كتاب أسرار أخنوخ النبي ادريس عليه السلام
تأليف: د. الشيخ حسين توفيقي(*)
ترجمة: حسن علي حسن
مَنْ هو أخنوخ؟
إن أخنوخ (أو خنوخ) عند أهل الكتاب من الأنبياء السابقين لطوفان نوح×، وقد نسبوا له الكثير من العلوم والكتب. وقد ساوى العلماء المسلمون بينه وبين النبيّ إدريس×، الذي ورد الثناء عليه من قبل الله تعالى في القرآن الكريم([2])، وأشار إلى معراجه.
إن كلمة (أخنوخ) في اللغة العبرية تعني «المجرَّب». وقد ورد ذكره في كتاب (بحار الأنوار) للعلاّمة المجلسي قرابة أربع وأربعين مرّة بلفظ (أخنوخ)، وعدّة مرات بلفظ: (أحنوخ، وأحنوح، وخنوخ، وخنوح و…).
وهناك صحيفة منسوبة إليه في الجزء الخامس والتسعين من هذا الكتاب. إن مناخ هذه الصحيفة شبيه بمناخ كتب أخنوخ، من قبيل: رؤية الملائكة، والوعد بطوفان نوح× الوارد في تلك الصحيفة على سبيل المثال([3])، حيث نراه في هذا الكتاب أيضاً.
وقد وردت أيضاً بعض المسائل عن صحائف إدريس وسُنن إدريس في كتاب (سعد السعود)، تأليف السيد ابن طاووس&.
وتعدّ كتب أخنوخ في اليهودية من أهمّ مصادر التعرّف على الملائكة([4]).
وقد ورد ذكر نسب أخنوخ في سفر الوجود من التوراة (5: 4 ـ 24)، وإنجيل لوقا (3: 37 ـ 38) على النحو التالي: أخنوخ بن مهللئيل بن قينان بن شيث بن آدم×.
وبالإضافة إلى ذلك فقد ورد اسم أخنوخ في الكتاب الأول من تواريخ الأيام (1: 3)، ورسالة إلى العبرانيين (11: 5)، ورسالة يهوذا (1: 14).
ويذهب بعض علماء الإسلام إلى اعتبار أخنوخ وإدريس وهرميس عدل لـ «مثلث العظمة»([5])([6]).
اعتبار أسرار أخنوخ ــــــ
عندما اجتمع علماء اليهود في القرن الأول للميلاد؛ بغية تحديد كتبهم المستلهمة، عمدوا إلى الكثير من الكتب الشائعة آنذاك فتخلّوا عن تلك الكتب المؤلَّفة باللغة اليونانية، واتَّفقوا على تسعة وثلاثين كتاباً مؤلَّفاً باللغة العبرية فقط. وقد تمَّتْ تسمية هذه المجموعة من الكتب بـ «تنخ»، وأطلق عليها المسيحيون عنوان «العهد القديم».
وكانت الكتب التي تمّ رفضها والتخلّي عنها تنقسم إلى قسمين:
الأوّل: الذي يُطلق عليه عنوان (الأبوكريفا)([7]). ولا يتمتَّع بغير القليل من الاعتبار. وعلى الرغم من تخلّي اليهود عن تلك الكتابات عمد بعض المسيحيين إلى إضافتها إلى العهد الجديد، وبذلك ارتفع عدد كتب العهد القديم عند المسيحيين إلى 46 كتاباً، واتَّفقوا على اعتبارها من الإلهام بأجمعها.
سبق لمارتن لوثر قبل ما يقرب من خمسة قرون أن شكَّك في إلهاميّة هذه الكتب، ليتخلى عنها البروتستانتيون بعد ذلك بالتدريج، وتظهر نسخ العهد القديم البروتستانتي المساوية لما يُدْعى عند اليهود بـ «التنخ». وحيث دأب البروتسانتيون في الأعمّ الأغلب على ترجمة وتوزيع الكتاب المقدَّس فإنّ النسخ المتوفِّرة في العالم غالباً ما تفتقر إلى الأبوكريفا.
الثاني: الذي يُطلق عليه عنوان (السودوبيغرافا) ([8]). ويتمتّع باعتبارٍ أقلّ، ولم يدرج في العهد القديم أبداً.
إن هذه الكتابات التي قام بها بعض علماء اليهود قبل الميلاد ببضعة عقودٍ طالها الضياع؛ بسبب إهمال أهل الكتاب لها، ولكنْ بقي عددٌ من نصوصها أو ترجماتها هنا وهناك، وتمّ العثور عليها في القرون الأخيرة، ومنها: الترجمة السلافية لأسرار أخنوخ([9]).
إن عدد هذه الكتب ـ التي تصرَّف المسيحيون في بعضها ـ كثيرٌ للغاية. وقد تمَّتْ ترجمة وطباعة مجموعات منها باللغة الإنجليزية واللغات الأوروبية الأخرى، وقد نشر واحد منها باللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة الأمريكية تحت عنوان: (الكتب المنسية لعدن)([10]) عام 1927م.
إن الترجمة الفارسية لكتاب (أسرار أخنوخ) قد تمَّتْ عن الترجمة الإنجليزية. وإن هذه الترجمة الإنجليزية أدبيّة ومعقَّدة للغاية. وقد بذل المترجم الفارسي جهوداً مضنية من أجل حلّ رموزها، وتبسيط عباراتها، عند ترجمتها إلى اللغة الفارسية. ولجأ أحياناً إلى تقديم بعض الإيضاحات في الهامش. ومع ذلك لا تزال آثار تلك التعقيدات ملحوظةً في الترجمة الراهنة. ويمكن للباحثين والمحقِّقين الحصول على المزيد من الاطّلاع على الترجمة الإنجليزية لهذا الكتاب من خلال مراجعته على شبكة الإنترنت.
تنويهٌ ــــــ
إن عدم اعتبار كتب السودابيغرافا (ومنها: «أسرار أخنوخ») عند أهل الكتاب يُعَدّ مضاعفاً بالقياس إلى عدم اعتبار كتب الأبوكريفا.
وأما من وجهة نظر الإسلام، فحيث لا يعتبر العهد القديم من الأساس سيرتفع عدم اعتبار السودابيغرافا إلى ثلاثة أضعاف.
إن مقارنة هذا الكتاب بالمصادر الإسلامية ليس صائباً، وإنّ التقوى الإسلامية تفرض علينا دائماً بيان الحدِّ الفاصل بين الحقّ والباطل بشكلٍ واضح.
ومع ذلك نرى ـ من باب البحث العلمي ـ ضرورة التنويه إلى مسألتين:
الأولى: إن هذا الكتاب يشتمل ـ كما هو شأن التوراة الراهنة ـ على تعبيرات وألفاظ لا تتناسب والوجود المنزَّه للباري تعالى، حيث يرى له حيِّزاً ومكاناً في السماء! وذلك إذ يتشرَّف أخنوخ بالحضور عنده، وينظر إلى وجهه كأنّه الحديد المنصهر!
وفي هذا الشأن لا بُدَّ من الالتفات إلى ثلاثة أمور:
1ـ إن رؤية الله تعالى، واحتكاك يده بصدر رسول الله|، وصعود النبيّ المتكرِّر إليه؛ كي يسأله أن يقلِّل من عدد ركعات الصلاة اليومية، موجودٌ في الروايات المعراجية المأثورة في المصادر الإسلامية أيضاً. وقد عمد الأئمّة الأطهار^ وعلماء الشيعة إلى بيان المعاني الحقيقية لهذه التعابير المتشابهة، من خلال إرجاعها إلى مُحْكَمات الإسلام. وقد جاء ذكر هذه الروايات وإيضاحها في كتاب بحار الأنوار، للعلاّمة المجلسي([11])، والميزان في تفسير القرآن، للعلامة الطباطبائي، على هامش تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء.
2ـ في معرض الحديث عن الله والأمور المعنوية والعقلانية نواجه شُحّاً كبيراً في الألفاظ؛ إذ لو دقَّقنا النظر سنجد أننا في جميع هذه الموارد نستعمل الألفاظ الدارجة في حياتنا البشرية والمادية، الأمر الذي يستتبع لا محالة بعض التعقيدات، ويخلق لنا بعض المشاكل. وهذا بدوره يضطرّ علماء الأديان إلى السعي من أجل إيضاح وتبرير هذه الألفاظ والتعابير، ويدعوهم إلى الاستعانة بالأدلّة العقلية والنقلية.
لقد كانت تعابير من قبيل: جلوس الله سبحانه وتعالى على العرش([12])، وأنه يشغل حيِّزاً في السماء([13])، ومجيء الربّ([14])، والنظر إليه في الآخرة([15])، ونسبة اليد والعين والوجه إلى تلك الذات المقدَّسة في بعض آيات القرآن الكريم، وكذلك توجُّه المؤمنين ونظرهم في السماء عند الدعاء، قد شكَّلت ولا تزال مستمسكاً وذريعةً لأهل التجسيم.
وقد قام الشيعة والمعتزلة، تَبَعاً لأمير المؤمنين×، بحمل هذه التعابير على مفاهيم معقولة وصحيحة. بَيْدَ أن أهل الحديث ـ والأشاعرة أحياناً ـ قد أصرُّوا على الاكتفاء بها، والاقتصار على ظاهرها. ولا يزال هذا الخلاف محتدماً إلى هذه اللحظة.
كما نسب الكثير من الأحاديث القائلة بتجسيم الله ورؤيته في عالم الآخرة إلى رسول الله|. وقد تمّ جمع بعض هذه الروايات في كتاب التوحيد وإثبات صفات الربّ عزَّ وجلَّ، لمحمد بن إسحاق بن خزيمة. إلاّ أن الشيعة والمعتزلة يرَوْن هذه الروايات موضوعةً ومختلقة، وعمدوا في بعض الموارد إلى تأويلها.
ومن جهةٍ أخرى هناك الكثير من الروايات الصحيحة المأثورة عن الأئمة المعصومين^ بشأن كيفية رؤية الله تعالى، الأمر الذي يحكي عن شيوع هذا البحث في القرون الإسلامية الأولى. وقد أورد الشيخ الصدوق قسماً من تلك الروايات في الباب الثامن من كتاب التوحيد، ولكنّه أحجم عن ذكر الكثير منها؛ رعايةً للاختصار، والحيلولة دون سوء فهمها أو تكذيبها من قبل الجاهلين([16]).
3ـ في ما يتعلَّق باليهود علينا أن نعلم بأنهم وعلى مرّ الزمان قد نزَّهوا الله عن التجسيم والحلول في زمانٍ أو مكان، وقاموا بتأويل العبارات التوراتية وسائر نصوصهم القديمة الأخرى المُوهِمة لذلك. وقد ورد ذكر هذه التأويلات في كتب من قبيل: (دلالة الحائرين)، لابن ميمون.
الثانية: إنّ هذا الكتاب يُشير إلى ملائكة تعرَّضوا للعقاب؛ بسبب عصيانهم، وطلبوا من أخنوخ أن يدعو لهم. ومن الواضح أن هذا الأمر يتنافى مع عصمة الملائكة.
وفي هذا الشأن من الضروري الالتفات إلى ثلاثة أمور:
1ـ تكسّر أجنحة ملك إثر تمرُّده على إرادة الله، وطلبه الدعاء من النبيّ إدريس×، على ما جاء في بعض الروايات الإسلامية([17]).
2ـ إن أهل الكتاب لا يرَوْن عصمة الملائكة، ويسمُّون بعضهم بـ «الملائكة الساقطون».
3ـ شاع على الألسن في القرون الإسلامية الأولى حكايةٌ عن معصية هاروت وماروت. وقد تمّ رفض هذه الحكاية من قبل الأئمّة الأطهار^ بشكلٍ قاطع. ومع ذلك يمكن أن نستنتج من بعض الروايات أن ترك الأَوْلى لا يختصّ بالأنبياء، وإنما حصل ذلك بالنسبة إلى بعض الملائكة، من قبيل: الروايات التي تتحدّث عن زلّة دردائيل([18])؛ وصلصائيل([19])؛ والملك الذي مُسخ إلى تنّين؛ بسبب غفلته عن ذكر الله([20])؛ وملك آخر اسمه فطرس، وقصّته معروفة([21]).
وقد تمّ الصفح عن هؤلاء الملائكة والتجاوز عن عقوبتهم بشفاعة النبيّ الأكرم|، والتوسُّل بالإمام الحسين×. وقد تمّ الاهتمام بقصّة فطرس من قبل كبار العلماء منذ القِدَم. وقد نقل الشيخ المحدِّث عباس القمّي& مؤخَّراً، في معرض حديثه عن ولادة الإمام سيّد الشهداء الحسين× في كتابه (منتهى الآمال)، رواية حزينة عن الشيخ الصدوق وابن قولويه رحمهما الله، كما نقل ضمن أعمال اليوم الثالث من شهر شعبان في كتاب مفاتيح الجنان دعاءً ورد فيه ذكر اسم فطرس.
الفصل الأول ــــــ
1ـ كان هناك رجلٌ حكيم ومعلِّم كبير يحبُّه الله. وقد دعاه الله لرؤية أعلى المنازل؛ ليكون شاهد عيان على مملكة الحكمة الكبرى، والتي لا يمكن تصوُّرها، ولا زوالها؛ لأنها مملكة الله القادر المطلق، ومقام خدمة الله، وما في هذا المقام من العجائب الساطعة والمشرقة والمليئة بالعيون([22])، وعرش الله الذي لا تناله الأيدي، ودرجات ومنازل جيش المجرَّدات، وخدمات الكثير من العناصر التي لا تعدّ ولا تحصى، والمشاهد المتنوّعة، والأنغام التي لا يمكن وصف عذوبتها لجيش الكروبين، وما إلى ذلك من الأنوار التي لا يدرك أمدها.
2ـ قال [أخنوخ]: عندما تجاوزْتُ عامي الخامس والستين بعد المئة، ولد ابني متوشالح.
3ـ وعمرت بعد ذلك لمئتي سنةٍ أخرى، فكان مجموع عمري 365 سنة.
4ـ في اليوم الأول من الشهر الأول كنتُ لوحدي مستلقياً في بيتي، وعلى سريري، فاستغرقت في نومٍ عميق.
5ـ وفي أثناء نومي أحاطتني موجةٌ شديدة من انقباض النفس، وسالت الدموع من آماقي، دون أن أفهم معنى هذا الانقباض، وما الذي حدث لي.
6ـ حتّى ظهر لي رجلان يتمتّعان ببسطةٍ في الجسم، لم أرَ مثيلاً لهما على وجه الأرض. كان وجهاهما يسطعان سطوع الشمس، وكانت أعينهما كسراجين مشعَّين، وكانت النار تخرج من فميهما، وكانت ثيابهما من الريش المتنوِّع، وكان لونهما بلون الأرجوان، وأجنحتهما تتلألآن كتلألؤ الذهب، وكانت أيديهما أنصع بياضاً من الثلج.
7ـ كانا واقفين على عرشي، ونادياني باسمي.
8ـ فاستيقظتُ من النوم لأرى هذين الرجلين ماثلين أمامي عياناً.
9ـ فسلَّمتُ عليهما، والخوف قد جلَّلني، فقالا لي:
10ـ تشجَّعْ، ولا تخَفْ، يا أخنوخ. لقد بعثنا الله الربّ الأزلي إليك. والآن ستعرج معنا إلى السماء، وستروي لأبنائك وجميع أسرتك كلّ ما عليهم أن يفعلوه في بيتك على الأرض بعدك، فلا يبحث عنك أحدٌ من بيتك إلى أن يعيدك الربُّ إليهم.
11ـ فلم أتردَّد في امتثال أمرَيْهما، وخرجتُ من بيتي. وكما أمراني ذهبتُ إلى منازل أولادي: متوشالح ورجيم وغيداد، فجمعتُهم ورويْتُ لهم جميع العجائب التي رواها لي ذانك الرجلان.
الفصل الثاني ــــــ
1ـ استمعوا يا أولادي إلى قولي. لا أعرف إلى أين أذهب، ولا الذي يحصل لي. والآن يا أولادي لا تبتعدوا عن الربّ، واحفظوا أحكامه، لا تحيدوا عن الربّ، ولا تعبدوا آلهة العدم التي لم تصنع السماء ولا الأرض؛ لأنها ومَنْ يعبدها هالكون. ليثبت الربّ قلوبكم في خوفه. والآن، يا أولادي، لا تبحثوا عنّي إلى أن يعيدني الربُّ إليكم.
الفصل الثالث ــــــ
1ـ وقال أخنوخ: بعد أن كلّمتُ أولادي دعاني الرجلان [المَلَكان]، وأخذاني على أجنحتهما، وحملاني إلى السماء الأولى، ووضعاني فوق السُّحُب، وهناك أخذتُ أنظر إلى الأعلى، وإلى السماء الصافية… وأرياني هناك بحراً كبيراً جدّاً أكبر من بحار الأرض.
الفصل الرابع ــــــ
1ـ ثمّ جاءا أمامي بأسياد نظم النجوم… وأرياني مئتي ملاكٍ يملكون على النجوم، وعلى ترتيب السماوات، وملائكة يطيرون بأجنحتهم نحو المبحرين.
الفصل الخامس ــــــ
1ـ ثمّ أخذتُ أنظر إلى ما دون قدميَّ، فرأيتُ مستودعات الثلج والجليد، والملائكة الشنيعة التي تحفظ تلك المستودعات. وأرياني مستودعات السَّحاب التي منها يرتفع ويخرج.
الفصل السادس ــــــ
1ـ وأرياني مستودعات النَّدى الشبيه بزيت الزيتون، والملائكة الذين يحفظون مستودعاتهم، وكان منظرهم شبيهاً بكلّ زهور الأرض. كما رأيتُ طريقة فتح وإغلاق تلك المستودعات([23]).
الفصل السابع ــــــ
1ـ وأخذني هذان الرجلان، ووضعاني في السماء الثانية. وأرياني ظلماتٍ أشدّ حلكة من ظلمات الأرض. وأرياني سجناء دينونة عظيمة محفوظين.
ورأيتُ هناك ملائكة أشدّ سواداً من ظلمات الأرض حكم عليهم، وكانوا يبكون أبداً على مدار الساعات.
2ـ فقلتُ للرجلين اللذين كانا معي: «لماذا يتعذَّب هؤلاء؟»، فأجابني الرجلان: «هؤلاء جحدوا الربّ، ما سمعوا صوت الربّ، وما استشاروا إلاّ مشيئتهم، وظلّوا كما ظلّ قائدهم المقيم حالياً في السماء الخامسة».
3ـ فحزنتُ كثيراً عليهم، وانحنى الملائكة أمامي، فسلَّموا عليَّ، وقالوا لي: «يا رجل الله! صلِّ لأجلنا لدى الربّ». فأجبْتُ وقلت: «مَنْ أنا الإنسان الفاني، حتّى أصلّي لأجل الملائكة؟ ومَنْ يعرف إلى أين أنا ذاهب؟ وماذا يحصل لي؟ ومَنْ يُصلّي لأجلي؟».
الفصل الثامن ــــــ
1ـ وأخذني الرجلان من هناك، وأصعداني إلى السماء الثالثة. وكان منظر هذا الموضع جميلاً بشكلٍ لا يمكن وصفه.
2ـ وقد رأيتُ هناك كلَّ الأشجار المثمرة، وكلَّ الثمار الناضجة، وكلَّ طعام وافر، وكلَّ نسمة فيه معطّرة.
3ـ ورأيت شجرة الحياة في ذلك الموضع الذي يرتاح فيه الله بعد عودته إلى الفردوس. ولهذه الشجرة رائحةٌ زكية لا يمكن وصفها، وهي أكثر زينةً من كلّ شيء، حيث يغطّيها الذهب واللون القرمزي الناري، وعلى أغصانها من جميع الثمرات.
4ـ جذور تلك الشجرة تمتدّ حتّى منتهى الأرض.
5ـ والفردوس بين الفناء والبقاء.
6ـ هناك عينان تجريان من عسلٍ ولبن، يخرج منهما الزيت والشراب؛ لتتفرع إلى أربعة أنهر تجري على مهلٍ لتصبّ في فردوس عدن بين الفناء والبقاء.
7ـ ومن هناك تنتشر على الأرض، وتدور مثل العناصر الأخرى حول أفلاكها.
8ـ لا توجد هنا شجرةٌ عقيمة، والمكانُ كلُّه مبارك. يحرس الفردوس ثلاثمائة من الملائكة مشعّون، وبصوتٍ متواصل ونشيد عذب، ويعبدون الربَّ في كلّ يوم وساعة.
9ـ فقلتُ: «ما أحسن هذا المكان!»، فأجابني الرجلان:
الفصل التاسع ــــــ
1ـ «هذا المكان، يا أخنوخ، قد أُعِدَّ للأبرار الذين يتحمَّلون العَنَت في حياتهم، ويُحْزنون نفوسهم، ويميلون بعيونهم عن الجَوْر، ويقضون قضاءً عادلاً، ويعطون خبزاً للجياع، ويكسون العُراة لباساً، ويقيمون الساقطين، ويعينون المجروحين، ويقدِّمون العَوْن لليتامى المتضرِّرين، يسلكون أمام وجه الربّ ويخدمونه وحده، لهم أُعِدَّ هذا المكان، كميراثٍ أبديّ».
الفصل العاشر ــــــ
1ـ وخطفني هذان الرجلان من هنا، وأصعداني إلى شمال السماء، وهناك أرياني موضعاً مرعباً فيه كلّ ألوان العذاب والظلمة والضباب. فليس هناك نورٌ، بل نار مظلمة تشتعل دوماً، ونهر نار يسير إلى كلّ هذا الموضع. هناك البَرَد والجليد وسجون، وملائكةٌ قساة وجلفون، يحملون السلاح، ويعذِّبون بلا شفقة، فقلتُ:
2ـ «ما أرعب هذا المكان!».
3ـ فأجابني الرجلان: «يا أخنوخ، لقد أُعِدَّ هذا المكان للأشرار، الذين ينتهكون الأقداس على الأرض، ويمارسون الشذوذ، خلافاً للطبيعة في محبّة الغلمان، أي إنهم يسلكون مسلك أهل سدوم في أفعالهم الشنيعة، ويمارسون السِّحْر والعرافة، ويتبجَّحون بأعمالهم من الفساد والسرقة والكذب والبهتان والحسد والضغينة والزنا والقتل، الذين يسلبون نفوس البشر في الخفاء، الذين يحلّون النير الذي ربطوا به، الذين يغتنون بالجور بمال البائسين، الذين أهلكوا بالجوع جائعاً كان بإمكانهم أن يُشْبعوه، والذين جرَّدوا العُراة الذين كان بإمكانهم أن يُلْبسوهم، الذين ما عرفوا خالقهم، بل عبدوا آلهةً باطلة، فصنعوا صوراً، وعبدوا عمل أيديهم. لكلّ هؤلاء أُعِدَّ هذا الموضع، كميراثٍ أبدي».
الفصل الحادي عشر ــــــ
1ـ واختطفني الرجلان من هناك، وحملاني إلى السماء الرابعة، وهناك أرياني كلّ دورانٍ وتحرُّك، وكلّ أشعة نور الشمس والقمر.
2ـ فقستُ سيرهما، وقابلت ضوءهما، ورأيتُ أن نور الشمس أكبر من نور القمر([24]).
3ـ ودائرتهما ومركبتهما على أيّ شيءٍ يصعد كلٌّ منهما ذاهباً كالريح، ولا راحة لهما، وهما يروحان ويجيئان ليلاً ونهاراً.
4ـ وتعلّقت أربع نجوم كبيرة، وتحت كلّ نجم ألف نجم، بيمين مركبة الشمس، وأربع نجوم كبيرة وتحت كلّ نجم ألف نجم بشمالها، فسار ما مجموعه ثمانية آلاف نجم حول الشمس أبداً.
5ـ وكان هناك حضورٌ لآلاف الملائكة في النهار، ولآلاف الملائكة في الليل.
6ـ وسارت ملائكةٌ ذوات أجنحة ستّة أمام مركبة الشمس، أرواحٌ طائرة ضمن أشعّة النار، ومئة ملك يثيرون جذوة الشمس؛ لإبقائها مشتعلة.
الفصل الثاني عشر ــــــ
1ـ فنظرتُ فرأيت سائر عناصر الشمس الطائرة، والتي تدعى بالفونيكس([25]) والكلكيدرا([26]). هيئتها عجيبة؛ إذ لها أرجلٌ وذنب مثل أرجل وذنب الأسد، ولها رأس تمساح، ولها ألوان قوس قزح أرجواني، طولها تسعمائة مقياس، وأجنحتها مثل أجنحة الملائكة الاثني عشر. إنها حليفة الشمس، وتأتمر بأمر الله في حمل الحرارة والنَّدى.
2ـ وهكذا سارت ملائكةٌ أمام مركبة الشمس، وكان لكلّ ملاك اثني عشر جناحاً، يجرُّون مركبة الشمس، ويحملون الندى والحرارة حين يأمر الربّ بنزولهما على الأرض مع أشعة الشمس.
الفصل الثالث عشر ــــــ
1ـ وحملني الرجلان إلى شرق السماء، ووضعاني على أبواب الشمس، حيث تشرق حَسْب الأزمنة المحدَّدة، وحَسْب دوران القمر خلال السنة كلّها.
2ـ وهناك رأيتُ ستة أبواب كبيرة أيضاً، واحدٌ يُفتح على مسافة 30 غلوة([27]). حاولتُ أن أقدِّر كبرها فما استطعتُ. بهذه الأبواب، التي بها تشرق الشمس، تذهب إلى الغرب أيضاً، حيث يحلّ الظلام. وتشرق في جميع الشهور، وتعود ثانيةً، طبقاً لتعاقب الفصول من تلك الأبواب الستّ. وهكذا تكتمل دورة السنة بعد أربعة فصول.
الفصل الرابع عشر ــــــ
1ـ واختطفني الرجلان إلى مغرب السماء، وهناك أرياني ستّة أبواب كبيرة مفتوحة حَسْب دورة أبواب المشرق التي تجاهها، والتي بها تغيب الشمس حَسْب شروقها بأبواب المشرق، وحَسْب عدد الأيّام [في ثلاثمائة وخمسةٍ وستّين يوماً وربع يوم].
2ـ وهكذا تغيب بأبواب المغرب، وتطمر نورها وتشعشعها العظيم في بطن الأرض. وحين تخرج بأبواب المغرب يأخذ أربعمائة ملك إكليلها، ويحملونه إلى الربّ، فتدير الشمس مركبتها وتسير بدون نورٍ، ويعيدون هناك إليها إكليلها، في حين تدور الشمس على المحور تحت الأرض، وتبقى سبع ساعاتٍ كاملة في الظلمة، وتمضي نصف دورتها تحت الأرض، وحيث تصل في الساعة الثامنة إلى البوابة الشرقية تشعّ بنورها وأكبر سطوعها، وتغدو الشمس أشدّ حرارةً من النار.
الفصل الخامس عشر ــــــ
1ـ وعندها تشرع عناصر الشمس، التي تسمّى «فونيكس» و«كالكيدرا»، بالغناء. ومن هنا سترفرف جميع الطيور بأجنحتها؛ احتفاءً بخالق النور. إنها تغنّي بأمر الربّ.
2ـ يأتي معطي النور ليضيء جميع العالم، ويتبلور حارس الصبح متمثّلاً بأشعة الشمس، وتخرج الشمس من الأرض… هذا هو الحساب الذي أرياني عن الشمس.
3ـ والأبواب التي بها تدخل وتخرج؛ لأن الربّ الذي صنع هذه الأبواب جعل الشمس عدّاد الساعات في السنة.
يتبع ..
;jhf Hsvhv Hok,o hgkfd h]vds ugdi hgsghl hok,o wpt h]vds ;jhf hok,o ;jhf hsvhv hok,o
مواقع النشر (المفضلة)