انحياز كيسنجر لليهود على حساب مصالح أمريكا

بتصرف من كتاب مارتن إنديك عن السلام المتعثر بالشرق الأوسط وأسبابه

بعد أن خاض الديبلوماسي الأمريكي مارتن إنديك، في متاهة الشرق الأوسط ورمالها السياسية؛ أعياه الخوض، فقرر أن يتفرغ للبحث التاريخي لكي يتقصى حكاية هذا السلام الذي يتحدثون عنه، والذي بدا له عسير الولادة، أو إن أعراضه شبيهة بالحَمْل الكاذب!
توجه مارتن إنديك إلى هنري كيسنجر، وذهب الى الإرشيفات الحكومية الأمريكية، التي وجد فيها ـ حسب قوله ـ كمية هائلة من المواد التي شملت محاضر الإجتماعات بين المبعوثين الأمريكيين والأطراف العربية والإسرائيلية، وكذلك تفريغات ألوف المكالمات الهاتفية والبرقيات!
أجرى إنديك مع كيسنجر إثنتي عشرة مقابلة مطولة، لكي يؤلف كتابه بعنوان:"تاريخ مفاوضات هنري كيسنجر الدبلوماسية في الشرق الأوسط". ويقول إنديك، على لسان كيسنجر: أرسل الرئيس السادات الى كيسنجر، مستشاره للأمن القومي (يقصد حافظ إسماعيل دون تسميته) في مهمة للحث على التوجه الى السلام، وكان ذلك بعد ثمانية أشهر من وقف إطلاق النار. لكن غولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل في ذلك الوقت، كانت قد أبلغت الجانب الأمريكي أنها ترفض مسبقاً أية مبادرات سلمية أمريكية أو غيرها. فما كان من كيسنجر غير استغلال زيارة الضيف المصري، لكي يشتغل على منع تجدد الحرب وحَسبْ. ويضيف إنديك في كتابه أنه من خلال دراسة ديبلوماسية هنري كيسنجر، استهدى فكرة البحث عن كل شيء ما عدا السلام الذي كان يتحدث عنه أو يوحي بأنه معنيٌ به.
كان هدفه هو الوصول الى حال مستقرة، يُصار خلالها الى هيمنة الأمريكيين على المسار السياسي كله، في منطقة الشرق الأوسط. وكانت فكرة السلام بحد ذاتها عنده، ظلت في موضع شك وليس فيها جديّة، بل إن وجهة نظره، كانت معكوسة تماماً، بمعنى أن أي تسوية تدفع اليها عواطف مندفعة؛ يمكن أن تحقق نتائج سلبية، وبالتالي فإن السلام مشكلة وليس حلاً"!
ما كتبه إنديك هو الواقع، لأن كيسنجر كان صاحب ما يسمى تكتيك "الخطوة خطوة" وهذه حفظناها، لكننا لم نعرف الشرح الكامل لحقيقتها ومقاصدها، في ذهن قائد الديبلوماسية الأمريكية في ذلك الوقت!
كتاب إندك يشرح تكتيك كيسنجر بعد أكثر من أربعين سنة، ويقول إن هذا الرجل أقنع الإسرائيليين بأن يلعبوا بالأرض المحتلة قطعة قطعة، وإتباع أسلوب العرض أو الإيهام بالعرض المُفرّق أو القَطّاعي، والإبتعاد تماماً عن أسلوب الجُملة، وأن يكون لهذه اللعبة هدفان:
* الأول استهلاك الوقت لمد السنين وتوالي العقود،
* والثاني تفكيك الكُتل الجغرافية ـ السياسية، من حول إسرائيل والأراضي المحتلة، من خلال أنصاف أو أرباع تسويات منفردة، لإخراج لاعبين وازنين من حلبة الصراع.
قال كيسنجر لإنديك، أن تكتيكه كان يقوم على مبدأ أن الأراضي للوقت وليس للسلام، ولا أرض مقابل أي السلام. ولكي يأخذ هذا المبدأ مجراه، لن تدخر الديبلوماسية الأمريكية جهداً لإستنفاد العرب مع مرور الوقت، حتى يبلغ الإرهاق والضجر منتهاه، ويجعلهم يقبلون وجود إسرائيل ويتعايشون معها!
كان كيسنجر، قبل أكثر من أربعين سنة، يعتقد أن الأمر سيستغرق وقتاً طويلاً، وأن وزراء الخارجية الأمريكيين بعده، سيتعلمون اللعبة، ويتقدمون على طريق إنهاء عُزلة إسرائيل وزيادة قوتها، دون إيصالها الى مرفأ السلام.
لكن ما كشف عنه كيسنجر، وأظهر فيه حرصاً على إسرائيل أكثر من حرصها على نفسها، هو قوله لإنديك، إنه ذات يوم، أحيط علماً بمفاوضات سرية إسرائيلية أردنية، لإنجاز نسخة أخرى من اتفاق فك الإرتباط الذي أنجزه كيسنجر نفسه على الجبهة المصرية في يناير 1974. ويقول كيسنجر إنه أبلغ الإسرائيليين باستنكافه عن المشاركة في تلك المفاوضات السرية، حتى بعد أن طلب منه الملك حسين ذلك. وقال للجانب الإسرائيلي، "لن اضغط عليكم لكنني لن أشارك".
فقد كان يعلم أن الأردنيين ـ حسب قوله ـ يريدون مجرد موطيء قدم في الضفة، والإسرائيليون يريدون إنشاء إطارٍ لحل القضية الفلسطينية مع الأردن. ومعنى كلام كيسنجر آنذاك، أن الإسرائيليين غير مضطرين للإستعجال. فالضفة في أيديهم والوقت يجري لصالحهم، وليسوا في حاجة الى ترضية الملك حسين، ثم إن الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت، كانت مؤقتة، وعلى الرغم من ذلك، ظلت غولدا مائير حريصة على الإنخراط في سلسلة جولات من المفاوضات السرية.
وأيامها، قال كيسنجر لغولدا:"الأمر متروك لكِ، لن أضغط عليكِ، وفي الوقت نفسه لن أتورط".

وينقل إنديك عن كسينجر تهكمه على الساسة الإسرائيليين، وقوله:"إسرائيل ليس لديها سياسة خارجية، فكل ما لديها هو سياسة منزلية فقط. أما في تعاملها السياسي مع الولايات المتحدة، فهي تستخدم ورقة وحيدة دائماً، وهي اللعب على وتر السياسة الداخلية الأمريكية، والتلويح باحتمال انفلاتها في وجه الإدارة الأمريكية من خلال اللوبي اليهودي".
وهذا الذي جعل كيسنجر يقول لإنديك في إحدى المقابلات، ما معناه إن بايدن لن يذهب بعيداً في إزعاج إسرائيل. فإدارة بايدين يمكن أن تُعبّر عن موقف إنتقادي حول مسألة جزئية، لكنها لا تستطيع طرح مبادرة وتضغط في إتجاهها. وهي في كل الأحوال، لديها ما يشغلها من القضايا الدولية الأخرى!

يصدر كتاب مارتن إنديك، بعد أسبوع، وسيكون فيه الكثير مما في جعبة كيسنجر الذي تبقى له على المئة سنة في الحياة، أقل من عامين. فهو من مواليد فبراير 1923.



hkpdh. ;dsk[v ggdi,] ugn pshf lwhgp Hlvd;h