ابو عبد الله الواقدي شيخ المغازي

بقلم مارسدن جونس‌ محقق كتاب المغازي للواقدي

ولد أبو عبد اللّه محمد بن عمر الواقدي بالمدينة سنة 130 ه في آخر خلافة مروان ابن محمد، فيما يذكر تلميذه و كاتبه ابن سعد [1].

و قد ذكر الصفدي [2] و ابن تغرى بردى [3] أنه ولد سنة 129 ه. و يذكر أبو الفرج الأصفهانى أن أمه هي بنت عيسى بن جعفر بن سائب خاثر، التي كان والدها فارسيا [4].

و كان الواقدي مولى لبنى سهم، إحدى بطون بنى أسلم [5]، و ليس كما ذكر ابن خلكان من أنه كان مولى لبنى هاشم [6].

و لم تفض المصادر في أخبار الواقدي في بدء حياته، و لكن من الواضح أنه اجتهد منذ سن مبكرة في جميع المعلومات عن المغازي و السيرة النبوية.

روى ابن عساكر [7] فيما يذكر المسيبى: كان الواقدي يجلس إلى أسطوانة في مسجد المدينة، و سئل: أى شي‌ء تدرس؟ قال: جزئى من المغازي. و أورد الخطيب البغدادي نفس الخبر عن السمي

و قد أفاضت أكثر المراجع في ذكر عناية الواقدي بجمع التفاصيل عن الأخبار و الأحاديث و الروايات المختلفة، و أشادت بجهوده فى هذا السبيل.

روى ابن عساكر، و الخطيب البغدادي، و ابن سيد الناس [1] عن الواقدي أنه قال: ما أدركت رجلا من أبناء الصحابة و أبناء الشهداء، و لا مولى لهم إلا سألته:

هل سمعت أحدا من أهلك يخبرك عن مشهده و أين قتل؟ فإذا أعلمنى مضيت إلى الموضع فأعاينه، و لقد مضيت إلى المريسيع فنظرت إليها، و ما علمت غزاة إلا مضيت إلى الموضع حتى أعاينه.

و قد رويت أخبار مشابهة عن هارون الفروى، قال: رأيت الواقدي بمكة و معه ركوة، فقلت: أين تريد؟ قال: أريد أن أمضى إلى حنين، حتى أرى الموضع و الوقعة [2].

و يشهد لنباهة الواقدي في هذا الشأن ما ذكر من أن هارون الرشيد، و يحيى بن خالد البرمكي- حين زارا المدينة في حجّهما- طلبا من يدلهما على قبور الشهداء و المشاهد، فدلوهما على الواقدي الذي صحبهما في زيارتهما، و لم يدع موضعا من المواضع و لا مشهدا من المشاهد إلا مرّ بهما عليه [3].

و كان لقاء الواقدي بيحيى بن خالد خيرا و بركة على الواقدي، و قد ظلت هذه الصّلة بينهما حتى بعد نكبة البرامكة [4]. و قد صرف الواقدي المنحة التي منحه إياها هارون الرشيد- و قدرها عشرة آلاف درهم- فى قضاء ديون كانت قد تراكمت عليه، كما أنفق منها على زواج بعض ولده، و بقي في يسر وسعة [5].

و قد أجمعت كل المصادر التي ترجمت للواقدي على أنه كان جوادا كريما معروفا بالسخاء، مما سبّب له اضطرابا ماديا، ظلّ يعانى منه طول حياته.

شخوصه إلى العراق:

و في سنة 180 ه غادر أبو عبد اللّه المدينة إلى العراق [1]. فيروى الخطيب البغدادي أن الواقدي قال: كنت حناطا (بائع حنطة) بالمدينة، فى يدي مائة ألف درهم للناس أضراب بها، فتلفت الدراهم، فشخصت إلى العراق، فقصدت يحيى بن خالد [2]. أما ابن سعيد فيقول: إنه ذهب إلى العراق في دين لحقه [3].

و يبدو أن السبب الحقيقي لنزوحه إلى العراق هو رغبته في لقاء يحيى بن خالد البرمكي، حيث جذبت شخصية الواقدي اهتمام يحيى حين التقيا في الحج بالمدينة، فكأنما أراد الواقدي أن يخرج بعلمه و آماله إلى مجال أرحب، حيث الأضواء تتألق فى بغداد، لؤلؤة الرشيد. و يؤيد هذا ما يذكره ابن سعد في معرض آخر فيقول عن الواقدي: ثم إن الدهر أعضّنا، فقالت لى أم عبد اللّه: يا أبا عبد اللّه، ما قعودك و هذا وزير أمير المؤمنين قد عرفك و سألك أن تسير إليه حيث استقرّت به الدار، فرحلت من المدينة [4]. و عند وصوله إلى بغداد، وجد الخليفة و البلاط قد انتقلوا إلى الرقة بالشام، فأزجى مطيته نحو الشام، و لحق بهم هناك [5]. فتلقاه يحيى بن خالد بما عرف عن البرامكة من سماحة و أريحية.

و في رحاب البرامكة أقبل الخير على الواقدي من كل وجه، فعطاياهم له موصولة بعطايا الرشيد و ابنه المأمون. يحدّثنا الواقدي فيقول: صار إلىّ من السلطان ستمائة ألف درهم، ما وجبت علىّ فيها الزكاة [6]. و يرجع الواقدي من الرقة إلى بغداد، و يبقى فيها حتى يعود المأمون من خراسان، و يجعله قاضيا لعسكر المهدى في الجانب الشرقي من بغداد، فيما يذكر ابن سعد
أما ابن خلكان، فينقل عن ابن قتيبة، أنّ الواقدي توفى و هو قاض بالجانب الغربي من بغداد [1]. و قد ناقش هوروفتس هذا الرأى، مخطئا ابن خلكان، فيقول: إنه- أى ابن خلكان- قد أخطأ في فهم قول ابن قتيبة. و نصّه:

و توفى الواقدي سنة سبع و مائتين، و صلى عليه محمد بن سماعة التميمي، و هو يومئذ قاض على الجانب الغربي. و واضح من هذا النصّ أن الذي كان قاضيا على الجانب الغربي من بغداد هو محمد بن سماعة، و ليس الواقدي [2].

و ليس ثمة شك في أن الواقدي توفى و هو قاض على الجانب الشرقىّ ببغداد، على أنه كان قد أقام مدة في الجانب الغربي قبل أن يوليه المأمون قاضيا على عسكر المهدى، كما أجمعت مصادر عدة على ذلك. و لما انتقل الواقدي من الجانب الغربي يقال إنه حمل كتبه على عشرين و مائة وقر [3].

أما ياقوت [4] فيذكر أن هارون الرشيد قد ولى الواقدي القضاء بشرقىّ بغداد قبل أن يوليه المأمون قضاء عسكر المهدى. و هذا أقرب إلى الصواب، فليس من المعقول أن تتأخر تولية الواقدي القضاء حتى يرجع المأمون من خراسان و يوليه، فقد كان الواقدي على صلة طيبة بهارون الرشيد.

و على الرغم من صلة الصداقة المعقودة بين الواقدي و يحيى بن خالد و البرامكة، فإن ذلك لم يمنع المأمون من توليته القضاء، بل كرمه و رعاه بعد نكبة البرامكة [5]. و قد ذهب المأمون في تكريم الواقدي إلى أبعد من هذا، إذ ولّاه منصبا يتمتع فيه بقوّة السلطان و النفوذ. فيصف ابن حجر العسقلاني الواقدي بأنه أحد الأعلام، و قاضى العراق و بغداد [6]. و يورد السهمي في أثناء ترجمة الأشعث بن هلال قاضى جرجان، أن‌
الواقدي ولّاه القضاء من بغداد [1]. و أخيرا يتربع الواقدي على قضاء عسكر المهدى مدّة أربع سنوات قبل وفاته [2].

و على الرّغم من الصلات و الأعطيات التي أغدقها هارون الرشيد و وزيره يحيى و ابنه المأمون على الواقدي فإنه توفى و لم يكن يملك ما يكفن به، فأرسل المأمون بأكفانه [3]. و كان الواقدي قد أوصى إلى المأمون فقبل وصيته و قضى دينه [4].

وفاته:

اختلف في تاريخ وفاته، فابن خلكان [5] يذكر أنه توفى سنة 206 ه.

و تذكر مصادر أخرى و منها طبقات ابن سعد أنه توفى فى ذى الحجة سنة 207 ه [6] و يروى الخطيب البغدادي بسنده عن عبد اللّه الحضرمي أن الواقدي توفى سنة 209 ه [7].

و إذا كان لنا أن نرجح إحدى هذه الروايات، فأولاها بالقبول الرواية الثانية، التي ذكرها ابن سعد، و ذلك لتلمذته له و قربه منه و كتابته له، ثم لتحديده ليلة الوفاة و يوم الدفن من الشهر و السنة إذ يقول: مات ببغداد ليلة الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ذى الحجة سنة سبع و مائتين، و دفن يوم الثلاثاء في مقابر الخيزران، و هو ابن ثمان و سبعين سنة [8]. و هذا بالإضافة إلى ورودها في أغلب المصادر.

كتب الواقدي:

كان الواقدي يجتهد في جمع الأحاديث. و قد بلغ ما جمعه منها على ما يرويه على بن المديني عشرين ألف حديث [1]. و يروى ابن سيد الناس عن يحيى بن معين: أغرب الواقدي على رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه و سلم )في عشرين ألف حديث.

و قد روينا عنه من تتبعه آثار مواضع الوقائع، و سؤاله من أبناء الصحابة و الشهداء و مواليهم عن أحوال سلفهم، ما يقتضى انفرادا بالروايات، و أخبارا لا تدخل تحت الحصر [2].

و يقول ابن النديم: إنه كان عنده غلامان يعملان ليلا و نهارا في نسخ الكتب.

و قد ترك عند وفاته ستمائة قمطر من الكتب يحتاج كل منها إلى رجلين لحمله [3].

و واضح أن الواقدي قد صرف عنايته للعلوم الإسلامية بعامة، و للتاريخ منها بخاصة. يقول إبراهيم الحربي: إنه كان أعلم الناس بأمر الإسلام. قال: فأما فى الجاهلية فلم يعلم فيها شيئا [4].

و يتجلى هذا في وصف كاتبه و تلميذه ابن سعد و غيره له. يقول ابن سعد:

و كان عالما بالمغازى، و السيرة، و الفتوح، و اختلاف الناس في الحديث، و الأحكام، و اجتماعهم على ما اجتمعوا عليه، و قد فسر ذلك في كتب استخرجها و وضعها و حدّث بها [5].

أما المصادر التي ذكرت كتبه، فإننا نورد كتبه هنا حسبما جاءت في الفهرست لابن النديم [6]، مع المقارنة بغيره من المصادر:

1- كتاب التاريخ و المغازي و المبعث.

2- كتاب أخبار مكة
3- كتاب الطبقات.

4- كتاب فتوح الشام.

5- كتاب فتوح العراق.

6- كتاب الجمل.

7- كتاب مقتل الحسين.

8- كتاب السيرة.

9- كتاب أزواج النبي.

10- كتاب الردّة و الدّار.

11- كتاب حرب الأوس و الخزرج.

12- كتاب صفيّن.

13- كتاب وفاة النبي.

14- كتاب أمر الحبشة و الفيل.

15- كتاب المناكح.

16- كتاب السقيفة و بيعة أبى بكر.

17- كتاب ذكر القرآن.

18- كتاب سيرة أبى بكر و وفاته.

19- كتاب مراعى قريش و الأنصار في القطائع، و وضع عمر الدواوين، و تصنيف القبائل و مراتبها و أنسابها.

20- كتاب الرغيب في علم القرآن و غلط الرجال.

21- كتاب مولد الحسن و الحسين و مقتل الحسين.

22- كتاب ضرب الدنانير و الدراهم.

23- كتاب تاريخ الفقهاء.

24- كتاب الآداب.
25- كتاب التاريخ الكبير.

26- كتاب غلط الحديث.

27- كتاب السنة و الجماعة، و ذم الهوى، و ترك الخوارج في الفتن.

28- كتاب الاختلاف.

و يتفق هذا مع ما أورده ياقوت في كتابه معجم الأدباء [1]، مع الاختلاف الآتي:

1- الكتاب رقم 6 يذكره باسم «كتاب يوم الجمل».

2- الكتاب رقم 19 لم يذكر فيه العبارة الأخيرة، و هي «و تصنيف القبائل و مراتبها و أنسابها».

3- الكتاب رقم 20 يذكره باسم «كتاب الترغيب في علم القرآن».

4- الكتاب رقم 21 يذكره على أنه كتابان، أحدهما «مولد الحسن و الحسين» و الآخر «مقتل الحسين».

5- الكتاب رقم 22 يذكره باسم «السنة و الجماعة و ذم الهوى».

و كذلك أورد الصفدي أسماء كتبه مع الاختلاف الآتي [2]:

1- لم يذكر الصفدي الكتابين رقم 8 و هو «كتاب السيرة»، و رقم 12 و هو «كتاب صفين».

2- الكتاب رقم 11 أورده باسم «حروب الأوس و الخزرج».

3- الكتاب رقم 18 أورده باسم «ذكر الأذان».

4- الكتاب رقم 19 لم يذكر فيه العبارة الأخيرة و هي «و تصنيف القبائل و مراتبها و أنسابها» كما لم يفعل ياقوت.
5- الكتاب رقم 20 أورده باسم «كتاب الترغيب في علم المغازي و غلط الرجال» 6- الكتاب رقم 21 ذكره باسم «كتاب مولد الحسن و الحسين و مقتله».

7- الكتاب رقم 22 ذكره باسم «كتاب ضرب الدنانير».

8- الكتاب رقم 28 ذكره باسم «كتاب اختلاف أهل المدينة و الكوفة في أبواب الفقه».

و قد أورد صاحب كشف الظنون- فيما يذكره عنه صاحب هدية العارفين- هذه الكتب جميعا مع فارق بسيط جدا في بعض الأسماء و لم يزد عليها سوى كتاب واحد هو «تفسير القرآن» [1] و لعله هو الذي ذكره ابن النديم باسم «كتاب ذكر القرآن».

و من مجموع تصانيف الواقدي هذه كتابان لا نشك في نسبتهما إليه هما «كتاب المغازي»، و «كتاب الردّة»، على أن نقولا من كتبه الأخرى وجدت فى التآليف المتأخرة.

و إذا تأملنا عنوان الكتاب الأوّل كما يذكره ابن النديم و هو «كتاب التاريخ و المغازي و المبعث» يبدو لنا لأوّل وهلة أن «كتاب المغازي» جزء من كتاب ضخم يتضمن التاريخ و المغازي و المبعث، على نسق سيرة ابن إسحاق.

فابن سعد ينقل أحيانا عن الواقدي أخبارا تتعلق بما كان قبل البعثة [2].

أما الطبري فيعتمد على الواقدي في ذكر بعض الأخبار كغزو الأحباش لليمن مثلا، و وفاة عبد اللّه بن عبد المطلب [3].

و حين يتحدّث ابن كثير عن التبايعة لا يعتمد على الواقدي، و لكنه ينقل عن ابن إسحاق، و حين ينقل ابن كثير عن الواقدي أخبارا تتعلق بما قبل البعثة،

حول تشيع الواقدي:

لعل وجود كتابين للواقدي، أحدهما فى مولد الحسن و الحسين و مقتل الحسين، و الآخر فى مقتل الحسين خاصة، يوهم أنه كان شيعيا، كما ذكر ابن النديم، منفردا بهذا الرأى دون غيره، حيث يقول: و كان يتشيع، حسن المذهب، يلزم التقية، و هو الذي روى أن عليا (عليه السلام) كان من معجزات النبي صلّى اللّه عليه و سلم، كالعصا لموسى (عليه السلام)، و إحياء الموتى لعيسى بن مريم (عليه السلام) و غير ذلك من الأخبار [4].

و قد نقل صاحب أعيان الشيعة هذا القول عن ابن النديم، مستدلا به على تشيعه، و من ثم ترجم له [5]. و كذلك ذكره آغا بزرك الطهراني [6]، حين تحدّث عن تاريخ الواقدي.
على أنه مما يثير الدهشة أن الطوسي- و هو معاصر لابن النديم- لم يذكر الواقدي فى كتابه «الفهرس» و لم يذكر كتابا من كتبه و خاصة تلك التي تتعلق بمولد الحسن و الحسين و مقتل الحسين، على أهمية هذا الأمر الذي شغل جميع علماء الشيعة و مؤرخيهم و جامعى أخبارهم.

و لو سلمنا لابن النديم أن الواقدي كان يلزم التقية، فإن تشيعه كان لا بد أن يظهر على نحو مّا عند الحديث عن على أو فى الرواية عنه، و لكن شيئا من ذلك لم يحدث. بل على النقيض من ذلك نرى الواقدي يذكر أحاديث قد تحط من قدر على أو تهون من شأنه على الأقل، فحين يصف رجوع النبي إلى المدينة من أحد، يذكر أن فاطمة مسحت الدم عن وجه النبي،

و ذهب علىّ إلى المهراس ليأتى بماء، و قبل أن يمشى ترك سيفه و قال لفاطمة: أمسكى هذا السيف غير ذميم. و لما أبصر النبي سيف علىّ مختضبا قال: «إن كنت أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت، و الحارث بن الصمة، و سهل بن حنيف، و سيف أبى دجانة غير مذموم» [1].

و حين نقرأ عدد القتلى من قريش يوم بدر عند ابن إسحاق مثلا نرى أن عليا قد قتل طعيمة بن عدىّ [2]، و لكن الواقدي يذكر أن الذي قتله هو حمزة و ليس عليا [3].

و نرى الواقدي أيضا حين يذكر قتل صؤاب يوم أحد، و اختلاف الأقوال فيمن قتله، يقول: فاختلف فى قتله، فقال قال: سعد بن أبى وقاص، و قائل: علىّ، و قائل: قزمان، و كان أثبتهم عندنا قزمان [4].

و أهم من كل ذلك ما ينقله الشيعة أنفسهم، كابن أبى الحديد مثلا فى كتابه، حين ينقل فقرة طويلة عن الواقدي، ثم يورد فيها رواية أخرى مختلفة عن الأولى، و يبدؤها بقوله: و فى رواية الشيعة [5]، مما يدل دلالة قاطعة على أن ابن أبى الحديد لم يعتبر الواقدي مصدرا شيعيا، أو يمثل رأى الشيعة على الأقل.
و من الطريف أن يلاحظ أن ابن إسحاق يتهم هو الآخر بميوله الشيعية و القدرية [1]. و يبدو لنا أن السبب فى اتهام الواقدي و ابن إسحاق بالتشيع لا يرجع إلى عقيدتهما الشخصية، و إنما يرجع إلى ما ورد فى كتابيهما من الأقوال و الآراء الشيعية التي يعرضانها، و ليس ذلك عن عقيدة صحيحة فيها، مما تقتضيه طبيعة التأليف فى مثل هذه الموضوعات.

و لعل السبب فى وصف الواقدي خاصة بأنه يتشيع يرجع إلى ما أورده فى بعض مواضع من كتابه حين يأتى إلى جماعة من الصحابة، و منهم بعض الخلفاء الراشدين، فيذكر مثلا عمر و عثمان فى عبارات لا تضعهما فى مكانتهما المرموقة. فمثلا فى المخطوطة التي اتخذناها أصلا لهذه النشرة نرى قائمة بمن فر عن النبي يوم أحد، تبدأ بهذه الكلمات «و كان ممن ولى فلان، و الحارث بن حاطب و ثعلبة بن حاطب، و سواد بن غزية، و سعد بن عثمان، و عقبة بن عثمان، و خارجة بن عامر، بلغ ملل، و أوس بن قيظى فى نفر من بنى حارثة» [2]، بينما نرى النص عند ابن أبى الحديد عمر و عثمان، بدلا من فلان، و يروى البلاذري عن الواقدي عثمان، و لا يذكر عمر [3].

و يظهر بوضوح أن النص فى المخطوطة الأم كان يذكر عثمان و عمر، أو عمر وحده، أو عثمان وحده، ممن ولوا الأدبار يوم أحد. و لكن الناسخ لم يقبل هذا فى حق عمر أو عثمان، فأبدل اسميهما أو اسم أحدهما بقوله: فلان. و لا شك أن نص الواقدي الأصلى وقع فى أيدى طائفة من الشيعة و قرأوا فيه هذه الأخبار التي أوردها فى حق عمر و عثمان مثلا، فاعتقدوا أنه شيعى قطعا.

و فى ضوء ما تقدم من الحجج تظل عبارات ابن النديم عن تشيع الواقدي قاصرة عن أن تنهض دليلا على تشيعه، و ستظل تفتقر إلى دعائم أخرى تؤيدها، و خاصة من نصوص الواقدي نفسه.


تقييم كتاب المغازي
قدم لنا الواقدي كتابه المغازي، الذي يمثل الصورة الأخيرة من مراحل تطور السيرة النبوية فى القرنين الأول و الثاني للهجرة. و هو لم يرو عن الزهري مباشرة و لكنه اعتمد- فى الأغلب- على الرواة الذين رووا الأخبار عن الزهري، و مما يجدر ذكره أن الشخص الوحيد الذي لم يتعرض الواقدي لذكره من بين تلامذة الزهري، هو ابن إسحاق. و لهذا السبب- أى عدم ذكر الواقدي له- و بسبب التشابه الكبير بين فقرات كتاب السيرة لابن إسحاق و كتاب المغازي للواقدي، زعم هوروفتس [2] و فلهوزن [3] أن الواقدي قد سطا على ابن إسحاق دون عزو إليه، بل إن هوروفتس قد ذهب فى زعمه إلى أبعد من هذا، فهو يرى أن لفظة «قالوا» فى مغازي الواقدي بدلا من الإسناد تدل على ذلك السطو [4].

و زعم هوروفتس هذا قائم على حجة واهية، ذلك لأنه لم يتنبه إلى الطريقة المتبعة عند بعض المحدثين و المؤرخين الأوائل و هي جمع الرجال فى الأسانيد عند الأخبار، و لم يكن الواقدي وحده هو الذي استعمل هذه الطريقة، فقد سئل إبراهيم الحربي عما أنكره أحمد بن حنبل على الواقدي فقال: إنما أنكر عليه جمعه الأسانيد و مجيئه بالمتن واحدا. و قال إبراهيم: ليس هذا عيبا فقد فعل هذا الزهري و ابن إسحاق [5].

و قد فندت زعم سطو الواقدي على ابن إسحاق فى مقالة لى أفردتها لهذه المسألة، و لا أريد أن أكرر هنا الحجج التي ذكرتها فى تلك المقالة فليرجع إليها من شاء و من المحتمل- فى هذا الصدد- أن يكون الواقدي قد أعرض عن الرواية عن ابن إسحاق نظرا لعدم توثيق علماء المدينة له.

و لكن الرأى الراجح عندنا فى هذا الترك هو أن ابن إسحاق ترك المدينة قبل أن يولد الواقدي. و كان اللقاء الشخصي بين الرواة من أقوى المظاهر فى تطور السيرة فى القرنين الأول و الثاني للهجرة. و الدليل على ذلك- كما ذكرنا من قبل- ما أورده ابن حجر فى ترجمة ابن إسحاق بقوله: و كان خرج من المدينة قديما ... و رواته- أى ابن إسحاق- من أهل البلدان أكثر من رواته من أهل المدينة، لم يرو عنه منهم غير إبراهيم بن سعد [1].

حقا إن أكثر النقاد من المحدثين الأوائل كانوا يضعفون الواقدي فى الحديث، فقد قال البخاري، و الرازي، و النسائي، و الدارقطني: إنه متروك الحديث. و لكن آراء المحدثين لم تكن ضد الواقدي بالإجماع، فإن منهم من وصفه بأوصاف لا تقل قدرا عما وصف به الثقات، فقد وصفه الحافظ الدراوردي بأنه: أمير المؤمنين فى الحديث. و قال يزيد بن هارون: الواقدي ثقة. و وثقه أبو عبيد القاسم بن سلام، و كذلك أبو بكر الصغاني، و مصعب الزبيري، و مجاهد بن موسى، و المسيب، و إبراهيم الحربي [2].

و مع أن أغلب العلماء ينكرونه فى الحديث، فإنه- بغير شك- يعتبر إماما فى المغازي. قال ابن النديم: كان عالما بالمغازى و السير و الفتوح و اختلاف الناس فى الحديث و الفقه و الأحكام و الأخبار [3].

و بمثل ذلك ذكره ابن سعد [4]. و قال إبراهيم الحربي: الواقدي آمن الناس على أهل الإسلام [5]. و نجد فى تاريخ بغداد أقوالا تدل على عظم قدر الواقدي فى علم المغازي و السير.
و يبدو واضحا للقارئ الحديث أن من أهم السمات التي تجعل الواقدي فى منزلة خاصة بين أصحاب السير و المغازي تطبيقه المنهج التاريخى العلمي الفنى، فإننا نلاحظ عند الواقدي- أكثر مما نلاحظ عند غيره من المؤرخين المتقدمين- أنه كان يرتب التفاصيل المختلفة للحوادث بطريقة منطقية لا تتغير. فهو مثلا يبدأ مغازيه بذكر قائمة طويلة من الرجال الذين نقل عنهم تلك الأخبار، ثم يذكر المغازي واحدة واحدة مع تأريخ محدد للغزوة بدقة، و غالبا ما يذكر تفاصيل جغرافية عن موقع الغزوة، ثم يذكر المغازي التي غزاها النبي بنفسه و أسماء الذين استخلفهم على المدينة أثناء غزواته، و أخيرا يذكر شعار المسلمين فى القتال، كل ذلك بالإضافة إلى وصفه لكل غزوة بأسلوب موحد، فيذكر أولا اسم الغزوة و تأريخها و أميرها، و يكرر فى بعضها اسم المستخلف على المدينة و تفاصيل جغرافية مما كان قد ذكرها فى مقدمة الكتاب.

و فى أماكن كثيرة يقدم لنا الواقدي قصة الواقعة بإسناد جامع- أى يجمع الرجال و الأسانيد فى متن واحد.

و إذا كانت الغزوة قد نزل فيها آيات كثيرة من القرآن، فإن الواقدي يفردها وحدها مع تفسيرها و يضعها فى نهاية أخبار الغزوة.

و فى المغازي الهامة يذكر الواقدي أسماء الذين شهدوا الغزوة و أسماء الذين استشهدوا أو قتلوا فيها. و من اليسير أن نستدل على فطنة الواقدي و إدراكه كمؤرخ من المنهج الموحد الذي يستعمله.

و إن ما أورده فى الكتاب من التفاصيل الجغرافية ليوحى بجهده و معرفته للدقائق فى الأخبار التي جمعها فى رحلته إلى شرق الأرض و غربها طلبا للعلم و ذلك أيضا دليل على أحقيته فى هذا الميدان بما وصفناه به [1].

و قد تبعه فى اهتمامه بهذه التفاصيل الجغرافية كاتبه و تلميذه محمد بن سعد، بل نراه يزيد على تلك التفاصيل التي عند أستاذه الواقدي.

و جدير بالذكر أن هذه التفاصيل الجغرافية التي أوردها الواقدي تعتبر بحق‌ المرحلة الأولى فى الأدب الجغرافى العربي، إن لم تكن اللبنات و الأسس التي بنى عليها كل من جاء بعده مثل ابن سعد، و البلاذري، و من تلاهما فى التأليف لكتب الفتوح و البلدان.

و من أهم الخصائص المميزة لمغازى الواقدي هي النظام المتكامل للتواريخ.

و كثير من المغازي غير المؤرخة عند ابن إسحاق مثل غزوة الخرار، و قتل أسماء بنت مروان، و قتل أبى عفك، و غزوة بنى قينقاع، و قتل كعب بن الأشرف، و سرية قطن، و غزوة دومة الجندل، و قتل سفيان بن خالد بن نبيح، و غزوة القرطاء، و سرية الغمر، و سرية ذى القصة، و غزوة بنى سليم، و سرية الطرف، و سرية حسمى، و سرية الكديد، و سرية ذات أطلاح، و غزوة ذات السلاسل، و سرية الخبط، و سرية خضرة، و سرية علقمة بن مجزز، و سرية على بن أبى طالب إلى اليمن، لها كلها عند الواقدي تأريخ معين محدد و ذكر خاص.

قلنا إن منهج الواقدي متكامل فى التأريخ للحوادث بصورة أكمل منها عند ابن إسحاق، و لكنه يجب علينا- تحريا للإنصاف- أن نتقبله بحذر فى ذكر تأريخ بعض الحوادث، و هاكم الأمثلة:

(1) نرى الاختلاف فى نص تأريخ مقتل كعب بن الأشرف. قال الواقدي:

إن محمد بن مسلمة خرج إليه- أى إلى كعب- فى ليلة أربع عشرة من ربيع الأول على رأس خمسة و عشرين شهرا من الهجرة [1] و مشى معه النبي حتى أتى البقيع [2] (ب) و لكن فى قصة ذى أمر يزعم الواقدي أن النبي قد خرج من المدينة إلى غطفان يوم الخميس لثنتى عشرة خلت من ربيع الأول، و لا يمكن أن يرافق النبي محمد بن سلمة فى الطريق بعد خروجه بيومين.

(ح) و نجد أيضا تأريخين لغزوة بحران فى مخطوطتين من المغازي للواقدي، ففي إحداهما جمادى الأولى و فى الثانية جمادى الآخرة
(د) أرّخ الواقدي غزوة الرّجيع فى صفر على رأس ستة و ثلاثين شهرا من الهجرة [1] و ذكر أن الهجوم على المسلمين فى تلك الغزوة كان عقب مقتل سفيان ابن خالد بن نبيح الهذلىّ، و لكن فى مكان آخر أرّخ مقتل سفيان بن خالد بن نبيح على رأس أربعة و خمسين شهرا [2].

(ه) و نجد اختلافا آخر فى تفاصيل التأريخ عند الواقدي فى قصة غزوة القرطاء. قال محمد بن مسلمة: خرجت فى عشر ليال خلون من المحرم على رأس خمسة و خمسين شهرا [3]. و لكن الواقدي يقول فى مكان آخر: أربعة و خمسين شهرا [4].

(و) و فى خبر سرية الميفعة التي أرخها الواقدي فى رمضان سنة سبع [5] ذكر يسارا مولى النبي مع أنه نفسه وصف قتل يسار فى شوال سنة سبع [6].

(ز) ذكر الواقدي فى أول خبر غزوة بنى لحيان أن النبي خرج من المدينة فى هلال ربيع الأول سنة ست [7]، و لكنه فى نهاية القصة أرخها فى المحرم سنة ست [8]، و فى تلك الغزوة قال إن خبيب بن عدىّ كان يومئذ فى أيدى قريش بمكة، مع أنه وصف قتل خبيب فى خبر غزوة الرجيع، التي أرخها فى صفر سنة أربع [9].

و على الرغم من هذه الاختلافات فى التواريخ، فإننا نجدها أدق و أثبت بعامة فى نظامها من التواريخ المماثلة فى كتب السيرة الأخرى [10]. هذا فضلا عما انفرد به الواقدي حين يعرض فى مغازيه الأخبار الكثيرة التي لا نجدها عند غيره، مثل وصفه‌ للسرية الأولى إلى ذى القصة [1]، و سرية أبى بكر إلى نجد [2]، و السريتين إلى ميفعة [3] و ذات أطلاح [4].

أضف إلى ذلك الإسهاب فى التفصيل و الدقة فى الترتيب عند سرده للحوادث المشهورة، مثل أحد، و الطائف، بأكثر و أحسن مما هو مذكور فى المراجع الأخرى للسيرة.

كما يلقى الواقدي أيضا الضوء على مشاهد كثيرة من الحياة فى فجر الإسلام، مثل الزراعة، و الأكل، و الأصنام، و العادات فى دفن الموتى، و على تكوين و تنظيم العيرات، و بالجملة على جميع مظاهر الحياة فى المجتمع الإسلامى فى الفترة بين الهجرة و موت النبي.

و مما يزيد فى قيمة هذه الأخبار أن الواقدي يذكر بكل وضوح أنه كان يتبع منهجا نقديا واعيا فنيا فى اختيار و تنظيم أخباره، ثم لا يلبث أن يذكر آراءه و أفكاره عن الأخبار التي كان يسجلها، و كثيرا ما يقول مثلا: «و هو المثبت»، «و الثابت عندنا»، «و المجتمع عليه عندنا»، «و لا اختلاف عندنا»، «و القول الأول أثبت عندنا»، «و هو أثبت»، «و هذا الثبت عندنا»، «و مجمع عليه لا شك فيه» إلى غير ذلك من العبارات التي تبرز رأيه الصريح فى تقويم تلك الأخبار.

و التعبير بمثل العبارات السابقة فى المغازي للواقدي شائع جدا فى أسلوبه إلى حد لم نره عند غيره من المؤلفين الأولين، حتى البلاذري الذي توفى بعد الواقدي بسبعين سنة، لا يقدم آراءه الشخصية فى متن أخباره كما فعل الواقدي.

و على الرغم مما ذكرت من آراء نقدية مثل الاختلاف الواقع فى بعض تواريخ الحوادث، فلا بد من الاعتراف بأن مغازي الواقدي أكمل و أتم مصدر محايد- دون تعصب- لتاريخ حياة النبي فى المدينة.
و بعد:

فإننا نرجو أن تنشر نصوص المصادر الأولى للسيرة النبوية مثل سيرة ابن إسحاق رواية ابن بكير التي لم تر النور بعد، و أن تجمع نصوص المغازي الأولى لموسى بن عقبة، و معمر بن راشد، و أبى معشر من المصادر المختلفة المخطوطة و المطبوعة التي بين أيدينا، و مقابلة بعضها ببعض و نقدها، بحيث يتوفر لنا الوقوف على نشأة و تطور أدب السيرة فى القرون الأولى للإسلام وفقا للأسس العلمية السليمة.




hg,hr]d td hgld.hk hgugld ado hglyh.d hgapv hg'frhj