور والتقدم والإبداع، الأثر القوي في نقل روح المدنيةإلي العالم الغربي، بقوة دفع التفاعل الحضاري، وهو الأمر الذي يعترف به ويشهد له،معظم الكتاب والمؤرخين والمفكرين الأوروبيين الذين برئوا من الهوي والغرض، وكتبوابإنصاف عن خاصية التفاعل الحضاري في الحضارة الإسلامية. وهذا كرستوفر دوسن، يذهبفي كتابه (تكوين أوروبا)، إلي أن الحضارة الإسلامية احتفظت بمركز الصدارة منذأوائل العصور الوسطى فصاعداً، لا في الشرق فحسب، بل كذلك في غرب أوروبا، إذ نمتالحضارة الغربية في ظلال الحضارة الإسلامية التي هي أكثر منها رقياً وقتذاك، وكانتالحضارة الإسلامية العربية _لا البيزنطية _ هي التي ساعدت العالم المسيحي فيالعصور الوسطي علي استرداد نصيبه من التراث اليوناني العلمي والفلسفي.


ولعلنا لا نغالي إذا أكدنا هنا، علي أنالإسلام، وهو دعوة الله إلي الناس كافة، ورسالته _ سبحانه _ إلي العالمين، هو الدينالذي يدعو إلي التفاعل الحضاري دعوة صريحة قوية، ويحث عليه حثاً، علي اعتبار أنالحوار الذي نادي به الإسلام، هو في طبيعته وجوهره ورسالته، تفاعل حضاري، كما لانحتاج أن نقول.


إن قاعدة التسامح التي يقوم عليها الإسلام،فتحت أمام الأمة الإسلامية السبيل إلي الاحتكاك الواسع بالأمم والشعوب، وشجعتالحضارة الإسلاميه علي التفاعل مع الثقافات والحضارات جميعاً. ونعني بالتسامحالديني _تحديداً _ أن

(27)



تكون لكل طائفة فيالمجتمع الإسلامي، الحرية في تأدية شعائر دينها، وأن يكون الجميع امام قوانينالدولة الإسلامية سواء. وإذا نظرنا إلي الإسلام من حيث مبادئه وتعاليمه الأصلية،نجد أنه هو أرقي الأديان في تحقيق مبدأ التيسامح الذي هو القاعدة الأولي للتفاعلالحضاري.


إن التفاعل الحضاري يستند في مفهوم الفكرالإسلامي، إلي مبدأ التدافع الحضاري، لا الصراع الحضاري، وهو المبدأ القرآنيالمحض، الذي نجد له أصلاً في قوله تعالي : "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعضلفسدت الأرض"، ونقف علي معني آخر له في قوله تعالي : "ادفع بالتي هيأحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم".


فالتفاعل إذاً، في المنظور الإسلامي، هوعملية تدافع لا تنازع، وتحاور لا تناحر. والتفاعل حياة، والتصارع فناء. والتفاعلالحضاري عندنا، حوار دائم ومطرد، ينشد الخير والحق والعدل والتسامح للإنسانيةقاطبة، ولا يسعي في الأرض بفساد.


والتفاعل الحضاري يقي الإنسانية من (السقوطالحضاري) الذي تنتج عنه (أزمة الحضارة). وهذا هو مأزق الإنسان في العقد الأخير منالقرن العشرين وإلي اليوم، ويعتقد كبار فلاسفة التاريخ جميعهم في القرن الماضي، منازوالد شبغلر في كتابه (انحطاط الحضارة)، إلي أرنولد توينبي في كتابه (دراسةللتاريخ)، إلي بتريم سوروكين في كتابه (الدينا ميات الاجتماعية والثقافية وأزمةالعصر)، أن حضارة الغرب العلمانية الإنسانية السائدة رغم ثرائها المادي وجبروتهاالعسكري تعاني من آلام مبرحة، إذ فقدت القوي التي أدت إلي سيطرة هذه الحضارة قدرتهاعلي الاستقطاب، وها هي قوي التفكك والاضمحلال تتجاوز قوي التعاضد والتماسك،والمراسي التي ثبتت السفينة آخذة في التداعي، والقيم التي جمعت الناس معاً تعانيمن الاضطراب، ولم تعد العلل مقصورة علي قطاع واحد أو عدد قليل من القطاعات، بلأصبح نهر الحياة برمته ملوثاً.

(28)



وبالتدافع الحضاريينقي نهر الحياة والحضارة من التلوث الذي يفرزه الصراع والصدام وهيمنة الفكرالمادي العلماني اللاديني علي الأفكار والأقوال والأفعال والممارسات وأنماط السلوك ونظم الفكر وأساليب الحياة. ولذلك نقولإن التدافع الحضاري هو البديل للصراع.


ولا مندوحة من أن نأتي علي تبيانالمفهوم الإسلامي لصراع الحضارات، حتي تتبين لنا الخطوط العريضة للموضوع الذي نحنبصدده، وهو البحث عن مخارج آمنة للاستفادة من العولمة المفروضة علي العالمالإسلامي.




صراع الحضارات فيالمفهوم الإسلامي:


تقوم العلاقات الإنسانية في الرؤيةالإسلامية، علي أساس التعارف والتعاون علي البر والتقوي، من منطق وحدة الجنسالبشري ووحدة الأصل المنبثق عن المشيئة الإلهية. يقول الله تعالي في محكم تنزيله :"ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنأكرمكم عند الله أتقاكم" . والتعارف في المصطلح القرآني يتعدى المعني اللغويالمباشر، إلي معاني أعمق مفهوماً وأوسع دلالة. فلقد خلق الله الناس وجعلهم شعوباًشتي وقبائل متفرقة يسعون في الأرض من أجل غاية سامية قدرها الخالق سبحانه، هيالتعارف فيما بينها، الذي يرتقي إلي مستوي أعلي من (تبادل المعرفة) أو (تبادلالمعارف) بكل ما في المعنيين من دلالات لغوية ومعرفية وإنسانية عميقة. فكلما اتسعتمساحة المعرفة المتبادلة بين الشعوب والأمم، علي مختلف المستويات، ضاقت مساحةالخلاف وانزوي الاختلاف وتراجع وفقد القدرة علي التأثير السلبي الذي يلحق أقدحالأضرار بالمجتمعات الإنسانية.


أما التقوي التي هي القاعدة الثانيةللعلاقات الإنسانية والتي كلف الإنسان بها وبالدعوة إليها وبالتعاون عليها، فهيكما يقول الشيخ محمود شلتوت، يرحمه الله: "أما تقوي الله تعالي، فهي ترفع فيمعناها العام إلي اتقاء الإنسان كل ما يضره في نفسه وفي جنسه، وما يحول بينه وبينالمقاصد الشريفة والكمال الممكن في الدنيا والآخرة. والتقوي ليست خاصة بنوع منالطاعات، ولا بشئ من المظاهر، وإنما هي كما قلنا، اتقاء الإنسان كل ما يضره فينفسه وفي جنسه، وما يحول بينه وبين الكمال الممكن. ومن ثمرات التقوي حصول الفرقان_ ما يفرق به

(29)



المرء بين الخيروالشر والضار والنافع في هذه الحياة_، فالعلم الصحيح، والقوة، والعمل النافع،والخلق الكريم، وما إلي ذلك من آثار التقوي، والتقوي هي الشجرة والفرقان هوالثمرة".


فهذا المفهوم العميق والشامل للتقويالذي يجمع أطراف الخير ومكارم البر ووجوه الإحسان وفضائل الأعمال، هو الذي يؤكدأهمية التعاون الإنساني علي البر والتقوي. يقول تعالي: "وتعاونوا علي البروالتقوي ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان" ، فالتعارف يؤدي إلي التعاون عليالبر والتقوي وهما جماع الخير والمنافع للإنسانية في كل الأزمنة والأمكنة، بهماتتحقق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، أما الإثم والعدوان، فهما جماع الشروروالأضرار والتشوهات التي تلحق بالفطرة السوية، وتفضي إلي الحروب والنزعات، وتؤججنيران الصراع المدمر للحضارة الإنسانية.


و(التدافع الحضاري) في المفهوم الإسلامي، هو سنة الله في الكون، لا (الصراعالحضاري أو الصدام الحضاري). وليس يعني ذلك أن الحياة تسير وفق خط بياني صاعد ومطرد تتحقق فيه المصالح والمنافع للناسكافة في جميع الأحوال وتترقي ذواتهم، وأن الخير والشر لا يتصادمان، وإنما القصد منذلك أن التدافع يبطل الصراع، وأن الخير يغلب علي الشر، وأن الحضارات تتواصلوتتلاقح وتتدافع ولا تتصارع، وأن "الله متم نوره ولو كره الكافرون"،ونور الله في هذا السياق القرآني، هو المشيئة الإلهية، والإيمان بالله ونصرةالمؤمنين، وهو الخير والعدل والفضيلة ومكارم الأخلاق والسلام في النفس وفي الأرض،وتلك هي مقومات الحضارة التي تخدم الإنسان، مصداقاً لقوله تعالي : "واللهغالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وأمر الله في هذا السياق القرآني أيضا،هو مشيئته تعالي الغالبة، وهو الحق العدل اللذان هما قاعدتا الحضارة التي يسعدالإنسان في كنفها ويبدع ويعمر الأرض ويصلح ولا يفسد.


وفي المفهوم الإسلامي، فإن الصراع حالةعارضة، وهو شذوذ عن القاعدة، وليس طبيعة من طبائع الحضارات، لأنه يتنافى والفطرةالإنسانية، وهو نقيض

(30)


الثلاثاء 1 /10





















































hg,[d. tn hgk/l hgsdhsdm - ] kulhk hgo'df